حوار مع الشيخ حيدر حب الله
أجرى الحوار: قاسم قصير ـ وأحمد ياسين، ونشر في مجلّة شؤون جنوبية ـ العدد 90، تشرين الأول، عام 2009م.
العلاّمة الشيخ حيدر حبّ الله هو رائد من رواد تجديد الفكر الديني الإسلامي في الزمن المعاصر. فهذا العالِمُ العامِل الشاب التنويري المتمتّع بحضوره الفكري البارز وتطلّعاته «الثوروية» المتقدمة واللافتة في سعيه المحموم والحميم معاً لتقديم الإسلام بصورته الأخلاقية الأطْهَر والأظْهَر والأشمل.
(شؤون جنوبيّة) انتهزت فرصة زيارة حبّ الله الحالية إلى لبنان، وأجرت معه هذا الحديث السريع..
س1: حبَّذا لو تعرِّفون القارئ ـ ولو باختصار ـ على شخصيّتكم الكريمة؟ وعلى موقعكم ودوركم الحاليَّين في حوزة قم؟
حبّ الله: في الحقيقة، كنتُ قد أنهيت الدراسات الدينية في المراحل التي تُسمَّى بـ (المقدمات والسطوح) في لبنان، ثم بعد ذلك انتقلتُ إلى الدراسة العليا في الحوزة العلمية في (قم) عام 1995م. وهناك تتلمذتُ على أبرز الشخصيات المتخصّصة في مجال الفقه وأصول الفقه والتفسير وعلوم الحديث والرجال. وبعد مضيّ فترة قمنا نحن مجموعة من الطلاب اللبنانيين بتأسيس مجلة حملت عنوان (أصداء)، تشاركنا فيها لكي نُساهم بالقلم في رَفْد المكتبة الإسلامية ببعض الدراسات الجديدة. وقد واجهتْ هذه المجلة ـ في حينه ـ أي قبل حوالى الاثني عشر عاماً، بعض ردود الأفعال السلبيّة. ثم انتقلتُ إلى رئاسة تحرير بعض المجلات مثل (المنهاج) و (نصوص معاصرة) و (الاجتهاد والتجديد). وقد تسلّمتُ أيضاً مؤخّراً مسؤولية الإشراف العلْمي على دائرة معارف الفقه الشيعي التي يرأسها أستاذنا السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، (الذي كان إلى ما قبل أسبوعين تقريباً رئيساً للسلطة القضائية في إيران)، وهي أكبر موسوعة فقهيّة عند الشيعة إذا ما تمَّ إنجازها بعون الله تعالى. وقد صدر منها، حتى الآن 14 مجلّداً. هذا إضافة إلى مشاركاتي العديدة في بعض المؤسّسات البحثيّة في إيران ولبنان.
ونتيجة اختصاصي في الجامعة في إيران في علوم الحديث والقرآن، وعلى إِثر إصداري لكتاب (نظرية السُّنَّة في فكر الإمامي الشيعي) (وهو كتاب مختصّ بدراسة الحديث الشريف عند الشيعة) فقد شاركتُ، وما أزال، مع مؤسسة (القرآن والحديث في القاهرة)، في إعداد موسوعة الحديث النبويّ الصحيح” عند المسلمين قاطبةً، وهي موسوعة نقدية وتحليلية للحديث الشريف. كما أنّ مسؤوليتي فيها هي دراسة الأحاديث النبويّة وتمحيصها عند الشّيعة الإماميّة. هذا كلّه إلى جانب بعض الكتب التي صدرت لي مثل كتاب (مسألة المنهج) وكتاب (التعدّدية الدينيّة) وكتاب (بحوث في الفقه الزراعي).
تجديد وتوحيد
س2: لقد كان لكم نشاط بارز في الحوزة العلمية يتمحور حول تجديد الفكر الديني، أدَّى إلى منعكم من التدريس في الحوزة أحياناً. لو تُطْلعونا على مقوّمات مشروعكم الخاصّ الذي تعملون على تحقيقه من خلال الطروحات التي تقدّمتم بها في هذا المجال؟
حبّ الله: طرحتُ في عام 2004 تقريباً ورقة عمل تطلَّعتُ من خلالها إلى تشكيل ما سمَّيْتُهُ بـ (مؤتمر الاعتدال الشيعي)، وقد أثارت، هذه الورقة، ضجّةً واسعة في الأوساط الدينيّة في إيران وبعض دول الخليج، وتمحورت فكرتي حول ضرورة أن يلتقي كلّ المعتدلين في الشيعة وكلّ الراغبين في إجراء المزيد من الإصلاحات في الفكر الإسلامي. أن يتداعوا إلى تشكيل جبهة موحَّدة على المستوى الثقافي تستطيع إدخالنا في تنوير إسلاميّ حقيقي تكون لديه قوّة الضغط والحضور في الساحة الإسلاميّة. وسببُ طرح هذه الفكرة والمشروع أنَّنا وجدنا في الفترة المتأخرة ما سمَّيْتُه حالات الاستفراد بالتنويريّين، أي تصفية الحساب مع كلّ واحد على حدة من قِبل التيارات التقليدية. لهذا كان لا بدَّ من إيجاد توجّه عام متوالف يجمع كلّ أولئك الذين استُفردوا أو قد يُستفردوا على المستوى الثقافي والفكري عبر إيجاد تنسيق على أعلى المستويات بينهم؛ ليكون لهم حضورهم في الحياة الشيعيّة عموماً.
