أ. أحمد حسين
تمهيد
تعدّ ظاهرة الاجتهاد الإسلامي من أبرز الظواهر العلميّة ذات الجدل والإثارة وكذلك العمق والدقّة؛ مما أعتبره ـ بنظري ـ أبرز علم يحتوي على هذه الخصائص من بين العلوم الإنسانيّة (Humanities)، وقد يكون من المناسب بمكان من الأهميّة قراءة التجربة الفقهية قراءةً فلسفيةً تنضّج معرفة ميكانيزم الإنتاج العلمي للمنطقة السريّة في عقل الفقهاء، ولعلّ من أبرز التجارب المثيرة والجديدة تجربة الفقيه الشيخ حيدر حبّ الله، فسنأخذه محوراً لتفكيك وتشريح العمليّة الإنتاجيّة لفقهه؛ نظراً للموقعيّة البارزة للشيخ حبّ الله في الاجتهاد الإسلاميّ، وخصوصاً في تيّار التجديد الديني.
وبحسب استقرائنا وتحليلنا لنتاج الشيخ حب الله، وجدنا ذراعين، بل مرحلتين، هما المسؤولتان عن تشغيل أطراف بحثه الفقهي وهما:
1 ـ المواقف المعرفيّة والفلسفية لإنتاج الفقه، عرض وتحليل
إنّ من يطالع النتائج العلميّة النهائية لحبّ الله يراها موافقة ـ في الأغلب ـ للعقلانيّة التي ينسجم معها الإنسان، وهي التي يمكن أن تدخل في نظريّة الحسن والقبح العقليّين بالمفهوم العريض لها، على ما بين في علم الكلام وأصول الفقه، والشيخ وهو وإن كان لا يقبل بالمدى العريض للنظرية ـ حيث يرى اقتصار الجزم بها في المفردات الواضحة جداً دون غيرها([1]) ـ إلا أنّ النتائج تتصادف أن تكون موافقة لها، وهذا الأمر يستدعي البحث عن الأسباب (بالمعنى غير المصطلح للسبب) التي تقع خلف هذه النتائج العلميّة:
أ ـ ضغط مشاكل الواقع الخارجي واستدعاؤها للتفتيش في الأدلّة
إنّ عيش عقل الشيخ حب الله لمشاكل الواقع يؤدّي به إلى تحليل أسبابها، وقد يصل بالاستعانة بالمنهج الظاهراتي (Phenomenology) على الشروط العلمية في إجرائه، إلى أنّ هذه المفردة الفقهية هي أحد أسباب المشكلة في الواقع الخارجي، وبهذه التقنية العلمية والتي تعمل بنشاط في عقله، يذهب إلى الأدلّة فيكتشف وجود المشكلة الاستدلاليّة الكامنة, ونسمّيها مشكلة؛ لأنّ الدين يفترض به أن يضمن الخيار الأفضل للحياة، ولكن لا شك أنّه يحيد الهوى الشخصي فإنّه مضافاً إلى ضرورة اجتنابه فإنّ نفس المنهج الظاهراتي قد يعزي الأسباب إلى عناصر أخرى غير القانون والفقه كالبيئة والمجتمع وغير ذلك.
وعلى كلٍّ، فإنّنا قد تلمّسنا ما بيّناه في كتابه (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حيث قال في نهاية الكتاب: (بعد هذه الجولة المتواضعة في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصلنا ـ وفقاً للنتائج التي توصّلنا إليها ـ على نتيجة تلقائية لم نكن منتبهين إليها قبل اكتمال البحث، وهي أنّ هذه الفريضة في ثبوتها ومبادئها وأغلب أحكامها ثابتة بالبناء العقلي والعقلائي، فالشروط والقيود والمراتب والأحكام أغلبها إن لم يكن جميعها يمكن تخريجه وفق الأصول العقلانية الإنسانية أيضاً، وأنّ هذه الفريضة العظيمة جاءت النصوص الدينية لتستخرجها من مكنونات الفطرة البشرية في المسؤولية الاجتماعية إزاء الآخرين، وتستنبطها من دفائن العقول الإنسانية التي ترشد الإنسان بذوقه السليم إلى الشعور بمعاني الأخوّة الإنسانية والإحساس بالاجتماع البشري الذي يتخطّى الفردانية الموحشة، فهي بامتياز واجب أخلاقي قدّمه الإسلام([2]).
وهذا بالطبع ليس إسقاطاً على النصوص بقدر ما هو معرفة ما في داخلها وكأنّه حاضر في زمكان النس!
