قراءة وتحليل ونقد
حيدر حب الله([1])
تمهيد
ربما يمكنني القول بأنّ هذه النظريّة تمثل وجهة نظر جمهور الفقهاء القدامى والمعاصرين، أو القراءة المدرسيّة للفقه الإسلامي، وهي نظريّة ترى عدم وجود منطقة فراغ في الشريعة الإسلاميّة، كما أنّه لا توجد عندها متغيِّرات يمكن للفقيه أو للدولة أو لوليّ الأمر أو غيرهم أن يسنّوا القوانين فيها، بل ليست لهم مثل هذه الصلاحيّة أساساً، فلا توجد سلطةٌ تشريعيّة إنسانيّة بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولا يمكننا منح أحد مثل هذه السلطة الثابتة حصراً لله سبحانه.
تَعتبر هذه الرؤية أنّ الخطأ الذي حصل هو تصوّر وجود عجز داخل المنظومة الاجتهاديّة أظهرها غير قادرة على تغطية مساحة المتغيِّرات والمستجدّات، فألجأها لمرجعيّاتٍ مساعدة، كمرجعيّة الدولة أو المجالس النيابيّة أو وليّ الأمر في سنّ القوانين، في حين أنّ واقع الحال ليس كذلك، حيث جُهِّزَت المنظومة الاجتهاديّة بعُدّةٍ ذاتيّة كافية لتغطية المستجدّات والمتحوّلات.
من هنا، يميل هذا الفريق الذي يملك ـ إلى يومنا هذا ـ قاعدةً عريضة في مدارس الفقه الإسلامي، إلى أنّ شمول الشريعة لتمام وقائع الحياة مبدأ إسلامي حاسم، دلّت عليه النصوص والتحليلات العقلانيّة معاً، وأنّ هذا الشمول يتسم بطابع تفصيلي، بمعنى أنّ كلّ حدث يقع يمكن لنا أن نضع يدنا عليه ونقول: إنّ لهذا الحدث حُكماً خاصّاً في الشريعة الإسلاميّة، بُيّن إمّا بطريقة خاصّة مباشرة له بعنوانه الشخصي أو قد جرى بيانه بطريقة عامّة تستوعبه، ومن ثم ينتج وجود حكم إلهي متصل بهذه الواقعة الخاصّة.
وهذه النظريّة هي المستكنّة في وعي الاتجاه المدرسي في الاجتهاد الإسلامي، وعليها ـ على ما يبدو ـ بُنيت فكرة الاستيعاب الحاصر في الأصول العمليّة، حيث افترض علماء أصول الفقه أنّ ما من واقعة نضع يدنا عليها إلا وهي مشمولة لأحد الأصول العملية الأربعة: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، فإذا لم يتمّ دليل محرز حاكٍ عن واقع الشريعة كان المرجع هو أحد هذه الأصول، فإنّه لولا فرضيّة وجود أحكام في كلّ واقعة لربما لم يكن هناك معنى ـ عندهم ـ لإجراء أحد هذه الأصول لزاماً وفوراً؛ لاحتمال خلوّ الواقعة من حكم أساساً، وحاجتنا لآليّة أخرى لمعالجة فروض الشك، كما سيأتي توضيحه ـ إن شاء الله تعالى ـ عند عرض نظريّتنا الخاصّة في آخر هذا الكتاب.
ويرى هذا الفريق أنّ النصوص والأدلّة المتوفّرة بين أيدينا على الأحكام الشرعيّة تكفي لحلّ الموقف في أيّ ظاهرة ولو مستجدّة، بمعونة الأصول العمليّة، بلا حاجة إلى مُعينات قانونيّة من الخارج بما فيها فكرة الحكم الحكومي وولاية الأمر، دون أن يرفض هؤلاء مبدأ الحكم الحكومي في حدّ نفسه، لكنّهم لا يرون فيه سوى صيغة إجرائيّة لتنفيذ أو تسييل تحقّق الأحكام القانونيّة الشرعيّة الثابتة من قَبل في الشريعة الإلهيّة، لا عملاًَ تقنينيّاً.
ويبدو واضحاً من النصوص المتوفّرة لهذا الفريق بعد ظهور التيار السياسي الإسلامي وانطلاق فكرة السلطة التشريعيّة البشريّة منذ بدايات القرن العشرين، يبدو واضحاً القلق الذي يُبديه الفريق المدرسي، وقد عكس لنا نصّ النائيني الذي سبق التعرّض له، عن مستويات القلق التي كان الفريق المواجه له يعيشها؛ وكان منها أنّ فرض سلطة تشريعيّة بشريّة يساوي استحداث مؤسّسة رديفة أو منافسة لسلطة النبوّة، ورغم أنّ النائيني كان يعارض هؤلاء لكنّ نصوصه في كتاب (تنبيه الأمّة) لم تكن واضحة في رفع أسباب القلق الذي كان يساورهم، فلم يُجلِ لهم هذه القضية بشكل يحسم الموقف ويبدّد المخاوف.
بل إنّ ذهنيّة التيار المدرسي هذه، لم يتمكّن حتى بعض كبار أنصار مدرسة الفكر السياسي الإسلامي الحديث أن يتخلّوا عنها، لهذا وجدناهم يشاركون في نقد نظريّة منطقة الفراغ، مثل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ليؤكّدوا نظريّة الشمول بالمعنى المدرسي ونفي أيّ سُلطة تشريعيّة بشريّة، وكأنّنا لو لاحظنا مزدوج (مكارم الشيرازي ـ عليدوست) مثالاً، فسنجد كيف أنّ التيار السياسي الإسلامي كان يحمل تصوّرين مختلفين عن سُلطة الدولة وقدراتها التقنينيّة، بين من ذهب لمنحها هذه السلطة بلوغاً لنسبة ناتجها لله سبحانه (عليدوست)، وبين من رفض منحها سُلطة من هذا النوع ليعتبرها مجرّد قنوات إجرائيّة إداريّة لتنفيذ الأحكام الإلهيّة (مكارم الشيرازي)، رغم أنّ الفريقين ـ على سبيل المثال هنا ـ يذهبان لنظريّة مثل نظريّة الولاية
العامّة للفقيه.
