أ. قاسم قصير
العالَمُ الإسلاميّ الذي يتخبّط اليوم ـ ومن أقصاه إلى أقصاه ـ في خضمّ صراعاته المذهبيّة والطائفيّة، هو فعلاً، بأمسّ الحاجة إلى رسائل سلامٍ، تهدف إلى انتشاله، من لجج الفتنة الدموية، لترسو به على برّ الأمان. من نوع الرسالة التي يضمّها الكتاب الجديد، للعلاّمة الشيخ حيدر حب الله.
وكتابه هذا الموسوم بـ”رسالة سلامٍ مذهبيّ”، هو كتاب صادر عن مؤسّسة الانتشار العربي، في بيروت، في طبعة أولى 2015م.
ومما يختم به حبّ الله رسالته هذه بالقول: (إنّنا نُرحِّب بكلّ الملاحظات النقدية العلميّة الهادئة على هذه الرسالة من الداخل أو الخارج، ونأمل أن تجد لها أصداء حقيقيّة في أوساطنا، وأن تشكِّل ورقة بسيطة يمكن البناء عليها، وأن تترك ولو أثراً إيجابياً صغيراً في واقعنا المرير). ويضيف مشدّداً القول: فـ(نحن نتمنّى أن تُسمع لهذه الرسالة المتواضعة أصداء في المذاهب المختلفة عند المسلمين، فَيُقْدِمُ المستنيرون في المذاهب المختلفة، على عرض رؤيتهم وهواجسهم ونقدهم الذاتيّ الجريء، وملاحظاتهم البناءة على أنفسهم وعلى الآخرين، علّنا في ظلّ هذا التعاون المعرفي، نصل إلى رؤية أكثر عمقاً وبصيرة ونضجاً إن شاء الله تعالى)، كما ويضيف مؤكّداً: (هذا هو أملنا، وهذه هي قناعاتنا، وهذا هو منطق تفكيرنا، وهذه هي، رؤيتنا للمستقبل الأفضل، وهذا هو إيماننا الدِّينيّ الذي ندين الله به، والله على ما نقول شهيد، وهو الموفِّق والمعين).
وإلى مقدّمته، يتمحور هذا الكتاب حول المسائل التالية: “الشِّيعة والمعتقد الديني: (تعريف موجز بالمذهب الإماميّ”؛ “إذن، لماذا الاختلاف؟ أي (الخلاف اليوم بين الإماميّة وبعض المسلمين، لا جميعهم)”؛ “الشيعة والسُّنّة و..هواجس متبادلة وقضايا عالقة”؛ “إدارة اختلافنا (المبادئ والسُّبل والآليات)”؛ “ما هي الخطوات المطلوبة إذاً؟”؛ و”كلمة أخيرة (ما قيمة رسالة من هذا النوع؟!)”.
وتفيد مقدِّمة الكتاب بأنه: (عندما انطلق فجر الإسلام، كان المسلمون يلتفون حول نبيهم(ص)، يأخذون منه التعاليم وما نزل عليه من الوحي السماوي، وكانت الرسالة الإسلاميّة تشق طريقها بجهود المحيطين بالنبي(ص)، إلى جانب التأييد الإلهي والرعاية المحمدية.. كانت الجماعة المسلمة صغيرة في حجمها، أقلية مقموعة، تواجه الظلم والعدوان والبغي، وكانت ملتفة حول نفسها يُعين أفرادُها بعضهم بعضاً، لتشكّل أعلى مظاهر الإعانة والتكامل والتعاضد والتضامن في حادثة المؤاخاة، تلك الحادثة التي تركت بصماتها على مسيرة الدعوة الإسلامية، ورسّخت الوحدة والألفة بين مسلمي اليوم، من الذين كانوا ـ ولزمن قصير مضى ـ يتصارعون ويتقاتلون. قال سبحانه: (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين* وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم) (الأنفال: 62 ـ 63). لقد كان التأليف بالإسلام وقيمه وتعاليمه، وكانت هذه التعاليم تشقّ طريقها في القلوب والنفوس لتصنع جيلاً جديداً، ما يلبث أن يغيّر وجه العالم خلال مدّة زمنية بسيطة نسبياً. كان من الطبيعي أن تقع خلافات شخصية أو غير شخصية هنا وهناك بين المسلمين، وكان حضور الرسول والضخّ الروحي الهائل لقيم الإسلام وتعاليم القرآن كفيلين بتذويب الكثير من هذه المشاكل، لكنّ البشرية لا تتوقّف حالها الطبيعية في اختلاف بني البشر، فكان قانون الحياة ومبدأ الاختلاف سارياً على المسلمين في تاريخهم الطويل. لسنا الآن بصدد تحديد منطلقات وأسباب هذه الاختلافات والتي تنامت وتكاثرت بعد وفاة الرسول الأكرم(ص)، وهل كانت أسبابها مصانة أخلاقياً أو كانت اجتهادات بين المسلمين أو كانت هناك مؤامرة وصراع سلطة أو غير ذلك؟ ما يعنينا هو أن اللحظة التي فارق فيها رسول الله(ص) الحياة شكّلت بداية حركة في عقارب ساعة الزمن الإسلامي، سرعان ما كوّنت كرة الثلج المتدحرجة، ليشهد الإسلام انقساماً كبيراً بين أبنائه، إلى فرق ومذاهب وتيارات تتناحر فيما بينها ويسفك بعضها دماء بعضها الآخر و.. لسنا نهدف تحميل مسؤولية التشظّي الإسلامي لأحد، بقدر ما نهدف الخروجَ من هذه الحال، فأن نختلف في فهم نصوص الكتاب والسنّة، ويجتهد بعضنا في هذا النص فيفهم منه وجوب شيء، فيما لا يفهم منه الآخر هذا الوجوب، أو يفهم بعضنا من آية معينة شهادة لصالح فلان، فيما لا يرى فيها الآخر هذا القدر من الشهادة.. هذا كله أمر طبيعي، لا يوجد في تاريخ الإسلام فحسب، بل نراه في تاريخ الأديان كافة، وتفرضه محدوديّة العقل الإنساني في اكتشاف الحقيقة. لكنّ المشكلة ساءت عندما صار هذا الاختلاف (الطبيعي) أساساً لخلاف (غير طبيعي)، يتنابذ فيه الناس، ويتباعد فيه المسلمون عن بعضهم، بل وتُسفك فيه دماؤهم، ويسيء كلّ واحد منهم الظنّ بأخيه، فيتمزّق المجتمع الإسلامي، ويضعف حال المسلمين في تنازعهم وتناحرهم.
والأنكى من ذلك أنّ كثرة الجدل والنقاش في هذه الخلافات المذهبية وتوسعة رقعتها، سيحدثان المزيد من الاضطراب، بدل أن يوفّرا المزيد من التحوّلات العلمية والنهضوية! فلا قيمة للاضطرابات والحراكات الفكريّة دون أن ينجم عنها تحوّلات معرفية نهضوية. هذا كله يستدعي اليوم وقفة أمام ضمائرنا، وأمام ديننا، وأما التاريخ وأمام الإنسان كله.. ما الذي يجب علينا فعله؟ نشهد تناميها المطّرد يوماً بعد آخر في عصرنا الحاضر؟ كيف نحصّن الأمة والوطن إزاء فقاقيع الطائفية ومناخاتها هنا وهناك، ونمنحهما وعياً يتعالى بهما عن السقوط في الهاوية والانجرار خلف المثيرات المذهبية وخلف الغرائز الطائفيّة؟ ففي كلّ يوم نشهد سفك المسلمين لدماء بعضهم بعضاً باسم الدفاع عن الدين والمذهب والطائفة والفرقة، حتى لقد بات صراع المسلمين فيما بينهم أشدّ وأعنف وأقسى وأشرس وأوجع من الكثير من صراعاتهم التي مرّت عليهم مع سائر الأمم الأخرى! لقد تصارع الشيعي الموالي لعلّي مع السنّي الموالي لأبي بكر بما لم يقع مثله بين علي وأبي بكر نفسيهما! وتصارع الحنبلي والحنفي و.. مع الجعفريّ بأشدّ مئات المرّات من اختلاف الإمام جعفر بن محمد الصادق مع الإمام أبي حنيفة النعمان! في الوقت نفسه، كيف نحفظ لكلّ إنسان في هذا الدين هويته وخصوصيته وعقائده وأفكاره، فنجمع بين علاقته الوطيدة والعميقة بأخيه، واحتفاظه الوثيق بقناعاته ومعتقداته الكلامية والفقهية التي نحترم اجتهاده فيها أيّا يكن؟! للجواب عن هذه الأسئلة قد نحتاج للكثير من الكلام، لكن واحدة من الخطوات هي أن نتعرّف أكثر فأكثر على بعضنا، وندرك بعضنا بذهنية واعية فاحصة، وفي المقابل يعرّف كل واحدٍ منا نفسه لأخيه، حتى لا تذهب الأفكار بأخيه يميناً ويساراً. ومن هذه الخطوات أيضاً، أن يمد كل واحد منا يده للآخر لنتلاقى على الاختلاف الإيجابي وننبذ الاختلاف السلبي، لنوقف نزف الدم في الأمة، ونكف عن المزيد من نكئ الجراح، عنيت جراح التاريخ النازفة منذ قرون. لنوقف تحول حاضرنا إلى تاريخ، فنكفّ عن الرجوع إلى الوراء، ونصنع من تاريخنا ـ بقراءة جديدة واعية ـ مستقبلاً وحاضراً أفضل، فنكتشف فيه عناصر التلاقي والمحبة، بدل أن نُدمن اكتشاف عناصر البُعد والفُرقة، أو نغرق في التاريخ وللتاريخ فقط.
