أجرى الحوار: شبكة إيكنا العالمية(*)
1 ـ ما هو تعريفكم للدراسات والبحوث والعلوم القرآنية؟ وهل الواقع الحالي لهذه الدراسات متطابق مع المعايير؟
الدراسات والعلوم القرآنية هي الأبحاث التي تهتمّ بكل ما يتصل بالقرآن الكريم من زاويتين:
أ ـ أنطولوجية وجودية،أي نفس الظاهرة القرآنية من حيث دراستها وتحليلها الفلسفي والعرفاني والتاريخي، وهنا تدخل أبحاث مثل حقيقة الوحي القرآني، وتدوين القرآن، وجمع القرآن، وتحريف القرآن، وتنقيط القرآن وتشكيله، ووحيانية ألفاظ القرآن أم خصوص معانيه، وظاهرة النسخ في القرآن، وهل القرآن خطاب أم نص؟ وغير ذلك من الموضوعات الكثيرة التي تعرّض لأكثرها العلماء المسلمون.
ب ـ إيبستمولوجية معرفية،أي علاقة العقل البشري بهذا النص الإلهي، وهنا يأتي كلّ ما يتصل بالمناهج المعرفية في فهم هذا النص، ويدخل علم التفسير، وبعض أبحاث علم أصول الفقه الإسلامي، وشروط المفسّر، والعلوم الدخيلة في تفسير القرآن، وأنواع التفسير ومناهجها كالتفسير الموضوعي والتجزيئي والأثري والفني والبياني والتاريخي والعقلي والعرفاني وغير ذلك.
ومن الطبيعي أن دراسات المسلمين فيما يخصّ القرآن الكريم استوعبت أكثر موضوعات النوعين المشار إليهما، فقد درس علماء القرآنيات والتفسير وأصول الفقه الجوانب الوجودية للكتاب الكريم، كما تعرّضوا لأكثر من موضوع معرفي في هذا الإطار، لكنّ هذا لا يعني أنّ الموضوعات بأكملها قد أنجزت، أو أنّنا قد وصلنا فيها إلى نهاية الكلام ومنتهى الحديث، بل هناك المجال الكبير جداً للمزيد من المساهمات الفكرية الجادّة، لاسيما في ضوء الدراسات النقدية الجديدة التي أثارها المستشرقون وبعض الكتّاب والباحثين المسلمين.
والمشكلة الأساسية التي تلاحظ على العديد من دراساتنا القرآنية أنّها لا تخضع للمنهج البرهاني الذي يهدف اكتشاف الحقيقة، بل يغلب عليها الطابع الدفاعي الجدلي الذي يهدف الردّ على إشكالية مثارة، أو الطابع التبجيلي الذي يهدف إلى التعريف بالتراث، والجدلية والتعريف مطلوبان في حدّ نفسهما، لكن ليس من المفترض أن يكونا على حساب المنهج الاكتشافي للحقيقة بصرف النظر عن الخلفيات المسبقة التي يحملها الباحث، لأننا بحاجة ماسّة إلى الموضوعية في أعلى مظاهرها الممكنة، فنحن نطالب بمنهج فلسفي للدراسات القرآنية وليس بمنهج كلامي فقط.
2 ـ ما هو موقع القرآن من العلوم البشرية؟ وباعتقادكم هل للتطوّرات العلمية المختلفة تأثير على البحوث والدراسات القرآنية؟
أعتقد أنّ القرآن يترك أثراً على العلوم البشرية، وهذا ما حصل في التاريخ؛ فقد قُدّمت غيرُ دراسةٍ تؤكّد أن القرآن الكريم أثّر على دراسات المسلمين في مجالات علمية متعدّدة، ففي الإنسانيات كعلم النفس والاجتماع والتربية والأخلاق والقانون والفلسفة والتاريخ و.. ترك القرآن الكريم بصماته على الحضارة الإسلامية التي تركت بدورها بصمات واضحة على المشهد الحضاري العالمي، ولم يقتصر الأمر على المجال الإنساني، بل تعدّاه لحقل العلوم الطبيعية حيث ترك أثراً على علوم مثل الفلك وغيره، كما تشير إليه بعض الدراسات، إذاً فقد ساهم القرآن في بناء وعي علمي جديد، طوّر من العلوم الإنسانية والطبيعية معاً.