بل إنّني أخمّن بأنّ الحواريّة (الافتراضيّة) التي وقعت بين السيد علي الخامنئي والسيد روح الله الخميني، عقب خطبة الجمعة المعروفة للأوّل، وتعليق الثاني على ما جاء فيها، ربما تعكس لنا أنّ فكرة سلطة وليّ الأمر الذاهبة بعيداً في التوسّع، لم تكن واضحة حتى لأنصار خطّ هذه السلطة أنفسهم أو فلنقل بأنّ بعضهم لم يكن يفهمها بهذه الطريقة، ولم يكن يقرأها بهذا الشكل، وربما يكون ذلك انسجاماً مع الإطار المدرسي لدور الشريعة ومساحة نشاطاتها والتأثيرات الذهنيّة القويّة لهذا الإطار.
على خطٍّ آخر ـ وقبل الشروع في شرح العناصر البنيويّة لهذا الاتجاه ـ لا بأس بالحديث عن رؤيةٍ، أرى ضرورة الاهتمام بها بشكل عام حتى خارج بحثنا، وهي الرؤية التي ذهب إليها بعضٌ، وترى أنّ ما يسمّى بمأزق المستجدات والتحوّلات هو فكرة وهميّة لا واقعيّة لها أساساً حتى نبحث لها عن حلّ عبر المرجعيّة المساعدة أو أيّ شيء آخر، والسبب في ذلك أنّ نظام الحياة المعاصر هو في الأصل خطأ تاريخي ارتكبته الإنسانيّة بانسياقها نحو المادّة والماديات، وأنّ كلّ هذه السياسة الاقتصادية والسلطويّة الحاكمة اليوم في العالم وكلّ أنماط العيش المعاصرة، هي في الأصل انحرافٌ عن الخطّ الذي كان يجب علينا الذهاب فيه، وكلّ الأسئلة والتحدّيات التي نجمت عن هذا الانحراف الكبير للبشريّة تُصبح بلا معنى، ونصبح جميعاً ملزمين اليوم بالعودة إلى نمط حياةٍ بعيدٍ عن كلّ هذا الوهم التكنولوجي والاقتصادي الكبير الذي دمّر الطبيعة وقضى على خيراتها، وشيّأ الإنسان تشييئاً، وتعامل معه بوصفه كتلة من لحم ومادّة لا غير وهو يدّعي أنّه يدافع عنه ويحمل قضيّته، مرتكباً أكبر جناية بحقّه عبر التاريخ، وفَصَل البشريّة عن المسار الروحي الذي كان يجب عليها أن تسلكه، فضاعت طاقة الإنسان في الركض خلف السلع التي أصبح أسيراً لها وضحيّة، بدل أن تكون السلع خلف الإنسان خادمةً له.
إنّ وجهة النظر هذه لو طرحها باحثٌ اليوم ـ وهي مطروحة في بعض التيارات الفكرية والدينيّة في العالم، مثل بعض من يعرف بالراديكاليّين المسيحيين الذي يرفضون الحياة المعاصرة، ويعتبرونها شرّاً (الآميش مثالاً اليوم في الولايات المتحدة الأميركيّة وغيرها)، وبعض الأجواء الشيعيّة المحدودة كجماعة طالقان المعاصرة، وكذلك العديد من التيارات الصوفية والمعنويّة في العالم المعاصر..
إذا طرح باحثٌ اليوم هذا الأمر، فيمكن لباحث آخر أن يُسنده ويقف معه لتأكيد أنّ تغوّل الدولة وظهور الدولة الحديثة هو في الأصل مفهوم خاطئ سببه نموّ الاقتصاد الرأسمالي وتعملق رغبة الإنسان بالمادّة، وعشق الإنسان الحديث للهيمنة واستعباد الشعوب واستنزاف خيرات الأرض، فلا نريد الدولة المتدخّلة العملاقة، بل نريد الدولة الحارسة فقط بالاصطلاح السائد للمفهوم، ومن ثمّ فالكثير من الأمور يجب التخلّي عن نسق التفكير الحاضر لها، وأن لا نقع ضحيّة عمل الآخرين لننساق خلفهم في مشاريعهم، ونبدأ نبحث عن حلول لواقعنا المعاصر، وهو في الأصل صنيع غيرنا وإرادة الشيطان على الأرض، فوظيفتنا اليوم ليست وضع الحلول للمستجدّات التي أفرزها هذا الوضع الجديد، بل إعادة البشر نحو الحالة الطبيعيّة التي تخلّصهم من النتائج الكارثيّة لهذا الوضع القائم.
إنّ مرجع هذه الأفكار إلى الاقتناع الشديد بأنّ نمط الحياة المعاصرة هو نمط خاطئ منذ البداية، وأنّ نموّ العلم والقدرة والهيمنة حصل بعيداً عن الرقابة الأخلاقيّة، وأنّه يجب علينا إعادة تشكيل نمط العيش البشري بشكلٍ مختلف تماماً. وهذا التوجّه في غاية الأهميّة في العصر الحاضر، ويحظى بالكثير من الدعم والتأييد في العديد من الأوساط النقديّة في العالم، بصرف النظر عن مستويات هذا الدعم، لكنّ الكثيرين يُجمعون اليوم على أنّ الطريق التي تسير فيها الإنسانيّة بنمط عيشها الحاضر لن يوصلها إلا إلى الهاوية وانهيار الحياة ودمار الإنسان والطبيعة؛ وقد رأينا بدايات ذلك باستنزاف خيرات الأرض وسقوط الإنسان في الغربة والوحدة واليأس ومختلف الأمراض النفسيّة الرهيبة، حتى بدأت العودة إلى الدين من زاوية معنويّاته، ومن لا يقبل الدين بدأ يتجه نحو الحركات الروحيّة غير الدينية المعروفة باسم (العرفان بدون الله).
