أعدّ الحوار وأجراه: السيد محمّد عبد الرحيم الموسوي (الكويت)
اُدرج ضمن الرسالة الجامعيّة لمعدّ الحوار، في جامعة آل البيت العالميّة في إيران، لعام 2013م.
س1: ما هي أهميّة دراسة المناهج بشكل عام، والشرعيّة منها بشكل خاص؟
حبّ الله: دراسة المناهج من أهمّ أبواب المعرفة، فالمنهج هو الذي يقود حركة البحث العلمي، وهو الذي يتحكّم بالتنقّلات الذهنية والعقليّة للباحثين، وهو المسؤول عن خارطة العمل، وهو الذي يتولّى ضمان سلامة النتائج. إنّ المنهج تعبير آخر عن المنطق، فمنهج التفكير البشري العام هو الذي يتكفّله علم المنطق، فيما مناهج العلوم المختلفة تمثل منطق هذه العلوم، وكما لا يمكن السير الموضوعي السليم دون منهج يضيء الطريق ويضمن لنا الوصول إلى النتائج الأسلم والأصحّ، كذلك الحال في العلوم الدينية، حيث لابدّ لها من منهج تسير عليه كي تتمكّن من سوق الباحثين والدارسين في الاتجاه الصحيح ولو نسبيّاً.
هذا كلّه يعني أنّ دراسة المناهج سوف تساعد طلاب العلوم الدينية على فهم طبيعة العمل البحثي الذي سوف يقومون به في مراحل الدراسات العليا، كي يسيروا على بيّنةٍ من أمرهم وهدى من خطواتهم.
إنّ دراسة مناهج العلوم الدينية ومناهج المدارس الفكرية داخل هذه العلوم يساعد أيضاً على فهم النظريات التي خرج بها العلماء عبر التاريخ، فليس المهم فقط أن تعرف أفكار الآخرين وآراءهم، بل المهم أيضاً ـ لكي تستوعب نظريّاتهم وتتمكّن من خوض حوار علمي منتج معهم ـ أن تفهم طريقة تفكيرهم ومنهج البحث الذي أوصلهم إلى ما وصلوا إليه. إنّ فهم مناهج البحث عند المفكّرين والعلماء والمدارس الفكرية والعلوم المختلفة يساعد أيضاً على فهم هذه العلوم ويسهّل عمليّة دخول حوار منتج بين الأجيال العلميّة المختلفة. ففي كثير من الأحيان نحن ننتقد فكرةً ما بطريقة تُشعرنا بأنّ بطلان هذه الفكرة بديهيٌّ جداً، لكن ينبغي أن نسأل أنفسنا سؤالاً جوهريّاً: إنّ عباقرةً في التاريخ ـ وربما الحاضر أيضاً ـ ذهبوا إلى هذه الفكرة التي أراها الآن باطلة، ألم يكن لهم عقل يفكّرون به؟ هل أختلف أنا عنهم حقاً في الرؤية أمّ أنّ هناك منهجاً فكريّاً حكم نمط تفكيرهم حتى أراهم الأمور بطريقة عكسيّة تماماً؟ إنّ فهم هذا المنهج ضروريٌّ للغاية؛ كي نعبر إلى مرحلة اكتشاف مركز الخطأ الذي وقعوا فيه أو وقعنا نحن فيه.
إذن، دراسة المناهج ـ ومنها مناهج العلوم الشرعيّة ـ تفيد في:
أولاً:فهم هذه العلوم نفسها فهماً معمّقاً.
ثانياً:القدرة على الإدارة العلمية البحثية بشكل واعٍ ومدروس.
ثالثاً:القدرة على فهم الآخرين ومدارسهم وآرائهم بشكل أشمل وأعمق، يلامس البنيات التحتية لتفكيرهم.
رابعاً:القدرة على دخول حوار علمي منتج بين الفرقاء المتنازعين في الساحات الفكرية والعلميّة.
