• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
الحوارات المرئية والمسموعة الحوارات المقروءة
# العنوان تاريخ الإعداد تاريخ النشر التعليقات الزائرين التحميل
21 حوار حول الفكر الديني المعاصر 2011-09-29 2014-05-12 0 12057

حوار حول الفكر الديني المعاصر

حوار مع صحيفة الأيام البحرينية(*)

  هل لنا أن نبدأ برصد قائمة للتحدّيات التي يواجهها الفكر الديني في هذه المرحلة؟ ما طبيعة الأسئلة التي يواجهها الدين في العصر الحديث؟

   ثمة تحدّيات كثيرة قد يصعب حصرها بسرعة، وثمة أسئلة كثيرة يواجهها الدين كذلك، لكن ــ وباختصار ــ يمكن تقديم عرض موجز لقائمة التحديات انطلاقاً مما نتصوّره ذا أولوية في واقعنا الراهن:

أ ــ أهم تحدّي وأصعبه هو التحدّي المعرفي، أي إعادة تنظيم بنى التفكير وطرائقه في محاولات جذرية للغاية تعيد رسم خارطة التصوّرات البنائية، فنحن اليوم بحاجة ماسّة ــ مثلاً ــ إلى تحديد المنطق العلمي الذي يجب تبنّيه في الدراسات الدينية، هل هو المنطق العقلي الأرسطي أو هو منطق الاستقراء أو..؟ إن مدارسنا الدينية ما تـزال تقتصر في تدريسها على المنطق الأرسطي، مما يوحي للطالب والدارس بأنه هو المنطق الوحيد والمنهج الفريد في تنظيم عمليات التفكير، دون أن يلتفت إلى أن هذا المنطق قد تعرّض لحملات نقد في العصر الحديث..

ولسنا نقصد بذلك عقم هذا المنطق الذي تقوم عليه العلوم الدينية عامةً، بقدر ما نطالب بوعي تطوّرات الدرس المنطقي في القرون الأخيرة.. ويجب أن لا يشعر التيار الديني بأنّه رهين لنوع واحد من المنطق، وأنه ــ من ثم ــ مطالب بالدفاع عنه، واعتبار هذا الدفاع دفاعاً مقدّساً، أو تطبيق منطق المؤامرة ــ كما حصل مثلاً ــ على المحاولات الرامية لتجاوز المنهج الأرسطي..

ويبدو أنّ الخطوة التي قام بها الشهيد محمد باقر الصدر في «الأسس المنطقية للاستقراء»كانت بالغة الأهمية لو كتب لـها أن تعيش، إلا أنّ المناخ العلمي الديني لم يتجاوب بالقدر الكافي مع هذه الأطروحة في مستوى سياقها بعيداً عن مفردات مضمونها التي تستحق الدرس والنقد العلميين.. حتى أن أجيال مدرسة السيد الصدر أنفسهم لم ينخرطوا بالقدر الكافي في تطوير النظرية على صعدها المختلفة، وأعتقد أنه لو قدّر لمثل هذه المحاولات أن تنمو في المناخ الديني لتركت آثاراً لا يستهان بها على المدى البعيد.

ب ــ تجاوز النـزعة الدفاعيّة في التعامل مع موضوعات الفكر الديني، ولا نقصد التخلّي عن الدفاع عن المفاهيم الدينية والعياذ باللـه، وإنما فتح خط آخر إلى جانبه أكثر أهمية في عالمنا اليوم، وهو خط إعادة قراءة للدين تحاول تلافي الإشكاليات التي كشفتها الأحداث العملية والفجوات الفكرية معاً، لأن الاقتصار على الانضمام إلى السياق الدفاعي فقط دون الجرأة على نقد الذات سوف يؤدّي ــ كما حصل ــ إلى تراكم العيوب الداخلية دون أن نشعر أو مع استخدامنا معها سياسة التبرير، وهذا ما يدفع على المدى البعيد إلى الاصطدام في نهاية الأمر بكمٍّ هائل من المشكلات يصعب بعد ذلك تلافيه.

إن الفكر الديني اليوم مطالب بتبنّي مشروع إعادة البناء، دون أن يستهلك نفسه في أتون الصراعات الفكرية مع الآخر ضمن سياق دفاعي.

ج ــ تواجه النظرية الدينية في عصرنا الحاضر تحدّياً من نوع آخر أيضاً، ألا وهو تحدّي الواقع، فقد تركت ثورة الإمام الخميني Pتأثيرات كبيرة يصعب حصرها ببساطة، وكانت واحدة من تلك التأثيرات أنّه أخضع حصيلة النتاج الفكري الإسلامي (الشيعي بالخصوص) لعملية اختبار حادّة، إن العقدين الأخيرين كشفا عن عيوب نتاجنا الفكري القديم على يد الإمام الخميني Pعندما دخلا تحدّي إقامة دولة أو بناء مجتمع تحكمه نظم الإسلام، وقد غدا عددٌ كبير من الفقهاء اليوم على قناعة كاملة بأن مناهج الدرس الديني الفقهي والأصولي و.. لم تعد قادرة على الاستجابة للحوادث والوقائع مما كشف عن عجز بالغ في النظريّة ككل، وقد آمن فريق من الفقهاء الشيعة بأن المشكلات الميدانية لم يكن سببها ذاك التبرير النمطي المسمى: المسلمون لا الإسلام، أو التطبيق لا النظرية.. وحصلوا على قناعة بأن النظرية نفسها ــ بحسب ما توصّل إليه عقل الإنسان ــ تعاني هي الأخرى من مشكلة يجب حلـّها، ولا يكفي لتجاوزها اتهام المسلمين أو محاسبة الحالة التطبيقية فحسب، وإن كان لـهذين الأمرين دورٌ أكيدٌ لا يصحّ إغفالـه إذا أردنا أن نكون منصفين.

