ما حقيقة «مؤتمر الاعتدال الشيعي»؟! نصّ الحوار مع صحيفة الوقت البحرينية(* )
ـ الحلقة الأولى ـ
يستولي على المتلقي ـــ معذوراً ــ قدَر من التوجّس بإزاء المصطلحات والمفاهيم الاصطفافية، وفي حين تضطرّ المقاربة الثقافية إلى اجتراح مداخل تفسيرية لفهم الموضوعات والأحداث، فإنها تكون معرّضة للتضليل وإيقاع الاشتباه عندما تعوّل، أو تلتبس، بذلك النوع من المصطلحات والمفاهيم. من ناحية أخرى، تظلّ أجهزة المعرفة والتحليل مُساقة كرهاً إلى اعتماد مفاهيمها ومصطلحاتها الخاصة، وهي تجاري امتحان الاصطفاف والتجزيء بتشذيب مفاهيمها ومصطلحاتها وتقويمها من أيّ ملاقاةٍ أو منافاةٍ غير موضوعية، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
«الوسطية الشيعية» كما يعالجها الباحث اللبناني حيدر حب الله هي مثال ماثل على ذلك. كتبَ حب الله، رئيس تحرير «نصوص معاصرة»، استهلاليتين في العدد الثالث والرابع من المجلّة، تطرق فيهما إلى موضوع الوسطية الشيعية، منادياً بعقد مؤتمرٍ للاعتدال الشيعي؛ يكون سبيلاً لتجميع القِوى الوسطية الشيعية وتقوية روابطها. وحول ذلك يدور معه هذا الحوار.
ما هي فكرة «مؤتمر الاعتدال الشيعي»، وفكرة «حركة الإصلاح الشيعي»، كما طرحتموها في مجلّة «نصوص معاصرة»؟ هل لكم أن توجزوها لنا؟
بعبارة مختصرة جداً، تقوم الفكرة الأولى على أن هناك داخل التيارات الشيعية فريق الصقور المتطرّف وفريق الحمائم المعتدل، وأن الفريق الأول أقرب إلى الهيمنة على كل تيار من التيارات، والدعوة تقوم على الفريق الثاني، لكي يتلاقى ويجتمع كي يكون له دورٌ في التقريب في الفئات المختلفة، من جهة، ودور في تقوية نفوذه داخل جماعته من جهةٍ أخرى، ليغلب صوتُ الاعتدال صوتَ التطرّف، ونصل إلى الحدّ الأدنى من التوافق والتهدئة والحلحلة لهذا الواقع المتشابك المعقّد.
من هنا، جاء اقتراح عقد لقاء مصغّر أو موسّع لهذه الجماعة المعتدلة التي تمتاز باستعدادها لسماع الآخر، وتطالب الورقة بتقديم كلّ طرف تنازلاً ــ ولو شكلياً ــ يرضي الطرف الآخر، وينفّس احتقانه، في خطوةٍ تبدو أولية لرسم معالمِ توافق.
ولا تدعو الورقة لوجهة نظر واحدة، ولا لحلّ الخلافات، ولا للحوار العقدي والفقهي في الموضوعات المختلف عليها، بل تطالب بالحوار لبناء نظام يرسم العلاقة بين الأطراف لوضع حلّ للحالة القائمة، إن مجرّد التلاقي الدوري هذا مع إيجاد أبسط أنواع التنسيق، ولو خارج الموضوعات المختلف عليها، يخلق قوّة ردع تبعد الأجواء عن التصادم، تماماً كما هي الحال في الحياة السياسية، إن وجود مؤسسة محايدة ــ إن صحّ التعبير ــ تجمع الأطراف ومصالح مشتركة متداخلة تربطهم، ولو كانت من ضمن المتّفق عليه، يشكّل ضمانةً لعدم وقوع مزيدٍ من التصادمات، أي أنه صمّام أمان يمكن تفجير الاحتقان داخله، بدل إطلاقه في الهواء.
