لو تقدّمون لنا عرضاً لحياتكم العلمية ـ والدراسية في بلدكم وفي إيران.
أكملت دراستي العصرية في مدينة صور، ثم درست في حوزتها العلمية «المدرسة الدينية» المقدّمات والسطوح، حضرت فترةً وجيزة عند المغفور له آية الله الشيخ محمد تقي الفقيه، وعند آية الله الشيخ مفيد الفقيه في مباحث الفقه، وفي عام 1995م، سافرت إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحضرت أبحاث الخارج في الفقه والأصول لخمس سنوات متواصلة عند آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، وحضرت بعدها في الأصول عند آية الله الشيخ الوحيد الخراساني، كما حضرت في الفقه عند آية الله عبدالله جوادي آملي، وحضرت عنده درس التفسير أيضاً، كما حضرت عند آية الله الشيخ حسين النجاتي، وحضرت في الفقه والرجال والقواعد الفقهية عند آية الله الشيخ باقر الإيرواني.
في حدود عام 1998م، انتسبت إلى دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت ، والتي يُشرف عليها آية الله الشاهرودي، وعملت في الموسوعة لمدّة أربع سنوات تقريباً، ثم شغرت منذ عام 2002م منصب رئيس تحرير مجلّة المنهاج الصادرة في بيروت، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت ، وعضو هيئة تحرير مجلّة ميقات الحج، وعضو هيئة تحرير مجلّة أصداء، وفي عام 2004م، شغرت منصب رئيس تحرير مجلّة «نصوص معاصرة» الخاصّة بترجمة النتاج الثقافي الإيراني، والتي يُشرف عليها الشيخ عبدالهادي الفضلي، كما أسّستُ عام 2006م مجلّة تُعنى بقضايا الفقه والاجتهاد المعاصر، واسمها مجلّة «الاجتهاد والتجديد»، تصدر في بيروت، إلى غير ذلك…
لو تضعونا في أجواء نتاجاتكم العلمية المطبوعة والمنشورة؟
المؤلّفات: 1 ــ نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة. 2 ــ التعددية الدينية. 3 ــ علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجية. 4 ــ بحوث في الفقه الزراعي (تقريرات أبحاث الأستاذ آية الله الهاشمي الشاهرودي)، وكذلك مجموعة كبيرة من المقالات تـزيد على الستين مقالة.
أما الترجمات من الفارسية إلى العربية فهي:
1 ــ الأسس النظرية للتجربة الدينية للدكتور علي شيرواني. 2 ــ ابن إدريس الحلي، رائد مدرسة النقد في الفقه الإسلامي للشيخ بناري. 3 ــ بين الطريق المستقيم والطرق المستقيمة (مجموعة دراسات للدكتور عبدالكريم سروش والشيخ محمد تقي مصباح يزدي والشيخ علي رضا قائمي نيا). 4 ــ المجتمع الديني والمدني للشيخ أحمد واعظي. 5 ــ الدولة الدينية للشيخ أحمد واعظي. 6 ــ الفكر السياسي لمسكويه الرازي.
وأكثر من ستين مقالة أيضاً.
لو تشرحون لنا الحركة الفلسفية في العالم العربي منذ صدر الإسلام وإلى اليوم، وأسباب نجاحها وإخفاقها
لا يمكن اختصار المشهد الفلسفي في العالم العربي طيلة هذه المدّة بجملتين قصيرتين، لكنني أركّز على مفاصل:
أولاً: شهد العالم العربي ــ كما في غيره ــ صراعاً مريراً بين التيارات النصية والتيارات الفلسفية، وكعادة عالمنا الإسلامي ــ غالباً ــ تظلّ التيارات النصية (ولا أعني السلفية) مهيمنةً على مفاصل الحياة الاجتماعية، لهذا كان الفلاسفة في موقع الفريق المقموع والمحارب بتهمة الخروج عن الدين أو إضلال المسلمين، لكن ذلك كلّه، كان عاديّاً إلى حدّ ما إلى عصر الغزالي (505هـ)، إذ دخلت مواجهة الفكر الفلسفي مرحلة متطوّرة، لم يتمكّن حتى ابن رشد من الحدّ منها.