من واقع الإحساس بهذه المسؤولية الجسيمة، ومن صرخة الضمير الكامن في أعماقنا، ومن حجم المأساة التي نعيشها جميعاً، ومن القلق الكبير الذي يلفّ مستقبلنا كأمّة، ومن الشعور بالمخاطر التي تهدّد الوجود الإسلامي عامة.. كان هذا الكتاب/ الرسالة، لنبلّغ ما أمرنا الله به، ونضع عن كاهلنا بعض المسؤوليات الملقاة على عواتقنا نحو مسلمي العالم ونقول كلمة الحق في الزمن العسير.
إنّ هذا الكتاب المتواضع رسالة مفتوحة لكلّ المسلمين في العالم شيعة وسنّة وإباضيّة وصوفيّة و.. رسالة حبّ ومودة، رسالة إخاء وقرابة، رسالة صدق وإخلاص، رسالة مصارحة ومكاشفة، رسالة نقد للذات واللآخر، رسالة صفحة جديدة، رسالة نجلي فيها بالتعريف بمذهب أهل البيت النبوي وأتباعهم، بالمذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، نكشف فيها عن الأفكار والتطلّعات والمسؤوليات والآمال والرؤى والاجتهادات والهواجس التي يختزنها أبناء هذا المذهب أو تقع على عاتقهم، نعرّف موجزاً بعقائدهم وفقههم ومسلكيّاتهم وعلاقتهم بالآخر واتجاهاتهم ومنجزاتهم، وما يقع على عاتقهم من مسؤوليّة تاريخيّة. إنّها رسالة للآخر ـ كلّ الآخر ـ في الداخل الإسلامي الكبير، نتصارح فيها ونبدي هواجسنا ونفصح عن رأينا في هواجس غيرنا، لنضع أنفسنا والآخرين على المسار الصحيح.
إنّنا نعيش في لحظةٍ تاريخية مصيرية من عمر الأمة المسلمة، ولا نريد بهذا الكتاب إلا أن نستجيب لهذه اللحظة، ونكسر حصار التاريخ، وننطلق نحو وعي جديد للدين والمذهب، ونمدّ أيدينا إلى سائر مذاهب المسلمين، لنبني معاً مجد أمّةٍ لطالما شكّلت مفصلاً من مفاصل تاريخ الحضارات البشرية.
إنّنا ـ بوصفنا شريحة كبيرة في مذهب أهل البيت ـ نعلن اليوم وبصراحة عن رسالتنا المفتوحة للعالم، ولإخوتنا المسلمين من أبناء المذاهب الأخرى. رسالة تدعو إلى اللقاء والتواصل والأمن والسلام وعيش المواطنة، ومنح بعضنا بعضاً الحقوق والمزايا والاحترام والتقدير وحسن الظن، لنبني جميعاً أوطاننا بناء محصّناً من الداخل، لا تهزه الرياح، ولا تطيح به عواصف الشرّ والموت والفتنة. هي رسالة ستعجب الكثيرين، لكنها قد تغضب بعضاً أيضاً هنا وهناك، ونحن إذ نعبّر فيها عن قناعاتنا التي قد يختلف معنا فيها حتى بعض الشيعة، فإننا نريد بذلك أن نموضع أنفسنا وقناعاتنا في ظلّ هذه الاصطفافات القائمة اليوم. هي رسالة محبّة بإذن الله، هي رسالة سلام مذهبي، هي رسالة وطن وأمة ومجتمع وحضارة، والله على ما نقول شهيد).