بل قد يعتبر بعض أنصار هذا النسق من التفكير الناقد للحياة المعاصرة أنّ دخول الدين في الحياة السياسيّة وارتباطه بالدولة سوف يجبره على تحمّل الضغوطات التي تقع فيها الدولة نتيجة النظام العالمي الحديث، فالدول لها ضروراتها التي لا يعيشها الفرد مباشرةً، وهذا يعني أنّنا سنجعل الدين مساهماً في فرض نظام الحياة المعاصرة على الناس بدل أن يكون مساعداً في تحريرهم منها بتوجيههم فرديّاً، ومن هنا نجد أنّ مثل حركة الإصلاح الراديكالي التي عرفتها البروتستانتيّة في مراحلها الأولى (وكانت مخالفةً لتوجّهات مارتن لوثر وجان كالفَن وغيرهم من قادة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر) تعتبر أنّ ربط الدين بالدولة هو ربطٌ لا يحمل سوى الشرّ، ويفرض على الدين مراعاة حاجات الدولة ليُساعد في فرضها على الناس، بدل أن يحمل حاجات الناس ليساعد في فرضها على الدولة.
عناصر تكوّن الشموليّة المرنة في التشريعات الإسلاميّة
إنّ المرجع في تبلور صورة واضحة عن (الشموليّة ـ المرنة) عند هذا الاتجاه، هو الطبيعة المرنة لحركة التشريع الإسلامي، وحلّ المشكلة ـ عند هذا الاتجاه ـ يكون من خلال وضع توليفة عناصر متعاضدة متكاتفة متعاونة، سنحاول اكتشافها عبر تحليلنا لمناهجهم وطرائق عملهم، ويقف على رأسها:
العنصر الأوّل: قاعدة التغيّر ضمن نظام تحوّل العناوين والأسماء
تؤدّي القاعدة الأصوليّة المعروفة القاضيّة بالتغيّر في المواقف تبعاً للتغيّر في العناوين والأسماء، أو ما يُسمّى ـ أحياناً ـ بتبعيّة الأحكام للأسماء([2])، إلى منح الشريعة قدرة تكيّف عالية، ويمكن رصد هذا التصوّر الكلّي لهذه القاعدة عبر مستويين:
المستوى الأوّل: قاعدة تغيّر الأحكام بتغيّر الموضوعات، وهي القاعدة التي تقضي بثبوت حكمٍ بالحرمة اليوم على شيءٍ ضمن وضعٍ معيّن، فيما يكون الحكم غداً عليه مختلفاً نتيجة عروض التحوّلات الموضوعيّة عليه، فالدم لا يجوز شربه أو تناوله بنصّ الكتاب العزيز، لكنّه لو شرب هذا الدمَ حيوانٌ محلّل الأكل بطبعه كالغنم أو البقر، ثم استحال في جسمه وصار جزءاً منه بتحلّل أجزائه في جهازه الهضمي، فإنّنا لو ذبحنا هذا الحيوان يكون أكل لحمه جائزاً؛ لأنّ موضوع حرمة الأكل هو الدم، وهذا الموضوع لم يعد متحقّقاً الآن بعد عروض التحوّلات التكوينيّة عليه في داخل جسم الحيوان، فيما المأكول الآن بالنسبة إلينا هو لحم الحيوان محلّل الأكل، فبتغيّر الموضوع يحصل تحوّل في الحكم تلقائيّاً، وكلّ ما حصل أنّ الواقع نفسه بتغيّره التكويني قد خرج من تحت حكم شرعي، لينضوي تحت ظلّ حكم شرعي آخر، فمن غيّر موقعه هنا ليس هو الدين أو الشريعة، وإنّما هو الواقع.
من هنا، تختلف فكرة نسخ الأحكام الشرعيّة عن فكرة تغير الحكم بتغيّر الموضوع؛ لأنّ فكرة النسخ ـ بالمفهوم السائد لها، بصرف النظر عن صحّة هذا المفهوم عندنا ـ تقوم بتعديل الحكم نفسه ولو كان موضوعه باقياً، فالتحوّل صار في الجعل وفي ثبوته في أصل الشرع، بينما فكرة تغيّر الحكم بتغيّر الموضوع لا تعني زوال أيّ حكم من القانون الشرعي زوالاً أصليّاً، بل الأحكام ما تزال قائمة، وهي حرمة تناول الدم وجواز أكل لحم الغنم، كلّ ما في الأمر أنّ التحوّلات التكوينيّة أخرجت الموقف ـ من حيث الفعليّة والمجعوليّة ـ من تحت سلطان حكم إلى تحت سلطان حكم آخر، ففعّلت حكماً وأوقفت تفعيل حكمٍ آخر، دون أن تزيله من الوجود القانوني أبداً، فالموقف أشبه شيء بوضع ضوءٍ قويّ في أعلى الغرفة، ووضع لوح متعدّد الألوان في أطرافه، فكلّما تحرّك اللوح صار اللون المنبعث من الإضاءة مختلفاً، فهنا لم يحدث أيّ تحوّل في الإضاءة، بل تغيّر الجسم الذي عرضت عليه الإضاءة، فترك أثراً على النتيجة العمليّة في الغرفة.
