الشيخ حيدر حب الله
المرفأ: بعد ما يقرب من السنتين على طرحكم لفكرة الاعتدال الشيعي كصيغة لفرز تيار شيعي معتدل داخل الساحة، أين وصلت الفكرة وهل خلال هذه المدة طرأ لديكم تطور في مفهوم الاعتدال؟
حبّ الله:مفهوم الاعتدال مفهوم واضح على مستوى العقل العملي، نعم هو مفهوم هلامي مطّاط على مستوى العقل النظري، فأيّ فكرتين متناقضتين يمكنك فرض وسط بينهما فيكون هناك وسطية واعتدال نظري، لهذا لا قيمة ثابتة دوماً للاعتدال النظري؛ لأنه مجرّد صيغة توافقية تنفع في السياسة وأمثالها لكنها لا تنفع في الفكر والثقافة ولغة الواقع الخارجي، إلا في بعض الحالات التي يعبّر فيها الوسط عن معطى واقعي، فالمقصود بالاعتدال مفهومه المنتمي إلى العقل العملي، أي تحمّل الآخر، الإحساس به، الاعتراف به، الاعتقاد بوجود نقطة ضوء فيه، الاستماع إليه، هذا في الجانب الإيجابي، أما في الجانب السلبي، فعدم إقصاء الآخر، وعدم تكفيره ولا تفسيقه و.. وعدم نفيه، وعدم تقزيمه وتحقيره، وعدم اختزاله… هذا هو الاعتدال المقصود في مشروع مؤتمر الاعتدال الشيعي.
انطلاقا من هذا الكلام، لا تهدف فكرة الاعتدال إلى إلغاء أحد، كيف ولو ألغت أحداً لكانت قد أولدت نقيضها من داخلها، نعم، هي تهدف إلى إشراك الآخر، ومن الطبيعي أنك عندما تُشرك غيرك في أمر ما ستنسحب بنسبة ما عن الهيمنة الكاملة التي تملكها… وهذا ما يجعل بعض المعنيين متوجّساً من مثل هذا الطرح؛ لأنه يرى فيه تراجعاً له، فيخلط بين التراجع لمصلحة الإشراك والاشتراك والمشاركة وبين التراجع بمعنى فقدان الوجود والتنازل عن الهوية، تلك الهوية التي باتت عقدةً للإنسان الشرقي.
إنّ واقعنا الإسلامي يتطلب حركة مؤتمر اعتدال ووسطية، ليس في الداخل الشيعي فحسب، بل في الوسط الإسلامي عموماً، لقد رأينا كيف أوشك البغض الطائفي والتحريض المذهبي على أن يوقع الفتنة في المنطقة؛ فيعيدها مئات السنين نحو الوراء، هل يجب أن ننتظر حتى تقع الكارثة ثم نتداعى للعلاج والمعالجة، أم ينبغي أن يكون النذير الذي جاءنا في هذين العامين بلاغا عميقاً كي ننظر في مسببات هذا الأمر على الصعيد المذهبي والثقافي، إلى جانب الصعد الأخرى السياسية وغيرها… إن تجربة العامين الماضيين تؤكّد ضرورة ولادة حركة الاعتدال الإسلامي ـ الإسلامي من جهة، والمذهبي ـ المذهبي داخل كل مذهب من جهة أخرى، كي يكون للفرقاء كلهم القول في قضايا طوائفهم ومذاهبهم، لا أن يتحكم فيها فريق فيجرّ الفرقاء الآخرين للتورط معه، ويكلفهم ما لا يريدون، بل ما لا يطيقون، هذه هي رسالة مؤتمر الاعتدال. نحن شركاء في الإسلام والمذهب، فمن حق الجميع أن يكون له حضوره في واقع هذا الإسلام وهذا المذهب.
المرفأ: هناك من يرى أن تيار الوسطية والاعتدال لا يصنعه المؤتمر بل نشاطه وفعاليته على الساحة هي المعبَـر الفعلي إلى وجوده الحقيقي.
