تناولت المحاضرة الرابعة من تفسير سورة العاديات عدّة عناوين، استكملت البحث في محاور الحديث عن معنى الشهيد والشهادة والشهداء و.. في القرآن الكريم، وإثبات أنّه لا يوجد دليل حاسم لاستخدام مفردة الشهيد والشهداء في القرآن في المقتول في سبيل الله، بل المراد منها جماعة يشهدون أموراً لا يشهدها الناس أو تطلب شهادتهم يوم القيامة على الناس لما لهم من منزلة رفيعة، وهؤلاء قد يكون منهم كلّ المقتولين في سبيل الله أو بعضهم.
المحور الرابع: نظريّة الدكتور محمّد شحرور في معنى الشهيد والشاهد وتصريفاتهما في القرآن الكريم، عرض وتحليل وتعليق
أوّلاً: تعريفٌ إجمالي بالدكتور شحرور وحياته، وبعض مؤلّفاته، ومشروعه في (القراءة المعاصرة للقرآن الكريم)، وما كُتب في نقده.
ثانياً: عرض رؤية شحرور لمعنى تصريفات الشهيد والشاهد في القرآن الكريم، خاصّةً طبقاً لما جاء في الفصل الثاني من كتابه (الإسلام والإيمان ـ منظومة القيم)، والصادر عام 1996م.
1 ـ تقوم رؤية شحرور على التمييز في القرآن بين: الشهيد والشاهد.
2 ـ الشهيد، وجمعه شهداء وأشهاد: هو الحاضر الحيّ المدرك للشيء بالسمع والبصر، والذي يؤدي شهادته عندما يُطلب منه، ولهذا فالله شهيدٌ؛ لأنّه سميع بصير.
3 ـ استعراض ثلاث آيات تمثل عيّنات لتقريب شحرور فكرتَه في القضيّة، مثل آية الدَّين: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ولم يقل: واستشهدوا شاهدين من رجالكم.
4 ـ الشاهد، وجمعه شاهدون: هو من لم تكن لديه معرفة حسيّة بصريّة وسمعيّة بالشيء، بل كانت معرفته من خلال الخبرة والاستنتاج والتأمّل. (شهادة الشهيد أقوى عند شحرور من شهادة الشاهد).
5 ـ استناد شحرور لقوله تعالى في سورة يوسف: (وشهد شاهد من أهلها)؛ لإثبات أنّ الشاهد هنا لم يحضر الواقعة فلم يسمع ولم يرَ، بل قدّم شهادته من موقع الخبرة والتحليل، كما تشرح الآية نفسها فيما بعد، ولهذا لم يقل: وشهد شهيد من أهلها. وكذلك استناد شحرور لقوله تعالى: (قال بل ربكم ربّ السماوات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين)، ولم يقل: من الشهداء؛ لأنّه لم يحضر خلق الله للعالم بسمعه وبصره، بل عرف ذلك بالبصيرة والتأمّل والعقل.
6 ـ يستنتج شحرور هنا: أ ـ كلّ أهل العلوم الطبيعية والخبراء في العلوم والفنون هم شاهدون وليسوا شهداء. ب ـ إنّ شهادتنا بالتوحيد والنبوّة هي شهادة شاهد وليست شهادة شهيد. ج ـ إنّ شهادة الإنسان على نفسه هي شهادة شاهد، وليست شهادة شهيد؛ لأنّ معرفته بنفسه معرفة ذاتيّة لا عبر السمع والبصر، بينما الشهيد هو الذي يشهد الحدث من خارجه لا من نفسه.
7 ـ تُطرح هنا ثلاثة أسئلة يجيب عنها شحرور:
السؤال الأوّل: لو جاءت كلمة (شهد) فهل تتصل بالشهيد أو بالشاهد؟
يجيب شحرور: يفهم الأمر من السياق، فالكلمة تحتمل الاثنين معاً.
السؤال الثاني: ما هو الموقف من كلمة (شهود)؟
يجيب شحرور: إنّها تصلح لجمع شهيد وشهداء، كما تصلح أيضاً لجمع شاهد وشاهدين.
السؤال الثالث: كيف نفسّر قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس)؟
يجيب شحرور: أي لتكونوا استمراراً للنبوّة، بتقديم الدليل المرئيّ وغير المرئيّ عليها.