حركة الإصلاح الشيعي
أما فكرة «حركة الإصلاح الشيعي»فكانت تنبني على أن الجماعات أو الشخصيات الداعية إلى الإصلاح الفكري والاجتماعي في الحياة الشيعيّة، تبدو رذاذاً متفرّقاً لا يجتمع ليكون سيلاً جارفاً، من هنا تقوم الورقة على ضرورة لقاء يجمع رموز المشروع الإصلاحي الشيعي بأبعاده، وأطيافه وألوانه، لوضع برنامج مركّز للعمل، وخلق جبهة عتيدة تستطيع الوقوف تياراً شامخاً في وجه الأحداث، وإلاّ فإن هذه الرموز أو الفئات الصغيرة سوف تبقى تحت رحمة الاستفراد الذي يمارسه الطرف الآخر أحياناً، من هنا الحاجة لتعاونٍ ودعم، بل للانطلاق في مشاريع إعلامية جادة تربط الحركة بعموم الناس، لذا اقترحت الورقة إنشاء صحف يومية محلية أو.. وكذا فضائية شيعية تعبّر عن وجهة نظرها، الأمر الذي ما زلنا نفتقده حتى الساعة في ظل جوّ الرتابة في الخطاب الإعلامي الثقافي الديني.
شواهد من الإقصاء والتخوين
بدأتَ طرْح مشروع «مؤتمر الاعتدال الشيعي» بفرضيةٍ، أو زعم، مفاده أنّ الاختلاف داخل الوسط الشيعي آخذ في التحوّل إلى الإقصاء والتخوين، واعتبرتَ ذلك حقيقة مشهودة. وقد لحظتُ أنك استخدمتَ عباراتٍ شديدة المعنى في توصيف هذه «الحقيقة» المفترضة، إلاّ أنك كنتَ عمومياً في خطابك وبالغ الحدّة. هل يمكن إيراد بعض الشواهد «الكبرى» التي تؤكد حقيقة هذا المشهد من ناحية، وتثبت خطورته ـ التي تتطلب مؤتمراً عاجلاً ـ من ناحية أخرى؟
كي أستحضر جملة شواهد على ظواهر النفي والإقصاء، لابد لي من أن أقرّ بأن هذا الادعاء يقبع خارج إطار البداهة، فيما أفترض أن أيّ متابع للحياة الثقافية الشيعية يدرك بوضوح مدى حدّة المواجهة وعمق الشرخ، بماذا نفسّر ما قاله مؤخراً أكبر رموز الإصلاح الثقافي الإيراني في محاضرته في السوربون التي أثارت ضجةً في إيران شهري شعبان ورمضان الماضيين من أن رجال الدين ليسوا متأثرين بالعوام فحسب بل هم عوام بأنفسهم؟! أو في قوله في حوار أخير: إن فلاناً ــ ويقصد أحد رموز رجال الدين في إيران ــ عصبي ومتجبّر وغضوب، مخصّصاً حواراً طويلاً لاتهامه بأنه لم يقرأ منذ سنين طويلة ولم يطالع كتاباً و..؟! وبماذا نفسّر قول أحد رموز التيار المحافظ بأن كل من يقول بتعدّد القراءات الدينية فهو كافر؟! وكيف نفسّر فتاوى التكفير والتضليل التي تحرّك الشارع ــ كما رأينا ــ بانفعال وغضب، وتحدث حقداً متبادلاً؟! أجد نفسي عاجزاً عن ذكر أمثلة تنال حتى الحديث عن حياة الناس الخاصّة عندما تتعرّض لرموز دينية كبيرة بما يخجل الإنسان عن قوله.
الشواهد أكبر من أن تحصى، وبالإمكان النفوذ إلى المؤسّسات الإسلامية لترى كيف يُطرد فلان من وظيفة ثقافية لموقفٍ قاله، أو يتحوّل الآخر إلى جاهل لا يفقه شيئاً لاختلافنا معه في الرأي.
من وجهة نظري، إن وجود التيار السياسي الشيعي المعاصر الذي يملك قوّة كبيرة على الأرض ما زال يشكّل ضماناً لعدم الدخول في صراعات خطيرة للغاية، وهذه قضية يجب أن يَعِيهَا الجميع.
