تناولت المحاضرة الأولى من تفسير سورة البيّنة عدّة عناوين، منها:
1 ـ أسماء السورة المذكورة في التراث الإسلامي والاستشراقي (ثمانية أسماء).
2 ـ عرض بعض النصوص في فضيلتها من المصادر السنيّة والشيعيّة.
3 ـ بيان هويّة السورة من حيث المكيّة والمدنيّة، وبيان عدم وجود سبب خاصّ لنزولها تاريخيّاً. مع ذكر عدد آياتها عند جمهور المسلمين (ثماني آيات) وعند البصرييّن (تسع آيات).
4 ـ إنّ الآية الأولى والسادسة من هذه السورة، وكذلك آيات اُخَر في القرآن، تعتبر دليلاً على التمييز القرآني بين المشركين وأهل الكتاب.
5 ـ الحديث عن تسميات المسلمين في التراث المسيحي، وأنّهم كانوا يسمّونهم: (السراسنة ـ الهاجريّون ـ البربر)، ولاحقاً تمّ إطلاق اسم (المحمّديون) قياساً للمسلمين على المسيحيّين في نظرتهم لعيسى، ومحوريّة عيسى في الديانة المسيحيّة، بشكل مختلف عن محوريّة محمّد في الديانة الإسلاميّة، كما قارب هذا الموضوع الدكتور إدوارد سعيد، وأنّ هذا من أخطاء المقايسة التي وقع فيها بعض المسيحيّين تاريخيّاً.
6 ـ المسيحيّة تدور حول رباعيّة إجماعيّة: (عيسى موجود ـ عيسى مصلوب ـ عيسى قام من بين الأموات ـ عيسى سيرجع)، فمحور أصول العقيدة هو عيسى، بينما في الإسلام الأمر ليس كذلك، ولا تشكّل نبوّة محمّد سوى أحد أضلاع العقيدة الإسلاميّة، وإنّما المحور هو الله والتوحيد، ثمّ النبوّة والمعاد.
7 ـ حدوث تحوّل في تسمية المسلمين في الأدبيّات المسيحيّة بعد القرن السابع عشر، ثم بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1963 ـ 1965م)، واتخاذ المجمع قرارات تاريخيّة عند المسيحيّة، من نوع: (حقوق الإنسان ـ عدم حصر الخلاص بالمنتسبين إلى المسيحيّة بشكل رسمي ـ فتح علاقات جديدة أكثر حواراً ونضجاً وتواصلاً مع سائر الديانات، خاصّةً الإبراهيميّة ـ انفتاح جديد على العالم المعاصر). وبهذا صار يُطلق على المسلمين اسم (المسلمون) بشكلٍ رسمي نهائي.
8 ـ أمّا على المقلب القرآني، فالقرآن دائماً كان يُطلق على المسيحيّين واليهود أسماءً تحتوي تقديراً واحتراماً أو على الأقلّ لا تحتوي ذماً أو تعريضاً، مثل:
أ ـ اليهود، بني إسرائيل.
ب ـ النصارى، وهو تعبير يمكن أن يكون استند إلى مفهوم أنصار الله والمسيح (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله) أو إلى مفهوم عيسى الناصري نسبةً إلى الناصرة في بلاد فلسطين.
ج ـ القسّيسين والرهبان والأحبار والربّانيين والحواريين، وكلّها تسميات تحتوي مدحاً نسبيّاً.
د ـ أهل الكتاب ـ أوتوا الكتاب: وتحتوي إشارة إلى كونهم أهل معرفة وكتاب أو أهل ديانة وفرائض، وهذا يحتوي تقديراً، بينما سمّى القرآن عبدة الأوثان بعنوان (المشركون)، وهو عنوان سلبي في النظرة القرآنيّة بنفسه.
9 ـ رغم احترام القرآن ـ على مستوى التسمية ـ لأهل الكتاب ورغم مدحه لبعض سلوكيّاتهم (وأنّهم لا يستكبرون ـ إن تأمنه بقنطارٍ يؤدّه إليك..)، لكنّه كان صريحاً في نقد بعض عقائدهم وتصوّراتهم وسلوكيّاتهم بشكل واضح وحاسم، ومن أشكال هذا النقد ما جاء في سورة البيّنة هنا.
