أ. سلمان عبدالأعلى
تمهيد
من الأطروحات التي يتكرّر طرحها في المشهد الفكري المعاصر بمجتمعاتنا، هي مسألة العلاقة بين ثنائية (المثقف ورجل الدين)، حيث يتمّ طرح هذه المسألة بكثرة بين الفينة والأخرى، ويحاول البعض جاهداً أن يركّز على مسألة الصراع أو القطيعة بينهما؛ إذ يستعرض هذه العلاقة أو يُصوّرها وكأنها لابد وأن تكون محكومةً بالصراع أو القطيعة دائماً، فكلّ مثقف لابد وأن يكون ضدّ رجال الدين، وكلّ رجل دين لابد وأن يكون ضدّ المثقّفين، وكأنّ هذا هو قدرهما المحتوم الذي لا مفرّ منه، والسؤال هنا: هل العلاقة بين المثقفين ورجال الدين هي بالفعل قائمة على الصراع أو القطيعة كما يُصوره البعض أم لا؟!
في الحقيقة، إنّني ومن خلال متابعتي لما يُثار حول طبيعة هذه العلاقة من المحسوبين على كلا الطرفين ـ المثقفين ورجال الدين ـ أجد أنّ الكثير منهم يصوّر الأمر وكأنّه بالفعل على هذه الشاكلة، إذ يحاول كلّ طرف أن يصوّر الطرف الآخر وكأنّه خصمه اللدود، بحيث يستعرض علاقته به بأسلوب يوحي للآخرين بأنّها علاقة متوترة جداً وقائمة على الصراع والقطيعة، ومن أجل ذلك نجد كلّ طرف يحاول التقليل من قيمة وشأن الطرف الآخر، بل ويتفنّن في ابتكار النزاعات الوهميّة معه، وذلك ليخوض لأجلها الحروب والمعارك، لعلّه يظفر بفتحٍ يُظهره أمام المجتمع بمظهر المنتصر، ويغفل أنّ انتصاراته هذه لن تكون إلا من جنس معاركه وحروبه، أي انتصارات وهميّة لا قيمة لها.
وبغضّ النظر عن إشكاليّة تحديد المراد الدقيق من مفردتي: “المثقف” و”رجل الدين”، والتي تبدو غير واضحة ومحدّدة بدقّة حتى عند الكثير ممن يُكثر الحديث عن هذه الثنائية، فإنّ ما يهمّنا في هذا المقال هو الحديث عن المثقف ورجل الدين بالمفهوم الشائع والمتداول في مجتمعاتنا، أي كل من يُحسب على المثقفين ورجال الدين بغض النظر عن اتجاهاتهم الفكريّة ومستوياتهم العلميّة، وقد يكون هذا التوسّع الحاصل في المفهوم أحد أبرز الإشكاليّات التي نعاني منها أو بسببها، هذا إن لم نقل بأنّه أبرزها على الإطلاق، ولكنّنا سنتجاوز ذلك، وسيكون تركيزنا فقط على الإشكالين التاليين:
أوّلاً: (إشكالية تتعلّق بالأدوار والمهام)
من الملاحظ أنّ الكثير من المثقفين ورجال الدين يحاولون وضع المثقف في قبال رجل الدين، إما باعتباره لا يطرح طرحاً دينياً أو لا يمارس دوراً دينياً أو باعتباره لا يحقّ له أن يطرح هذا الطرح أو يمارس هذا الدور، وذلك نظراً لكونه ليس رجل دين مختصّ في القضايا والمسائل الدينية، وهذا بالطبع غير صحيح، فمن الممكن أن تكون للمثقف أدوار دينية بارزة وفعالة، إذ يحقّ له ذلك على الأقلّ إن لم نقل بأنّه يجب عليه، وهذا ما أكّد عليه الدكتور علي شريعتي في كتابه (مسؤوليّة المثقف) عندما ميّز بين المثقف في الرؤية الغربية وبين المثقف في الرؤية الإسلاميّة، وبيّن بأنّ مسؤوليّة المثقف ودوره في الرؤية الإسلامية يشبه الدور الذي مارسه الأنبياء والرسل وأئمة المذاهب، وهذا يعني أنّ المثقف في الرؤية الإسلاميّة ـ بحسب الدكتور شريعتي ـ لابد وأن يكون له في مجتمعه أدوار دينية تسهم في إحداث التغيير الإيجابي المنشود.