ولا يقف الأمر عند التغيّر التكويني النهائي المشار إليه ـ ولهذا قد يتحدّث الفقهاء ضمناً عن هذه القاعدة عند الحديث عن مسألة التطهير بالاستحالة أو بالانقلاب ـ بل يدخل في هذا السياق أشكال أخرى ينبغي الانتباه إليها؛ وذلك أنّ الموضوع ـ بالمفهوم الاجتهادي الأصولي له ـ يعني تمام العناصر المتصلة بتحويل حكمٍ من وجوده الخام في أصل الشرع إلى صيرورته فاعلاً منجّزاً داخلاً في اللحظة في مسؤوليّة هذا المكلّف أو ذاك، وهذا يعني أنّ كلّ عنصرٍ اُخذ شرطاً أو قيداً في تعلّق الحكم بالمسؤوليّة الناجزة الفعلية فهو داخل في دائرة الموضوع، وهذا ما يفتح فكرة الموضوع على أنواع من التغيّرات لا تقف عند التغيّر التكويني الذي من نوع المثال السابق، فارتضاع طفلة من امرأةٍ يمكنه أن يحوّل الموقف من حليّة زواج رجلٍ معيّن بهذه الطفلة بعد بلوغها إلى الحرمة، لتغيّر الموضوع وتعنونها بعنوان جديد هي ابنته من الرضاعة مثلاً، أو صيرورة الزواج بالبنت موجباً لتحريم أمّها عليه، فليس تحوّل الموضوع هو تحوّل تكويني نهائي بزواله تماماً من الوجود بالضرورة، بل يمكن أن يكون تحوّلاً عنوانيّاً داخلاً في دائرة الاعتبارات القانونيّة. ومسألةُ العنوان الثانوي العام في الحالات الطارئة يمكن لها بأكملها أن تدخل في هذا المجال هنا، وإن كنّا سنفصلها لأهميّتها الفائقة في موضوع بحثنا، وبهدف المزيد من التوضيح.
وبهذا نفهم أنّ مسألة تغيّر الأحكام بتغيّر الموضوعات، لا تفرض عدم دوام الشريعة، ولا تفرض النسخ بعد عصر النصّ، ولا تفرض منح سلطةٍ تشريعيّة لأحدٍ غير الله، بل هي مجرّد نظام (sustm) قهري يحرّك القوانين في دوائرها بفعل تحوّلات الواقع الخارجي بأشكال هذه التحوّلات، وهي ظاهرة موجودة في جميع القوانين والأعراف، وليست خاصّة بالشريعة الدينيّة.
ومن هذا المدخل، يمكن إقحام ما طرحه السيّد الخميني في قضيّة الزمان والمكان، حيث أثار في حديثه أنّ نظرتنا لظاهرةٍ ما قد تتغيّر إذا جاءت في ظلّ قراءة سياقيّة للظاهرة ضمن وضع معقّد فرضته الحياة، إنّه يعتقد أنّ الظواهر والموضوعات قد تبدو ساكنةً ومستقرّة توحي للناظر بأنّها لا تستدعي الانضواء تحت عنوان جديد يستدعي حكماً مختلفاً، إلا أنّها في واقع أمرها ونتيجة التطوّرات الجديدة ونمط التعقيد البالغ في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة.. تسير في تغيّر متواصل، فالتغيّر اليوم نفذ إلى الأعماق ولم يقف عند الظواهر، أشبه بنفوذ فكرة الحركة مع صدر الدين الشيرازي (1050هـ) من الأعراض الأربعة إلى الجوهر، وهذا كلّه يستدعي تغيّرات في المواقف الشرعيّة نتيجة تغيّر تموضع الوقائع والأحداث بطريقة خفيّة ودقيقة، ومن هنا تأتي ولاية الفقيه المطلقة لتتصدّى لإدارة المتغيّرات وتحديدها([3]).
المستوى الثاني: قاعدة تغيّر التطبيق بتغيّر مصاديق المتعلّق، فمن تغيّر الموضوع إلى تغيّر المتعلّق في انطباقاته الخارجية ومصاديقه العينيّة، نلامس المستوى الثاني من مستويات التغيّر، إذ تفرض هذه الظاهرة تغيّراً أيضاً، لكن ليس في فعليّة الأحكام فضلاً عن أصل وجودها القانوني، وإنّما في شكل تطبيقها الخارجي العملي، وهذه نقطة مهمّة جداً، ويلعب العرف والظروف الموضوعية دوراً عظيماً في هذه القضيّة، وعادةً ما يحدث هذا الأمر في متعلّقات الأحكام (المأمور به) التي تكون من نوع العناوين العامّة، فإهانة المؤمن حرام، لكنّ الممارسة الخارجيّة التي يصدق عليها عنوان الإهانة ليست شكلاً ثابتاً عبر الزمان والمكان، بل هي متحرّكة دوماً، فالقيام عند دخول شخص إلى الغرفة نوع من الإهانة في بعض الأعراف لكنّه ليس كذلك في أعراف أخر، وهكذا مفهوم الإسراف يختلف من فضاء إلى فضاء آخر، حتى داخل المجتمع الواحد تبعاً للظروف الموضوعيّة والأحوال الاجتماعيّة، وهكذا عنوان التزيّن يختلف تبعاً للفضاءات الاجتماعيّة، ففي بعض الفضاءات تصنّف بعض أنواع الألبسة على أنّها زينة للمرأة، الأمر غير الموجود في فضاءات اُخر، وهكذا مفهوم النفقة، وصلة الرحم، ومعاشرة الزوجة بالمعروف، وغير ذلك من عشرات الأمثلة بل المئات.