د ــ ثمة تحدّي آخر يواجه الفكر الإسلامي يتصل بمصادر المعرفة، إذ تتجاذب تيارات هذا الفكر مصادر ثلاثة هي: العقل، والقلب، والنص، ويبدو أن تيار النص هو الأقوى رغم أنه قد جرى تطعيمه بتيار العقل، وقد أدّت تجربة إيران الشيعية إلى نفوذ تيار القلب والوجدان بشكل كبير نظراً للإرث العرفاني التاريخي لبلاد فارس، لكننا حتى اليوم ما زلنا نجد تشوّشاً في الرؤية إزاء هذا الموضوع، وما زلنا نلاحظ وجود اتجاهات متطرّفة في التعامل مع هذه المصادر الثلاثة، وما لم تحلّ هذه المسألة ولو بالحدّ الأدنى من الحلول فإننا سوف نبقى في دوّامة الصراع الفكري غير المنتج في كثير من الأحيان، ولن نقدر على تقديم نماذج يمكنها الاستمرار فترة زمنية بعيدة.

هذه نبذة مما أراه أهم التحدّيات التي يطالب الفكر الديني بالتعاطي الإيجابي معها.

  يرى البعض بأن هناك نـزعة أرثوذكسية توجه القراءة الرسمية / السائدة للدين، وأن الإبداع الذي قدمته المذاهب في لحظات تأسيسها أصيب بالجمود ولم ينم إلاّ تجاه تصعيد النبرة الأيدلوجية؟ ما مدى صحّة هذا القول وهل بالإمكان الحصول على قراءة جديدة للدين ووظائفه؟

   إن وجود قراءة أرثوذوكسية للدين هو فيما يبدو واقع حقيقي قائم في مجتمعاتنا، فهناك نـزعات احتكار وتمييز، لا يمكن تمريرها بسهولة.

إن أي عملية نهوض تبدأ بوصفها حركة تغيير، ومن ثم يكون في عمقها زخم وحركية عالية، ولـهذا تتحقق فيها إبداعات، لكن المشكلة هي إذا ما بلغت هذه الحركة مبلغ تسلّم الأمور أو تحقيق بعض الأهداف الكبيرة فإنها حينئذٍ قد تصاب بالركود اغتراراً بما تمّ إنجازه وخوفاً من زوالـه، فيظهر منطق التبرير والدفاع عن المنجزات، وينحبس مشروع الإبداع الذي بدأ، وهذه حقيقة.

أمّا فيما يتعلّق بالقراءة الجديدة للدين، وهو الموضوع الذي كان للشيخ محمد مجتهد شبستري دور الريادة فيه في إيران، فيجب ــ فيما أظن ــ أن نـزيل عنه الالتباس عبر تحديد هذا المفهوم، وما معنى القراءة؟!

فقد حاول البعض أن يتصوّر أن أيّ اختلاف واقع بين الفقهاء أو المتكلّمين دليل على تعدّد القراءات، فيما فهم البعض الآخر من الأطروحة أنها تستطيل لتشمل تفسير الدين بنوع من التفسير لا ينجرّ إلا إلى الإطاحة بالدين نفسه، ومن ثم تكون الكلمة ملتبسة.

وأعتقد أن كلا الطرفين على صواب بقدر، فإن اختلافات علماء المسلمين لا مجال للمكابرة بادعاء أنها برمّتها اختلافات جزئية، فإذا صحّ أن مناهج التفكير لـها دور في ظهور الاختلافات فإن الاختلاف الذي ينبثق عن تعدّد في الأفق المعرفي، وتعدّد في مناهج التفكير، وتعدّد في الأصول الايبستمولوجية.. هو اختلاف يقع في دائرة القراءات المتعدّدة، أما الاختلاف الذي ينبثق عن ضرورات جزئية هنا أو هناك فلا يكشف بطبيعته عن تعدّد في القراءات، وإذا ما كانت هناك أصول يتفق عليها الجميع، فلا يعني ذلك أن قراءتهم للدين واحدة، كما لا يعني اختلافهم في الأصول تعدّداً للقراءات.

في الوقت عينه، يجب أن نحترم القلق المبرر الذي يقول بأن شعار تعدّد القراءات ربما يستغل للإطاحة بالدين نفسه، فللعلماء مثلاً قراءاتهم للطبيعة لكن هذه القراءات يجب أن تبقى ضمن دائرة الإيمان بالوجود الخارجي للطبيعة نفسها.

وعبر هذه الطريقة يمكن الاستجابة لتلك القناعات التي يحملـها التياران معاً، ولو في بعضها الأساسي على الأقل.

  حفلت الساحة الشيعية بعدد من المجلات الفكرية التي تنشغل بمطاولة الأسئلة الجديدة والتواصل مع الآخر المختلف.. ثمة نفس جديد يبدو أقل تحسّساً من الآخر وأكثر انفتاحاً على المعارف الإنسانية الحديثة.. كيف تقرأ هذه الجهود؟ وإلى أي مدى يمكن الرهان عليها في تأسيس وعي ديني جديد؟

   يبدو أن هناك نخب بدأت بالتكوّن في مجتمعاتنا الثقافية من شأنها أن تبشر بوعي ديني متجدّد، لكن هذه الشريحة الجديدة تعاني من عدم نقد ذاتها، وانحباسها في دائرة نقدها للتيار التراثي الذي بات يشكل فزّاعة لـها أو هاجساً قلّما تستطيع التفكير من دونه مما يجعل نتاجها مشوباً بتجاذبات القلق، تماماً كما هي الملاحظة التي نحملـها على الفكر الإسلامي الحديث من أنه مصحوب على الدوام بالغربي سواء في تفاعلـه معه أو في قلقه منه.

يفترض بالنخب الجديدة أن تبقى على الدوام في حالة نقد لذاتها، وأن تحاول التخلّص من كابوس الاتجاه التراثي لتتمكّن من التفكير بحرية أكثر وموضوعية أكبر بعيداً عن السجالات وحالة التدافع الشديد التي تسود أوساطنا.

من جهة أخرى، ثمة ملاحظة تسجّل على هذه النخب، وهي أنّها تنـزع إلى تصفية الدين من الشوائب التي علقت به وتدّعي أنّها تريد إصلاح المفاهيم الدينية، إن همّها يكمن في الدفاع عن مقولات الحرية بأنواعها والتعددية والعلاقة مع الآخر و.. دون أن تلامس القضية الدينية ببعدها الروحي والمعنوي والأخلاقي مما يشعر الآخرين بعدم وجود همّ ديني إلى جانب الـهمّ الثقافي، ومن هنا أعتقد أن هذه النخب مطالبة بالانتباه إلى هذا الأمر وإعادة تنظيم أوراقها بما يجعل المسألة الدينية من أولى اهتمامها لا شعاراً يهدف إلى طرح مقولات أخرى لا أكثر، ولو نقدنا أنفسنا لانتبهنا إلى هذا الواقع، وعلمنا أنه يساعد على تعميق الـهوّة بين المثقّف ومجتمعه، إلى جانب أنّه يبعدنا عن هدفنا الأصلي الذي نسعى لـه.