س2: هل تؤيّدون أن يُجعل للدارسين مناهج تبعاً لسنيّ العمر وعقوده، وتبعاً للنضوج الفكري؟
حبّ الله:من الطبيعي أن تتنوّع المناهج وتختلف الأساليب والطرق تبعاً للمستوى الذهني للطالب، سواء كان هذا المستوى الذهني نتيجة حاله العُمري أم نتيجة مستويات معرفته واطّلاعه على الموضوع الذي يدرسه والمادّة التي يقرؤها، لكن بالنسبة لطلاب العلوم الدينية في الحوازت والمعاهد، فإنّ مسألة العمر لا تظهر بوصفها حاجةً أساسيّة أو فارقاً جوهريّاً؛ لأنّنا لا نتحدّث عن عمر يقلّ عن الثمانية عشرة سنة، وهذا يعني أنّ أغلب طلاب العلوم الدينية في مرحلتَي: ما يسمّى بالمقدّمات والسطوح، تتراوح أعمارهم في العادّة ما بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين كحدّ أقصى، وإذا كان هناك وضع آخر فهو قليل نسبيّاً، ومن غير المنطقي أن نضع مناهج متعدّدة داخل المرحلة الواحدة تبعاً لسنيّ العمر؛ لأنّ هذا الأمر سوف يسبّب إرباكاً في الإدارة التعليميّة.
الشيء الذي يمكننا أن نهتمّ به أكثر هو المراحل الدراسيّة وليس المراحل العمريّة، فحالنا لا يشبه حال المدارس الابتدائيّة والمتوسّطة والثانوية، بل يشبه حال الجامعات العليا، من هنا فمن المنطقي أن تكون هناك مراحل متعدّدة للتعليم، تبدأ من المرحلة الأولى، التي يكوّن فيها الطالب ثقافة عامّة واسعة على امتداد أنواع العلوم ذات الصلة بالقضايا الدينية مثل الفقه والأصول والفلسفة والكلام والتاريخ واللغة بفروعها والمنطق والقرآنيات والتفسير وعلوم الحديث والرجال، إلى جانب جولة مفيدة وممتعة في العلوم الإنسانيّة التي لها صلة بالبحث الديني، لاسيما منها علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والنفس وفنون الإدارة والإعلام وغير ذلك. إنّ مرحلةً أوليّة لمدّةٍ تتراوح بين ثلاث سنوات إلى أربع سنوات سوف تمكّن الطالب من امتلاك اطّلاعٍ جيّد على مختلف العلوم الدينية أو ذات الصلة، وفي الوقت نفسه سوف تكون هذه المواد الدراسية غير معقّدة ولا معمّقة تحتاج لوقت طويل أو تُجهد الطالب بحيث تُعجزنا عن إعطائه قدراً كميّاً أكبر من المعلومات الموزّعة على العلوم المختلفة.
أمّا المرحلة الثانية، فهي مرحلة الدخول في مجال التخصّص، وهنا عندما يختار الطالب مجالاً تخصّصيّاً معيناً ـ كالعلوم العقلية من الفلسفة والكلام مثلاً ـ فمن الطبيعي أن نُخضعه لمراحل أعلى من البحث في هذه الأمور التي سبق في المرحلة الأولى أن اطّلع عليها بشكل سريع عبر كتاب مختصر ومفيد وكاف في الوقت عينه، ليست هناك حاجة لأن يدرس من يريد التخصّص في الفلسفة الإسلاميّة مباحثَ علم أصول الفقه بطريقة تخصّصية، وليس هناك حاجة لمن يريد التخصّص في علوم القرآن والحديث أن يكون على اطّلاع تخصّصي في علوم الكلام والفلسفة، نعم من الضروري أن يكون له اطّلاع وثقافة عامّة تمكّنه من مراجعة التراث الكلامي مثلاً عندما يحتاج إلى ذلك هنا أو هناك، لكن ليس من الضروري أن نتلف له وقته ونتعبه ونجهده في التخصّص في مجموعة العلوم الدينية معاً.
إنّ هذه المرحلة سوف تؤهّله للتخصّص العالي في المرحلة الثالثة التي يفترض به أن يكون قد وصل معها إلى البحث الخارج في المادّة التي يريد أن يتخصّص بها.
هذا النوع من التخصّصات والتعدّد المنهجي مفيد ومهم، وليس التعدّد على أساس العمر؛ فإنّ ذاك ينفع في المدارس وليس في الحوزات العلميّة.