والأمر لا يقف عند الحدود الفرديّة أو الاجتماعيّة الضيّقة، بل غالباً ما تكون حركة تطبيق الأحكام في دائرة السياسات والنظم العامّة خاضعة لهذا النوع من التحوّلات في المتعلّق (المأمور به)، فعدم الخضوع للمعتدين واجبٌ شرعي، لكنّ صفقة أسلحة في لحظةٍ ما يمكن أن تكون خضوعاً، وهي بنفسها في ظرفٍ آخر قد لا تكون كذلك، بل قد تكون قوّةً، وتحالفٌ سياسي معيّن قد يكون الآن مصداقاً لعنوانٍ وجوبي، وبعد فترة وجيزة يُصبح مصداقاً لعنوان تحريمي، وهكذا، وفي بعض الأحيان يكون هناك نوع صلة بين تحوّل الموضوع وتحوّل المتعلّق فلاحظ.
وعليه، فمبدأ تحوّل الأحكام ـ في رتبة الفعلية والتنجّز وتحمّل المسؤوليّة ـ بتحوّل الموضوعات، ومبدأ تحوّل أشكال تطبيق المتعلّقات، وتغيّر المصاديق تبعاً لتغيّر الظروف، من المبادئ التحوّليّة الكبيرة التي تسمح للشريعة بالتكيّف مع المتغيّرات والمستجدات، وهو ما يعني تحقّق حالة المرونة في ظلّ المتغيّرات، وقدرة الشريعة على متابعة المتغيّرات من خلال انتقال المتغيّر من عنوانٍ إلى آخر، ومن ثَمّ من حكمٍ إلى آخر، وتنوّع أشكال تطبيق العناوين تبعاً للظروف المتحوّلة.
العنصر الثاني: الاجتهاد بوصفه منتِجاً فيّاضاً (فهمان: شيعيٌّ وسنّي)
اعتبر العديد من الفقهاء والباحثين الاجتهادَ أحدَ الأسس التي تؤمّن حركيّة التشريع الإسلامي وتحقّق مواكبة العصر ومتطلّباته([4]). إنّ الاجتهاد هو الذي يكوّن حلقة الوصل بين أحكام الشريعة ومتغيّرات العصر، ففتح باب الاجتهاد ومواصلة مسيرته من شأنه أن يكشف لنا دوماً عن الموقف الإسلامي في اللحظة المتغيّرة. أمّا لو أقفلنا باب الاجتهاد الذي فتحته الشريعة نفسها فإننا سوف نقطع هذا الترابط وسنتوه في الكشف عن الارتباطات الموجودة في الشريعة الإسلاميّة.
بهذه الطريقة يتمّ النظر للاجتهاد على أنّه عنصر ضروري لتحقيق المواكبة والتغطية، بحيث تتمكّن الشريعة من متابعة المستجدّات وتقدر على تحقيق شموليّتها، وترجمة ذلك على أرض الواقع.
هذه هي الصورة التي يُقرأ فيها الاجتهادُ عنصراً محقّقاً للشموليّة عمليّاً وفقاً للتصوير الإمامي، بينما يقدّم الاجتهاد السنّي رؤية إضافيّة لهذه القضيّة عندما يعتبر أنّ الاجتهاد قادرٌ على تغطية الوقائع المستجدّة، ويقصد الفقه السنّي بالاجتهاد هنا الأدوات المساعدة التي يمكنها تأمين نتائج فقهيّة للفقيه في حال عدم توفّر النصوص، ومن أبرزها مرجعيّة القياس، فإنّ القياس يمكنه أن يحقّق ـ عملاً ـ تغطية الشريعة لوقائع الحياة من خلال اعتماده منهجاً في معرفة الحكم حيث لا نصّ، وإذا لاحظ الفقيه استدعاء القياس لنتيجة فاسدة منافية للشريعة أجرى قاعدة الاستحسان التي تحول بين القياس والخروج بنتائج سلبيّة.
بل ومن القياس والاستحسان، ينطلق الفقيه فيما لا نصّ فيه لاعتماد منهجيّة الاستصلاح، حيث ينظر في المصالح والمفاسد الكامنة في الحالة المراد تحديد حكمها الشرعي للخروج باستنتاج الموقف الديني منها، من خلال قراءة جانبها الملاكي (المصلحة والمفسدة) في ضوء معرفته المسبقة بأنّ الشريعة سيقت لتحقيق مصالح العباد، وقد قدّم الفقه السنّي عشرات ـ وربما مئات ـ الأمثلة على توليد فتاوى من خلال قانون الاستصلاح هذا، وكأنّه قانون يشتغل فيه المجتهدُ على الدليل اللمِّي، فبدل أن ينطلق من الحكم لمعرفة وجود مصلحة خلفه، ها هو يرى المصلحة الآن بنفسه ليكتشف من خلالها أنّ الحكمَ موجود في دائرتها، فيُصدر فتواه في ذلك.
إنّ فكرة الاستصلاح أو المصالح المرسلة كانت مهمّة جداً في الاجتهاد السنّي، لكنّ بعض علماء أهل السنّة عارضوها، ومن أبرزهم الشيخ أبو حامد الغزالي (505هـ)، وإن كان ربما يمكن عدّه مؤمناً بها وفق صيغة خاصّة ليست محلّ بحثنا تحتوي شروطاً شديدة.
العنصر الثالث: العناوين الثانويّة أو الحالات العارضة الطارئة
العناوين الثانويّة ـ خاصّةً منها قانون التزاحم القاضي بتقديم الأهمّ على المهم ـ والأحكام الحاكمة على الأحكام الأوّلية، كالضرر (قاعدة لا ضرر)، والاضطرار (الضرورات تبيح المحظورات)، خاصّة عندما نعمّمها ـ كما يطرحه الشيخ يوسف القرضاوي([5]) ـ لمفهوم ضرورات الجماعة، ولا نحصرها بإطار ضرورات الأفراد، مثل فرض ضرائب لتأمين نفقات الحرب لحماية الأمّة، فهذه ضرورة تعرض الجماعة وقد لا تعرض الفرد قهراً، والحرج (المشقّة تجلب التيسير)، والإكراه (رفع عن أمّتي.. ما استُكرهوا عليه)، والتقيّة (حالات الضعف والعجز وتطلّب حماية الذات أو الجماعة)، وغير ذلك..