ويقول حبّ الله في كلمتة الأخيرة في هذا الكتاب: (وفي نهاية المشوار معك أخي القارئ الكريم، من الطبيعي أن تأتي إلى ذهننا جميعاً الأسئلة التالية: ما قيمة رسالة من هذا النوع؟ وما الذي سنجنيه من كتابة مثل هذه الكلمات؟ هل سيستجيب أحد؟ هل سيكون لها وقع أو ستكون بنفسها مادة سجالية لتغذية الوعي الطائفي؟ أسئلة مشروعة بحقّ، ولا أخفيك ـ قارئي العزيز ـ أنّني فكرت بذلك، وعشت همّ هذا الموضوع، ولكن في نهاية رسالتنا هذه يجب أن نوضح بعض الأمور: رسالتنا بين صوت الضمير ومسؤوليّة الواقع: قبل كلّ شيء نحن أمام مسؤوليّات يفرضها علينا الدين والقيم والضمير، أن لا نسكت عما يحصل، وأن نشارك في تغيير الوضع القائم، وأن نقول الحقّ ولو على أنفسنا أو الوالدين أو الأقربين كما علّمنا القرآن الكريم نفسه. فهذه الرسالة لها قيمة ذاتية من وجهة نظري المتواضعة، وأعني بالقيمة الذاتية هي إبراء ذممنا أمام الله والتاريخ والإنسان، أنّنا فعلنا ما يمكننا فعله، وذلك أضعف الإيمان، فلا نترك الإيمان كلّه عندما لا نقدر على أتمّه، بل نأتي ولو بأضعفه كي نستشعر راحة الضمير، حيث لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها. وإذا خرجنا من الحالة الذاتية “الضميرية” هذه، فسوف نرى أننا ـ موضوعياً ـ أمام خيارين: إما الاستسلام التام للواقع القائم، وإما الإقدام على أبسط ما يمكن أن نقدم عليه. وعندما يجد كلّ واحدٍ منا نفسه أمام هذين الخيارين فمن الطبيعي أن يذهب خلف خيار العمل والإقدام والمساهمة؛ لأن الاستسلام لن ينتج سوى القضاء على ما تبقى من وعي وسلام في هذه الأمة.
كل شيء ممكن، فلنمارس أدوارنا في نطاق التأثير: قد لا يقع ما نصبو إليه في هذه الرسالة، لكن بإمكان كل واحدٍ منّا أن يقوم بدوره في نطاق تأثيره، فلنمارس أدوارنا في نطاق التأثير، وإذا لم نتقدّم على هذا الصعيد، فيكفينا فخراً أن نكون قد ساعدنا على وقف التدهور في حال الأمة ولو بنسبة معيّنة، فأستاذ المدرسة أو الجامعة، وعالم الدين، ورجل الإعلام، والكاتب، والأب والأم و.. لهم جميعاً قدرة التأثير ولو بدرجة بسيطة، ومطلوب منا جميعاً أن نراكم الجهود لنصل إلى نتيجة مرضية أو لنوقف تدهور الأوضاع على الأقلّ. نقاط الماء الصغيرة عندما تتراكم سوف تُحدث سيلاً، ومنطق العمل والتغيير يقول: شارك ولو في نقطة واحدة، إذ من دونها لا يكون السيل، فلو فكّر كل واحدٍ منا بحقارة نقطة الماء التي سوف يقدّمها فلن يقدّم أحدٌ شيئاً، ومن ثم لن يكون هناك سيل يحدث التغيير ويصلح الأمور.
القرآن الكريم ومنطق الأمل بالمستقبل: هذا هو منطق القرآن الكريم أيضاً، وهو منطق الأمل بالمستقبل؛ لأن الأمل يترك أثراً، فيما اليأس يجعلنا بلا طاقة ولا حضور، قال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا} (الانشراح: 1 ـ 6). وقال سبحانه: {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} (البقرة: 249)،
وقال تبارك اسمه وتعالى جدّه: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 173 ـ 175).