  إلى أي مدى يمكن القول بتاريخية الفهم الديني؟ أي خضوعه للتغير وفق معطيات من خارج النص الديني؟ وكيف تقوّم الإسهامات الفكرية التي نمت عربياً وفارسياً في هذه الاتجاه؟ وهل لـها أن تترك أثراً في طبيعة التفكير داخل الحوزات مثلاً؟

   تعرفون أنّ مقولة «الموضوعية المطلقة»كانت من مظاهر غرور عصر الحداثة، وأنّها تلاشت اليوم إلى حدّ بعيد، إذ إن الفهم الإنساني للدين يقوم على علاقة جدلية مع الفهم الإنساني للمحيط المتصل بالدين نفسه بدرجة من درجات الاتصال، وهذا معناه أن التحوّلات التي تطرأ على المعرفة الإنسانية في مجالات الفلسفة والإنسانيات وبدرجة أقلّ العلوم الطبيعية تترك بصماتها واضحةً على الفهم البشري للدين، وهذا ما تؤكّده أيضاً القراءة التاريخية للفكر الديني عموماً.

لكن هذه المقولة ــ على صحّتها ــ توحي بمعطيات سبّبت قلقاً، ويجب تلافيها لكي تشقّ هذه النظرية طريقها إلى نظم التفكير الديني بعد إجراء بعض الإصلاحات أو رفع بعض الالتباسات التي تحوم حولـها:

أولاً:توحي النظرية بأن أيّ معطى غير ديني يترك أثراً في المعطى الديني، مما يجعل الترابط بالغ السعة بين المعرفة البشرية والمعرفة الدينية، وهذا الإيحاء خادع أو خاطئ، لأن النظرية ترسم خارطة كلّية لحركة الفكر، ولا تتدخّل في مفردات العلوم، ومن ثم فالتأثيرات المتبادلة تتفاوت في حجمها بين المعطيات الجزئية في ذاك العلم والمعطيات الكلّية، فلا داعي للقلق والارتياب المؤدي إلى إحساس بطلان المعرفة الدينية عندما نجهل عامة المعارف البشرية برمّتها مع تحوّلاتها، فإن هذا الأمر ــ المعرفة بالعلوم غير الدينية جميعها ــ لا هو بالممكن ولا بالمنطقي.

ثانياً:تقدّم النظرية إيحاءً بالإفضاء إلى النسبيّة المعرفية وإن لم تتصل بالنسبيّة الواقعية، لأنك عندما تربط المعرفة بسياقها لا بموضوعها فأنت تجعلـها متحّولة غالباً حتى لو كان الموضوع ثابتاً لا يتغيّر.

ويحتاج الحديث عن هذا الموضوع إلى مجال أوسع أشير إلى اتصالـه بحقيقة اليقين، واختلاف فهم ظاهرة اليقين بين العقل الأرسطي والعقل غير الأرسطي، ولعل تحوّلات على هذا الصعيد ستكون كفيلة بإزالة هذا الالتباس باستبعاد استحالة عكس القضية المتيقنة من مكوّنات اليقين نفسه.

ثالثاً:توحي النظرية بعلاقة أحادية بين المعرفة البشرية والدينية تؤثر فيها البشرية على الدوام في المعرفة الدينية، وسبب هذا الإيحاء تصوّر المعرفة الدينية معرفةً نصية نقلية فقط، فإذا فهمنا الدين جماعاً من معطيات العقل والنص والقلب حول الاتصال بالمطلق وتداعي هذا الاتصال لزال بعض الشيء هذا الالتباس، ولبان أن المعرفة الدينية هي الأخرى تؤثّر تأثيراً بالغاً في المعارف البشرية، ومجرّد أنها معرفة دينية لا يعني أنها مؤدلجة خارجة عن السياق العلمي فهذا وهم زائف وقع فيه أكثر من باحث معاصر.

من هنا، يبدو أن تاريخية الفهم أو ما يسمّى في الساحة الإيرانية: تكامل المعرفة الدينية.. ضرورة لإجراء تحوّلات معرفية في الفهم الديني عموماً، إذا ما ساهمنا أكثر في رفع التباساتها من جهة وفي إجراء إصلاحات دورية عليها من جهة ثانية.

ورغم انسياب هذه النظرية في أنماط التفكير الديني الجديد، بيد أنّها تُعامَل بتحفّظ في الوسط الديني عموماً لأسباب عديدة يتحمّل بعضها أنصار النظرية أنفسهم، وحيث دخلت في نطاق جدل دفاعي يصعب الحديث عن سيطرتها في المنظور القريب مالم تحدث تحوّلات، رغم أنها باتت نافذة على صعد متعدّدة.

  هناك توجّه للإفادة من الأجهزة المفهومية الحديثة التي هي نتاج الخبرة ـ التجربة الغربية لقراءة النص الديني.. ما هي دواعي التوجّس من هكذا مشاريع؟

   يرى الاتجاه الرسمي في الدين أنه جهّز نفسه بنظام معقّد ودقيق لفهم النص خصوصاً على الصعيد الشيعي، إن المعركة الإخبارية الأصولية منذ محمد أمين الاسترآبادي (1036هـ)، دعمت تيار علم اُصول الفقه بشحنات هائلة القوّة لتحقيق النصر، وقد كان النصر الذي حقّقه الوحيد البهبهاني (1205هـ) بعد قرنين من النـزاع كفيلاً بمنح علم الأصول الثقة الكاملة بنفسه مما حرّره من انشدادات الصراع ودفعه لينطلق في نظريته مستغرقاً، فكوّن نظريات ثرّة وهامة في القرنين الأخيرين برزت من بينها نتاجات الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) والشيخ محمد كاظم الخراساني (1329هـ) والميرزا محمد حسين النائيني (1355هـ) و..