حبّ الله:لا أعتقد أن الساحة الشيعية ذات وضع متدهور إلى هذا الحد، بل أكاد أرى صورة أخرى بحكم مطالعتي الشخصية للموضوع، ففي المجتمع الشيعي نخب منفتحة وعاقلة وفاهمة أكثر مما نتصور، وعلينا أن لا نقع في خطأ مصادرة البعض القليل لصورة المشهد الشيعي الرائعة سيما في هذه الفترة، حيث الانتصارات والإنجازات والخطوات المتلاحقة رغم المصاعب والمشاكل والإخفاقات… هذا ما يريده الفريق غير المعتدل في الساحة، أي إنه يريد مصادرة الصورة الشيعية ليتوهم الجميع أن المشهد كله من هذا اللون فيما الأمر ليس كذلك، دعني أقول شيئاً لديّ إيمان عميق به، وهو أن الفريق غير المعتدل قد يكون له صوت وضجيج مرتفعيَن لكنّ ارتفاع الصوت لا يدل البتة على الكثرة والحضور والهيمنة، فقط الخائفون هم الذين يشعرون بذلك عندما يسمعون هذا الصوت.
يجب تخطي هذا الصوت الذي يريد تقديم صورة نمطية واحدة عن الشيعة، فأينما ذهبت تجد وعياً شيعياً كبيراً بضرورة الالتفاف وتفهم وضعنا معاً، وتجاوز الخلافات الجزئية، ونشر سياسة التسامح فيما بيننا، فإعلان هذا العام عام الانسجام والتضامن الإسلامي معبّر عن حجم الوعي الذي نعيشه رغم كل المشاكل والصعوبات، إن هذا ما يدعوني كي أناشد الحالة الإسلامية الشيعيّة النهضوية سيما في إيران ولبنان، أن تبادروا بنفسها إلى تشكيل مؤتمر الاعتدال الشيعي بما تملكه من حضور قوي وفاعل في الساحة الإسلامية، وبما نملكه من ثقة بها، نعم نحن نطالبها بعقد هذا المؤتمر ولمّ شمل أكبر عدد من التيارات الشيعية للتوحّد والتسامح والاعتراف ببعضنا البعض، ونبذ سياسة التكفير والتفسيق والتجهيل و… التي يمارسها الفريق غير المعتدل، وعندما أقول: الفريق غير المعتدل، فلا أعني فريقاً خاصاً، كما ألمحت إلى ذلك في ورقة مؤتمر الاعتدال، بل أعني كل الأجنحة غير المعتدلة في تمام التيارات الفكرية والثقافية، أجد أنّ الأمل الآن ـ بعد أحداث الفتنة الطائفية ـ صار أكبر بعقد مثل هذه المؤتمرات، واليوم هناك إحساس أكبر بأنّ التطرف ليس لمصلحة أحد، وقد سمعنا ورأينا الكثير من المواقف التي تبعث على الأمل في الفترة الأخيرة، مما لم يعجب الكثير من المتطرّفين والأحاديين فهم اليوم في وضع لا يحسدون عليه، فلنمدّ لهم أيدينا استنقاذاً لهم مما هم فيه، ولنعينهم بنا ونعين أنفسنا بهم.
ولا نقصد بكلمة المؤتمر، ما يفهم عادةً من جلسات بروتوكولية وما شابه ذلك، بل المقصود الشروع بإنتاج الحدث من خلال التلاقي المنظم والمدروس، وإيجاد جبهة عمل وتنسيق دائمين، يتلو ذلك خطوات ميدانية في العمق.
المرفأ: ما هو حجم التفاعل والتعاطي مع ورقة عمل “الإصلاح الشيعي” وهل لا زالت الفكرة مطروحة أم أنّ الرهان انكشف على واقع ليس ممزقاً فحسب بل ميالاً إلى الدعة والكسل؟!
حبّ الله:من الطبيعي أن نميز في اقتراحات من هذا النوع بين الرؤية الثقافية التي يحملها اقتراح ما، وبين الممارسة العملية التي يراد من خلالها تنشيط هذا الاقتراح أو ذاك، لقد أشرت في الحوار الذي أجرته معي صحيفة “الوقت” البحرينية قبل حوالي العامين، إلى أنني أقدّم هذا الاقتراح بوصفي مثقفاً، أو متابعاً للشأن الثقافي، وهذا هو البعد النظري في الفكرة، أما تنشيط التواصل على أكبر مدى ممكن فقد قلت هناك: إنه شأن النافذين في الطائفة الشيعية في العالم العربي والإسلامي، ووجوه هذه الطائفة بانتماءاتها وميولها واتجاهاتها، لأن قرار إحياء مشروع من هذا النوع لا يمكن أن يتم إلا بموافقة هذه الأطراف النافذة، نعم يمكن أن يكون هناك لجنة صغيرة تسعى لإقناع الأطراف المتعدّدة بالموضوع مقدّمةً للشروع به، لكنّ هذه اللجنة لا يمكن أن تكون بديلاً عن أصحاب القرار في الطائفة بما يمثلون من امتدادات جماهيرية وغيرها، ولا اقلّ من الحاجة إلى موافقة عدّة فرقاء أساسيين تكون موافقتهم النواة الأولى في المشروع، ولعلّ هذا هو ما أوجب حدوث غموض لدى البعض، فتصوّر أن المشروع بديل عن وجوه الطائفة وتياراتها، وهي فكرة لا يمكن أن تكون منظورة لأصحاب الرؤية المطروحة، إذ لا تحتاج إلى كثير تأمل ونظر لمعرفة أنها فاشلة حينئذ، بل الهدف إشراك فرقاء في الساحة ثمّة من يتعمّد تغييبهم، لا تغييب فرقاء لهم حضورهم، وهذه نقطة امتياز أساسية.