ثانياً: كانت آخر الخطوات الهامّة في إيجاد الوفاق بين العقل والنص مع ابن رشد الفيلسوف، كانت خطوة ابن رشد محاولةً لإعادة ترتيب نظام المصادر المعرفية، وتطويراً لنظرية التأويل المعتـزلية، لكن دوره تركّز ــ من جهةٍ أخرى ــ على نشر فكر أرسطو و.. الأمر الذي تمّ توظيفه على الجهة الأوروبية؛ حيث عرّف أوروبا أكثر فأكثر بأفكار الفلسفة، من هنا، غلب عليه طابع الشرح، مما جعل بعض الباحثين يرى فيه شارحاً أكثر منه فيلسوفاً.
ثالثاً: مند أوائل القرن التاسع عشر الميلادي شهد العالم العربي حركةً عقليّة جديدة، أفرزتها المواجهة مع الغرب، لكن الحركة الفلسفية هذه لم تقتصر على الفلسفة الوجودية، بل شملت أجزاء أخرى من حياة الإنسان.
ماهي أساب اهتمام الجيل العربي الجديد بعلم الفلسفة؟
في كلّ فترة نهضةٍ من تاريخ الحضارات والشعوب يظهر التفكير الفلسفي عادةً؛ لأن التفكير الفلسفي يسعى لإعادة رسم منظومات المفاهيم بطريقة جديدة بغية إجراء تعديلات جوهرية في الفكر تسمح له بالنهوض، فلنلاحظ التاريخ الأوروبي كيف أنّ الغرب ــ رغم التطوّر الصناعي الذي شهده ــ لم يحصل على تطوّر حياة وعيش إلاّ بعد دخول التفكير الفلسفي مرحلة النقد والبناء عنده.
من هنا، أعتقد بأنّ النـزوع ناحية التفكير الفلسفي في الوسط العربي يرجع إلى الحاجة لإعادة رسم تصوّر شامل عن الوجود والحياة، بإمكانه إحداث قفزات نوعية، لمواجهة المرحلة الجديدة، إضافةً إلى كون اللغة الفلسفية أكثر اللغات ــ تقريباً ــ توفيراً للتواصل العقلي بين الأديان والحضارات المختلفة، مما يجعلها أقدر على التعامل مع الحضارة الغربية الوافدة.
ما معنى مقولة ((العقل العربي)) المتداولة اليوم في الأدبيات المعاصرة؟
يُقصد بمقولة «العقل العربي» ذلك البناء أو المنظومة الفكرية التي أفرزتها جهود متضافرة من العلماء والمفكرين و.. بانتماءاتهم الفكرية المختلفة، أي أنّ العقل هنا لا يراد منه ما يقابل النص، ولا يراد منه الفلسفة، أو الدراسات العقلية الأنطولوجية، بل يُقصد به مجموعة النتاج العربي العام الذي صنع الوعيَ العربي ونمط التفكير العربي وآليات التعاطي العربي مع الأمور كلّها.