وقد لعب هذا الوضع ــ إلى جانب المناهج الدراسية ــ دوراً في الإيحاء بأنه لا يوجد منهج آخر في فهم النص والتعامل معه، وعزّز ذلك شعوراً بنوعٍ من النرجسية نظراً للتطوّرات الكبيرة التي طرأت على هذا العلم الذي تحوّل إلى علم منهج البحث الديني عموماً بسبب تراجع الدرس الكلامي والفلسفي و.. إلى ما قبل الطباطبائي والخميني رحمهما اللـه.

لكن تطوّرات الدرس الأصولي لم ترافقها تطوّرات تحوّلية في الدرس الفقهي، ولـهذا وجدنا أن العلماء الذين ساهموا في إجراء إصلاحات في علم أصول الفقه لم تحدث تغيّرات أساسية في نتائجهم الفقهية كالسيد محمد باقر الصدر والسيد عبدالأعلى السبزواري و.. مما جعل تطوّر الدرس الأصولي نوعاً من النمو الداخلي، وعزّز القناعة الميدانية بأن تطور علم الأصول لا يمَسّ الدرس الفقهي بشكل جاد ومميّز، ولـهذا لم يألف العلماء تحوّلات في
الفقه نتيجة تحوّلات في الأصول رغم أن العلاقة الطبيعية تتطلّب نوعاً من التناسب.

وهذه هي إحدى زوايا النظر إلى مناهج قراءة النص الجديدة لدى علماء الأصول، إنّ الإرث التاريخي لعلم الأصول كونه أحد العلوم الإسلامية القليلة التي ولدت قبل عصر الترجمات مما يعطيه ميزة وخاصية، والتطوّر المذهل لـه في القرون الأخيرة مما منحه نوعاً من النرجسية، وهو تطوّر يجب أن نثني عليه رغم كلّ الملاحظات المثارة، والسكونية الفقهية تقريباً رغم حراك علم الأصول.. كلّ ذلك دفع مدرسة علم الأصول إلى التحفظ على هذه المناهج وذلك:

أولاً:إن بعضها يزيل البنية التحتية لما يسمّى مباحث الألفاظ من علم الأصول كونه يعلن موت المؤلّف وعبثية السعي وراء المقصود النهائي، وهذا ما يؤدي إلى فقدان مباحث الألفاظ الأصولية المبرّر والشرعية، كونها تقوم على محاولة اكتشاف ما يسمّيه علم الأصول: المراد الجدّي للمتكلم.

إن نظريات جديدة كهذه النظريات من شأنها أن تثير الـهلع في الوسط الأصولي نظراً لعمق التغييرات التي تتركها داخل علم الأصول.

ثانياً:إن جملة مفاهيم رئيسية في مناهج قراءة النص الأخيرة تقوم على تاريخانية النص، وتسعى على الدوام لربطه بالواقع التاريخي المحيط، ورغم أن علم الأصول ومن قبلـه التفسير وعلوم القرآن قد أقرّا بهذه الحقيقة غير أن درجة تفعيلـها في البحث الفقهي بقيت محدودة بما لا مجال لتفصيلـه هنا، وإذا أسهبنا في استخدام المنطق التاريخاني فسوف تتغيّر نتائج بالغة وحادّة في الفقه وعلى نطاق كبير وحسّاس، الأمر الذي يمزّق حالة السكون التي انتابت الدرس الفقهي رغم تطوّرات علم الأصول كما ألمحنا إليه، مما يثير القلق لدى التيار المدرسي، سيما وأن أنصار التاريخانية المعاصرين لم يقدّموا حتى الساعة ضوابط يمكن الاحتكام إليها لتحديد النصوص ذات الدلالات الثابتة وتلك المتحركة، الأمر الذي يجعل التشريعات كلّـها في معرض الخطر ومثار القلق.

إنّ السبيل الأنسب في المرحلة الراهنة هو أن تستوعب الدراسات الأصولية اليوم تطوّرات قراءة النص الأخرى ولو كان التعاطي نقدياً في البداية، وبمرور الأيام ستحصل حالة تلقيح تدريجيّة ربما يتلافى فيها بعض مبررات القلق والإقصاء.

  أيّهما يستدعي الآخر: تجديد فهم الدين أم تجديد فهم التاريخ؟ هل نملك أن نقرأ النص الديني أفضل من السابقين؟

   النص كائن متعدّد الأضلاع والزوايا، وليس موجوداً بسيطاً، وإذا أقرّينا بهذه الحقيقة، لم نستطع أن نملك جواباً واحداً للسؤال، لأن بعض زوايا النص لا يمكن إنكار أن المعاصر لعصر النص أو القريب أقدر على التماسها من غيره، كما أن بعض زواياه الأخرى لا يمكن إنكار أن المتأخرين الذين مارسوا عمقاً مضمونياً بالغاً أقدر على فهمه من الماضين، فالموضوع مفتوح، والمهم الإقرار بأن دراسة النص بمعزل عن تجربة الآخرين مكابرة، كما أن دراسته على نحو الاتّباع لـهم لا الإبداع مقابلـهم تكرير للزمن لا فائدة منه.

  لو شئنا الوقوف على اتجاهات التفكير الجديد في إيران، كيف يمكن لنا أن نوجزها؟

   ربما يمكننا إيجاز اتجاهات التفكير الديني في إيران على الشكل التالي، وفقاً لمناهج البحث العلمي:

1 ـ الاتجاه التراثي القديم:وهو الاتجاه الذي يعتقد بالآليات الموروثة في علم الكلام وأصول الفقه، ويحافظ على الشكل عينه لحركة الفكر وهو الشكل الأقرب إلى البيضاوي، وهو الشكل الذي تدور فيه بيد أنك تشعر أحياناً بشيء من التقدّم والاختلاف، وهناك مرجعيات دينية في إيران تتبنّى هذا الاتجاه يناصرها في ذلك تيار لا يستهان به داخل الحوزات العلمية سيما في قم ومشهد، ومن رحم هذا الاتجاه يولد اتجاهان:

أحدهما يناهض مشروع إقامة دولة دينية معلّقاً ذلك على خروج الإمام المهدي «عج»

وثانيهما يناهض أي مشروع إعادة نظر في الموروث المذهبي العقائدي ويقود ما يسمى: المواجهة العقائدية.