هذه العناوين وما تحمله من مواقف شرعيّة، يفهمها هذا الاتجاه المدرسيّ بوصفها قادرةً على تغطية الكثير جداً من المتغيّرات التي ليس للشريعة فيها موقفٌ منصوص مباشر لها بعنوانها؛ لظهورها بعد عصر النصّ وزمن الوحي، ومن ذلك تقديم المصلحة العامة على المصالح الفرديّة، وبهذه العناوين والأحكام التي تملك حقّ النقض (الفيتو) على حسب تعبير المطهري، تتمكّن الدولة من مواكبة المتغيّرات وما تحتاجه الحياة المعاصرة إلى جانب الأحكام الأوّلية الكثيرة، وتتمّ تغطية الوقائع بشكلٍ كامل.
وعليه، فيمكن الركون إلى العناوين الثانويّة لتكييف الحياة مع متطلَّباتها واقتضاءاتها؛ فحين يتزاحم الأكثر ضرراً مع الأقلّ ضرراً تأتي قاعدة التزاحم؛ لتقدِّم الأقلّ ضرراً على الأكثر؛ وحينما يكون الحكم المعيّن ضارّاً بمعنى من المعاني فسوف تتدخّل قاعدة (لا ضرر) ـ وفق فهمٍ لها ـ من أجل نفيه أو تحجيمه؛ وكذا الأمر في قاعدة (لا حَرَج) مثلاً. وهذا معناه أنّ الأحكام الأوَّليّة تقع على الدوام تحت سلطان العناوين الثانوية الطارئة، القادرة على نفيها أو تحجيمها في موردها.
وهذا كلّه يعني أنّنا حينما نمنح الدولة أو غيرها سلطةً ما، فغاية ما هنالك هو أنّها سوف تتمكَّن من إعمال القواعد الثانوية نفسها في المواطن المسموحة، وهنا لا تضع السلطةُ أيَّ حكمٍ، ولا تلغي أيَّ حكمٍ، بل تقوم بتطبيق الحكم الثانوي على مورده الخارجي في الحالة الواقعة، فدورُها تطبيقيّ تنفيذيّ، وليس تشريعيّاً تقنينيّاً.
لقد راهن الفقه الإسلامي كثيراً عبر التاريخ على فكرة العناوين الثانويّة والحالات العارضة الطارئة، فشكّلت عنصراً رئيساً في تحريكه للأحكام على أرض الواقع تبعاً للمتغيّرات والظروف.
ولابدّ لي أن اُوضح هنا أنّ مفهوم العنوان الثانوي لا يختصّ في الفقه بالحالات الاستثنائيّة أو القاهرة، بل هو يتخطّى هذا، فالماء بالعنوان الأوّلي يجوز شربه، لكنّه لو تعنون بعنوانٍ ثانويّ، مثل صيرورته متنجّساً فإنّه يصبح حراماً، فالتغيّر العنواني هنا غيّر الموقف القانوني والشرعي، رغم أنّه لا توجد حالة طارئة قاهرة استثنائية مثل الضرورة والإكراه، ففكرة العنوان الثانوي أوسع من الحالات القاهرة الضاغطة، لكنّ أهميّتها تبدو لنا أكثر في إطار الضغوط والطوارئ، نظراً لحاجة الشريعة للتكيّف مع هذا النوع من الحالات.
وبهذا نكتشف ـ وفقاً لهذا التفسير لمفهوم الثانويّة ـ أنّ فكرة تنوّع العناوين الأوّليّة والثانويّة تتداخل بشكلٍ كبير مع فكرة تغيّر الأحكام بتغيّر الموضوعات، فانتبه، لكنّنا فصلناها نظراً لخصوصيّة الأحكام الثانويّة الكليّة التي تمثل حالات الطوارئ؛ لما لها من أهميّة، أو لكون خصوصيّة الثانويّة في هذا النوع من الثانويّات لا يغيّر العنوان أو الموضوع في ذاته وتكوينه، كما في الاستحالة في باب الطهارة، بل يُلقي عليه صفةً إضافيّة.
العنصر الرابع: الأحكام الحكوميّة والولائيّة
لا تقوم هذه الأحكام في هذه النظريّة بسنّ أو وضع تشريعات قانونيّة في عرض الأحكام الأوّلية والثانوية، وإنّما تعبّر ـ كما يرى أمثال الشيخ جعفر السبحاني والشيخ ناصر مكارم الشيرازي([6]) ـ عن مجموعة من المقرّرات التي تقع في سياق إجراء الأحكام الأوليّة والثانوية وتنفيذها، فهي وسائل لتنفيذ الأحكام الشرعيّة وليست أحكاماً في عرض تلك الأحكام، فعندما تسنّ القوانين المرتبطة بالسير أو الجُند أو الخدمة العسكريّة أو الأوراق الثبوتيّة أو الجمارك أو الضرائب الجديدة أو تسعير البضائع والسلع، فلا تعبّر سوى عن تطبيق لقانون وجوب تنظيم المجتمع المؤسَّس في الشريعة نفسها، أو عن مقدّمات لتنفيذ ذلك الوجوب الشرعي، فلا تأخذ صفةً تأسيسية حتى نتصوّرها تكميلاً للشريعة، أو فلنقل ـ بحسب تعبير بعضٍ آخر([7]) ـ بأنّها تدابير أو تنظيمات، وليست تشريعات.