نعم، الشيء الذي قد نلمسه من خلال طبيعة ردود الأفعال على المقترح المذكور أنه دلّنا على شيئين: أحدهما وجود أشخاص اعتادوا على التوجّس والخوف في مجتمعاتنا من أيّ مقترح تقريباً، وأعتقد أنه من اللازم تفهّم هذا الخوف والتوجس ودراسة مسلسل طويل من التراكمات التي تبرّره، لكثرة المشاريع النهضوية في الأمة والتي جرّت عليها الويلات بدل أن تتحفها بخير السماء والأرض. وثانيهما وجود أشخاص ميّالين إلى الدعة والراحة، فهم لم يعودوا ـ رغم اقتناعهم بالأمر ـ مستعدين للتضحية وتقديم الغالي والنفيس، لهذا لا تجد عندهم امام أي مشروع جديد، سوى أن يقدموا له النصائح المثبطة للعزائم والمكسّرة للأجنحة، وأعتقد أيضاً أنّ هذا الفريق قد تكون له مبررات معقولة لا ينبغي أن يأخذنا الحماس كي نرفضها أو نتهمها بالتخاذل والعياذ بالله؛ لأن فريقاً من النهضويين قد عملوا لسنين طويلة ولم يروا سوى الفشل والإحباط والترنح والتغريد خارج السرب، كمن يحدث العاصفة في فنجان، لهذا كانت تراكمات تجاربهم قاضيةً بالإقلاع عن المشاريع الحماسية الشابة، لأنها لن تجدي نفعاً في هذه الأمة.
لكنني أعتقد أنه رغم صوابية بعض مبررات الفريق الأول المتوجس والفريق الثاني المحبط، لا ينبغي التوقف، لأن معناه الاستسلام للواقع القائم فنحن مطالبون بالنتائج كما أننا مطالبون بأداء التكليف الذي يمليه علينا ديننا وضميرنا تجاه قضايا أمتنا، وأعتقد أن قوّة المحتمل في ايجابياته تسعف ضعف احتمالات النجاح، مع لزوم التنبّه لكل مسببات الإخفاق.
المرفأ: الحديث عن فكرة الاعتدال والوسطية تقودنا إلى فكرة التغاير والاختلاف والحق في ممارسة النقد ، كأستاذ في الحوزة والجامعة وكباحث إسلامي كيف تنظرون إلى هذه المفاهيم؟
حبّ الله:هذا الموضوع بات مكروراً بدرجة كبيرة، وقد جرى أكثر من حديث عنه، فالوسط الديني لديه حساسياته الخاصة سيما في ظروفنا الراهنة حيث تخاف الأمة على هويتها وكيانها من حضارة الغرب بما فيها من إيجابيات وسلبيات، إنها حضارة عولمية تبيد بإعصارها كل ما تراه أمامها تجعله رميماً بل رذاذاً، في ظلّ هذا الجو يظهر فريق النقد في الأمة وفريق الدفاع فيها، ودعني هنا أقحم مقولة السلطة بمفهومها الواسع في تفسير هذا التصادم بين فريق يرى النقد أساساً لإصلاح حال الأمة لأنه يرى المشكلة فيها، وفريق آخر يرفع الدفاع عنواناً لحركته، لأنه يرى أن الآخر هو الذي يتسبّب بكل ما تراه الأمة من كوارث، ومع الاعتقاد بصوابية كلا الاتجاهين وضرورة إحداث تزاوج بينهما ينوّع أدوارنا دون أن تتصادم، إلا أنّ أحد أسباب الصدام العنيف بين الناقد والمدافع، أو بين المثقف والفقيه كما هو التعبير الذي يحلو للبعض استخدامه هنا، هو قضية السلطة، ولا أعني بالسلطة هنا السلطة السياسية والحاكمة السياسية، لأنّ كثيراً من أشكال التصادم هذه ـ ولنأخذ مثالا دولاً كثيرة في العالم العربي ـ جاءت من فريقين يشاركان في السلطة معاً تارة أو هما معاً خارج السلطة السياسية، إذاً فالسلطة السياسية أحد أشكال السلطة المنظورة هنا، بل نريد بالسلطة مطلق النفوذ أو الهيمنة