2 ـ الاتجاه التراثي الجديد:وهو اتجاه ينفتح على أكثر من ميدان عصري، فيؤمن مثلاً بتطوير لغة الفقه والأصول والفلسفة، كما ويؤمن ببعض التعديلات الطفيفة في المعطيات الدينية، ويعتقد بضرورة إخراج الموروث الفكري بحلّة جديدة، ويقود مؤسّسات لإحياء التراث و.. ويقف أيضاً خلف هذا الاتجاه شخصيات بارزة في الحوزة العلمية بعضهم من مراجع التقليد، ويمكن لنا ذكر أسماء الشيخ ناصر الشيرازي والسيد محمود الـهاشمي الشاهرودي، والشيخ باقر الإيرواني، والشيخ حسن الجواهري، والشيخ مصباح اليزدي إلى حدّ معين، وآخرين.

3 ـ ويلتقي هذا الاتجاه مع اتجاه ثالث يتواشج معه، كما ويختلف أحياناً عنه وهو الاتجاه الثوري السياسي الذي يتـزعمه مرشد الجمهورية الإسلامية آية اللـه السيد علي الخامنئي >، ويتقدّم الاتجاه الثوري بعض الخطوات في رؤيته للفكر الديني رغم أنه يلتقي أحياناً في بعض المقولات حتى مع التيار الأوّل التراثي.

ويمتاز الاتجاه الثوري بقراءة سياسية اجتماعية للدين، كما ويواكب تطوّرات الحياة السياسية أكثر من غيره، وهو مهتمّ جداً بتطوير النظرية الفقهية بما يخدم حاجات الدولة الإسلامية، ولـهذا نجده يسعى من جهة لتطوير المفاهيم الفقهية بشكل ملحوظ تحت مظلّة المفهوم الخمينوي القائل بانصهار الفقه الإسلامي في مشروع إقامة دولة دينية، ونجد في سياق هذا الاتجاه تطوّرات ملحوظة لفقه المصلحة، وفقه الدولة وفقه المجتمع على السواء، ونجد هنا أيضاً أسماء آية اللـه إمامي كاشاني في دراساته لفقه الضرائب، وآية اللـه التسخيري، وآية اللـه الشاهرودي، وآية اللـه الجيلاني وآية اللـه محسن الخرازي و..

كما يسعى هذا الاتجاه من ناحية أخرى لتقديم خطاب دفاعي عن الإسلام أكثر عقلانيةً من بقية الاتجاهات، والسبب أنه الاتجاه الذي كان معنياً أكثر من غيره بمطاولة آخر منجزات الفكر الغربي من زاوية دفاعية كونه اهتم بنتاجات سروش وملكيان وشبستري وكديفر و.. ويمكن لنا ذكر أسماء الشيخ صادق لاريجاني، والدكتور محمد جواد لاريجاني، والدكتور عبداللـه نصري، والشيخ مصباح اليزدي، والشيخ علي أكبر رشاد، والشيخ أحمد الواعظي، والدكتور يحيى يثربي و..

إنني أعتقد بأن هذا الاتجاه الأخير خدم بما لا يجدر بنا إنكاره تحت اعتبارات سياسية حركة تحرير الفكر الإسلامي، فمن جهة أعطى الصدارة للتفكير الفلسفي في العقل الشيعي مستمداً من الإمام الخميني والعلامة الطباطبائي ينابيعه الأصلية، ومن جهة أخرى خرج عن السياج الحرفي الموصد لفقه النص وطوّر فقه المصلحة والفقه السياسي العام بشكل ملحوظ رغم كلّ الإشكاليات التي ما تـزال عالقة.

لكن تعقيدات الوضع السياسي في إيران أخيراً ربما تكون مسؤولة عن بعض التحفّظ الذي أصاب هذا الاتجاه خوفاً من الاندفاع الزائد عن الحدّ الطبيعي.

4 ـ الاتجاه التجديدي الذي انطلق من داخل آليات الفكر المدرسي، وقد اهتمّ هذا الاتجاه بإجراء تعديلات جوهرية على بنى الاجتهاد الفقهي، برز من روّاده المعاصرين السيد محمد جواد الموسوي الاصفهاني الذي أطاح بنظرية خبر الواحد في دراساته، كما وبرز الصادقي الطهراني الذي كانت لـه قراءات خاصة ومميزة للفقه يقول فيها: إنه أَكْثَرَ من الاعتماد على النص القرآني..

ويمكن القول بأن هذا الاتجاه يركزّ في المرحلة الحالية على تنحية بعض المقولات النافذة في الاجتهاد الفقهي ويقف على رأس تلك المقولات كل من الإجماع، والشهرة، والسيرة المتشرعية، ومن ثم ــ وبدرجة تالية وأقل ــ نظرية خبر الواحد.

كما ويبرز ضمن هذا الاتجاه المدرسة التفكيكية (الخراسانية) التي يتـزعّمها الأستاذ الحكيمي حيث تفصل بين مناهج الفكر الثلاثة العقل والقلب والنص بما يترك آثاراً فكرية حادّة على النتاج المعرفي عموماً.

5 ـ الاتجاه التجديدي الذي انطلق من خارج آليات الفكر المدرسي، واستعان بنتاج خارج سياق المورث الإسلامي السائد، وبإمكاني ذكر عينات سريعاً:

أ ــ تجربة السيد محمد حسين مدرسي الطباطبائي حيث اهتم بدراسة الفكر الديني وفق مناهج البحث التاريخي، وبرز لـه نتاج حول علم الفقه وآخر حول علم الكلام عند الشيعة.

ب ــ تجربة الدكتور عبدالكريم سروش التي شِيدت على فلسفة العلوم المعاصرة، وحاول فيها قراءة الأوضاع المعرفية للفكر الديني من زاوية ما يسمى «خارج الدين»، ويمثل فكر سروش جماعاً من الاتجاهات الفكرية الغربية الحديثة في فلسفة العلوم و.. والاتجاه العرفاني الصوفي الذي يستمدّ جذوره من العمق التاريخي الإيراني مع مولوي وحافظ وسعدي و..

ج ــ تجربة الشيخ محمد مجتهد شبستري التي حاول فيها خلع سمة القداسة عن العلوم الدينية واعتبارها فهماً بشرياً، وقد طرح شبستري في إيران فكرة علم الكلام الجديد إلى جانب الدكتور سروش، داعياً إلى إعادة تكوين فهمنا الكلامي انسجاماً مع تطورات الفهم الإنساني ككل، لأن فهم الدين لا يمكن أن يكون داخل بوتقة خاصة إسلامية أو غيرها وإنما من جُماع ما هو نتاج داخلي ونتاج من الخارج أيضاً. وقد أخذت أطروحة علم الكلام الجديد حيّزاً كبيراً من اهتمام الباحثين والعلماء الإيرانيين، وانعقدت أكثر من ندوة ولقاء هام حول هذا الموضوع، ساهم فيها الشيخ جوادي آملي والدكتور أبو القاسم فنائي وغيرهما.