س3: ما هي المعايير العلميّة لاتخاذ كتابٍ ما مقرّراً دراسيّاً؟
حبّ الله:المعايير كثيرة أبرزها:
1 ـقدرة الكتاب على تفكيك المفاهيم والمبادئ التصّورية، بحيث يكون متميّزاً في مجال تعريف المصطلحات، وشرح المقولات، وتفكيك التركيبات الخاصّة بهذا العلم.
2 ـقدرته على تحرير محلّ النزاع ومحل الاتفاق في المسألة التي تخضع للدرس.
3 ـقدرته على بيان شبكة علاقات الموضوع الذي يقرؤه مع سائر الموضوعات الأخرى في العلم نفسه وخارجه، ومن ثمّ تمييز المسائل عن بعضها، وبيان هرميّتها وأيّها المبنيّ على الآخر وأيّها المؤثر في الآخر والمتأثّر منه.
4 ـبيان التأثيرات العلميّة للموضوع وشبكة تطبيقاته، فإذا كان الموضوع له تطبيقات متنوّعة في مجالات مختلفة فمن الأهميّة شرح نماذج من هذه التطبيقات؛ ليتمكّن الطالب من التعرّف على توظيف المفاهيم التي يدرسها.
5 ـبيان الخطوات العمليّة للبحث، بمعنى أن يشرح للطالب ما هي الخطوات الني سنقوم بها لمعالجة الموضوع الفلاني، وبهذا يتعرّف الطالب على آليات العمل البحثي بشكل ميداني.
6 ـشرح موجز للمسار التاريخي للعلم وموضوعاته، فإنّ الرصد التاريخي يساعد بشكل كبير للغاية على فهم تراكم المكوّنات الأساسية للموضوع، بحيث نعرف كيف تحوّل هذا الموضوع الصغير إلى مسألة كبيرة متشعبّة؟ وما هي الزوايا التي انطلقت منها الدراسات؟
7 ـنقل نصوص حرفيّة من كتب العلماء في مراحل زمنيّة مختلفة، لكي يتعرّف الطالب على أساليب البيان في هذا العلم وفقاً للمراحل التاريخية المختلفة.
8 ـمواكبة آخر تطوّرات هذا العلم، فلا يصحّ أن ندرس في علم أصول الفقه مثلاً آخر أبحاث الآخوند الخراساني والشيخ الأنصاري، دون أن يتعرّف الطالب مع الكتاب الدراسي على آخر النظريّات التي جاءت بعدهما، مثل نظريّات المحقّق النائيني والعراقي والإصفهاني والخوئي والصدر وغيرهم.
9 ـمواكبة المشهد المقارن داخل وخارج الدائرة، بمعنى أن يعرّفنا الكتاب الفقهي مثلاً على المشهد الفقهي عند أهل السنّة، ويعرّفنا أيضاً على المشهد القانوني الوضعي ولو بإبجاز، وكذلك عندما ندرس كتاباً في الفلسفة فإنّ حُسن الكتاب أن يُطْلِعَنَا على الفلسفة بمدارسها، بما فيها المدراس الغربية، لا أن يختصّ بمدرسة واحدة فقط كالفلسفة الصدرائيّة مثلاً أو السينويّة.
10 ـحُسن البيان في الكتاب بحيث لا يرهق الطالب بتفكيك العبارات، بل يركّز الطالب معه على تفكيك المعاني والأفكار ويتصل مباشرةً بالمشهد الفكري نفسه.
س4: ما هو تقويمكم للمقولة التي تذهب إلى أنّ الكتب الحديثة تفتقر إلى قوّة المضمون ومتانة البيان العلمي المتمثلَين بنمط طرح الإشكالات وطريقة (إن قلتَ قلتُ)؟
حبّ الله:إنّ هذه الإشكاليّة فيها بعض جوانب الصحّة من وجهة نظري، ففي بعض الأحيان واجهنا مع الكتب الحديثة شيئاً من هذا القبيل، ورأينا أنّ الطالب الذي كرّس وقته لهذه الكتب فقط لم يخرج متعمّقاً في البحوث العلميّة المختصّة، وهناك من يقول بأنّ تجربة الأزهر في مصر عانت من هذا الوضع أيضاً، فبعد تحديث مناهج التربية والتعليم هناك منذ بدايات القرن العشرين تراجع المستوى العلمي بشكل عام.