ولكي أوضح الفكرة أكثر أحلّل دوافع ظهور هذا الموضوع في الدراسات العربية المتأخرة عند كتّاب عديدين كالدكتور محمد عابد الجابري، إذ ظهر شعور عقب هزيمة 1967م مع إسرائيل بأنّ هناك نقطة ضعف ما، وأنّ هناك خللاً ما كامناً في الوضع العربي، وقد أدّت نكسة 67م إلى ظهور تيارات فكرية كثيرة في العالم العربي تركت بصماتها على مجمل الحياة العربية، وكانت لها تفسيرات متباينة لما حصل في الوطن العربي، كان هناك من يقول: إنّ السبب هو ضعف الإمكانات، أو ضعف الصناعة، أو ضعف الإدارة السياسية، أو ضعف التطوّر التقني، أو.. وفي فترة الثمانينات ظهرت ــ بشكل مضاعف ــ فكرة «العقل العربي» باعتباره نقطة الضعف الأساسية في المجتمع العربي، بمعنى أنّ لدى العرب إمكانات مادية وبشرية ولديهم الكثير الكثير، كما أنّ هناك نقاط ضعف عديدة عندهم، ومحصّلة ذلك أن ما يتراءى لنا من نقاط ضعف ليس سوى مظاهر للمشكلة الأم التي يعاني منها العربي، فأزمة الحكم ليس مشكلةً منفصلة عن أزمة الحياة الأسرية، إنما المشكلة في هذا الركام المعرفي الهائل الذي كوّن عقلاً جمعياً يفكّر بطريقة معينة، ويعالج الأمور بطريقة خاصة، وهذا البناء الفكري العام هو ما نسمّيه «العقل العربي»، فهو عقل جمعي وليس عقلاً أحادياً لفلان أو فلان، ودراسة هذه المقولة ليست دراسة وجودية أنطولوجية، فنحن لا ندرس هذا العقل من زاوية كونه مادياً أو مجرداً أو على مستوى علاقته بالعقل الفعّال، إنما ندرسه دراسة إيبستمولوجية معرفية لتفكيك بنيات التفكير عنده، والتي تظهر قوّتها وضعفها في الحياة السياسية والإدارية والاجتماعية و..
أعتقد أن ظهور هذه المقولة في الدراسات العربية المتأخرة كان هاماً جاداً؛ لأنه أعاد دراسة كل المراكمات التاريخية وفتح الباب على مصراعيه لنقد الموروث باعتباره بناءً تحتياً للوعي العربي المعاصر، لهذا وجدنا دراسات عن ابن رشد، والغزالي، والشافعي و.. وهو ما أثار حفيظة تيارات تراثية عديدة في الوسط السنّي بالخصوص، وأحدث بدوره جولةً من السجال الفكري الحادّ، كان من نتائجه الأحداث التي وقعت مع نصر حامد أبو زيد وغيرها.
كيف تسود الدراسات الكلامية الجديدة في العالم العربي؟ ومن هي الشخصيات الأبرز على هذا الصعيد؟
ربما يكون استخدام مصطلح «الكلام الجديد» في الوسط العربي غير مألوف كما هي الحال في الحياة الثقافية الإيرانية، إذ يقلّ تداول هذا المفهوم، وحتى من جانب الدكتور حسن حنفي الذي تعدّ محاولته الشهيرة في كتابه «من العقيدة إلى الثورة» والتي أخذت طابع إعادة بَنْيَنَة علم الكلام وفق أسس جديدة بحسب رأيه.. حتى حنفي لم يستخدم هذا المصطلح إلاّ نادراً، وفقط في النتاجات العربية المترجمة عن الفارسية، أو في الأجواء العربية الشيعية وما قاربها شاهدنا حضوراً لهذا المصطلح؛ من هنا، لا يصحّ فهم هذا المصطلح في الوسط العربي، كما هي حالته إيرانياً.
لكن مع ذلك، هناك حضور واضح للحركة النقدية الكلامية في الوسط العربي، فمنذ محمد عبده (1905م) في رسالة «التوحيد» التي نحى فيها ـ وفي غيرها ـ ناحية التفكير المعتـزلي، سيما في قضية القضاء والقدر التي تتصل بمقولات النهضة والعمل.. شهد العالم العربي دراسات مركّزة في هذا الصدد، مما أدّى إلى ظهور ما عُرف بعد ذلك بالمعتـزليين الجدد، أولئك الذين أعطوا العقل في تفسير الدين دوراً أكبر، واستخدموا ــ ضمن طرائق جديدة ــ آليات التأويل حتى ظهرت لديهم مدارس في هذا الصدد.
أما عن جدّية هذا العمل، فأعتقد أننا إذا قصدنا بالجدية الأعمال المركّزة فأظنّ أن الباحثين العرب قاموا بتناول موضوعات حساسة في هذا المجال، فقراءة النـزعات الصوفية والفلسفية والعرفانية كانت مهمة، لكن على طريقتهم الخاصّة، وأعتقد أنه بدرجة أو بأخرى كانت لمحمد عبده ورشيد رضا وسيّد قطب ونصر حامد أبو زيد والجابري وحنفي وأركون.. مساهمات تستحقّ الدراسة في هذا المجال.