ولهذا الأمر نظائر واضحة للفقهاء في أعمالهم الفقهية، إلا أنّ الشيخ حب الله تركّزت عنده هذه الخصوصيّة.
ولكنّ هذا لوحده لا يمنح تكوين الرأي العلمي، فهناك تعاضد في الأسباب، نستمر في سردها:
ب ـ الإيمان بعقلانيّة الدين وتدخّله المتوسّط في الحياة
إنّني أعتقد أنّ هاتين الفكرتين مصادرتان إبستيميتان في منهج الاستدلال الفقهي للشيخ حب الله, فإنّي أحسبه قد استقرأ النصوص الدينية وقواعدها في هذا الجانب، فوجد الدين أنّه لابد أن يقدّم منتجاً يألفه التفكير الإنساني، مع مراعاته بالتأكيد لوجود تعبديّات محضة، إلا أنّه ليس الطابع العام للدين؛ فجعل حبُّ الله عقله متوازناً مع هذه المعادلة، حيث أمّن لنفسه هذه المصادرة ليطمئنّ براحة نفس في معالجاته الفقهيّة.
إنّ هذه الراحة النفسية تأكّدت أكثر في مصادرة حدود الدين ومدياته؛ حيث نظر إلى أنّ الدين لا يسحب البساط عن إتاحة المجال للتفكير الإنساني في تحرّكاته، ولكنّه بكلّ تأكيد لا يطلقها تماماً؛ لإيمانه بوجود مناطق تعبديّة في الدين، كما مر آنفاً.
ج ـ النظرة الأولى للأدلّة والقراءة الكلّية لها
أعني بالنظرة الأولى أنّ الباحث لا يلوّث فهمه بالتراكمات الجيولوجيّة لفهوم وآراء الفقهاء، فيقع أسيراً محصوراً بالطوق المفروض على النصّ الأصلي، بل يذهب مباشرةً إلى النصّ، ليستنطقه كما لو أنّه في حاضرته، وهذا ما أستطيع أن أدّعي حرص الشيخ حبّ الله عليه؛ إذ إنّه في كثير من مواضع النصوص يفسّرها قبل الولوج في بيان نظريّات الفقهاء وتفسيراتهم، وكمثال عليه: تفسيره المغاير عن مشهور الفقهاء لرواية: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فإنّه تخلّى عن التفسير المستحكم في الذهن الفقهي لهذه القاعدة، التي نتج عنها تفريع الفروع، ثم اضطروا لحلّ مشاكل بعض تلك الفروع نتيجة ذلك التفسير، إذ يرى أنّ معناها: (وهذه القاعدة ينحصر موردها، كما هو سياق هذه الروايات جميعاً تقريباً، بحالة الزنا بامرأة متزوّجة أو مملوكة، ففي هذه الحال حَرَمَت الشريعةُ ـ عند الشك ـ الزاني من نسبة الولد إليه، وقالت: كلّما كان بالإمكان نسبة الولد إلى زوج المرأة الشرعي أو مالكها على تقدير كونها أمةً، كان هذا هو المتعيّن فيما لا ينال الزاني شيئاً، كما يقال: ألقم حجراً، وليس له إلا التراب، بمعنى أنّه لن يحظَ بشيء. ومن الواضح أنّ هذه القاعدة الفقهيّة لا تهدف إلى نفي الترابط بين ابن الزنا وأسرته أبداً، وإنّما تهدف إلحاق الولد بالفراش عند الشك، وأين هذا مما نحن فيه، حتى نقفز من هذه الدائرة الضيّقة لمعنى عام؟)([3]).
وكنموذج ثانٍ، يمكن تقديم ما طرحه في تفسير آيات الخلع، فإنه قدّم تصوّراً جديداً لحقيقة الخلع ببركة النظرة المباشرة للدليل دون الوقوع في أسر المؤثرات الأخرى غير نفس الدليل، يقول: (هذه الآية لا علاقة لها بطلاق الخلع أساساً؛ وذلك أنّ الظاهر منها هو نسبة خوف التعدّي لحدود الله تعالى إلى كلا طرفي الزوجية على حدّ سواء، وهو أمرٌ يتنافى مع حقيقة الطلاق الخلعي، أو لا أقلّ من أنّه غير ظاهر فيه.. وليس هذا وحده ما يشكّكنا في تعرّض الآية لمفهوم طلاق الخلع؛ بل إنّ المتصفّح لمقاطع الآية يرى بوضوح ارتباطها بمفهوم آخر غير مفهوم الكراهة أساساً)([4]).