هذا يعني أنّ من المطلوب تطوير الكتاب الجديد، لا التراجع عنه، فمشكلتنا أنّنا عندما نواجه مشكلة في مكان ما نرجع إلى الوراء، مع أنّ المطلوب هو أن نخرج من هذه المشكلة بالتوجّه والسير نحو الأمام. لو آمن الجميع بضرورة تطوير مناهج التعليم والكتاب التعليمي، لشُكّلت كلّ بضعة أعوام لجان خاصة لنقد الكتاب التعليمي؛ بغية تلافي الإشكاليات التي ظهرت خلال التجربة في السنوات هذه، وشيئاً فشيئاً سوف نتجّه نحو كتاب تعليمي أكثر إتقاناً ومتانة وأكثر تلافياً للمشاكل الحادثة. أمّا أن يقوم هذا العالم أو ذاك مثل الشيخ الإيرواني والشيخ الفضلي والشيخ المظفر والسيد الصدر وغيرهم بتقديم تجربة تطويرية للكتاب الدراسي، ثم يجلس البقيّة يتفرّجون على هؤلاء وينتقدون تجربتهم بغية إسقاطها والعودة نحو الوراء بدل ممارسة نقد تطويري استكمالي عبر تقديم كتب أكثر قوّة من كتب هؤلاء وتحوي تطويراً للمنهج في الوقت نفسه.. فإنّ هذا غير عادل وغير صحيح.
وبصرف النظر عن هذا الأمر، فهل الكتب السابقة لا تحوي مشاكل حتى إذا رأينا مشكلةً في الكتاب الجديد صببنا جام غضبنا عليه وطالبنا بحذفه؟! هل الكتب السابقة كتب معصومة؟! ألا يوجب بعضها تشويش أذهان الطلاب؟ ألا يوجب بعضها استغراق وقت الطالب بتفكيك العبارات وتأخير اجتهاده وبلوغه المراتب العلميّة لسنوات متعدّدة بإلهائه بمماحكات التعبير هنا وهناك؟ أليس في كثير من الكتب السابقة دراسة لموضوعات هجرت أو لم تعد ذات بلوى؟ إنّ الكتب السابقة اختبرت لعقود بل لقرون، أفلا يحقّ لهذه الكتب الجديدة اليوم أن تُعطى فرصتها في الاختبار؟ إنّ كثيراً من الطلاب الذين يعيشون مع الكتاب الدراسي القديم فقيرون للغاية في جوانب كثيرة من العلم، مهما بلغوا من رتبة الاجتهاد، فكثيرون لا يعرفون شيئاً عن تاريخ العلم، ويخطؤون في مصطلحاته، وتلتبس عليهم الأمور، ولا يواكبون آخر التطوّرات في هذا العلم.
لا أحد ينكر فضل الكتاب الدراسي القديم والجديد، لكن غاية ما في الأمر أنّنا بحاجة لمواصلة التطوير، فإنّ تطوير الكتاب الدراسي لا يعني استبدال الكفاية بكتاب آخر وانتهى الموضوع، بل هو استبدال الكتاب الآخر أيضاً بعد مدّة وهكذا، هذا هو معنى التطوير. إنّ التطوير مفهوم سيال متصرّم ولا يقع لمرّة واحدة، بل كلّ تجربة منه تلحقها تجربة أخرى وتنسخ بها التجربة الماضية.
س5: إحدى تجارب حقل تدوين المقرّرات الدراسيّة في الحوزات العلميّة هي تجربة العلامة عبد الهادي الفضلي، كيف تقوّمون هذه التجربة من نواحيها المتعدّدة، لاسيما البُعد المنهجي فيها؟ وهل ترون فيها سدّاً لحاجات معيّنة؟ وما هي نقاط قوّتها وضعفها؟
حبّ الله:إنّ مراجعة مصنّفات العلامة الفضلي الدراسيّة والتعليمية تعطينا مجموعة من نقاط القوّة وهي:
1 ـإنّ الكتاب وضع لكي يكون كتاباً دراسيّاً، بحيث كان الطالب نصب أعين المصنّف وهو يكتب كتابه، وهذا عنصر مهم في عملية تدوين الكتاب الدراسي.