ما هي النتائج العلمية الملموسة لهذه الموضوعات في المحافل العلمية العربية؟ ما هي مواقف المؤيدين والمعارضين؟
لم تدخل مقولات علم الكلام الجديد الوسط العربي كما دخلت الوسط الإيراني، فقد تناولها الباحثون الإيرانيون بنوعٍ من الدرس الفلسفي المركّز، فيما صارت في الوسط العربي قيمها ونتائجها من أساسيات الفكر عموماً، فمثلاً قد لا تجد صراعاً في العالم العربي حول نظريات مثل القبض والبسط، التعددية الدينية بمعناها الفلسفي، تعدّد القراءات، إنما تجد من تبنّاها بوصفها ظواهر مفروغاً عنها في طرائق التفكير، على خلاف الجوّ الإيراني الذي عمل كثيراً على دراستها والوقوف عندها.
طبعاً، لا أقول: لا يوجد خلاف في هذه القضايا بين التيارات وطرائقها الفكرية عربياً، إنما أقول: لا يوجد جهد فكري مركّز عليها كما هي الحال في إيران، فالعرب في القضايا المعرفية بحثوا في القرآنيات، وفي النقاشات التي أثيرت حول القرآن، وبحثوا في السنّة النبوية وما أثير حولها، تناولوا أيضاً الإجماع، وعدالة الصحابة، وفتحوا ملفات لتغيير القراءة الفقهية مثل مقاصد الشريعة مع علال الفاسي والطاهر بن عاشور، وقضايا المصلحة و.. وركزوا جهداً غير عادي على دراسة نظرية اللغة عموماً، حيث طبقها بعضهم على القرآن، كما فعل نصر أبو زيد، وكان لديهم اهتمام انثروبولوجي و.. كما حصل مع محمد أركون، أو حتى توظيفات علمية رياضية ونحوها في بناء تصوّرات حول تفسير النص الديني مثل الدكتور محمد شحرور، وكذا دراسات تتصل بالجانب الأسطوري ـ كما يسمّونه ـ في الدين، وعلاقة الدين بالأسطورة، كما حصل مع سيد محمود القمني و..
من هنا نجد أن أبرز من تناول قضايا علم الكلام عاد وانشغل أخيراً بإعادة هيكلة علم أصول الفقه مثل حسن حنفي.
نعم، فترة الخمسينات إلى الثمانينات، كانت الاهتمامات مختلفة فيها عن الفترة الأخيرة؛ بسبب وجود التيارات الماركسية وسجالاتها الفلسفية، وكانت الأبحاث الفلسفية لكانط وماركس وإنجلز وفلاسفة آخرين محلّ تداول الباحث العربي أكثر من الفترة اللاحقة، فكانت مسألة الأيديولوجيا بما لها من تفاصيل حاضرةً في البحث الفلسفي العربي، لما للماركسية من علاقة بهذا الأمر.
ولابدّ أن نشير هنا إلى مسألة ضرورية، وهي أنّ التيار غير الإسلامي ــ بالمعنى المتداول اليوم للكلمة ــ كانت له اهتمامات ملحوظة بالدراسات الدينية مثل علي حرب، وعبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وعبدالمجيد الشرفي و.. ولعلّ هذا ساعد على نموّ وتطوّر الدراسات النقدية، خصوصاً وأن مختصّين بدراسات اللغة العربية والأدب والشعر والألسنيات كان لهم حضور مميز، ومسألة اللغة أساسية، فالدراسات العربية المعاصرة حول الدين تهتمّ بجانب كبير منها بالجانب اللغوي لتحليل النصّ الديني وتفكيك أساس بنيته وتركيبته.
طبعاً في المقابل، هناك فريق رفض كلّ أو أكثر هذه القراءات للفكر الديني، وكتب ردوداً عليها، وقد كانت بعض فتاوى أو أحكام الارتداد والكفر وتطرّف بعض الآراء على الخط الآخر موجبةً لانقسامات حادّة في التفكير، عزّزت كثيراً من تباين وجهات النظر.