كما كانت لشبستري مساهمات تستحق الدرس جدّاً حول القراءة الرسمية والقراءات المتعدّدة للدين، وكذلك حول الحرية وحقوق الإنسان لا مجال لاستعراضها في هذه العجالة.

د ــ تجربة الدكتور مصطفى ملكيان التي تقوم على أمرين أساسيين إلى جانب أمور أخرى:

1 ــ يقول ملكيان: إن الدين ولد ليكون ذا هدف روحي ونفسي، أي يجب التماس الأبعاد النفسية والطمأنينة من الدين، ومن ثم يجب البحث عن الدين في زوايا الروح والنفس لا في زوايا العقل والمعتقدات فحسب، وبذلك نجد ملكيان ينضمّ بعض الشيء إلى التيار الإيماني في الفكر الديني الذي يركّز على التجربة الدينية أكثر من تركيزه على الطرف الذي تبنى معه هذه التجربة.

2 ــ ينادي ملكيان بمشروع فلسفة الدين، وهي الفلسفة التي تعنى بقراءة الدين من الخارج، وعلى أساس هذه الفلسفة يطرح مقولته في فلسفة الفقه والتي ناصره فيها بعض الباحثين من الحوزة نفسها كالشيخ مهدي المهريزي، وهذه القراءة للدين تساعد على اكتشاف مواقع الخلل في فهمه من زاوية محايدة، وتسعى لالتماس العلاقة بين الأفكار الدينية دون أدلجة أو تـزييف، وقد كان الاهتمام بفلسفة الدين كبيراً في إيران ساهم فيه كثيرون نظرياً وعملياً كسروش وفنائي وغيرهما.

إن جهود الاتجاه التجديدي الأخير في إيران قيّمة للغاية، فقد بعثت حراكاً ربما لم يسبق لـه مثيل في تاريخ إيران المعاصر عدا ثورة الإمام الخميني وأحداث الحركة الدستورية على الصعد الفكرية والثقافية، وقد نتج عن هذا الحراك زخم معرفي ديني هائل من الضروري قراءته بعمق وتأنّي، لا بحماس أو عصبية أو انفعال، والاستفادة منه بوصفه تجربة ناضجة إلى حدّ جيّد.

  علم المقاصد أو مقاصد الشريعة.. واحدة من مناطق التجديد المقترحة.. كيف انتهت الجهود في هذا الجانب؟ هل يمكن القول بأن التهميش كان نصيبها ضمن دائرة التفكير الشيعي، إذا ما قارنّاها بالمتوافر من إسهامات أهل السنّة؟

   ربما يمكننا القول بأنّ الفقه الشيعي قد دخل في العقود الأخيرة دائرة فقه المصلحة، ليحصل نوع من الإنـزياح عن الأرضية الصلبة لفقه النص، ولا نقصد بذلك تخلي هذا الفقه عن النص، بل إيلائه أهميةً مضاعفة للمصلحة التي تحوّلت إلى ركن أساسي في تشريعات بالغة الكثرة، وثمة نص هام جداً برأيي للشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني يصرّح فيه بأن عدداً لا يستهان به من التشريعات بات يقوم اليوم في إيران على المصلحة.

إن دخول الفقه الشيعي نظرية المصلحة، يشكل ــ فيما يبدو ــ خطوة نحو بلورة فهم مقاصدي للشريعة، ومن ثم تجاوز الأطر الحرفية في فهم النص كما تكشفه ــ أيضاً ــ رسالة الإمام الخميني Pإلى آية اللـه قديري.

وفي التراث الفقهي الشيعي بعض التلميحات التي يمكنها أن تكوّن أرضية مناسبة لبلورة فقه مقاصدي يتناسب وأصول المذهب الشيعي لا مجال لاستعراضها هنا.

لكن مع ذلك، بإمكاننا القول بأنه ما زالت تفصلنا عن الفقه المقاصدي مراحل ومسافات، ولم تتبلور حتى اليوم كينونة لـهذا الفقه، لأسباب كثيرة ليس هناك مجال لذكرها، إن بقايا التراث الإخباري من جهة، ودخول المنهج الفلسفي الدقيق مجال علم أصول الفقه من جهة ثانية، وانتماء الفقه المقاصدي إلى المذهب السنّي (الشاطبي ــ الفاسي ــ ابن عاشور) مما يجعل اقتباسه عرضةً للنقد المنطلق من حفظ الخصوصيات من جهة ثالثة، وانشغال المقاصديين من فقهاء الشيعة المعاصرين بالتطبيق وعزوفهم عن وضع نظرية تضبط التطبيقات بما يزيل قلق التراثيّين في الفقه الشيعي من جهة رابعة و.. ووجود بعض العوائق الفكرية داخل الأصول الشيعي يتوهّم علاقتها بنظريّة المقاصد كالقياس والاستحسان من جهة خامسة و.. ذلك كلـه وغيره ساهم في انحسار المشروع المقاصدي في الوسط الشيعي ولذلك لا نجد دعوات لـه، وإن كانت تطبيقاته موجودة تحت مسمّيات مختلفة كما أشرنا إلى أنموذج فقه المصلحة.

  برأيك هل هناك مساحة من الحرية المعرفيّة للاشتغال الفكري داخل الحوزات الدينية؟ أعني مساحة للاختلاف والتباين عن الاتجاه المدرسي؟ هل تسمح أجواء الحوزة بإنتاج ذوات ناقدة لتصوراتها الدينية؟ ماذا عن الأصوات المختلفة في اتجاهاتها الفكرية؟ ألا تواجه نوعاً من التهميش أو التعتييم أو ربما القمع ضمن الدوائر الدينية؟ هل حقاً هنالك فسحة للاختلاف والحوار واحترام رأي الآخر؟

   حرية الرأي موجودة في الحوزات الدينية ما لم يمسّ الإنسان المسلّمات والأصول، فإذا بلغها صار هناك تقريع وحصار و.. ضدّه، خصوصاً إذا كان الفاعل لذلك من الحوزة نفسها، لكن هذا لا يعني القتل أو.. إلا في حالات قليلة جداً تدخل في سياق سياسي لا في نطاق حوزوي، وإلا فإن الكتب المسموح بها في إيران مثلاً أكثر من أن تحصى رغم أن فيها ما يخالف الأصول والمسلّمات، ومجرّد وجود نقد لـها إنما يعبّر عن حالة صحية لا يجدر رفضها، ما لم يبلغ حدّ الحصار والإقصاء والضغط.