هذه خلاصة فكرة شحرور حول الشهيد والشاهد.
ثالثاً: تحليل جزئي وموجز لتصوّرات وخلفيّات شحرور في تفكيك مفردة الشهادة وتصريفاتها في القرآن الكريم:
1 ـ تأثر شحرور بمشروع علم الدلالة القرآني الذي أطلقه العالم الياباني توشيهيكو إيزوتسو (1993م)، في أوساط القرن العشرين، معتمداً علم الدلالة واللسانيّات الحديثة.
2 ـ يُعتقد أنّ هذا المنهج دخل العالم الإسلامي بشكل فاعل في سبعينيّات القرن العشرين، وتأثر به العديد من الباحثين بشكل أو بآخر، مثل: المفكّر الجزائري محمد أركون (2010م) خاصّةً في تفسيره لسورتي الفاتحة والكهف، والمفكّر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد (2004م)، خاصّةً في كتابه: العالميّة الإسلاميّة الثانية، والدكتور محمّد شحرور في كتب متعدّدة له مثل (الكتاب والقرآن) وغيره.
3 ـ جوهر الفكرة أنّ المنظومة الفكريّة الإسلاميّة تقوم على مجموعة المفاهيم القرآنيّة، وهي تقوم بدورها على مجموعة المفردات القرآنية (إعادة بناء المنظومة يشرع من إعادة تأويل المفردات)، ومن هنا يركّز هذا المشروع على تحليل المفردات وشبكة علاقاتها ومنطلقاتها وحمولاتها في المعنى.
4 ـ يعتقد إيزوتسو أنّ القرآن جاء إلى العرب الذين لديهم لغة ومفردات، لكنّه أعاد وضع المفردات في مجموعات جديدة لغويّة، غيّرت معناها وطوّرته، وذلك أنّ اللغة تقوم على نظام المفردات ذات العلاقة مع بعضها كنظام الجاذبيّة بين النجوم والكواكب، وليست منفصلةً مثل حبّات الرمل في الصحراء، وأيضاً تقوم اللغة على نظام الحقول، حيث تتشكّل معاني المفردات من خلال تشكّل مجموعات متعدّدة، لكل ّمجموعة مركز، يسمّيه (الكلمة المفتاحيّة أو الكلمة الصميميّة)، وهذا ما يكوّن النظام العلائقي للمفردات (تمّ تقديم مثال: الإيمان والكفر/ الكتاب).
5 ـ يلاحظ أنّ شحرور هنا رصد مفردة شهيد وشاهد ضمن مجموعات، ليعتبر أنّ شبكة علاقة الكلمة بالمجموعات المحيطة أعادت تكوين مدلول جديد لها (معرفة سمعية بصريّة/معرفة خبرة)، فاستخدام القرآن لمفردة شهيد ضمن (السمعي البصري) يهدف لإعادة تكوين معنى الكلمة في لغته الخاصّة.
6 ـ ينتج ـ على منهج علم الدلالة القرآني ـ أنّ لدينا معجمان لغويّان: المعجم العربي الجاهلي الذي شرح المفردات في سياق مجموعات وأنساقِ ثقافة ما قبل الإسلام، والمعجم العربي القرآني الذي يعيد تكوين معنى المفردات في الثقافة القرآنية، وأنّ خطأ المفسّرين والأصوليّين والفقهاء كان ـ من وجهة النظر هذه ـ في اعتمادهم المعجم الجاهلي لتفسير مفردات المعجم القرآني!
7 ـ الإشارة إلى أنّ ما يشبه منهج إيزوتسو وشحرور وغيرهما، موجود في الثقافة التراثيّة، لكن بشكل محدود ومتفرّق، وليس بشكل منظومي شامل ينتج رؤية العالم، إضافة إلى أنّ تراث أصول الفقه الإسلامي انتبه ـ جزئيّاً على الأقلّ ـ لفكرة تحوّل المفردات بتأثير القرآن وثقافته المعنائيّة والنسقيّة، وذلك في مثل مباحث (الحقيقة الشرعيّة) من علم أصول الفقه.
رابعاً: وقفات وتعليقات على نظريّة شحرور في الشهيد والشاهد، تمّ إيكالها إلى المحاضرة اللاحقة إن شاء الله.
و…