تناولت المحاضرة الثالثة من تفسير سورة البيّنة عدّة عناوين، منها:
1 ـ شرح معنى طهارة الصحف التي يتلوها الرسول (يتلو صحفاً مطهّرة).
2 ـ عودة معنى الكتاب في تصريفاته القرآنيّة إلى خصوصيّتين: الثبات والدوام مع الحتم والتنجيز.
3 ـ استخدام القرآن مفردة الكتاب وتصريفاتها في دائرتين:
الدائرة الأولى: وهي الدائرة العرفيّة، مثل كتابة الديون وغير ذلك مما ورد في بعض الآيات.
الدائرة الثانية: وهي الدائرة الدينية (ودائرة الرؤية الكونيّة الدينيّة)، وهذا وقع ضمن سياقات أبرزها:
السياق الأوّل: سياق الحقوق والتكاليف (إثبات شيء قانوني)، مثل: (كتب عليكم الصيام)، ومثل: (ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم)، مع استعراض سلسلة من هذا النوع من الآيات.
السياق الثاني: سياق المعرفة الإلهيّة بالعالم وثبوت العلم بوقائعه (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)، مع عرض جملة من الآيات من هذا النوع.
السياق الثالث: سياق الدين والشريعة، فالكتاب هو البرنامج العلمي والعملي النازل من الله للبشر، سواء كان مدوّناً أم لا، ولعلّ تعبير (أهل الكتاب) يحمل هذا المعنى، وليس فقط معنى الكتاب المؤلّف من صحائف.
وغيرها من السياقات.
4 ـ إنّ معنى (قيّمة) يفتح على ثلاثة احتمالات يبدو المقدار المتيقّن منها هو الأوّل، وهي:
أ ـ ذات قيمة وأهميّة.
ب ـ قائمة غير معوجّة، فلا جور ولا ظلم ولا فساد ولا خلل فيها.
ج ـ قائمة بالأمور، بمعنى أنّ بها قيام حياة الناس، كما نقول: فلان قيّم على اليتامى.
5 ـ فتح ملف (ظاهرة الاختلاف بين البشر) في سياق الحديث عن قوله تعالى: (وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة) وذلك ضمن مرحلتين:
المرحلة الأولى: مقدّمة في ضرورة دراسة أسباب الاختلاف (الذي يبدو وكأنّه أزلي أبدي) بين البشر، فلماذا لا يكفّ البشر عن الاختلاف؟ وما السرّ في هذه القضيّة؟ يوجد هنا اتجاهان:
الاتجاه الاول: وهو اتجاه رائج في الأوساط الدينية في الديانات المختلفة تقريباً، ويرى عودة سبب الاختلاف إلى نزوع البشر نحو الهوى والأنا والانحراف واتّباع النفس وغير ذلك (المنشأ غير الأخلاقي للاختلاف).
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه بعض الفلسفات المتأخّرة التي ترى أنّ الاختلاف يرجع لبُنية العقل نفسه من حيث إمكاناته المعرفيّة المتواضعة، وأيضاً من حيث بُعد التربية والمحيط المؤثر في توجيه حركة العقل دون اختيار أحياناً، وكذلك عدم وجود الظروف المناسبة للوصول إلى الحقيقة (تفسير النصوص الدينية يصبح عسيراً في ظلّ الابتعاد عن اللغة والسياق التاريخي المفروض علينا بمرور الزمان).
هذا، ويمكن اعتبار حلّ وسط بالقول بأنّ كلّ هذه العناصر لها دور، خاصّة وأنّ بعض البشر بهوى نفسه يكون سبباً في محدوديّة أفق الحقيقة عند بعضٍ آخر.
المرحلة الثانية: كيف يقدّم القرآن الكريم تصوّره عن الاختلاف؟
المحور الأوّل: اختلاف المؤمنين
أ ـ لا يوجد في القرآن والسنّة ما يدلّ على ضرورة توحّد المؤمنين في أذواقهم وسلائقهم وعاداتهم وطبائعهم وملابسهم وغير ذلك.
ب ـ إنّ ثقافة الاختلاف في القرآن داخل الساحة الإسلاميّة تقوم على مبدأ التشاور المنصوص عليه في الكتاب والسنّة (من شاور الرجال شاركها في عقولها) كما في الرواية عن الإمام علي (مبدأ الحوار للوصول المشترك للحقيقة).
ج ـ إدارة اختلاف المؤمنين مع غيرهم في القضايا الفكرية تكون من خلال مبدءٍ قرآنيّ منصوص عليه (الجدال بالتي هي أحسن)، لكن لو سعى الآخر للخروج عن الحوار نحو السخرية والإهانة بالمقدّسات، فالحلّ المأمور به في آيتين قرآنيّتين هو الإعراض والقطيعة، حتى يرفعوا هذا الأسلوب ويحترموا مقدّسات الآخرين، تمهيداً للدخول في حوار معهم.
د ـ يؤصّل القرآن في مجموعةٍ وافرة من الآيات قواعد الاختلاف بين المؤمنين ضمن:
القاعدة الأولى: قاعدة عدم التنازع (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
القاعدة الثانية: قاعدة الألفة القلبيّة والرحمة (فألّف بين قلوبكم)، بلوغاً لمرحلة التذلّل الرحيم مع المؤمنين (أذلّة على المؤمنين).
القاعدة الثالثة: قاعدة الأخوّة التي تستدعي التساوي، وجعل مصالح الأخ راجعةً لمصالح نفسي من خلال تصوير المجتمع الإسلامي تصويراً اُسريّاً، فقوّة أحد أفراد الأسرة هي قوّة الأسرة جميعاً.
القاعدة الرابعة: قاعدة دفع البغي، والتي تشرّع الوصول للقتال في حال العدوان، بهدف فرض العودة إلى طاولة الحوار لتحقيق الإصلاح بالعدل (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل)، فالقتال لفرض الحوار لا للانتقام.
و..