2 ـالخبرة المتنوّعة للشيخ الفضلي في الكتاب الدراسي، فهو لم يضع كتاباً دراسيّاً واحداً في مادّة واحدة، بل حاول أن يتناول العلوم الإسلاميّة الأساسية في الدراسات الحوزوية والجامعيّة، الأمر الذي مكّنه من اكتساب خبرة موسوعيّة في مجال التدوين، إضافة إلى المراكمة الزمنيّة والطويلة في هذا المضمار.
3 ـمحاولة الشيخ الفضلي الاقتراب الكبير من المنهاج الحديث في التدوين الدراسي، والابتعاد عن المنهاج القديم، بحيث بدا لي أنّه من أكثر الشخصيات التي اشتغلت بتدوين الكتاب الدراسي الحوزوي ابتعاداً عن اللغة المعقّدة والحوزوية الخاصّة، واقتراباً من مناهج التعليم الحديثة.
4 ـالاهتمام بالرصد اللغوي، كون شيخنا الفضلي فقيهُ لغة ومتخصّص بالدرجة الأولى في جانب اللغة بفروعها المختلفة، وله نظريّاته الخاصّة في هذا المضمار، لهذا كثيراً ما نلاحظ الحضور اللغوي لجوانب أيّ موضوع يتناوله.
5 ـاستحضاره لآراء ونصوص شخصيّات مختلفة من الداخل الحوزوي وخارجه، فهو منفتحٌ على تناول وجهات نظر متعدّدة بحيث يتمكّن طالب العلم من التعرّف في الموضوع الواحد على آراء شخصيات من خارج الإطار وليس فقط من داخل الإطار، الأمر الذي يسمح بتوسيع أفق الطالب أكثر.
6 ـالاهتمام بتعريف الطالب بالجانب التاريخي للعلوم والنظريات، فهو يسلسل لنا في كثير من الأحيان تكوّن القضية وصيرورتها، وتنوعات وجهات النظر فيها من الناحية الزمنيّة.
7 ـمعقوليّة حجم الكتاب الدراسي الذي يضعه، فالكتب الدراسية التي يضعها ـ إذا أخذنا بعين الاعتبار مضمونها وأسلوبها السهل ـ فسوف نجد أنّ حجمها معقول، فنحن لا نضع الطالب أمام كتاب لو أراد إكماله فهو بحاجة لخمس أو ست سنوات لذلك كما في كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري، فكتب الشيخ الفضلي ـ بما فيها كتاباه الكبيران في الفقه والأصول ـ يمكن أن نتحدّث عن فترة تتراوح على أبعد تقدير بين سنة إلى سنتين لإنهاء الكتاب الواحد.
8 ـسهولة التعبير، بحيث يمكنني القول بأنّ كتب الشيخ الفضلي التعليميّة هي الكتب الوحيدة تقريباً في الكتب الحوزوية التي يمكن أن تؤسّس لنا لمرحلة تجاوز المتن، بمعنى أنّ الأستاذ والطالب لم يعودا بحاجة أبداً لقراءة متن الكتاب الدراسي بعد إعطاء الدرس وتفكيك عباراته وإرجاع ضمائره، وهو ما يوفّر الكثير من الوقت ومن الجهد والعناء على الطلاب والأساتذة معاً، فكتب السيد الشهيد الصدر والشيخ المظفر وحتى بعض المعاصرين ما زالت بحاجة لذلك، وإن كان الشيخ المظفّر أفضل حالاً في هذا الإطار.
9 ـوعي واهتمام علامتنا الفضلي بتوفير كتاب دراسي لعلوم مهجورة في الحوزات العلميّة بدرجة أو بأخرى، مثل العلوم الأدبية الحديثة، والعلوم القرآنية والقراءات، وعلوم الحديث وغير ذلك. فهناك الكثير من طلاب العلوم الدينية لا يخوضون مجال هذه العلوم؛ لأنهم لا يرون كتباً دراسيّة مناسبة لذلك.