لكن من جهة أخرى، لا يمكن ـ معرفياً وإيبستمولوجياً ـ إنكار تأثير العلوم الطبيعية والإنسانية على فهم المسلمين وغيرهم للقرآن الكريم، لا على القرآن نفسه، فنحن نعرف مثلاً أنّ علم التاريخ مهم جداً، والشق القرآني من علم التاريخ هو ما يسمّيه المسلمون بعلم أسباب النزول، ولا ريب ـ فيما يبدو ـ في تأثير التاريخ ومعرفتنا به على فهمنا للنص القرآني، لأن هذا النص نزل في الزمان والمكان، كذلك الحال في علوم مثل اللغة والأدب والمنطق و.. وإذا تخطينا هذه الدائرة، سنجد أنّ المفسّر المسلم كان يحمل معه ـ في الغالب ـ عند تفسير النص القرآني، الخلفيات المعرفية التي كان قد حصل عليها من العلوم البشرية، كالفلسفة والكلام والأخلاق والتاريخ و.. الأمر الذي ساعده على تفسير النص بشكل آخر، ولا يعني ذلك نسبيةً مطلقة، كما يحاول بعضٌ أن يفهمه أو يذهب إليه، وإنّما يعني أنّه لا يمكن للعقل ـ من حيث المبدأ ـ أن يقرأ القرآن دون أن يحمل معه عُدَدَاً معرفية مسبقة، ليس القرآن فقط، بل أيّ نص آخر؛ ديني أو غير ديني.
من هنا؛ تكمن الحاجة الماسّة لتطوير وعينا العلمي في المجالات المختلفة؛ لأن ذلك يساعد بالتأكيد على تطوير تفسيرنا للكتاب العزيز وفهم مراداته وأغراضه، فالعلاقة بين القرآن والعلوم البشرية علاقة جدلية تقوم على التأثير والتأثر، على مستوى الفهم البشري للقرآن لا على مستوى القرآن نفسه بوجوده الواقعي النازل من عند الله تعالى.
بل يمكننا أن نقول أكثر من ذلك: إنّ خوض الإنسان التجربةَ السياسية والاجتماعية وعيشه في بطن الحياة الميدانية.. يجعل وعيه بالكتاب العزيز أكبر من ذاك الذي يريد تفسير القرآن وهو قابع في زاوية بيته، ليس بيده سوى كتب اللغة والتفسير، وهذه هي نظرية سيد قطب (1966م) التي يطرحها في تفسيره المعروف (في ظلال القرآن)، حيث يرى أن الحركيين يمكنهم فهم القرآن أكثر من غيرهم؛ لهذا اعتبر أنّ المجاهدين يفهمون القرآن أفضل من غيرهم، وهم المقصودون بالفئة النافرة في آية النفر لطلب العلم من سورة التوبة.
3 ـ هل ترون مستقبلاً للتواصل العلمي بين المراكز الدينية والمراكز الأكاديمية على المستوى القرآني؟ وكم كان النظام الأكاديمي والحوزوي الشيعي مبدعاً في الجانب القرآني؟
يؤسفني أن أقول بأنّ الحوزات العلمية والمراكز الدينية الشيعية لم تكن بالمستوى المطلوب منها فيما يخصّ الدراسات القرآنية، رغم الجهود الكبيرة والمشكورة التي قدّمتها، فقد هجرت الدراسات القرآنية منذ قرون لصالح تضخم علم الفقه والأصول تارةً، ولصالح تعاظم دور الحديث الشريف تارةً أخرى، كما حصل في العصرين: الإخباري والأصولي منذ القرن الثامن الهجري، وقبل ذلك كانت هناك اهتمامات بالبحث القرآني، كما رأينا مع الشيخ الطوسي (460هـ) والشيخ الطبرسي (ق 6 هـ) وابن شهر آشوب وغيرهم، ولم نجد عودة نهضة الدرس القرآني إلى الحوزات الشيعية سوى في القرن العشرين، مع مثل العلامة الطباطبائي والعلامة البلاغي والعلامة مغنية والعلامة محمد باقر الصدر وأمثالهم، رغم أنّهم تعرّضوا ـ مع الأسف الشديد ـ للكثير من المضايقات لاشتغالهم بالأبحاث القرآنية التي ما زال ينظر إليها بعض المشتغلين بالدرس الديني على أنّها أبحاث من الدرجة الثانية، مقارنةً بعلوم مثل الفقه وأصول الفقه الإسلاميَّين.