الاجتماعية والدينية والمالية والإعلامية و… أي السلطة بالمفهوم الواسع، فعندما ينتقد المثقف مفهوم المرجعية أو التقليد فهو يعبّر عن رغبة في لعب دوره في السلطة، لأنه يرى أنه محيّد لا يملك قراراً، وعندما تجري المطالبة بتنشيط المحاكم المدنية والحدّ من تفرد المحاكم الشرعية في بعض الدول العربية مثلاً، فإنّ ذلك يعبر عن شكل من أشكال الرغبة في تقليص سلطة الآخر، وهكذا عندما يدافع الفريق في الجهة الأخرى عن هذه المقولة أو تلك فهو يعبر عن استماتته في الاحتفاظ بالسلطة، فالصراع في واقعنا الإسلامي لا ينبغي إغفال عنصر السلطة فيه، وعندما نقول: السلطة، فلا يعني ذلك اتهاماً لأحد بأخلاقياته كما سوف يتبادر إلى ذهن البعض، إننا نتحدث في اللاوعي من جهة وفي جزء العلة أو إحدى العلل من جهة أخرى، ولهذا أتصوّر أن إشراك الأطراف في السلطة بهذا المعنى العريض لها سوف يخفّف حدة التصادم وشراسة المواجهة، من هنا أنا أدعوا الجميع كي يلحظوا هذه القضية في تحليلهم لواقعنا الإسلامي القائم، ويفسروا أيضاً مسألة الموقف من النقد ضمن هذا السياق بوصفه أحد سياقات المشهد العام.
المرفأ: أثارت افتتاحية “نصوص معاصرة”[1] في عددها الأول بعض ردود الفعل السلبية، فهل مرد ذلك إلى التقسيم الذي أجريتموه بخصوص تيارات المشهد الثقافي الفكري الإيراني، أم أن الاعتراض كان على أصل نقل المشهد في كليته إلى القارئ العربي وهو الأمر الذي لم يرق للبعض؟
حبّ الله:في الحقيقة، هناك وجهتا نظر إزاء كيفية عرض المشهد الثقافي الإيراني إلى القارئ العربي: وجهة نظر تقول: إن المطلوب عرض الحق، والرد على الأباطيل والشبهات وأمثال هذه الأمور، لأنّ في استخدام أي وسيلة أخرى خوف الضرر على دين الناس، في المقابل هناك وجهة نظر أخرى تقول: إن الأفضل أن نعرض المشهد بأطيافه لتتكون صورة كاملة عنه لدى الإنسان العربي، مع الاحتفاظ بمبدأ الاستثناء الذي لا يزيل القاعدة، بل يؤكدها، ومبرر الفريق الثاني عدة أشياء اكتفي فيها بما يلي:
أولاً: إنك عندما تعرض أطياف الفكرة المتعددة للمثقفين والدارسين العرب، فأنت تقدم مشهداً حياً تعدّدياً نابضاً للحياة الثقافية الإيرانية، وهذا ما سيشكل نقطة قوة لصالح هذا المشهد أمام القارئ العربي على المستوى الفكري والثقافي.
ثانياً: إذا أردنا أن نكون أمينين لفكرة عدم ترجمة الباطل، إذاً يجب القول بعدم جواز ترجمة كل أو أكثر الدراسات الإنسانية في العالم الغربي إلى اللغة العربية؛ لأنها تؤثر ـ شئنا أم أبينا، بشكل أو بآخر ـ على العقل العربي وتحرفه، ولا أعرف غير السلفي المتشدّد جدّاً من يقول بذلك، إنّ واحدة من مشاكلنا الفكرية والثقافية أننا نعيش قدراً كبيراً من الازدواجية، فأمرٌ واحد نقبله في موضع ونرفضه في موضع آخر، نطالب هنا بالعلّة ونلعن هناك معلولها، ألم تترك ترجمة وتدريس نظريات فرويد في جامعات العالم الإسلامي آثاراً مخيفة على عقول المسلمين؟ إذاً يجب أن تُصدر الدول الإسلامية قراراً بمنع إصدار كل ترجمات العالم الغربي تقريباً لنعيش في عزلة ثقافية عن العالم!! هذ هذا مبرّر؟!.