10 ـحداثة لغة الشيخ الفضلي العربية، وبلاغتها الأدبيّة، وفصاحتها، فهي كتب عربيّة بامتياز، وهذا ما يعطيها عنصر قوّة في زمن قلّت فيه الكتب الحوزوية العربية الفصيحة، وصارت هناك عجمة في البيان. ولا أقصد بالعجمة الخطأ اللغوي نحويّاً أو صرفيّاً بالضرورة، بل البعد الصياغي من اللغة العربية، فإنّ الكتاب الدراسي في الحوزات ـ في قسم العلوم النقليّة على الأقل ـ كلّما كان كتاباً راقياً من الناحية اللغوية ساعد ذلك طلاب العلوم الدينية على لسان عربي فصيح وسلسل وانسيابي، ومكّنهم أكثر من فهم نصوص اللغة العربية التي يشتغلون عليها في حياتهم، ولعلّني لا أبالغ إذا قلت بأنّ كتب الشيخ الفضلي وكتب الشيخ محمد رضا المظفر تحظى بالدرجة الأولى وسط الكتب الحوزوية التعليمية من ناحية الجودة اللغوية والبيانية والأدبيّة، فتجمع بين أصالة اللغة وحداثة التطوّر البياني في الوقت عينه.
11 ـأخذه بعين الاعتبار حال الطلاب المبتدئين جدّاً في السنة الأولى، فأغلب الكتب التعليمية الحوزوية تراعي طلاب السنة الثالثة وما بعد، وتحاول أن تضع لهم مناهج للتدريس، مثل أصول المظفر أو معالم الدين أو الروضة أو المكاسب أو الكفاية أو الرسائل أو الألفيّة أو قطر الندى أو التلخيص وشروحه أو غير ذلك، في حين نجد الشيخ الفضلي يوفّر لنا كتباً لسنة تحضيرية ـ كما تطلق عليها الجامعات ـ أي للسنة الأولى التي تسمح للطالب في مدّة وجيزة أن يتعرّف على مجمل العلوم الإسلامية بطريقة بالغة التبسيط، دون الدخول في المصطلحات والنظريات والخلافات والتعقيدات أساساً، مثل كتابه في مبادئ علم أصول الفقه وكتابه في خلاصة المنطق وبعض كتبه الأخرى.
لكنّ هذا كلّه، لا يعني أنّ كتب الشيخ الفضلي لا تعاني من مشاكل إمّا في ذاتها أو في علاقتها بمن أريد لهذه الكتب أن يتبنّاها، ولي هنا بعض الملاحظات العابرة:
الملاحظة الأولى:لست أدري هل قام الشيخ الفضلي بالتواصل مع الجهات المعنيّة في الحوزات العلميّة لتكريس كتبه مرجعاً في الحقل التدريسي فيها؟ هل تواصل مع أساتذة ومدراء والهيئات العلميّة لجامعات النجف أو لحوزاتها؟ هل حصل ذلك مع جامعة المصطفى العالميّة في قم أو لإدارة الحوزة في القسم الفارسي؟ إنّ هذا التواصل كان مهمّاً لإقناع هؤلاء بتبنّي هذا الكتاب أو ذاك، فليس المهم أن أدوّن كتاباً دراسيّاً في الحوزات الدينية ثم ألقيه في الأسواق، بقدر ما المهم أن أنسّق وأعمل لتبنّيه بحيث تكون لي مؤسّساتي الخاصّة أو حوزاتي أو تنسيقي مع الآخرين، لكي يأخذ الكتاب طريقه للتدريس، وإلا فسوف يكون كتاباً مظلوماً لن ينعُم سوى بالنسيان والهجر.
ولعلّني أظنّ أنّ الشيخ الفضلي كان نظره بشكل رئيس إلى بعض الجامعات التي كانت تعتني بكتبه، لكنّني كنت أحبّذ لو فكّر بما أشرتُ إليه لربما كان الأمر أكثر نجاحاً، ولربما انتبه للأمر ولكن كانت دون ذلك عوائق.