هذه الرسالة ـ كما أشرنا في المقدّمة ـ لا تمثل الشيعة بأجمعهم، ولا السنّة ولا غيرهم، إنما هي ـ حتى لو كتبها شخصٌ واحد ـ تعبير عن قناعة شريحة واسعة من الشيعة والسنّة وغيرهم، من علمائهم ومثقّفيهم ومتعلّميهم ومفكّريهم وباحثيهم وناشطيهم وإعلامييهم وكتّابهم وسائر الشرائح الاجتماعية الأخرى. هي تعبير عما يؤمن به فريق كبير في الأمة، قُدّر له في هذه الأيام أن يُعزل، وأرادت المسؤوليّة الشرعية والأخلاقية والإنسانية له أن يكون حاضراً. نحن هنا لا نتكلّم باسم طائفة أو دولة أو حزب أو تيار سياسي، ولا ندّعي أنّ ما كتبناه يمثل رأي مراجع الشيعة أو كل فئاتهم، ولا رأي المجاميع الفقهية لأهل السنّة، بل هو يمثل رأي شريحة كبيرة من أهل العلم والعمل والوجاهة والموقع الاجتماعي في هذه الأمة وفي هذه الطائفة، وأنهم يفصحون عن قناعتهم وإيمانهم بما ينبغي أن يُفعل، ويمدّون أيديهم للمذاهب الأخرى ـ لاسيما كثير من المثقفين وأهل الرأي، من الذين يشتركون معنا في هذه القناعات أو أغلبها على الأقلّ ـ كي تقوم بما ينبغي القيام به كما يمدون أيديهم أيضاً لأبناء مذهبهم، كي يفعلوا ما يفترض فعله في هذه اللحظة التاريخية الصعبة، وإلا فلسنا نصادر رأي مذهب ولا فئة من الناس، وإنما نعبّر عن أنفسنا، ونزعم أننا شريحة كبيرة في المسلمين، وفي المذهب الإمامي أيضاً.
رسالتنا إنقاذ الدين بوقف المبرّرات المذهبية في صراعاتنا: وليست هذه الرسالة بالتي تحلّ كلّ الأمور، ولم ولن نزعم ذلك، بل هي ورقة للتداول، كي نبدأ بحل الأمور بطريقة أفضل، ونفكّر في وضع صيغ تفصيلية للقضايا المتنازع عليها، وبذلك نكون قد ساهمنا في وضع مدماك بسيط في صرح الوئام والتوافق الإسلامي. ولا تدّعي هذه الرسالة أنها ستحلّ المشاكل السياسية العالقة في بلاد المسلمين، فهذا شأن السياسيين ووظيفتهم، إنما تُعنى هذه الرسالة بالإضاءة على الجانب الديني والقيمي والفكري من موضوع العلاقة بين المذاهب، وتقدّم رؤيتها فيه، مع علمها بأنّ هذا الجانب ليس هو الجانب الوحيد للمشكلة، لكنّه جانب مهم، فنحن لا ندّعي أنّ مشاكل المسلمين اليوم هي مشاكل دينية ومذهبية، أو أنّ هواجس الشيعة والسنّة التي تكلّمنا عنها سابقاً هي السبب الوحيد لأزمات المسلمين، بل ندّعي ـ وأرجو التنبّه ـ أنّ القوى السياسية في بلاد المسلمين تستعين بالملفّات المذهبية لتجعلها والمذاهب وقوداً لمشاريعها، ووظيفتنا السعي لتجفيف هذا الوقود ووقفه، حتى لا يستعمله من يريد سوءاً بالمسلمين، علم بذلك أم لم يعلم. وقيمة هذا الموضوع هي قيمة دينية عالية؛ لأنّ أيّ صراع يقوم على وقود ديني أو مذهبي، يمكن اليوم أن يرتدّ سلباً على مكانة الدين وقيمته وسمعته ومصداقيته في العالم، وسيسمح ذلك للتيارات الإلحادية واللادينية و.. أن تتقدّم خطوة نحو الأمام، وتأخذ المزيد من شباب المسلمين وفتياتهم نحو اللادينية أو نحو العبثية والعدمية، فإلغاء البُعد الديني والمذهبي من صراعاتنا القائمة اليوم هو ضرورة عليا لمصلحة الدين في عالمنا المعاصر، هذه أيضاً رسالتنا وغايتنا التي نطمح إليها).
15 ـ 2 ـ 2016م