وهذه النقطة بالطريقة التي يُجليها أمثال الشيخ مكارم الشيرازي تمثل محاولة ضروريّة لتخفيف حجم هذه المقرّرات، ولهذا كانت هناك رغبة في تسميتها (مقرّرات) وليس (قوانين)، وقد شرحنا سابقاً التصوّر المدرسي لفكرة الحكم الحكومي فلا حاجة للإعادة والتكرار.
ويمثل الموقف من الحكم الولائي ودور الدولة (الإنسان) أو تفسيرهما أحد أهم مميّزات هذه النظريّة عن النظريّة السابقة، ففيما كانت نظريّة المرجعيّة الإنسانيّة المساعدة تعطي الدولة سلطةً تشريعيّة إضافة إلى سُلطتها التكوينيّة، ولم تكن تتمكّن في كثير من الأحيان من فهم فكرة وجوب طاعة أولي الأمر إلا في سياق سلطةٍ تشريعيّة من هذا النوع، لم ترضَ هذه النظريّة المدرسيّة هنا بسلطةٍ كهذه، بل أعادت فهم الحكم الحكومي بوصفه سلطةً إجرائيّة تنفيذيّة لا تمثل مقرّراتها سوى وسائل إجراء لا غير.
العنصر الخامس: الطبيعة البيانيّة في النصوص الدينية القانونيّة
يرى هذا الاتجاه المدرسي هنا أنّ الطبيعة البيانيّة في النصوص الدينية القانونيّة تقوم على أمرين:
أحدهما: إنّ الأحكام فيها مسوقة على نهج القضيّة الحقيقيّة لا الخارجية كما حُقّق في أصول الفقه، فهي تفترض الموضوع وتقدّره مما يجعل الحكم ثابتاً على الموضوع أينما كان ومتى ما كان، وهذا هو الجانب الثبوتي للقضيّة.
ثانيهما: إنّها تحوي صيغ العموم والإطلاق التي تحمل بطبيعتها أو سياقاتها قدرة الشمول، وهذا هو الجانب الإثباتي من الموضوع، فإنّ الأمر بالوفاء بالعقود (المائدة: 1) لما كان عاماً فإنّ أيّ عقد يستجدّ سيكون لهذا العموم ـ لا أقلّ وفقاً لبعض الآراء في فقه التجارات ـ قدرة استيعابه وتغطيته، فالعقود المُستحْدَثة والمعاملات الجديدة مشمولة لعنوان وجوب الوفاء بالعقود، فمهما كثرت المعاملات والعقود واستجدَّتْ فلدينا نصوصٌ عامّة ومطلقة زمانيّاً وأفراديّاً وحاليّاً تصلح لاستيعابها، بلا حاجةٍ إلى نصوصٍ خاصّة في واقعةٍ حادثة في هذا الزمان أو ذاك.
وهكذا الحال في الاستصحاب، حيث وردت فيه روايةٌ في باب الوضوء، وأخرى في باب الصلاة، وهكذا، لكنّ الفقيه الأصوليّ استنتج منها قاعدةً كلِّية عامّة، جعلتها تنطبق في جميع موارد الشكّ المسبوق باليقين. وكذلك الأمر مع الضرر الذي نفَتْه الشريعة، فهو كما ينطبق على تناول السمّ ينطبق أيضاً على استنشاق الهواء الذي يحمل إشعاعات نوويّة أو موادّ كيميائيّة مثلاً، دون فرقٍ بينهما.
فكثرة الوقائع وتعدّد المستجدات لا تفرض بالضرورة كثرةً موازية في النصوص؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة والصياغة التعميميّة كافيتان لاستيعاب الكثير من هذه المستجدات.
وهذا ما يقول فيه قطب الدين الراوندي (573هـ): m.. فالحوادث غير متناهية، وعموم النصوص أيضاً غير متناهية (هكذا)، وإن كانت النصوص متناهية..n([8])، وهو ما يعبّر عنه الغزالي بالروابط الكلّية للأحكام([9]).
إنّ فكرة البيانيّة الكليّة في النصوص (ثنائيّة العموم والإطلاق) تمثل واحدة من أعظم آليّات إنقاذ الفقه من جهة، وتمكينه من بسط سلطته ونفوذه على الوقائع في مساحة هائلة من المتغيّرات والمستجدّات من جهة ثانية.
العنصر السادس: التمييز بين الدين وفهم الدين
إنّ الدين يقوم بتغطية كلّ شيء، لكن ليس من الضروري أن يكون فهم الدين لنا شاملاً لكلّ شيء، هذا ما ينطبق تماماً على القرآن الكريم، لهذا ورد في بعض النصوص المتقدّمة في الفصل الأوّل من هذا الكتاب أنّ الأمر الفلاني موجود في القرآن الكريم لكن نحن لا نفقهه وإنّما يفقهه أهله، مثل الرسول وأهل البيت. وعليه، فعدم ظهور أمرٍ ما لنا من النصّ القرآني لا يعني عدم وجوده وبيانه، ومن ثمّ ففهمنا للدين لا يساوي واقع الدين، بل قد تصلُ أفهامنا لجزءٍ منه لا جميعه، واستتباعاً لذلك لا نستطيع أن نحكم على الشريعة الواقعيّة بالمقدار الذي انكشف لنا منها.
والهدف من هذه الفكرة تأمين حماية مقابل الإشكاليّة التي قد تواجه الشمول، من حيث إنّ الطرف الآخر قد يطالب الفريق الشمولي بإبراز شموليّة الشريعة والكشف عن النصوص الدينية التي تدلّ على تصدّي الشريعة لمساحات معاصرة اليوم لا نكاد نلمح لها في النصوص أثراً كقوانين حماية البيئة، فإنّ القائل بالشموليّة المدرسيّة هنا يمكنه أن يقول بأنّ عدم انكشاف تصدّي النصوص لوقائع مستجدّة يرجع لقصور فهمنا، لا لعدم كون الشمول حقيقة واقعة، ولابدّ لنا من التمييز بين واقع الدين وبين فهومنا للدين.