إنّ هذا الفهم الذي يتجاوز تلك الطبقات الجيولوجيّة لا يوفر فقط فهماً مغايراً، وإنما ينتج إبداعات وتفريعات جديدة لطيفة، وهذا يتضح ـ كما يحضرني ـ في عدة مواضع من كتابه فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكنموذج للإبداع من داخل النصوص، مبدأ الوسطيّة في حمل الهمّ الديني، في الكتاب نفسه.
وبطبيعة الحال، لا يكتمل هذا الفهم العابر للطبقات إلا باستقراء لمجمل النصوص لتكوين النظرية بعدئذ، وهذا واضح في أغلب بحوث الشيخ حب الله عند نهاية معالجة المفردات الاستدلالية يفتح فصلاً أو عنواناً للقراءة الإجمالية للأدلّة، وهذا أمر فريد ومهم جداً، كما لا يخفى إن شاء الله.
قد أُفهم في هذه النقطة على أنّي مادح وأوظف لغتي الخطابية لأجل ذلك؛ إلا أنّي تعهّدت بأن أكون واصفاً ومشرّحاً للعقل الفقهي عند الشيخ حب الله، وهنا ـ للأسف ـ لم أجد أسلوباً يُبعدني عن شبهة المدح غير هذا التوصيف الذي أعتقد أنّه إخبار عن واقع الحال.
2 ـ المباني الفعّالة لإدارة العمليّة الاجتهادية، رصد وبيان
أ ـ بيانيّة القرآن ومساحاته في دائرة الدين
يرى الشيخ حبّ الله نظريّة البيان القرآني للدين التي تعني مما تعنيه أنّ القرآن الكريم يستحوذ على الحصّة الكبرى في تأسيس المفاهيم الدينية في قبال غيره من المصادر وأبرزها الحديث، وهذا يعني لزوم وجود نسبة وتناسب في المخرجات بين القرآن وبين غيره يقتضي صعود مؤشر المفاهيم القرآنية على غيرها من مفاهيم المصادر الأخرى([5]).
إنّ هذه القاعدة جوهريّة جداً في فهم أسباب الاطمئنان النفسي عند الشيخ حبّ الله حين يخسر الكثير من الروايات نتيجة نقده لها كما سيأتي؛ فإنّه بهذه القاعدة يوفّر لنفسه الراحة القلبيّة حين يطرح الروايات ويسقطها عن الاعتبار؛ لأنّه يعتقد بحمل القرآن للمفاهيم الدينية بنحو غالبي، دون تهميش جانب البيان النبوي.
ولابد من فهم كيفيّة تطبيق هذه القاعدة؛ فإنها تتفعّل بعد استفراغ العمليّة الاجتهادية لتلاحظ النسبة والتناسب بين مخرجات القرآن ومخرجات الحديث، فهي أشبه بالشرط المتأخّر، وقد لاحظنا في كثير من بحوثه حينما يقارن محصول الفقه القرآني وفقه الحديث يظهر أنّ فقه القرآن أخذ حصّةً وافرة في التأسيس، وجاءت بعدها السنّة للشرح والبيان وأسست مفاهيم إضافيّة بنسبةٍ ما، وأحياناً نرى في بعض البحوث أنّ جلّ الاعتماد على السنّة المطهرة سواء مع وجود إشارات غير حاسمة في الدليل القرآني أو عدم وجودها.
ومن الضروري الإشارة إلى طبيعة الغالبيّة في البيان القرآني؛ إذ لا تعني بالضرورة أن يكون التميّز عدديّاً في محصول النتائج العلمية؛ بل لعلّ الكيف مؤثر أكثر من العدد في حساب معدل الغالبية البيانية للقرآن الكريم.
إنّ هذه النقطة تعتضد مع النقطة الآتية (معضلة الحديث) في تكوين الاطمئنان النفسي رغم تشدّد الشيخ حب الله في الحديث المحكي.
ب ـ معضلة الحديث الظني، تنقيح مبانيه وتجاوز إشكاليّاته
إنّ الحديث الشريف يتبوأ مكانة مميزة في خلق الوعي الديني، إذ هو المصدر الثاني في نظام الحجج في الدين، ولكنّه لم يحظ بحفظ تام كما القرآن الكريم، وأبرز شاهد عليه: وجود التعارض في الأحاديث وأبحاثه الأصولية والرجالية والحديثية لترميم مشكلاته.
من هذا المنطلق قسّم الحديث إلى:
1 ـ الحديث الواقعي، ومصاديقه قليلة جداً.