وما أجمل ما فعله الأستاذ زكي الميلاد في كتابه (محنة المثقف الديني مع العصر)، حيث جمع بين المثقف من جهة، والدين من جهة أخرى فيما أسماه بـ(المثقف الديني)، وهذا يدلّ على إمكانية الجمع بين الثقافة العامة والمعرفة الدينية، بل نجد حتى النماذج التي ساقها وينطبق عليها هذا المفهوم، هم إما مثقفون أصحاب مشاريع فكرية دينية أو لنقل أصحاب مشاريع فكرية لها علاقة بالفكر الديني كمحمد إقبال ومالك بن نبي، أو مثقفون هم في الأساس رجال دين كالسيد الشهيد محمد باقر الصدر والشيخ الشهيد مرتضى مطهري.
وعلى نفس المنوال أو قريباً منه في مفهوم (المثقف الديني) سار الأستاذ يحيى محمد في كتابه (القطيعة بين المثقف والفقيه)، وهذا يعني أنّ الفصل التام والكامل بين المثقف ورجل الدين ليس صحيحاً في كلّ الأحوال، لأنه من الممكن أن يكون رجل الدين مثقفاً أو أن يكون المثقف مثقفاً دينياً، ففي حالات كهذه يمكن الجمع بينهما حتى في شخصية واحدة، بل لا يمكن الفصل.
وهذا الأمر ليس مقتصراً على النماذج والأسماء الماضية فحسب، بل هناك عدة أسماء معاصرة ممن أعتقد بأنهم يمتلكون هذه الصفة كالسيّد كمال الحيدري والشيخ حيدر حبّ الله، إذ يتلمّس كلّ من اطّلع على فكرهما بأنّهما يجمعان بين عمق المعرفة الدينية والثقافة الواسعة، كما أنّ هذا الأمر ليس مقتصراً على مجتمعاتنا فحسب، إذ نجد أمثاله في التاريخ الأوربي أيضاً، فمثلاً نجد أن رائد الإصلاح الديني الألماني مارتن لوثر كان رجل دين، وكذلك نجد الهولندي إيراسموس صاحب الكتاب الشهير (ثناء على الحماقة) أو (ثناء على الجنون) ـ على اختلاف الترجمة ـ الذي أصبح أحد أبرز رواد الحركة الإنسانية على الرغم من كونه في بدايات حياته رجل دين أيضاً كما يُذكر عنه.
ثانياً: (إشكاليّة المقارنة بالنماذج السيّئة)
نجد بعض المثقفين عندما يريدون أن يتحدّثوا عن رجال الدين ينتقون أسوأ النماذج أو النماذج السيّئة ـ على الأقلّ ـ ممّن لا يُحسنون طرحاً علمياً أو تحليلاً منطقياً، كبعض خطباء المنبر الحسيني من أصحاب الفكر السطحي الهزيل، بحيث يصوّرونهم وكأنّهم هم الممثلون لفئة رجال الدين، وربما يُجرون مقارنة بين ما يقدمه هؤلاء من مهازل فكرية وبين ما يقدّمه كبار المثقفين والمفكّرين من أفكار وتحليلات عميقة تستحقّ العناية والاهتمام، وكلّ ذلك ليثبتوا تفوّق المثقفين على رجال الدين.