10 ـ كيف ينظر أهل الكتاب لأنفسهم على مستوى ثنائيّة التوحيد والشرك؟ وكيف ينظر إليهم القرآن؟
أ ـ أمّا نظرتهم لأنفسهم، فاليهودية تعتبر نفسها توحيديّة بامتياز وتفتخر بذلك، وبحسب تعبيرات الباحثين المعاصرين فإنّها تؤمن بالإله الأب (أي المتعالي المهيمن المسيطر المطلق النافذ الإرادة والخالق). وأمّا المسيحيّة فهي تعتبر نفسها موحّدة، وترفض وصف عيسى بالخالق أو الله أو الإله، وإنّما تصفه بالربّ، وهي تسعى لتفسير التثليث بشكلٍ يتناسب مع مفهوم التوحيد وما تزال تحاول ذلك إلى اليوم من خلال نظريّات عديدة توفيقية بين التثليث والتوحيد، بما يدلّ على أنّ همّ التوحيد موجود عندها أيضاً (ثقافة المسيحيّة ثقافة الإله في طور الإبن الذي نزل للعالم، ولم يبقَ متعالياً).
ب ـ أمّا نظرة القرآن لهم، فهي:
أولاً: لا يُطلق القرآن عنوان المشرك أو المشركين (بنحو اسم الفاعل) على أهل الكتاب، بل يميّز دائماً بينهم وبين هذا العنوان.
ثانياً: يستخدم القرآن مفردة الكفر بتصاريفها المتنوّعة تجاه أهل الكتاب، لكنّه لا يقصد من ذلك عدم كونهم أهل ديانة، كما يتصوّر المناخ المسيحي المعاصر المتحسّس جداً من هذا التعبير، بل يقصد أنّهم أنكروا حقائق دينيّة هامّة في الرسالة الإسلاميّة أو حتى في رسالتهم، وليس من الضروري أن تكون هذه الحقيقة هي الاعتقاد بالله، بل هو يصرّح باعتقادهم به سبحانه (يجب الحذر من استخدامنا هذا المصطلح (الكفر) أثناء الحوار اليوم مع أهل الكتاب، حتى لا نُفهم خطأً).
ثالثاً: ينسب القرآن ـ لا أقلّ لبعض اليهود والنصارى ـ عقائد مثل: عزير ابن الله، المسيح ابن الله، ثالث ثلاثة، اتخاذ عيسى وأمّه إلهين.
رابعاً: يستخدم القرآن في حقّ المسيحيين خاصّة، تعبير الشرك بصيغة فعل المضارع في الآية 31 من سورة التوبة.
خامساً: كيف نجمع بين تمييز القرآن عنوان المشرك عن أهل الكتاب من جهة، وبين توصيفه المسيحيين بالشرك بصيغة المضارع في الآية 31 من التوبة؟
الجواب: توجد تصوّرات متعدّدة هنا، ولعلّ الراجح هو: هناك فرق بين ديانة ترى الشرك وتؤمن به وتنظّر له فهي مشركة، وبين ديانة ترى التوحيد، لكنّها تفسّره بطريقة لا تحفظه، ففي الحالة الأولى يتعامل القرآن مع الديانة على أنّها مشركة وأهلها مشركون، بينما في الحالة الثانية لا يصفهم بالمشركين؛ لأنّهم يسعون للتوحيد ويفتخرون به، لكنّه يصحّح توحيدهم وينقّيه ويطالبهم بإعادة إنتاجه بشكلٍ يسلم من الخدش والتوهين، فهاتان الحالتان متمايزتان قرآنياً (ليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه).
النتيجة: إنّ القرآن احترم أهل الكتاب فيما أطلق عليهم من أسماء في الوقت عينه الذين انتقدهم في عدّة جوانب، كما أنّه ميّز بينهم وبين المشركين بسبب أنّهم ديانات توحيديّة، غاية الأمر أخطأت في فهم التوحيد فأتت بمفاهيم أضرّت بالتوحيد وهي تظنّ أنّها لم تضرّ به.
و..