2 ـ الحديث المحكي، وهو الأكثر؛ فإنّ معظم المعالجات الفقهيّة تتركّز في تنقيح الحديث المحكي وصولاً إلى الحجّة الشرعيّة.
إنّ موقف الشيخ حبّ الله في تعامله مع هذه الظاهرة موقف متشدّد؛ نظراً إلى عدم إيمانه بحجيّة الحديث الظنّي، وهذا تأسيس نظريّ مهم جداً له آثاره الكثيرة، ولكنّي لن أدخل في النظر في المباني؛ لأنّه ليس من شأن هذه المقالة، وإنما أحلّل فلسفة أخذه بالخبر الموثوق دون المظنون، مستعيناً بتصريحه: (ولكن هذا المنهج قد يخضع لمناقشات عديدة.. فإنّ الحجية الثابتة للخبر [الظني] لن تفضي إلى محذور، ومعه فلا حاجة لتقييد الحجيّة ما دامت التقييدات الأخرى كافية، لكن هذا لا ينفي الإشكالية التي نستهدف بيانها هنا، وهي أنّ نظام الحجج الأصولية، قد لا يحلّ مشكلة وربما لا يعطي نظرية متكاملة؛ لأنّه غير معني بالواقع كما أشرنا وإنما ببراءة الذمم، وهذا معناه أن من الخطأ استخدام خطاب ديني يدّعي تقديم حلول للبشرية ضمن صيغ إطلاقية جازمة، لأن موازين الاجتهاد الفقهي لا تتحمّل خطاباً كهذا حتى لو تحمّلته الأصول المعرفية للخطاب الديني عموماً)([6]).
إنّ النص المتقدّم يخوّل لنا الربط بين مقولة اليقين في الحديث التي يختارها حب الله واستدعائها للانسجام مع الواقع الخارجي بمقتضى كون الدين يقدّم استراتيجية النهوض بالأمة والحياة عامة، فلذا لا نتوقّع من عقل يقيني يضع الأهداف الاستراتيجيّة للدين أمام ناظريه أن يتساهل في قبول الأخبار الظنية!!، ولذا وجدناه يتشدّد في قبول الأحاديث حتى وإن كثرت، وإن قبلها إجمالاً فهو يأخذ بالمقدار المؤكّد من بين مجموع النصوص.
ولهذا نتعقّل كيف يتفاوت عن غيره من العلماء المتبنّين لنفس مبناه، أي حجيّة الخبر الموثوق، إذ إنه يفترق عنهم بأنّ أيّ خدشة تقريباً في السند والمتن تمنعه بسبب تلك الأهداف الاستراتيجية عن تحصيل اليقين بالصدور إلا بصعوبة.
وقد يضاف إلى عنصر الأهداف، ظاهرة عامة في الحديث المحكي، وهي التعارض حتى في بعض الأحاديث التي لا تتمركز في قضيّة مهمة، كبعض روايات الطهارة رغم انتفاء الداعي للتقية في تلك الموارد!
إنّ هذه الظاهرة تضعف من سرعة اليقين بالأحاديث، وهذه الملاحظة لم نجدها ـ فيما يحضرني ـ في نصوص كتب الشيخ حبّ الله وإنما يمكن استخلاصها من مجمل التجربة الفقهية للعلماء عموما ثم يمكن أن ندعي أنها حاضرة في عقل الشيخ حب الله؛ لاسيما لاشتغاله الجاد بتاريخ الأفكار واستيعابه للنتاجات العلمية الذي يفرض تنبهه لهذه الملاحظة، بل بدون قراءة تاريخ التعارض الروائي في كتب الفقهاء يمكن استكشاف ذلك باستقراء الروايات ثم تتبلور بعد ذلك قاعدة في القوة المصدرية للحديث المحكي ـ بشكل نسبي يزيد ويقلّ ـ ويكون من لوازمها تضعيف اليقين بالروايات عموماً إلا بعد حيازة هذه الفئة من الروايات هذه أو تلك الأخرى بشروط السلامة الحديثية فيمكن حينها دفع هذا التصور عن الأحاديث!
وبالتأكيد هذه الملاحظة ليست غمزاً بمصدريّة الحديث أو تقليلاً من شأنه، بل هي صيانة له عن الإضافات المخلّة بقداسته، كما لا يعني ذلك السقوط العملي للحديث، فقد أثبت الميدان الفقهي للشيخ حبّ الله بقاء الكثير من الأحاديث.