أمّا على الصعيد الأكاديمي الشيعي، فقد حصلت نهضة تلت نهضة الروّاد الأربعة الذين أتينا على ذكرهم، لكن الذي ألاحظه أنّ الكثير من دراسات الأكاديميين القرآنية لا تدخل في إبداع النظريات، وإنّما في تحليل التراث وشخصياته وإجراء مقارنات، وهي جهود مشكورة جداًَ، لكنّها تظل أقلّ حاجة إليها من حاجتنا إلى الإبداع وابتكار النظريات، وليس فقط كتابة مئات الدراسات حول تفسير الميزان مثلاً أو حول نظرية السيد الصدر في التفسير التجزيئي والموضوعي، بل الذي يريده منّا العلامتان: الطباطبائي والصدر، أن نستفيد من تفسيرهما لندوّن تفسيراً آخر أرقى بعد حوالي ثلاثة عقود على تفسير الميزان والنظريات القرآنية للشهيد الصدر.
والذي ألاحظه وجود بوادر طيبة لنشر الثقافة القرآنية منذ انطلاقة مشروع العلامة الطباطبائي، وأظنّ أن الدراسات الأولية سارت في خطىً حثيثة لتمهّد الطريق لظهور جيل مبدع ومنتج للأفكار والنظريات في حقول المعرفة القرآنية، إن شاء الله تعالى، ومن الضروري أن يكون هناك تواصل جدي بين الحوزات والجامعات في الحقل القرآني؛ إذ بإمكان الطرفين مساعدة بعضهما بعضاً وتصويب حركة بعضهما نظراً لتعدّد الاتجاهات فيهما، وتعدّد الطرق والمناهج والأساليب المتبعة، لكن حتى الآن ليس هناك هذا التواصل المرجوّ في هذا المجال..
4 ـ لماذا نفتقر إلى مؤسسات شيعية تعنى بهذا الجانب؟ وإذا كان فهي تعاني من ضعف التنظيم الإداري الصحيح، ومن الكوادر المتخصّصة؟
مشكلة حقل القرآنيات عموماً في أوساطنا متعدّدة الأسباب، وأشير هنا لبعضها فقط؛ نظراً لضيق المجال:
أ ـ حداثة انطلاقة مشروع الدرس القرآني والبحث القرآني المركّز، فالمشروع يعود إلى ما قبل نصف قرن تقريباً، ولهذا فالتجارب ما زالت بدائية في الغالب، وعدد المهتمّين ما زال في بدايته، باستثناء شخصيات فريدة أنتجت شيئاً ما.
ب ـ افتقادنا ـ نحن المسلمين ـ عموماً لمنطق مراكز الدراسات، ففي الغالب نحن نعمل وفقاً لجهود شخصية؛ لهذا يبرز في بلاد المشرق أفراد مبدعون ولا تبرز مؤسّسات مبدعة، فنحن بحاجة لتأسيس مراكز دراسات حقيقية، وليس شكلية تهدف فقط إلى القيام ببعض المظاهر البروتوكولية للأمور.
ج ـ نحن نعاني من عدم تواصل النخبة في بلادنا الإسلامية، فكلّ فرد لوحده، وكل مجموعة تعمل لوحدها، وهناك حالة إقصاء مثلاً لمختصّين قرآنيين لأجل خلافات عقائدية أو مذهبية أو سياسية أو شخصيّة معهم، فمنطق الولاءات مقدّم في حياتنا على منطق الكفاءات، ولهذا نخسر دوماً الكثير من الباحثين الناضجين بسبب مثل هذه الانقسامات والمواقف مع الأسف الشديد.