  «الحرية».. «حقوق المرأة».. «حقوق الإنسان».. «التعددية الدينية».. وعدد آخر من القضايا التي دفعت بها تطوّرات الحياة إلى دائرة الجدل الديني.. كيف تجد صدى هذه العناوين ضمن الحوزة الدينية؟

   إذا أردنا أن نحلّل بإنصاف هذه القضية، فيجب أن نقرّ بأنّ هناك شريحتين في الحوزة العلمية، شريحة فتحت صدرها لكل هذه الموضوعات وأولتها العناية الكاملة منذ مطهري والصدر ومغنية و.. وخرجت بآراء وتصوّرات متعدّدة ومتنوّعة مهما كان موقفنا من صحة هذه الآراء، لكنها على أي حال رحبّت بكل المستجدات الفكرية وأعطت موقفاً منها، بعضه كان دفاعياً، وبعضه كان بنيوياً، وهذا الواقع موجود في الحوزات اليوم، إذ ثمة تيار كبير جداً يعنى بهذه الاهتمامات والـهموم ويقضي عمره في بحثها ودراستها ومعالجتها ضمن تصوّرات متعددة.

وثمة إلى جانب هذه الشريحة شريحة أخرى لا تنسجم ولا تتفاعل أساساً مع كلّ هذه العناوين، ولا ترغب بتاتاً بفتح هذه الملفات، بل تميل إلى قمعها اجتماعياً وتجيب عنها بأجوبة مختصرة لا تعدو أن تكون مواقف مبتسرة.

وبين الخطّين توجهات، لكن التيار الثاني ما يزال قابضاً على أكثر من موقع وسلطة، يخيف بحركته الدينية فئات عديدة في الحوزة رغم أن اتجاه التفاعل مع هذه المقولات ربما تكون بيده عناصر قوّة كبيرة، إلا أن تفرّق تيار النهضة في الحوزة وعدم التفافه حول ذاته وعدم وجود تنسيق وتفاهم بين أطرافه وتياراته، كما وعدم وجود مرجعيات مستقطبة في صفوفه.. أدّى ويؤدّي إلى تبدّد جهود وهدر طاقات.

  ألا تعتقد بأن الخطاب الديني السائد داخل كل طائفة يمضي في صياغة خطابه واستراتيجياته إلى نفي الآخر وإعادة إنتاج صورته بنحو مشوّه؟

   إنني أوافق على وجود حالة من الردّة والنكوص في بعض أوجه الخطاب الديني السائد على خلاف ما كان متوقّعاً من استمرار التنامي العقلاني للخطاب الديني، ولـهذا وجدنا نوعاً من الانكماش في حركة التحرير الديني.

ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى مجموعة عوامل ربما يكون أهمها:

أ ــ الوقوع في بعض الإخفاقات الاجتماعية والسياسية، إذ عادةً ما يعقب هذا النوع من الإخفاقات ظهور تيارات انطوائية ذات نـزعة حادّة ترتدّ إلى الماضي في تفكيرها، لأنه يعيد إليها إحساس الذات في مواقع عزّتها وكرامتها، سيما وأن الماضي تخلع عليه عادة أثواب العظمة وتتمّ أسطرته..

وعندما تـزداد هذه الإخفاقات تتنامى التيارات النكوصية، وتحصل حالة من الردّة في المجتمع ككل، سيما وأن بعض التيارات الدينية الكلاسيكية كانت تقف موقف المتحفّظ ــ على الأقل ــ من خطوات التحديث الأولى، فإذا ما حصلت إخفاقات فإن شرعيتها تأخذ بالعودة تلقائياً لتعيد استلام الأمور، ولـهذا لاحظنا محاولات حثيثة لتعويم أنماط فكرية كنا نفترض أنها بدأت تموت إلى الأبد.

ب ــ ثمة حساسيّة خاصة يعيشها المناخ الديني يجب علينا أن نكون واعين بها، وإلا اصطدمنا بواقع مرير، إن محاولات الاعتراف بالآخر في الوسط الديني أفرطت بعض الشيء على الصعيد الميداني، أي أن عمليات الاعتراف والاستحضار للآخر ظهرت في أشكال تبدو في مناخ ديني عالم ثالثي معوجّة ومثيرة للقلق، وعندما تظهر حالة التحفّظ يشعر التيار النهضوي بأزمة، فترتدّ عليه هروباً إلى الأمام؛ قلقاً من سيطرة التيار الآخر عليه، وهذا الـهروب العجول إلى الأمام هو ما يرتدّ مزيداً من الارتكاس في التيار الديني المتحفّظ، فتتسع الـهوّة، لكن هذا الاتساع يكون ــ دينياً ــ على حساب التيار النهضوي، لأن الـهروب إلى الإمام يؤدّي به أحياناً إلى حالة إفراط، تضعه في موضع الغربة عن الساحة الدينية، فتُعْجِزُه عن أن يمارس دوراً تغييراً بحكم الانفصال الذي حصل والقطيعة التي وقعت، وهذا ما يجعلنا نرى من الخارج أن الخطاب الديني آخذ في نفي الآخر كردّ فعل سلبي على رفض محاولات النهضة والتطوير في الداخل، ولعلّ هذا هو الذي حصل فعلاً في أكثر من واقع إسلامي نعيشه.

ج ــ واستكمالاً للنقطة السالفة نؤكّد أن التيار الديني الرسمي، ولكي يعزّز خصوصيته المقارنة لنفي الآخر يعيد استحضار كلّ المقولات ــ حتى الميتة ــ ذات الخصوصية، ولـهذا يجب علينا أن نترقّب مزيداً من الاستغراق في الدوائر المذهبية المغلقة وإحياء سلسلة مفاهيم ومقولات لم يكن يفكّر بها بشكل مستديم حتى من أحياها، ولـهذا يعاد طباعة كتب خاصة وتحقيقها ونشرها وتداولـها.