دليل نورانية الحديث واستقامته، تحليل ونقد فلسفي
وفي هذا السياق، قد يلاحظ بعض الناقدين أنّ بالإمكان تحصيل الوثوق بالنصوص عبر معيار استقامة النص وظهور نورانيّته، وقد فسّرت النورانية بتفسيرات متعدّدة، إلا أنّ الشيخ حب الله يرى أنّ هذا المعيار غير واضح في مفهومه وتطبيقه، فمن الممكن أن تتذرّع السيكولوجيا الخاصة بالباحث بهذا المعاير المفترض.
ولكي أحلّل فلسفيّاً هذا المعيار ـ دون بحث أصولي له ـ أنّ الكلام النوراني يتحلّل إلى:
مضمون صحيح: وهذا ثابت مسبقاً بحجّة شرعيّة!
نمط أسلوبي: وهو يتشكّل بصياغة أدبيّة ماهرة، ويتكفّل بها الأديب الممارس، كما يمكن محاكاة أسلوب الآخر فينسج عليه ما يريده إذا كان الواضع أديباً متقناً للأسلوب البياني للإمام، وقد نشأ أخيراً علم الأسلوب والأسلوبيّة، ويمكن أن يراجع في هذا الصدد كتاب (الأسلوب والأسلوبيّة لعبد السلام المسدي).
ومن الجدير بالانتباه إلى أنّ الواضع ليس غبيّاً في اختراع الأحاديث؛ فإنّه سيتمّ اكتشافه ويفشل مشروعه سريعاً، إلا أنّه ذكي حاذق في مهنته، فيمرّر ما يريده بأساليب شتى ولو بدسّ عنصر غريب فيروسي في جسد الرواية، ويكون مغلّفاً لا يمكن اكتشافه بسهولة، تماماً كالسرطان الذي يفتك بجسم الإنسان.
وليكن معلوماً أنّ مشروع وضع الحديث لم يقم به آحاد من الناس، بل تبنّته الحكومتان: الأمويّة والعباسية بأجهزتهما الاستخباراتيّة والتي تعمل بدهاء؛ بسبب الخلاف السياسي مع الأئمّة المعارضين لهما ـ عليهم السلام ـ وقد أشارت روايات عدّة لهذا الأمر، فكيف يتمّ التساهل في الوثوق بعد الذي بيّناه؟!
وعلى كلّ فإنّ ثبوت وتفسير دليل النورانيّة مدار نقاش في بحوث أصول الفقه، نترك التفصيل فيه إلى محلّه.
خاتمة
هذا مجمل ما استطعت رصده وتحليله بمنظور فلسفي حول ظاهرة الاجتهاد عند الشيخ حيدر حب الله، عبر فكّ الشيفرات السريّة لنظامه الاجتهادي المسؤول عن هذه الظاهرة المهمّة؛ ولكن من المهم أن أنبّه إلى أنّ هذا التحليل مبنيّ على ما صدر من النتاج العلمي للشيخ حب الله والذي يتسم بطابع نقدي؛ بسبب اهتمامه بمعالجة إشكاليّات الواقع، وإلا فإنّ من الجائز أن تتغيّر بعض استنتاجاتنا لو أصدر بحوثاً فقهية ليس من المتوقع فيها أن تخلق مشاكل واقعيّة، بل قد ألمحنا إلى أنّ الشيخ حب الله حاول أن ينظّر لمبادئ ومسائل جديدة منطلقاً بها من التراث الديني، فنشاطه الاجتهادي لا يقتصر على الترميم، فإنّ البناء يشكل ملمحاً من ملامح ظاهرته الاجتهاديّة.
وأخيراً، عليّ أن أشير إلى موسوعيّة الشيخ حب الله واطّلاعه الدقيق على آخر النتاجات العلميّة لكلّ الطبقات والاتجاهات، وهذا الفعل يعزز فتح الآفاق الرحبة في النشاط الاجتهادي ويقوّيه بشكل فاعل جداً.
وإني أدعو كلّ المشتغلين في الدراسات الاجتهاديّة أن ينفتحوا على كلّ الاتجاهات والخطوط الفكرية والمعرفية؛ فإنّ (الحكمة ضالّة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحقّ بها وأهلها)([7]).
الهامش:
([1]) دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 333 ـ 334.
([2]) فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 589.
([3]) دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 5: 318 ـ 319.
([4]) دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 3: 234.
([5]) حجيّة السنة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 242 ـ 257.
([6]) مسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وملاحظات: 305 ـ 306.