ثالثاً: لقد ترجم المسلمون عبر الزمن الإسلامي الكثير الكثير من الكتب والأفكار من الحضارات الهندية والفارسية واليونانية و… ونحن اليوم ـ لا أقل هذه وجهة نظر فريق كبير في ساحتنا ـ نفتخر بالفلسفة والعرفان الإسلاميين، رغم أن دخول هذه الأفكار سبّب ظهور فرق انحرافية على امتداد تاريخ المسلمين، إذاً فالأفضل أن نقول: كان يجب أن نسدّ الطريق على كل ذلك، ونكتفي بمراجعة الكتاب والسنّة كما يقول بعضنا اليوم؟!
إن من يفكر بعقلية الداعية في المسجد أو المدينة يختلف عن تفكير وزير ثقافة في بلد ما، فأهدافه واستراتيجياته وأبعاد عمله تختلف اختلافاً جذرياً، وأعتقد أن الخلاف بين الفريقين المشار إليهما هو خلاف بين داعية ومثقف رغم الاعتقاد بعدم وجود استحالة للتوفيق بين الدعوة والثقافة.
وأخيراً أحب هنا أن أشكر ـ من حيث المبدأ ـ الذين ساهموا في نقد افتتاحيات نصوص معاصرة، لأنّهم بنقدهم عبّروا عن حالة صحيّة يجب أن تظلّ موجودة في أوساطنا، فنحن نحترم النقد وندعو إليه ونأمل أيضاً أن لا يقتصر حسّ النقد على فريق في ساحتنا دون فريق، وأن نصل إلى مرحلة يتساوى فيها الجميع في حقّ النقد وفي إمكانية نقدهم، طالما كان النقد قائماً على أسس علمية وأخلاقية.
المرفأ: في درسكم (درس الخارج) خرجتم عن النمطية والدرس التقليدي (باب الجهاد في الفقه ونظرية السنّة وخبر الواحد في الأصول) وأكيد أن ذلك حصل من منطلق رؤية نقدية ورغبة في تطوير الدرس الحوزوي، فهل لكم أن تقربونا من عناصر هذه الرؤية؟
حبّ الله:مما أؤمن به صورةً أنموذجية لدرس الخارج في الحوزة العلمية ذاك الدرس الذي:
أولاً: يستعرض مذاهب المسلمين ومدارسهم ويمارس نقداً وتعليقاً وتأييداً لها، وكذلك روايات المذاهب الأخرى بعيداً عن أي روح طائفية ضيّقة، فنحن ـ كما يقول العلامة المغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين ـ بحاجة إلى اجتهاد إسلامي، كما كان عند القدماء، لا اجتهاد مذاهب فقط، مع الحقّ لكل فريق أن ينسجم مع مبانيه في نهاية المطاف.
ثانياً: المأمول من دروس الخارج أن تأتي بكل مستجدات البحث الفكري والثقافي والنقدي المعاصر الموجود داخل الحوزة العلمية وخارجها، ثم تقولبه ضمن إطار الصياغات البحثية في الفقه والأصول، ثم تحاول تعميقه وتشريحه والاستدلال عليه، بعدها تتخذ موقفاً منه مؤيدا أو معارضا أو بين بين، لهذا لا معنى لأن يبقى البحث الخارج محصوراً في إطار بضعة مصادر محدودة، حتى أن الكثيرين لا يطالعون آراء معاصريهم ليؤيّدوها أو ينتقدوها، وكأن شرط المراجعة هو الوفاة، فالمطلوب استحضار كلّ الدراسات الجديدة المتصلة بموضوع البحث ، حتى ولو من خارج الحوزة ولو من نقاد غربيين، وتحليلها لإعطاء رأي فيها، لا إحالة هذا الأمر إلى الترف الفكري، فالحضور مطلوب هنا.
ثالثاً: نحن بحاجة إلى دروس خارج في الموضوعات التي طرأها التصحّر والجفاف، فمنذ سنين طويلة لم تُدرّس كتب بأكملها في الحوزة إلا نادراً، مازلنا نجد العبادات مهيمنةً رغم كل خطوات الإصلاح التي قام بها الإمام الخميني (قده)، ونجد فقه مستحدثات المسائل مغيّباً في دروس بحث الخارج، إلا اللهم من بعض الأساتذة الكرام الذين حملوا هم الدولة الإسلامية وتحديات إقامة دولة على مستوى القوانين وفقه النوازل فتصدّوا بكل جرأة لذلك فجزاهم الله خيراً.