السلفيّون الجدد
الملفت في ورقتك أنك تعود وتتحدّث عن «لا حسم» في الانقسام الشيعي الداخلي، بل إن أساس دعوتك للاعتدال الشيعي يأتي من حديثك حول التواشج بين التيارات المتغالبة، في إشارة إلى وجود حالات اعتدال داخل الأطراف المختلفة، ولكنها تظل تعاني من «التهميش المتعمّد» كما تقول. ألا تشعر معي أنّ شيئاً من الإرباك يعتور المدخل التوصيفي الذي أتيت عليه في افتتاحيتي العدد الثالث والرابع من «نصوص معاصرة»؟
لا أعتقد أن هناك ارتباكاً، فعندما يجري الحديث عن ما أسميتموه: «لا حسم»، فلا يُقصد لا حسم في المواقف وتبلور الاتجاهات، إنما وجود انقسام خفي داخل كلّ اتجاه، لكن المهيمن هو الفئة الأكثر انحيازاً لمقولات كل تيار، ومن أسباب هذه الظاهرة عدم وجود أحزاب سياسيّة منفصلة على الطريقة العقائدية، وإن كنا نتجه ــ لو استمرّ الوضع ــ نحو هذه المرحلة يوماً بعد آخر، فعند عدم وجود أحزاب عقائدية تبقى المرحلة مرحلة تكوّن مدارس واتجاهات، ومرحلة الصيرورة هذه تستدعي عادةً وضوحاً تدريجياً في الانقسام، وعندما تكتمل المعالم يحدث انفصال رهيب، إن التيار النصّي في الوسط الشيعي المعاصر (وبعضهم يسمّيه السلفيون الجدد) تيار جديد في صورته المعاصرة، لهذا يأخذ وقته في التبلور، وعندما يتبلور ينفصل تماماً، إن ظواهر الإقصاء المتبادل تعزز هذا الانقسام وتقوّيه.
وهناك سببٌ آخر أيضاً وهو عدم هيمنة الجيل الجديد؛ ذلك أنه عندما يهيمن الجيل الثاني تحدث قطيعة، أما الجيل الأول فهو ما يزال متواشجاً مع الشرائح الأخرى داخل المجتمع الديني؛ لأنه كانت تربطه بها صلات عدة، أما الجيل الثاني فيصبح أوضح في التعبير عن آرائه، فتأخذ الصورة الاجتماعية بالانقشاع تدريجياً، وأنتم تعلمون بأن الجيل الثاني قد بدأ اليوم يشقّ طريقه بقوّة، لهذا فنحن بحاجة لقطع الطريق عليه.
إذن، فعدم الحسم إنما هو في التمزّق الاجتماعي للتيارات، وما يرتبط بهذا التمزّق لا في الرؤى والنظريات.
مفهوم الاعتدال وسطوة الأيديولوجيا
على الرغم من شيوع مفهوم الاعتدال، إلاّ أنه يظلّ مفهوماً غامضاً أو زئبقياً، وبسبب تعدّد انتقالاته السياقية، لا سيما السياق السياسوي، تصيّر إلى كليشيه باهت غير ذي معنى. في إطار المشروع الذي تدعو إليه؛ هناك ارتكاز على «قيمة» اعتدالية محدّدة وهي: التواصل مع الآخر والإصغاء إليه. فما هي معالم مفهوم «الاعتدال الشيعي» الذي تحشّد من أجله مؤتمراً ملحّاً؟ وكيف يمكن الوثوق بحيادية هذه المعالم وسلامتها من سطوة «الأيديولوجيا» الكامنة، المتحيّزة، المجروحة؟!