ويعزّز هذه الحالة السياق السجالي التاريخي مع الآخر، وهو سياق من شأنه أن يمدّ تيار النكوص بزخم تراثي هائل وصورة بشعة للغاية عن الآخر، فإذا ما اُريد إنهاضها فإنها لن تنتج سوى مزيداً من النفي والإقصاء والقطيعة.

  كيف يمكن لنا أن ندفع بمفهوم التقريب بين المذاهب إلى مستوى الإمكان في مستواه المعرفي؟ لماذا تتوقّف الجهود عند حدود التقريب في صورته الاجتماعية والسياسية؟ أين هي المساهمات الجادّة في تأطير مساحة الاختلاف المعرفي ومعالجتها؟ وهل باستطاعتها التحرّر من الموقف الأيدلوجي في مواجهة سلطة التراث والتحرّر من رواسب التاريخ بنـزاعاته الطائفية؟

   لعلـه صار من الضروري إعادة قراءة موضوع التقريب بروح نقدية للتجربة منذ محاولات القمي وشلتوت والأمين والبروجردي و.. إلى يومنا هذا، بإمكاني ــ عجالةً ــ أن استعرض عدّة ملاحظات على تجربة التقريب ربما تكون محاولة لإعادة صياغة مفهوم جديد في هذا المجال:

الملاحظة الأولى:ثمة دعوات لإقفال ملف الخلاف المذهبي، وهي دعوات تتصوّر أن هذه الخطوة هي السبيل لتحقيق التقريب، إلا أن الواقع يثقل كاهلنا بشواهد تعاكس هذا الأمر، فكل شواهد التاريخ الديني ـــ حتى في الغرب ــــ تؤكّد أن إقفال ملفّات الخلاف الدينية والمذهبية طرح عقيم لم يجن ثماراً على أرض الواقع، ومن هنا أعتقد أن المطلوب إعادة رسم المناهج المعرفية للخلاف، أي آليات الاختلاف معرفياً وأخلاقياً، لأن أي مادّة يمكن أن تتحوّل عند الاختلاف بها إلى سبب للفشل والدمار، فالمشكلة ليست دائماً في مادة الاختلاف بقدر ما هي في آلياته ومبادئه، فطالما بقيت العقلية الدوغمائية ونـزعات الإطلاق.. سائدة طالما استطاعت أن تعيد تكوين أي مادّة يختلف حولـها إلى عنصر معيق للتنمية في المجتمع عموماً، وهذا ما يتطلّب إعادة تكوين نظم التفكير التي تلامس موضوع الحوار والخلاف قبل الحديث عن تلك المواد التي نريد أن نختلف فيها، وإذا بقينا في دائرة إقفال الملفات فلن ندور إلا في دائرة مغلقة.

الملاحظة الثانية:إن اُطروحة التقريب أو الوحدة دخلت تاريخياً في السياق السياسي حتى عند أصحابها، فقد كان الصراع العربي الإسرائيلي عاملاً أساسياً في دفع المسلمين للتفكير بإعادة تنظيم أوضاعهم بما يخدم مصالحهم في هذا الصراع، ومن هنا لاحظنا أن الخطاب السياسي والحسّ الدفاعي كانا أهمّ العناصر المحرّكة لمشروع التقريب.

والإشكالية التي تحكم هذا المنطلق ــ على صحّته ــ تتلخّص في أن المناخ السياسي ليس مناخاً مستقراً قادراً على حل خلافات بالغة العمق في الاجتماع الإسلامي على مرّ التاريخ، لأن الحلول التي تنجم عن المصالح السياسية حلول مؤقتة، فإذا ما تحوّلت الأوضاع فإن رصيداً كافياً لمشروع التقريب لن يبقى لـه من وجود، وهذا معناه أن الخلاف المذهبي يجب حلـّه من الأفق المعرفي والاجتماعي قبل مداولته في السياق السياسي، لأن هذين البعدين أكثر عمقاً في حلّ المشكلات من الإطار السياسي الذي ما يلبث أن يتوارى خلف الأفق عند أيّ صدمة داخلية.

الملاحظة الثالثة:إن إدخال مشروع التقريب في السياق السياسي أدّى ويؤدّي إلى حالة ازدواجية، جعلت أصحاب التقريب وحدويين في علاقاتهم العامّة، وطائفيين عندما يرجعون إلى بني جلدتهم، وهذه الازدواجية تجعلنا قلقين جداً على سلامة مشروع التقريب، لأنه سوف يغدو مشروعاً أقرب إلى روح النفاق منه إلى الروح الجادّة والمخلصة.

الملاحظة الرابعة:واحدة من إشكاليات مشروع التقريب أن أصحابه دخلوه بهدف تحقيق مصالح مذاهبهم، وهذا معناه أنّ فكرة التقريب غدت بنفسها فكرة مذهبية، ومن ثم ولد في باطنها نقيضها التام، إن المفترض في هذا المشروع أن ينطلق من الزاوية التي تجمع الأطراف لا التي تفصلـهم، ومن ثم ليس مفترضاً أن يكون هدف الشيعي من المشروع أن يعترف به الأزهر، ولا هدف السنّي منه أن يتوقّف سبّ الصحابة.. وإلا فإن المشروع سيولد ميتاً كما حصل في مجالات عديدة.

إنّ مشروع التقريب يجب أن ينظر إلى الواقع والمستقبل لا إلى الماضي، ومن ثم يفترض به أن يتحرّر من سلطة التراث وإلا عدنا إلى الكرّة نفسها، لكن لا بمعنى التنازل عن المعتقدات بل بمعنى الفراغ عن الشرعية ذاتها في المناخ المذهبي الداخلي.

_______________________________________________

([1]) أجرى هذا الحوار مع المؤلّف الكاتب الأستاذ أثير السادة، ونشرته ـــ على حلقات ـــ صحيفة الأيّام البحرينية في أعدادها رقم: 5452 ـــ 5459 ـــ 4573، والصادرة بتاريخ: 17، 24/ذي الحجة/1424هـ، و1/محرم/1425هـ.

إرسال

you should login to send comment link

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 36623450       عدد زيارات اليوم : 2604