المرفأ: هل من كلمة أخيرة تحبون توجيهها إلى طلاب الحوزة العلمية؟
حبّ الله:سأوجّه كلمة صغيرة إلى الشباب في الحوزة العلمية، أوصي نفسي وكل طلبة العلوم الدينية الشباب أن يعيشوا شبابهم، الذي يعني الأمل، يجب أن لا نكون محبطين من الصعوبات، وأن لا نظل خائفين من أيّ شيء نقوم به، حتى لا ينزعج فلان أو يغضب آخر، يجب أن نقوي حسّ المسؤولية في نفوسنا، إنّ من أصعب المشاكل التي يواجهها طالب الحوزة أنه يأتي إلى الحوزة مليئاً بالأمل والعنفوان والأحلام والاندفاع والإخلاص، لكنه يبدأ يشعر بالإحباط لأنه لا يرى من يشجّعه، فإذا قال كلمةً لم يسمع سوى النقد والتقريع، ذاك يخوّفه أن يكتب مقالةً فكرية، ويزرع آخر في عقله أن التصدي لهذا الدرس أو الكتابة أو … يجب أن يكون بعد سنين وسنين، وتمضي الأيام وتطرأ على شخصيته مظاهر التعب والشيخوخة، ولما يحين موعد الإنتاج لا يجد في نفسه الطاقة للعمل، لهذا يقنع بأقلّ أدواره التقليدية المكرورة، ويميل إلى الترنّح وفقدان الطموح حيث يرجع إلى بلاده بعد سنين طويلة كأنّه غريب عاجز عن فعل شيء أساسي مميّز، ، البروتوكولات كثيرة في أوساطنا، فعلينا تركها ـ قدر الإمكان ـ لصالح العمل الجادّ، فالوقت يمضي مسرعاً والتحديات كثيرة، والآخر لا يفتأ يعمل بجد ونشاط، ونحن نجد بعضنا يرغب في إعادة دراسة هذا الكتاب أو ذاك رغبةً في التمكن العلمي!! إن الحوزة منارة ترفعنا ونرفعها وليست مقبرة ـ والعياذ بالله ـ تخنقنا وتخفي أجسادنا وطاقاتنا، نحن نفتخر بأننا طلاب حوزة، لكنّ الشاب الآمل بخدمة الإسلام لا يفتخر أن يكون إنساناً يمشي في حياته مشي السلحفاة بحجة العقلانية وعدم التهور. إنّ هناك مؤشرات في بعض الأوساك الحركية الإسلامية في العالم العربي على تراجع دور عالم الدين فيها، نظراً لحصول إخفاقات، وعلينا أن لا نستهين بهذا الوضع ولنقرؤه على امتداد زمني طويل.
وأخيراً لا أخفي ضرورة التعاون مع المركز العالمي للعلوم الإسلامية على مستوى قسم البحث والتحقيق، فما يقدمه هذا المركز ـ مشكوراً ـ على هذا الصعيد فرصة تاريخية لا تعوّض، لهذا أنصح نفسي وكلّ الطلاب الشباب أن يُبدوا إيجابية في التعاون، كي ننهض غداً بأمتنا، فقد جزى الله خيراً الأجيال التي مضت وجاء دور الشاب الحوزوي كي يهيئ نفسه للمستقبل الذي يحمل معه الكثير من المسؤوليات.. أدعو الشاب في الحوزة أن يحسّ بنفسه، ويشعر أنّه كيانٌ موجود يضخّ بروح الشباب، فيقيموا البرامج والندوات والحوارات والكتابات والدرس والتدريس والمتابعة اليومية للشأن الثقافي، وعدم الابتعاد فترات طويلة جداً عن الناس، وعدم الحياء من العمل الثقافي بحجة الاعتبارات الوهميّة الزائفة، فرضا الله قبل كل شيء، جعلنا الله تعالى وإياكم ممن رضي عنه وأرضاه.
[1]هذا السؤال والذي يليه لم ينشرا في صفحات صحيفة المرفأ لضيق المجال حسب الظاهر.
أجرى الحوار وأعدّه: السيد عبد الرحيم بوستة . نشر الحوار في صحيفة مرفأ الكلمة في إيران عام2008م