لا يمكن وسط مجتمع تحكمه الأيديولوجيا إعطاء ضمانات حاسمة حول عدم وقوع انحيازات أو استغلال حتى لمشروع الوسطية؛ كما أنني أوافق على أن مفهوم الاعتدال قد جرى استهلاكه حتى النهاية، من هنا، لم تُطرح في المشروع صورة داخلية له، بل تُرك ذلك للمشاركين فيه، أي أنه عندما طُرح المشروع قُصد به عقد هذا اللقاء / الخليّة تحت مظلّة يمكن التوافق ــ ولو الشكلي الدبلوماسي ــ عليها، وهي الاعتدال والوسطية وسماع الآخر و.. هذا العنوان ــ رغم وجود تحفظات عليه لدى بعض الفئات ــ إلاّ أنه قادر على إيجاد صيغة تجمع، لا أنه بنفسه صيغة نهائية يخرج بها المؤتمر الشيعي، وهناك فرق بين الأمرين، نحن نريد أن يجتمعوا تحت تأثير روح متسامحة، وليقرّروا أمرهم والصيغة الأفضل لتواصلهم، نحن ندقّ ناقوس الخطر، ليدفعهم صوته إلى اللقاء، أما ما يخرجون به فهذا أمرٌ آخر، نحن نراهن على لقائهم، وإن لم نكن مثاليين في مراهنتنا هذه.
الاعتدال: الاستعداد للقاء الآخر
من هنا، نأخذ في مفهومنا الحالي للاعتدال أبسط أشكاله والمتمثلة بالاستعداد للقاء الآخر، وسماعه، والإصغاء إليه، قد أكون مبغضاً له، وقد أكون هادفاً تحطيمه، لكن هذا أمرٌ آخر، المهم استعدادي للحوار معه، إن فكرة المؤتمر ليست حلاً للأزمة الراهنة، لكنها إدارة حسنة لها، وهذا مدخل أساس لفهمها، فكلّما خفّف الإنسان حجم توقعاته شعر بأنه حقّق نجاحاً أكبر، إن الإعلان عن هذا المؤتمر، والتغطية الإعلامية له، هو في حدّ نفسه خطوة نحو تخفيف التراشق، وبالإمكان أخذ تجربة التقريب بين المذاهب مثالاً تقريبياً لا متطابقاً، كيف أن فئةً معتدلة استطاعت إيجاد مركز قوّة أثر على زعماء التيارات المختلفة، إن إحساس الفريق الأول بتحصيل مكاسب ـــــ كنشر كتاب لهذا المذهب في الطرف الآخر ــــ عزّز موقع الفريق المعتدل، وفي الوقت عينه حقق نتائج التواصل المرجوّة.
لكن المشروع بحاجة إلى شخصيات اجتماعية ذات نفوذ؛ لتشكّل لجنة متابعة كي يتحقّق اللقاء، ليس الموضوع موضوع فكرةٍ تُطرح، بل موضوع جهات أو شخصيات ذات نفوذ اجتماعي تستطيع أن تؤمّن مقدمات هذا اللقاء والتنسيق لانعقاده.
ـ الحلقة الثانيةـ
حسب المتوقع، فقد استقبل البعض الجزء الأول من هذا الحوار مع الشيخ حيدر حب الله بشيء من الاعتراض وسوء الفهم، فما طرحه حب الله لا يبدو منسجماً مع ذائقة الأفهام الدينية التي لازالت تستبطن محامل سيئة تجاه الآراء الأخر؛ وحرصاً على تبديد القراءات المتعسّفة والتحاملات الذاتية، فإنه من المفيد الإشارة إلى جانبٍ من بطاقة حب الله؛ فهو من مواليد لبنان، ويحمل درجة الماجستير في علوم القرآن والحديث من كلية أصول الدين في إيران، وقد بدأ هذا العام في تقديم أبحاث الخارج في الحوزة العلمية في مدينة قم الإيرانية، وهي أعلى مراحل البحث الديني في المدارس الدينية الشيعية، كما أنه أستاذ في تاريخ أصول الفقه وعلم الكلام الجديد. وقد تلقى دراساته العليا على يد أبرز علماء الشيعة المعاصرين، أمثال الشيخ الوحيد الخراساني والسيد محمود الهاشمي والشيخ عبد الله جوادي الآملي الذي تلقى عنه دروس التفسير.