اغتيال اجتماعي
س3: ما هي العقبات التي واجهتكم في هذا الإطار على الصعيدين الشخصي والفكري، وكيف عملتم على تذليلها في حينه؟
حبّ الله: كانت العقبات التي واجهتْ هذا الطرح تلتقي في عملية الاغتيال الاجتماعي ـ إذا جاز التعبير ـ عبْر شيءٍ من الحَجر والإبعاد. وكان هناك إصدارات وكتابات عديدة ناقدة لهذه الرؤية. وقد ارتأيتُ، إيماناً منّي، بأنّ من حقّ الجميع أن ينتقد، أن يكون الأسلوب في مواجهة حالة النقد الواسع هذه، هو التعاطي بأخلاقيّة معها وعدم الدخول في سجالات تفصيليّة قد تُقسي القلوب وتزيد في حالات الانشقاق والفتنة في ساحتنا. وأعتقد أنّ أفضل طريق للتنوير الديني أن لا يخوض في سجالات قاتلة من هذا النوع، بل يُكمل مشروعه، لأنّ في الاستمرار في المشروع خير ردٍّ على تلك الانتقادات.
تضخّم العقل الفقهي
س4: ما هي أبرز الإشكاليّات والتحدّيات التي تواجه الفكر الديني الإسلامي في مرحلتنا الراهنة؟ وما يجب عمله في شأنها بنظركم؟
حبّ الله: أظنّ أنّ من أبرز الإشكاليات التي تواجه الفكر الإسلامي اليوم هي إشكاليّات المنهج. وسأكتفي بأنموذج واحد، أظنّ أنه على قدْر كبير من الأهمية، وهو أننا ندعو إلى إسلام أخلاقي وقيمي تكون له الأولوية على الإسلام الفقهي، دون أن يعني ذلك ـ إطلاقاً ـ أيَّ تجاهُلٍ للفقه الإسلامي العريق. إنّ رسالة الدِّين هي رسالة القيم الأخلاقية والروح. ولم تكن النُّظم الفقهيّة سوى منظِّم للحياة الاجتماعية، تمهيداً لسيطرة القيم الأخلاقيّة. إنّ تضخُّم العقل الفقهي في المؤسّسة الدينية على حساب العقل الأخلاقي دفعنا إلى الاقتراب أكثر من الطقوس والشكليّات والابتعاد عن المضمون والروح والجوهر، فغابَ (فقه المقاصد) لصالح (فقه الحِيَلِ الشرعيّة)؛ لأنّ الفقه الشّكلاني كانت له الهيمنة على القيم الأخلاقية والروحيّة العليا.
إنجازات… وتشنُّجات…
س5: برأيكم كيف يمكن الإفادة من التغييرات والتطوّرات التي حصلت في حوزة قم؟ وما هو مَدَى انعكاسها وتأثيره على الوضع الديني الإسلامي في لبنان؟
حبّ الله: أعتقد أنّ هناك إنجازات كبرى حصلتْ في حوزة قم خلال العقدين الماضيين. فقد دخلتْ هذه الحوزة ـ وبشكل حقيقي ـ في إطار مؤسّسات أبحاث ومراكز دراسات. وشهدنا ظهور جيلٍ مستنير، أخذ يفكّر أكثر بهموم العصر ومشاكله وهذا ما سيترك تأثيراً، ليس على المستوى الديني في لبنان فحسب، وإنما على المستوى الشيعي في المنطقة ككلّ. إنّ تنامي الحسّ النقدي ليكون مقدّمة للإبداع، بات له وجود اليوم في بعض الأوساط الحوزويّة. ولكنّ المُقلق هو التَّشنُّجات السياسية التي بدأت تُهيْمن على كل شيءٍ في حياتنا. وفي مناخٍ متوتّر سياسياً وإنتمائياً يصعب إيجاد تنميةٍ فكرية وثقافية حقيقيّة. وكلمتي الأخيرة هي: إنّ أزمة الهويّة والخوف على الذات من الآخر (الغربي ـ السنّي ـ الشيعي ـ القومي…)، بدأت تُظْهِرُ لنا تياراً قوياً يدعو إلى مزيد من التقوقع والتّمترس حول الذات. وهنا يكون دور الجميع من سياسيين وعلماء دين وغيرهم في ضرورة إيجاد روح الطمأنينة لكي يتمّ تفتيت مبرّرات خلْق الخوف على الهويّة وتجفيف منابع التطرّف المذهبي والقومي.