د ـ غلبة العقلية البيروقراطية على أنظمة عملنا الإدارية في مختلف المؤسّسات؛ وهذا ما يطيل من أمد المشاريع؛ فالمشروع الذي يحتاج إنجازه سنةً واحدة يطول إلى عشر سنوات وهكذا، وأزمة البيروقراطية لا تختصّ بالحقل الديني، بل تعم مختلف مرافق الحياة في أوساطنا في بلاد الإسلام.
5 ـ شهدنا في الآونة الأخيرة ظهور بعض القنوات الفضائية القرآنية، ما هي الأسباب وراء عدم بروز قنوات شيعية تهتمّ بهذا الشأن؟ وأين تكمن الحلول؟
الإعلام الديني الشيعي في العالم العربي بالخصوص وغيره عموماً، إعلام يعاني من فشل في أكثر من موقع، رغم إنجازات لا تكاد تحصى له، والحديث في هذا الموضوع يطول جداً، فنحن نجد في إعلامنا الشيعي تركيزاً على أمرين أساسيين هما: الطقوس والشعائر من جهة والسياسة من جهة أخرى، وهذا شيء جيد جداً ولا نناقش فيه، لكن يفترض أن لا يكون على حساب سائر مجالات العمل الإعلامي والثقافي والفكري، فتضخّم عقلية التسييس في العالم العربي والإسلامي جعلت البعد السياسي هو الطاغي على إعلامنا الديني، وتضخم عقلية الطقوس (تطقيس الدين) وضعت لنا فضائيات لا همّ لها سوى نشر الطقوس وبثها، وفي رأيي هذا إعلام يقترب من الإعلام العلماني أكثر من اقترابه من الإعلام الديني بالمفهوم الواسع لكلمة الدين.
لهذا؛ فالمفترض ضخّ روح الثقافة القرآنية في المجتمع، والحيلولة دون تغييب القرآن، الأمر الذي سينتج عنه إعادة رسم للأولويات في مناخنا الثقافي والفكري، ليتصدّر القرآن مصادرنا المعرفية النصيّة ويتحوّل حقاً إلى محور ثقافتنا الدينية، وبهذه الطريقة سوف ينعكس ـ تلقائياً ـ على الإعلام بأنواعه.
6 ـ ما هو رأيكم في الإبداع العلمي الذي توصّل إليه بعض العلماء كالعلامة البلاغي والعلامة الطباطبائي، وفي العلوم القرآنية كالعلامة معرفة..؟ وهل تؤكّدون على اتّباع منهجهم؟
يهمّني القسم الأخير من سؤالكم؛ فإبداعات هؤلاء العلماء وإنجازاتهم أشهر من نار على علم، لكن لا يجوز أن نتعبّد بما أنجزوه، وأن نبقى ندور في فلك ما قدّموه لنا، وإلا فما الفائدة؟! المطلوب اليوم تربية جيل واثق من نفسه، ويعرف أنه قادر على التفكير، وأنّ أرحام نساء المسلمين لم تجف كي لا تأتي بمثل هؤلاء مرةً أخرى، فلدينا طاقات قلّ نظيرها والحمد لله، وهناك شباب حوزوي وجامعي يملك ذهناً وقاداً جداً، ويحمل أفكاراً نيّرة ورائعة، فالمطلوب دراسة ذلك الجيل السابق؛ مقدّمةً للكشف عن نقاط قوّته وضعفه، لا لاستخدام منطق التبجيل والتفخيم معه فقط، فنأخذ بنقاط قوّته ونزيدها قوّةً لنتقدّم بها، ثم نعمل على تلافي نقاط الضعف ومواقع النقص في تجاربهم الجبارة، وبهذه الطريقة نتقدّم، ولا يصحّ تخويف باحثينا ونقّادنا وعلمائنا ومفكّرينا ودارسينا من نقد هذا العالم أو ذاك، لكن المهم أن يكون النقد أميناً وعلمياً وأخلاقياً ونزيهاً، سواء وافقناه في مضمونه أم اختلفنا معه، بهذه الطريقة نكمل المسيرة وإلا دخلنا في دائرة مغلقة، وأصبحنا كدودة القز تقتل نفسها بما تنتجه.