يرأس حب الله تحرير مجلة «المنهاج» و«نصوص معاصرة» الحديثة الصدور، كما أنه عضو هيئة تحرير في أبرز الدوريات الإيرانية المعاصرة، مثل مجلة «ميقات الحج» و«أصداء» و«فقه أهل البيت»، وهو عضو الهيئة الاستشارية لمرفأ الكلمة للحوار والتأصيل الإسلامي في إيران. وله مؤلفات منشورة، منها «التعددية الدينية» و«علم الكلام المعاصر» و«بحوث في الفقه الزراعي.. تقريرات بحث محمود الهاشمي». كما ترجم بعضاً من الكتب الإيرانية الهامّة، مثل «بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة» و«المجتمع الديني والمدني» و«الأسس النظرية للتجربة الدينية».
الإصلاح الشيعي في الوسط العربي
الخيط الجامع بين فكرتك حول مؤتمر الاعتدال الشيعي، والورقة التي قدّمتها حول «حركة الإصلاح الشيعي» هو ضرورة النهوض بالوسطية الشيعية، بوصفها بناءً ثقافياً واجتماعياً يكون منه المنطلق والتأسيس. إلاّ أنك عمِدت لاحقاً إلى التركيز على الوسط العربي. فما الأسباب وراء ذلك؟
التركيز على الوسط العربي كان في ورقة الإصلاح لا الاعتدال، ففي الوسط الإيراني هناك تعقيدات كبيرة في هذا الموضوع تجعل من الصعب تحقيق شيء جاد، أما في الوسط العربي فإن الأمر أسهل، وأضيق دائرةً، وفرص النجاح فيه أكبر، إضافةً إلى أمر، وهو أن حركة الإصلاح العربي غير رهينة لتجاذبات الوضع الشيعي الإيراني، مما يجعل فصلها ممكناً إلى حدّ ما، فالإصلاح الشيعي في الوسط العربي ربما استفاد مما حصل من حراك ثقافي في الحياة الإيرانية، إلاّ أنه لم يكن متأثراً بأحداثها إلى حدّ فقدانه الاستقلال والحرية؛ لأن حركة الإصلاح لم تتحوّل إلى حركة سياسية مؤدلجة قاطعة، بل بقيت أصواتاً متفرّقة هنا وهناك، وهذا ما يفك الارتباط بين الوضع الإيراني والوضع العربي إلى حدّ معينّ، بما يفسح في المجال لتأسيس مشروع الإصلاح ــــ عربياً ــــ بصورة مستقلة.
دعني أعطي مثالاً مبسّطاً، لا توجد امتدادات حقيقية للمرجعيات الدينية الإيرانية الإصلاحية الجديدة خارج الجغرافيا الإيرانية إلاّ بشكل محدود جداً، على خلاف الحال في التيار المدرسي الذي قد تجد له حضوراً من هذا النوع.
وحتى لو تحدّثنا عن «مؤتمر الاعتدال»، يمكن ــ رغم المصاعب البالغة ــ الحديث عن مشروع في الوسط العربي، حتى لو لم نشرك الساحة الإيرانية في الأمر بسبب ظروف لا تسمح بذلك حالياً، إذ ما المانع من أن يكون للشيعة العرب خطواتهم الخاصّة في هذا المجال أو ذاك؟ ولماذا لا يمكن الانطلاق من هذه الدائرة الضيقة وربما لو نجحت أمكن توسيع نطاق التجربة؟ إن شعور الشيعي العربي بأنه يقع دائماً على هامش الأحداث قد لا يكون دقيقاً في بعض الأمور، وقد يكون تنحياً عن تحمّل المسؤوليات أحياناً واتكاليةً في حلّ الأمور.
إذن، حيث السياسة فنّ الممكن، فعلينا أن لا نتخذ في أي مشروع سياسة الانفلاش العَرضي الذي يفقدك قدرة السيطرة على الدائرة التي تغطّيها والمساحة التي تشغرها، من هنا، لا مانع أيضاً من أن يبدأ المشروع بتجارب أصغر حجماً من الوضع العربي، ولعلّ نجاح تجربة في مكانٍ ما سوف يكون مشجّعاً لتوسيع الدائرة تدريجياً.