الملاحظة الثانية:لست أدري ـ انطلاقاً من النقطة السابقة ـ هل كان الشيخ الفضلي يعرض كتبه على الحوزويّين؟ هل كان يعرضها على الأساتذة أو الهيئات العلميّة كي يبدوا ملاحظاتهم عليها؟ هل كانت هذه الكتب تخضع لاختبار لمدّة زمنية معيّنة لتحديد نجاحاتها من إخفاقاتها؟ كان هذا الأمر برأيي ضروريّاً جدّاً؛ لتطوير هذه الكتب وتلافي النواقص الموجودة فيها.
ليس هذا فحسب، بل أهميّة ما أقوله تكمن في أنّ الذين نضع لهم الكتاب ليسوا مبتدئين بل هم حوزات علميّة عريقة، فمن الطبيعي ان يكتشفوا بعض الخلل في المضمون أو في الأسلوب أو في الترتيب، وليس هذا فقط بل من الطبيعي أن يقولوا بأنّ منهج الشيخ الفضلي لا يناسبنا، وأنّنا ـ لكي نتبنّى هذا الكتاب أو ذاك ـ نحتاج إلى بعض التعديلات. ولا أجد من السيّء أن يُستجاب لهم لو كانت هذه التعديلات طفيفة أو ليست أساسيّة للغاية، وذلك في مقابل أن ينفذ الكتاب إلى الداخل الحوزوي فيلقى رواجاً فتتهيّأ المؤسّسة الدينية بعد مدّة لتلقّي النسخة الأحدث من الكتاب، كان هذا الأمر مهمّاً جدّاً.
الملاحظة الثالثة:نواجه أحياناً مع كتب الشيخ الفضلي اضطراباً وتشويشاً يصيب الطالب، فيغرقه في كثير من الأحيان بجذر هذه الكلمة أو تلك لغويّاً، مستعرضاً نصوص اللغويين بكثرة، وتجده أحياناً يستطرد ببعض القضايا الجانبيّة، إنّ الحوزات العلميّة لا تتفاعل إطلاقاً مع هذا الأسلوب، فلو ركّز الشيخ الفضلي النصّ التعليمي وجعله مختصراً بلا تعقيد أو إخلال، وواضحاً دون بسط وإطالة واستطراد لكان أفضل. كذلك الحال أحياناً في فهرس الكتب حيث نجد بعض الاضطراب، وكان بالإمكان في بعض الكتب أن يوضع تصميمها وفهرسها بطريقة أخرى أو أكثر تنظيماً وهرميّةً بحيث تكون أسهل على الطالب والأستاذ معاً، ولولا خوف الوقت وضيق المجال هنا لشرحت بعض النماذج.
الملاحظة الرابعة:نحن نشهد اليوم اتجاهاً نحو التخصّص في العلوم الإسلاميّة، وهذا الاتجاه بدأ يتحوّل في بعض المستويات إلى تخصّص في الفروع العلميّة للعلم الواحد، وهذا يعني أنّ الكتاب الدراسي يجب أن يواكب هذا الأمر، ولعلّ هذا الإشكال لا يرد على الشيخ الفضلي بقدر ما يرد على الوضع العام، ولكن لا بأس بالحديث عنه، ولو من باب أنّ الكلام يجرّ الكلام. إنّ الكتاب الدراسي الحوزوي وكتب الشيخ الفضلي تهتمّ بشكل أساسي بالعلوم الإسلاميّة، أي هناك كتاب للفقه وآخر للأصول وثالث للحديث ورابع للرجال وخامس للغة وسادس للمنطق وسابع للفلسفة وثامن لعلم الكلام وهكذا، لكنّنا لا نجد كتاباً دراسيّاً للمراحل العليا التي تريد التخصّص في فرعٍ من فروع الفقه أو الفلسفة أو نحوهما من العلوم التي صارت لها فروعها، مثلاً في الفقه اليوم هناك فقه سياسي، وفقه اقتصادي، وفقه قضائي، فنحن لم نضع لطلاب المراحل العليا الذين يريدون أن يتخصّصوا في الفقه الاقتصادي كتاباً دراسياً مدخليّاً لهذا التخصّص، وما زلت أذكر أنّ الحوزة العلميّة في مدينة قم عندما فتحت مجال التخصّصات، فتحت مجالاً للفقه السياسي، لكن بعد أن فتحوا مجال هذا التخصّص واجهوا مشكلة في عدم وجود كتاب يساعد الطالب على الدخول في هذه المرحلة، فأخذوا يتلمّسون كتاباً هنا أو هناك لم يوضع للتدريس، مثل كتاب الشيخ عباس علي عميد الزنجاني رحمه الله، ولو كان المدوِّن منتبهاً لهذا الأمر، لكان وضع داخل علم الفقه مثل هذه الكتب، تماماً كما وضع الشيخ الفضلي كتاب القراءات في علوم القرآن الكريم؛ إنّ علم الفقه اليوم لم يعد علماً واحداً، بل واقعه يحكي عن علم باختصاصات علميّة متعدّدة، فتجد فقيهاً متضلّعاً في العباديات لكنّه ضعيف جدّاً في الاقتصاد الإسلامي وهكذا، لا سيما لو أخذنا بعين الاعتبار مشاريع مثل فقه النظريات والنظم التي تحدّث عنها السيد محمّد باقر الصدر.