وفي المقابل، نجد بعض رجال الدين يمارس نفس الأمر، إذ ينتقون أسوأ النماذج من المحسوبين على المثقفين، كبعض المهرّجين من أصحاب الثقافة الاستعراضيّة ـ إن صحّ التعبير ـ ممن لا يمتلكون الكفاءة المعرفية اللازمة وينشطون عادةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر، حيث يصوّرونهم وكأنّهم هم الممثلون لفئة المثقّفين، وربما أيضاً يقارنون ما يطرحه هؤلاء من إثارات وتهريجات بأطروحات كبار العلماء والشخصيات الدينية البارزة، وكلّ ذلك أيضاً ليثبتوا التفوّق الواضح لرجال الدين على المثقّفين.
من هنا، يبدأ التراشق وتبادل التهم والإساءات بين بعض المحسوبين على الطرفين، فنجد كلّ طرف يُبدع في استعمال ألوان مختلفة من العبارات والألفاظ التي تقلّل من شأن الطرف الآخر، فنجد بعض رجال الدين مثلاً يستخفّ بالمثقفين ويتعالى عليهم، ويصفهم بالقول بأنّهم كلّ من قرأ كتاباً أو كتابين، وأراد أن يمارس النقد الديني، وفي المقابل نجد بعض المثقفين أيضاً يهزأ برجال الدين ويحقّرهم ويختزلهم بالقول بأنهم كلّ من درس سنة أو سنتين في الحوزة العلميّة، وصار له طموح قويّ للزعامة الدينية وقيادة المجتمع.
والملاحظ أنّ من يستعمل هذه الأساليب يتغافل عن كون الضحالة الفكريّة والمعرفيّة ليست محصورةً في طرف دون آخر؛ لأنّها موجودة وبكثرة عند المحسوبين على الطرفين، فكما أنّ هناك رجل دين استعراضي زائف، هناك أيضاً مثقف استعراضي زائف، والاختلاف بينهما يكاد لا يتعدّى بعض الوسائل والآليات المستعملة، ففي حين نجد رجل الدين الاستعراضي يتخذ من منبر الجمعة أو المجالس الحسينية محلاً لطرح هزليّاته وخطبه المسيلة للدموع، نجد المثقف الاستعراضي يتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر محلاً لطرح إثاراته وتهريجاته، والغريب أنّ كليهما يعطي لما يقدّمه من هزليّات وتهريجات أكبر من حجمها الحقيقي!!
وممّا لا يكاد ينقضي منه عجبي أنّ بعض المحسوبين على أهل الثقافة والفكر يبالغ في تمجيد ذاته وإنجازاته، ويقارن نفسه بكبار العلماء والمفكّرين كالشهيد الصدر والشيخ المطهري والسيد فضل الله والسيد الحيدري وغيرهم، بل ويذكر اسمه في عدادهم، فعندما يتحدّث مثلاً عن بعض الموارد التي يدعو لتنقيحها وتنقيتها في الموروث الروائي الشيعي، نجده لا ينقل آراء هؤلاء الأعلام أو غيرهم، وإنما يستعرض نفسه وكأنّ له مشروعاً متكاملاً في ذلك، فنجده مثلاً يقول: هذا ما أكّدت عليه أنا والسيد كمال الحيدري، أو هذا ما ذكرته أنا والسيد محمد حسين فضل الله، وهكذا، والغريب أنّك لو رجعت إلى نتاجه الفكري لم تجد إلا بضع مقالات إنشائيّة أو تغريدات عبر تويتر والفيس بوك..فيا للعجب!!
ومن المفارقات أيضاً، أنّنا نجد بعض المحسوبين على المثقفين كثيراً ما يستشهدون بكلمات الدكتور علي الوردي في نقد رجال الدين، وبالخصوص في كتابه (وعاظ السلاطين)، ولكنّهم يتجاهلون نقد الدكتور الوردي نفسه للمثقّفين في الكثير من كتبه، وبالخصوص في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع)!!