حركات الإصلاح الشيعي
لقد شهد الشيعة العديد من حركات الإصلاح الداخلي، ومع أنّ هناك تجارب مريرة في هذا الصدد، إلا أنها بقيت تراوح من حيث النتائج والفاعلية المجتمعية. ما تفسيرك أولاً لتوالي الحركات الإصلاحية الشيعية، ولماذا لم تنجح أكثرها في الاستمرار المنهجي والتأثير البنيوي داخل المجتمع الشيعي؟
أولاً:قد لا يوافق الإنسان على أن الحركات الإصلاحية فشلت أو لم تنجح بالمطلق، فحركة الإمام الخميني حركة إصلاحية في الوسط الشيعي في الستينات إلى الثمانينات، وقد استطاعت قلب الأمور، على مستوى الفكر والثقافة والممارسة، وحركة الشهيد الصدر صنعت أيضاً شيئاً مهماً على الصعيد العربي في الحدّ الأدنى، فالحديث عن فشل مطلق يغدو أمراً غير دقيق، نعم لم يتحقق كامل المنشود، وعلينا أن نقايس الأمور بين فترة ما قبل حركات الإصلاح وما بعدها، فقد حدث تطوّر غير عادي.
أسباب ترنّح حركات الإصلاح
ثانياً:هناك أسباب كثيرة لترنّح حركات الإصلاح الشيعي وعدم تحقيقها كامل أهدافها، ربما يمكنني من بينها التركيز على:
السبب الأول:هناك سيف ذو حديث، وهو سيف امتلاك الساحة، ثمة من يفسّر قوله تعالى: >أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ<بأن المقصود بالأبصار التغيير الفكري والثقافي، وبالأيدي التغيير الاجتماعي والسياسي عبر الهيمنة على الواقع وقلب موازينه، من هنا يُلاحظ أن الحركة الإصلاحية انشطرت إلى شطرين كل واحد منهما ابتلي بأزمة، فأحدهما بقي في دائرة التنظير والسجال الفكري الذي يحبس المشروع في دائرة النخب، فانعزل المشروع عن الشارع الشعبي الذي يمكنه إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، وثانيهما خرج إلى الشارع بعد تنظير مقتضب ثم أراد فرض تصوّراته التي لم تختمر بعدُ على الواقع الخارجي، ولما نجح راوح مكانه بسبب تحوّله إلى سلطة اجتماعية تدخل شؤونها في حساب التوازنات المصلحية، مما جعل الفكر ــ لاحقاً ــ في خدمة السلطة، لا العكس، وبعبارة أخرى اعتبرت التجربة الميدانية مسرحاً لإسقاط مفاهيم لم تنضج فيما كان المفترض إسهام التجربة بتفاعلاتها في تنضيج المفاهيم نفسها، تماماً كالإدارة التي قال بعضهم: إنها علم، فيما ذهب بعضهم الآخر إلى أنها نتيج التجربة لا حاكمة عليها ومسقطة.