س6: ما هي مقترحاتكم لإدخال مقرّرات العلامة الفضلي الدراسيّة في مجال التطبيق والعمل؟
حبّ الله:إنّني أقترح ـ بالنسبة لبعض كتب الشيخ الفضلي على الأقلّ ـ القيام بالخطوات التالية:
أوّلاً:عرضها بشكل جادّ على الحوزات الكبرى في العالم الإسلامي، مثل حوزتي قم والنجف، بهدف تبنّيها ولو ككتاب مساعد، والتواصل في هذا الإطار بشكل عملي وفاعل مع الحوزات التي تسعى لتبنّي خيار التطوير، ولا سيما مثل جامعة المصطفى العالميّة في إيران.
ثانياً:السعي لتبنّيها من قبل أنصار تطوير المناهج في الحوزات الوسطى والصغرى، مثل لبنان وسوريا والبحرين والمملكة العربية السعودية وبعض دول أفريقيا.
ثالثاً:إذا لم يتمّ قبولها كما هي، فإنّني أقترح إجراء تعديلات عليها تبقيها كما هي من حيث الروح، ولكن في الوقت نفسه ترفع منها بعض أساليب البيان التي ما زال الحوزوي لا يستأنس بها.
رابعاً:الدعاية الإعلامية لهذه الكتب وترويجها بين أيدي الطلاب في الحوزات العلميّة، بنشرها وطباعتها في إيران والعراق مثلاً، والقيام بتوزيعها على أعداد كبيرة من الحوزات العلميّة.
خامساً:ترجمة هذه الكتب إلى لغتين مهمّتين ونشرها في أوساط أبناء هاتين اللغتين، عنيت: اللغة الفارسية ولغة الأردو، وتقديمها بين يدي الحوزات الناطقة بهاتين اللغتين، مع توضيح المترجم للنص، بحيث يرفع عنه إبهام اللغة العربية الحديثة بالنسبة لغير العربي.
سادساً:إذا لم يمكن تبنّي هذه الكتب كتباً دراسية، فيمكن السعي لتبنّيها كتباً مساعدة بحيث يتعوّد الطلاب عليها، وتلزم الحوزة بمراجعتها مثلاً أو اختصارها أو نحو ذلك.
سابعاً:قيام أساتذة الحوزات المؤمنين بخطّ تغيير المناهج بتعريف طلابهم دوماً بمثل هذه الشخصيّات وبهذه الكتب، وإقامة مؤتمرات وملتقيات وندوات حول هذا الأمر في الحوزات العليمّة الأم، تكون تحظى بتغطية إعلاميّة جيّدة مثل قم والنجف.
ثامناً:إذا كانت بعض المصطلحات لا يفهمها بعض الطلاب واستخدمها الشيخ الفضلي بحكم لغته الحديثة، فإنّ من المناسب طباعة كتبه مع تعليقة توضيحية في الأسفل تسعى لتلافي بعض المشاكل الموجودة في الكتاب، سواء كانت من هذا النوع أو غيره.