تناولت المحاضرة الثانية من تفسير سورة البيّنة عدّة عناوين، منها:
1 ـ ترجيح أنّ (من) في قوله: (كفروا من أهل الكتاب والمشركين)، للتبعيض، وليست بيانيّةً، وعليه فبعض أهل الكتاب كفّار، وبعض المشركين كفّار، وهذا هو الموافق لرأي بعض المفسّرين هنا مثل العلامة الطباطبائي.
2 ـ إنّ تقديم (أهل الكتاب) في الذكر على (المشركين) في الآية، ليس دليلاً على خصوصيّة معينة.
3 ـ طرح فكرة: إنّ عنوان أهل الكتاب في القرآن الكريم عنوانٌ عام، يراد منه كلّ من له كتاب، بمعنى ديانة وعقيدة وشريعة، ويكون اليهود والنصارى مجرّد مصاديق بارزة محيطة بالتجربة النبويّة تاريخيّاً، وهذا ما يفاصل عنوان أهل الكتاب في الفقه الإسلامي عنه في الاستخدام القرآني، فصدق عنوان أهل الكتاب في القرآن على اليهود والنصارى صدقٌ مصداقي، وليس بمعنى كون الكلمة مستخدمة في معنى خاص بهاتين الديانتين.
4 ـ حيث إنّ الفكّ هو فصلٌ بعد شدّة اتصال، لهذا صار المفسّرون بصدد فهم الطرف الثاني لهذا الاتصال، بعد أن أوضحت الآية هويّة الطرف الأوّل وهو: أهل الكتاب والمشركون، وهنا طرحت تفاسير متعدّدة، أبرزها:
التفسير الأوّل: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين عن بعضهم بعضاً. مع ذكر بعض التعليقات على هذا التفسير.
التفسير الثاني: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين عن الكفر، وهو التفسير الأشهر. مع بيان بعض التعليقات عليه.
التفسير الثالث: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين عن ذكر مناقب الرسول والوعد بمجيئه. مع ذكر بعض التعليقات عليه في أنّه محتمل في اليهود الذين يحملون عقيدة (المسيا)، وهو المنقذ المنتظر من نسل النبيّ داود عندهم، والنصارى الذين ذكر اسم النبي محمّد في كتابهم أو على لسان عيسى وفق تصريح القرآن الكريم، لكنّه غير محتمل في المشركين الذين ما كانوا ينتظرون مخلّصاً ولا نبيّاً.
التفسير الرابع: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين عن سنّة الهداية الإلهيّة (تفسير العلامة الطباطبائي)، المنسجم في روحه مع قاعدة اللطف، مع ذكر ثلاث مناقشات عليه والردّ على اثنتين منها.
التفسير الخامس: ما يطرح بوصفه احتمالاً، وهو أن يقال: إنّ ما بعد (حتى) مشمول للنفي وليس غايةً للمنفي، والمعنى: إنّ البيّنة لا تغيّر من الكفار شيئاً؛ لأنّ روحهم روح الكفر، ولهذا يزدادون بالبيّنات والهدى طغياناً وكفراً، وهذا التفسير ينسجم مع تبعيضيّة حرف (من) في الآية، وينسجم مع حصول التفرّق بينهم بعد مجيء البيّنات كما نصّت عليه الآية الرابعة هنا، ويكون المراد من الكفر صفة سلوكيّة، وليس صفةً عقديّة.
5 ـ البيّنة بمعنى ما يستبين به الشيء ويشكّل دليلاً واضحاً عليه، وهو مفهوم مغاير قرآنيّاً للمصطلح الفقهي الخاصّ للبيّنة في باب القضاء. واستخدام صيغة المضارع (تأتيهم) سيكون المراد منه الماضي، لو فسّرنا (رسول من الله) في الآية الثانية بشخص النبي محمّد، وإلا يبقى المضارع على صيغته ودلالته لو قلنا بالتعميم.
6 ـ (رسولٌ) بدل من (البيّنة)، أو خبر لمبتدأ محذوف، والأرجح الأوّل، واختلاف التذكير والتأنيث غير مضرّ هنا.
7 ـ (الرسول) إمّا هو شخص النبيّ محمّد كما قاله المشهور، أو هو استخدام عام في مطلق الرسل، وهو الأرجح، أو يُراد به الملائكة كما قيل، لكنّ القول الأخير منافٍ لسياق الآيات ومعطياتها.
8 ـ (من الله)، صفة للرسول أو متعلّق به، وقيل: إنّ المعنى هو: رسولٌ يتلو صحفاً من الله مطهّرة، وهو بعيد، فالصحيح: رسولٌ مرسل من قبل الله يتلو صحفاً.
9 ـ الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب عليه، والكتاب أو الكتب تطلق على نفس معنى الصحف تارةً، وعلى المكتوب في الصحف أخرى، والآية هنا تقول: إنّ الصحف فيها كتب، فتدلّ على أنّ المراد بالكتب هو المكتوب.
10 ـ إذا بنينا على شمول الآية للنبيّ محمّد أو اختصاصها به، فكيف نفهم أنّ النبيَّ كانوا يتلو صحفاً؟! فهل كان يقف بعد كلّ وحي يقرأ من صحيفة؟ هل هذا منجسم مع المعطيات التاريخيّة؟ ألا تنسف هذه الآية فكرة أميّة النبيّ؟ كيف نفهم ذلك؟
يمكن هنا طرح أجوبة:
الجواب الأوّل: ما ذكره بعضهم، من أنّ المراد بالصحف هو أجزاء الكتب السماويّة، وليست صحفاً مادية، وهذا تفسير محتمل، لكنّه يحتاج لدليل.
الجواب الثاني: إنّ المراد صحفٌ سماوية غير ماديّة نزلت بها الملائكة على الأنبياء (في صحفٍ مكرّمة مرفوعة مطهّرة بأيدي سفرة كرام بررة).
الجواب الثالث: إنّه لا مانع من الالتزام بدلالة الآية على كون القرآن كان يدوّن منذ العصر النبويّ في صحف، لكنّها لا تدلّ على نفي أميّة النبيّ؛ لأنّ التلاوة من الصحيفة يمكن أن تكون عن حفظ، فيقال: تلى الصحيفة عن ظهر قلب.
الجواب الرابع: أن يحتمل كون السورة كلّها ناظرة للنبي موسى الذي كان وحيه في صحف لمّا رجع من مواعدة الله له على الجبل (الألواح)، فيراد من أهل الكتاب (بنو إسرائيل) ومن المشركين (غيرهم). وهو محض احتمال.
و..