فريقان داخل حركات الإصلاح
السبب الثاني:وقوع الحركة الإصلاحية بين مطرقة الغرب وسندان الحياة الاجتماعية و.. للمسلمين، كان الإصلاحيون هادفين للحاق بالغرب في تطوّراته العلمية، فيما الواقع الإسلامي لم يكن مدرّباً على الركض أو الهرولة، بل كان معتاداً على الخمول لفترات طويلة، من هنا وجدنا فريقين داخل الحركة الإصلاحية:
أحدهما:يستعجل اللحاق بالتطوّر الغربي لأخذ المسلمين نحو المدنية والحضارة وبناء الذات، وكان مخلصاً فيما يفعل، لكنه أخطأ في تقييم الواقع الداخلي الإسلامي، فظنّه جاهزاً للحركة السريعة التي تواكب سرعة تطوّر العالم، فيما كان الواقع مثقلاً بالحمولات المتعددة الجهات التي تُقعده عن مثل هذه الحركة، وعندما قام بها هنا أو هناك وجدنا تمزّقاً عضلياً عنده، وتشوّهاً في الأداء؛ بسبب حدّة القفزة التي قام بها البعض مما أبعدته عن مجتمعه، فعاد باللائمة على هذا المجتمع بدل أن يدرس هل أخطأ في حساباته أم لا؟
وثانيهما:يراعي أكثر حال مجتمع المسلمين، كان هذا الفريق أكثر واقعيةً في رؤية مجتمعه، ولم يغرق في أحلام النخبة، لكن مراعاته لمجتمعه أعاقته ــ من جهةٍ أخرى ــ عن الحركة، فبدل أن يغدو محرّكاً لهذا المجتمع تأثر به، وبحجة المراحليّة في الإصلاح وإجراء الخطوات الهادئة ترنّح مكانه، فيما المفترض في وضع كهذا أن يكون عملنا مضاعفاً؛ لأنك لا تقيس نفسك على أجسام جامدة من حولك في هذا العالم حتى تراها ــ أي نفسك ــ تسير، وإنما على أجسام سريعة تجعل بطء حركتك بمثابة اللاشيء.
إلى غيرها من الأسباب التي يطول الكلام بالحديث عنها.
نقد مشروع التقريب
هناك خشية، تبدو مبرّرة أحياناً، من دعوات التجديد والإصلاح التي بدأت تُطلق في الآونة الأخيرة، حيث يعلو هذه الدعوات، أو معظمها، خطاب تجييشي عارم، لا يخلو من حماسة المحاربة وتسفيه الخصوم والوعد بالأماني المجايلة. و «المريب» أن طرحك بهذا الشأن تلبّس بهذا المزلق، وقد حذا ذلك ببعض المتابعين إلى أن يتساءل عن ظروف هذا التلبّس والذي لم يكن منظوراً لحظة وجودك في دورية «المنهاج»، بما في الأخيرة من خصوصية «أيديولوجية» ثابتة؟
من حقّ الجميع الحذر والخوف من الحركة الإصلاحية في غير مظهر من مظاهرها، فبعض مظاهر أو شخصيات الحركة الإصلاحية تبعث على القلق حتى عند المنصف المحايد، فقد دخلت هذه الحركة في أكثر من موقع دائرة الصراعات الشخصية، وتصفية الحسابات، والانتقام من الآخر، والصراع على مواقع ومراكز قوى، وتنحية مفهوم ديني لتنحية فلان أو فلان الذي تقوم شرعية وجوده على هذا المفهوم الديني أو ذاك، وخلط السياسي بالديني بالمالي، و.. هذا واقع موجود يضرب بقوّة وعمق بعض جذور الحركة الإصلاحية.
من هنا، تطالب هذه الحركة بنقد ذاتها، كما تطالب بفهم الآخر، ولا تقتصر هذه المظاهر عليها بل تتعدّاها إلى غيرها أيضاً، كي لا نكون مجحفين في تقويمنا أو توصيفنا، من هنا دخلت هذه الحركة في منغلق، كما هي الحال في إيران اليوم على غير صعيدٍ لها.
لقد دعوتُ في المؤتمر الأخير للوحدة الإسلامية في طهران إلى اعتبار هذا العام عام نقد مشروع التقريب، ومحاسبة الذات على الفشل بعد أكثر من نصف قرن على العمل التقريبي، وطالبت أن نخصّص المؤتمر القادم لدراسة هذا الأمر، بدل الحديث المكرور عن الوحدة والتقريب، وهذا ما أجده ضرورياً للحركة الإصلاحية أيضاً، لكثرة ما ظهر لها من أخطاء أقعدتها هنا وهناك عن الحركة والتأثير، لتتحوّل ــ أحياناً ــ إلى مجتمع مخملي، يجيد لعن المجتمع وقذفه بألوان الفاحشة.
_______________________________________
([1]) أجرى هذا الحوار مع المؤلّف الأستاذ نادر المتروك، ونشر على حلقتين في العدد: 5، 12 من صحيفة الوقت البحرينية، تاريخ 10، 17/3/2006م