ما هو رأيكم في نقاط قوّة أو ضعف هذه المواقف؟ وما هي الانحرافات التي حصلت على هذا الصعيد؟
من نقاط القوة:
أ ــ بُعدها عن القضايا التجريدية يمنحها طابعاً عملانياً يركّز حاجات الأمة في حساباته، لهذا كان التركيز على مصادر الاجتهاد الديني، وقضايا الشريعة وما يتصل بها أكثر من الفلسفة والعرفان، وكان تركيزٌ ملحوظ على الإنسانيات وقضايا المرأة والحرية وغيرها؛ مثلاً لاحظوا حسن حنفي عندما كتب في علم الكلام، سيما مقدّمة كتابه «من العقيدة إلى الثورة»، كيف كان اهتمامه بتحويل هذا العلم إلى علم منتج في الحياة العملية، لحلّ المشكلات المعاصرة التي يعاني منها الإنسان العربي اليوم، على مستوى السياسة والأمن والاقتصاد، وهذا مثال بارز على طريقة تناول العديد من الباحثين العرب بعض الموضوعات النظرية التجريدية.
ب ــ الاهتمام البالغ بدراسات تاريخ الفكر، عنصر إيجابي لإعادة تكوين رؤية حول الموروث برمّته.
ج ــ الاهتمام بآخر منجزات الدرس اللغوي والهرمنوطيقي بمختلف ميادينه القديمة والجديدة، وهذه نقطة امتياز أعتقد أنّها بالغة الأهمية.
د ــ متابعة نشطة لمنجزات الحركة الاستشراقية ومشاريعها النقدية أيضاً، وهذا ما ساعد على تكوين رؤية أكثر انفتاحاً على موضوعات هامة وأساسية.
وفي سياق متابعة منجز الآخر، نلاحظ بداية اهتمام جيد بالدراسات الإيرانية في الساحة العربية، شيعياً بالدرجة الأولى وهذا واضح، وسنياً بالدرجة الثانية، لهذا نجد قدراً من المتابعة في المغرب ولبنان وبعض بلدان الخليج بالفكر الإيراني، ولهذا وجدنا حركة ترجمة جيدة، أعتقد أنّه لم تشهد الساحة الإيرانية نموذجاً لها، لهذا أدعو الأخوة في الجمهورية الإسلامية إلى الاهتمام الجادّ بهذا الموضوع لترجمة النتاج العربي بأطيافه المتنوّعة، إثراءً للمشهد الثقافي الإيراني نفسه.
أمّا بعض نقاط الضعف:
أ ــ حصول حالة من الاقتباس المفاهيمي من الغرب بما يؤدي إلى بناء بعض المنظومات المعرفية بطريقة تستعير المفاهيم بشكل غير سليم، وهذه من الملاحظات التي سجّلها غير ناقد، مثل الدكتور جورج طرابيشي على محمد عابد الجابري في مشروعه في نقد العقل العربي.
ب ــ عدم وجود دراسات فلسفية وكلامية أكثر جذريةً لمقولات بدأت تسود الثقافة العربية دون وجود تأسيس فلسفي لها على صعيد التيار الإسلامي.
ج ــ الإفراط في الحالة النقدية للتراث، وهذا ما يقدّم قراءات غير واقعية عنه، ومن أسباب هذا الإفراط أحياناً حالة التجاذب السياسي ــ الاجتماعي الموجود بين التيارات في العالم العربي، فقد ساعدت هذه الحالة وغذّت نـزوع الفريق النقدي لنقد الموروث بوصف ذلك مقدّمةً لزعزعة شرعية الفريق الآخر.
ويجب أن ندرس جيداً المناخ الاجتماعي ــ السياسي في العالم العربي (السنّي)، فحركة النقد الفكري تعرّضت لموجات من الاغتيالات والأحكام القضائية خلال حوالي الثلاثة عقود الماضية، وهذا ما فاقم من حجم المشكلات أكثر فأكثر، إضافة إلى القمع المروّع الذي مارسته بعض الدول العربية ضدّ الحركات الإسلامية واليسارية، الأمر الذي ترك أثره على طبيعة السجالات الفكرية أيضاً، مما جعل مسألة السلطة من أبرز قضايا الفكر العربي المعاصر، كما نجد ذلك بارزاً مع مفكّرين مثل برهان غليون ورضوان السيد وغيرهما.