لذلك، فإنّنا كما نطالب رجال الدين بمشاريع علمية ناهضة كالتي قدمها الشهيد الصدر والشيخ المطهري وغيرهما، علينا أن نطالب المثقفين أيضاً، وبالخصوص الذين يعانون من مرض تضخّم الذات، أن يعملوا بجدّ ليكون لهم نتاج فكري كمحمد أركون ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ونصر حامد أبوزيد وغيرهم، طبعاً بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع اُطروحات هؤلاء، ولكن ما يهمّنا في هذا المقام هو أنّهم عبّروا عن رؤاهم الفكريّة بأسلوب حضاري وبمشاريع فكريّة جادّة.
ومع كل ما ذكرناه سابقاً، إلا أنّ من الخطأ أن يختزل كلّ المثقفين في بعض النماذج السيئة، وكذلك الأمر بالنسبة لرجال الدين، ولكن للأسف الشديد إنّ هذه باعتقادي هي المشكلة الكبرى التي يعاني منها كثير من المحسوبين على كلا الطرفين، حيث نجد الكثير منهم يركّز على النماذج السيّئة في الطرف الآخر ويغفل أو يتغافل عن النماذج الحسنة والمشرفة، وهذا بلا شك خلاف للموضوعيّة والإنصاف؛ لأنّنا لو دقّقنا النظر جيّداً لوجدنا في كلا الطرفين ـ المثقفين ورجال الدين ـ من يستنكر وينقد فكر وتصرّفات بعض المحسوبين على فئته، فالمسألة إذاً ليست صراعاً بين فئة المثقّفين ورجال الدين كما يحاول أن يصوّر البعض؛ لأنّ الصراع موجود حتى بين رجال الدين أنفسهم، والمثقفين أنفسهم، فصراع رجال الدين مع بعضهم البعض لا يقل عن صراعهم مع بعض المثقفين، وكذلك الحال بالنسبة لصراع المثقفين مع بعضهم البعض، ولذلك لا يصحّ أبداً استعراض الأمر وكأنّ الصراع دائر فقط بين المثقفين ورجال الدين.
التكامل بين المثقف ورجل الدين (حسينية الإرشاد نموذجاً)
كما يمكن الجمع بين المثقف ورجل الدين في شخصيّة واحدة، فإنّه من غير المستبعد أن يتمّ الجمع بينهما في مكان أو مشروع واحد، ومن أفضل النماذج التي نستطيع أن نقدّمها لتكامل المثقفين ورجال الدين في مشاريع مشتركة هي حسينية الإرشاد بطهران، حيث كان يُلقي المحاضرات فيها الدكتور علي شريعتي والشيخ مرتضى مطهري، فعلى الرغم من الاختلافات الشاسعة بينهما في الخلفيّات العلميّة والأطروحات الفكرية، إلا أنّ الجميل أنّهما كانا يقدّمان فكرهما انطلاقاً من نفس المكان، وهذا ما نحتاجه في مجتمعاتنا في الوقت الراهن.
لذلك، أدعو ـ وأتمنّى أن يكون لدعوتي هذه أثر وتلقى طريقها للتنفيذ على أرض الواقع ـ لتأسيس حسينيات على غرار حسينية الإرشاد بطهران، حسينية واحدة على الأقلّ في كلّ منطقة، وليكن أسمها حسينية الإصلاح أو الانفتاح أو النهضة أو الحرية أو أيّ اسم آخر لا يهمّ، إذ المهم أن يكون لهذه الحسيّنية خصوصياتها التي تميّزها عن الحسينيات التقليديّة، والتي من أبرزها احتضانها للطبقة الواعية من المثقفين ورجال الدين، فهذه الخطوة لو تمكّنا منها، فإنها سوف تسهم في تقدّم مجتمعاتنا خطوات للأمام، بل أعتقد بأنها سوف تقفز به قفزات هائلة، وسيحدث على إثرها تغييرات نوعية في مسيرة الوعي العام للمجتمع.
الثلاثاء: ١٠ ـ شباط (فبراير) ـ ٢٠١٥م