ما هي عناصر اختلاف المشهد الفكري الفلسفي في إيران والعالم العربي؟
في الفترة المتأخرة، ثمة نقاط امتياز بين المشهد العربي والإيراني:
أولاً: منذ مدّة طويلة انشغل الباحثون العرب بشكل مضاعف بالدراسات ذات الطابع المعرفي الإيبستمولوجي، فركّزوا نظرهم على مصادر المعرفة الدينية وإعادة دراستها معيارياً لرصد قيمتها المعرفية، وهذا ما بلغ أوجه في تناول قضية «العقل العربي» التي شغلت الباحثين العرب أكثر من عقد من الزمان، أما في الساحة الإيرانية فظلّت الفلسفة الأنطولوجية حاضرة حتى اليوم، فيما بات الفكر العربي لا يتناولها سوى للعبور منها إلى تحليلٍ معرفي ما.
وفي التسعينات من القرن العشرين شهدت الساحة الإيرانية حضوراً أكبر للدرس المعرفي مع نتاجات الدكتور عبدالكريم سروش ومنتقديه، وبتنا اليوم نرى وجوداً مميزاً لهذا النوع من الدراسات.
ثانياً: تخيّم على الدراسات الكلامية الجديدة في إيران ــ في الغالب ــ طرائق البحث المنطقي الفلسفي العقلي، وهذا أمرٌ لم يعد له وجود يُذكر في العالم العربي، أي أن الدارسين العرب لم يعد تناولهم للقضايا رائجاً بهذه الطريقة، بل يميلون إلى ستخدام المنهج النقدي التاريخي، أو المنهج العملاني البراغماتي في دراسة القضايا.
ثالثاً: استتباعاً لما تقدّم؛ لم يهتمّ الباحثون العرب كثيراً جداً بمنجزات الغرب الدينية ذات الطابع الوجودي أو العرفاني، على العكس من الباحثين الإيرانيين حيث عنت لهم التجربة الدينية الروحية في الغرب كثيراً فاهتموا بأفكار والتر استيس ورودلف أتو وبلانتينجا وجون هيغ و..، وبعبارة أخرى كان المختصّون الدينيون في الغرب أصحاب حضور أكبر في الثقافة الإيرانية المعاصرة على حساب المستشرقين الناقدين للفكر الديني أو الإسلامي، على خلاف الحال في العالم العربي حيث جرى التركيز على المستشرقين أكثر من الفريق الآخر، ويلعب النـزوع الكبير ناحية العرفان والتصوّف في الثقافة والأدب الإيرانيين دوراً في هذا الأمر، فيما الأمر أقلّ من ذلك في الحياة العربية.
كيف تعاطت المؤسّسة الدينية السنيّة مع مباحث علم الكلام الجديد، مثل تعدّد القراءات، والتعددية الدينية و..؟
هناك أكثر من فريق في الوسط السنّي كانت له مواقف مختلفة:
الفريق الأوّل: الفريق الرافض رفضاً تاماً لكلّ هذه الملفات العلمية الجديدة، ويتمثل هذا الفريق بالتيار السلفي الذي تغذيه بعض الحركات الدينية في بعض بلدان الخليج، فهذا الفريق يرى في بعض هذه الأفكار كفراً وضلالاً، لهذا فهو يحرّمها، ويحظر ــ مهما استطاع ــ التداول بها، وقد قيل: إن لهذا الفريق ــ ببعض الإمكانات التي يملكها ــ دوراً في الأحكام التي أصدرها القضاء في بعض الدول العربية مثل مصر، وأنّه استطاع اختراق المؤسّسة الدينية في أكثر من موقع سنّي.
الفريق الثاني: وهو الفريق الذي يحمل نـزعةً اعتـزالية مخفّفة أو معتدلة، مثل الدكتور محمد عمارة في مصر، فهذا الفريق كان جزءاً من المشروع النهضوي النقدي والإحيائي في العقود السابقة، حيث عمل على الترويج لأفكار الإصلاحيين الدينيين مثل محمد عبده، ورشيد رضا، ومحمود شلتوت، وعبدالرحمن الكواكبي… إلاّ أنه شعر أنّه حصلت حالة إفراط في الدراسات المتأخرة؛ إذ ينظر الكثيرون في العالم العربي إلى بعض رموز الحركة النقدية الجديدة للفكر الديني بوصفهم ماركسيين أو اشتراكيين سابقين اندمجوا في التفكير الديني على طريقتهم بعد وفاة الحركات اليسارية الكلاسيكية في العالم العربي، ولهذا يميّزون بين حركة النقد الإسلامي وحركة النقد التي جاءت على يد هذا الفريق، وربما ساعدت أيضاً على خط آخر علاقة بعض رموز التيار النقدي الجديد بالسلطة مثل عبدالله العروي في المزيد من الحذر منه.
الفريق الثالث: وهو الفريق الذي اتخذ منطلقات قومية لا دينية، مثل جورج طرابيشي، حيث كان يرى في نقده لمشروع الجابري أنّ الجابري لم ينصف العقل العربي، ولهذا عدّ نقد طرابيشي من أقوى الردود التي أثارت ضجةً في العالم العربي، رغم أنه مسيحي الديانة، من هنا كان يرى بعضهم في بعض أوجه الحركة النقدية محاولة لتخطي المشروع القومي العربي، وبالتحديد مشروع جمال عبدالناصر.
الفريق الرابع: الفريق الذي كان يملك ميولاً دينية ذات طابع صوفي ــ عقلاني، مثل الدكتور طه عبدالرحمن، وكانت بعض ردود هذا الفريق معمّقة جداً، سيما وأنها جاءت أيضاً من المغرب العربي الذي يتسم بتناول أكثر فلسفيةً لموضوعات النـزاع القائمة.
أيّ البلدان أو المناطق تسود فيها هذه الموضوعات أكثر؟
يمتاز المغرب العربي باهتمام أكبر بالجانب الفلسفي من الدراسات الدينية المعاصرة، لهذا نجد عند كتّابه نسيجاً معقداً من تناول الموضوعات الشائكة، وعموماً اختلط المغاربة بالثقافة الفرنسية والفلسفات الأوروبية بشكل كبير، لهذا نجد نسقاً ذا طابع فلسفي في تعاملهم مع الظواهر والمقولات، وحتى عندما تناولوا الهرمنوطيقا والدراسات الألسنية بدا هذا الأمر واضحاً عليهم، ويمكن القول: أن المغاربة العرب يعدّون أنفسهم رادة المشروع النقدي والعقلاني الجديد، وهذا الاعتداد بالذات عندهم، جعلهم يضيؤون بشكل كبير على شخصيات مغربية (المغرب العربي عموماً) مثل ابن رشد، والطاهر بن عاشور، وعلال الفارسي، وابن باديس و.. بشكل كبير جداً، وينتقدون المشاريع الأخرى التي قام بها المشارقة العرب.
وقد كانت هذه النقطة بالذات مثار نقد فريق آخر، في مصر وسوريا و.. مثل موقف حسن حنفي على سبيل المثال، حيث رفضوا هذا التصنيف المناطقي في القطر العربي، ونظروا إلى شيء من الإفراط في منجزات المغاربة.
شيعياً، نجد اهتماماً بالدرس الفلسفي والكلامي الجديد واضحاً، سيما على إثر متابعات آخر أخبار المشهد الثقافي الإيراني عبر حركة الترجمة التي حصلت منذ ثمانينات القرن العشرين، وهذا ما ترك أثراً على الأوساط الشيعية العربية الجديدة لا يمكن إنكاره.
ـــــــــــــ
(*) أجرت هذا الحوار مع المؤلّف مجلّة بجوهه الإيرانية، التابعة للمركز العالمي للدراسات الإسلامية (جامعة المصطفى العالمية)، وقد صدر في عددها رقم 18، تموز 2006م.