والتمييز بين فكرة الدين وفهمه، وظّفها بعضهم بطريقة أخرى هنا مثل الشيخ يوسف القرضاوي، حيث ذهبوا إلى أنّ من خصائص الشريعة الواهبة لها مرونةً، قابليّة النصوص للفهوم المتعدّدة، الأمر الذي يجعل نصوص الشريعة في الكتاب والسنّة ذات قدرة على احتواء أثريّة الحنابلة وقياسيّة الأحناف وترخيصيّة ابن عباس وتشدّديّة ابن عمر وظاهريّة داود، وغير ذلك([10])، وهذا ما يقدّم صوراً متنوعّة يمكن توظيفها لتسييل شموليّة الشريعة على أرض الواقع.
العنصر السابع: السكوت القانوني (مرجعيّة الأعراف العقلائيّة الممضاة)
لا اُريد هنا أن أخوض بالتفصيل في مسألة السيرة العقلائيّة أو العرف البشري العام، والتي أولاها الاجتهادُ الإسلامي أهميّةً فائقة، وحظيت بين المتأخّرين من الأصوليّين والفقهاء باهتمام كبير، لكنّني أريد أن أشير إلى أنّ الفقه الإسلامي تمكّن من أن يغطّي مساحة واسعة من النشاط القانوني اعتماداً على البناءات العقلائيّة والأعراف البشريّة العامّة، مثل البناء على الاحتجاج بالظنّ الخبري أو الظنّ الدلالي أو التملّك بالحيازة أو عشرات ـ وربما مئات ـ من الأمثلة الأخرى التي يعرفها كلّ مطلع على أعمال الفقهاء المسلمين.
معنى هذا أنّ مساحةً واسعة من التقنين، وإن لم تكن موجودةً في النصوص، تعتبر قائمةً؛ فإنّ المقنّن الذي يتصدّى للتقنين في مساحةٍ ما نفهم من سكوته عن بعض الجوانب تقنيناً، فإنّ السكوت يمثل فعلاً قانونيّاً عند المقنّن ولا يمثل غيبوبةً قانونيّة، وهذا يدلّ على أنّ السكوت عن حكم العقل القطعي (بصرف النظر عن قانون الملازمة) والسكوت عن الأعراف البشرية والبناءات والسِّيَر العقلائيّة، يمنح كلَّ نتائجها عبر الزمن للشريعة، فكأنّ الشريعة تضمّنت كلَّ هذه الجهود القانونيّة الموجودة عند العقل والعقلاء معاً، ومن ثمّ لا ينبغي لنا الخوف من نقص النصوص؛ لأنّ السكوت يساوي نصّاً في مثل هذه الحال عندما يواجه ظواهرَ معيّنة.
ولا تقف قيمة السكوت القانوني عند هذا الحدّ، بل قد تتصل بالأعراف الزمنيّة عصر نزول النص وما يمكننا معه من استنطاق الظواهر للخروج بنتائج قانونيّة.
هذه هي أهم أركان التحوّل والسَّعة في الاجتهاد المدرسي الإسلامي ببياننا لها وشرحنا وتوسّعنا فيها، والتي تحقّق السعة عمليّاً، وفي الوقت عينه لا تفرض علينا الرجوع لمرجعيّة قانونيّة ثانية، لا في عرض مرجعيّة الله ولا حتى في طولها([11]).
محاولات الاجتهاد التجديدي وتأثيرها الإيجابي على ثنائيّة السعة والتكيّف
لكن لو أردنا أن نذهب أبعدَ من هذا، فسوف نلاحظ أنّ بعض المدارس التجديديّة في الفقه الإسلامي استعانت مؤخّراً بسلسلة من الاُطر الاجتهاديّة بُغية حلّ بعض مشاكل الاجتهاد الشرعي المستجدّة، وبعض هذه الاُطر يمكن تصنيفه هنا ضمن العناصر التي توفّر سعة الشريعة وقدرتها على تغطية الوقائع والاستجابة لها، وسوف أركّز هنا على بعض هذه الاُطر من باب المثال لا غير:
1 ـ نظريّة تاريخانيّة بعض النصوص والأحكام، فهذه النظريّة رغم القلق البالغ منها في الأوساط المدرسيّة، لكنّها تبدو قادرة على توفير إمكانات للسَّعة، فعندما نقول بأنّ العناصر الزكويّة التسعة لم تؤخذ بصفةٍ ثابتة وإنّما لوحظت ملاحظةً تاريخيّة، فهذا معناه أنّ الفقيه سوف يخرج من فهم النصوص بنتيجة مختلفة، فلن تُخبره النصوص بعد هذا أنّ الزكاة واجبة في الشرع في الغلات الأربع والأنعام الثلاثة والنقدين، بل ستخبره أنّها ثابتة في كلّ ما يمثّل أساساً عامّاً في إنتاج المال أو في حركة الاقتصاد، وأنّ تعيين مصداق ما يمثل كذلك يرجع فيه للدولة مثلاً، ففي هذه الحال سوف تتحوّل العديد من الضرائب التي تضعها الدولة إلى ضرائب في أصل الشرع، ولن يكون دور الدولة هنا سنّ القوانين أو فرض ضرائب جديدة، بقدر ما يكون تطبيق قاعدة (ما به قوام الاقتصاد) على الحالة الزمنيّة لا غير.
وهكذا عندما يفهم الفقيه من نصوص حقّ المرأة أو الرجل في الفسخ بالعنن أو العَفَل أو الإخصاء وغير ذلك، أنّها لم تؤخذ على نحو الموضوعيّة، بل بصفتها مصاديق لعنوانٍ حقيقي هو المأخوذ في الشرع، وهو عنوان (ما يلزم من وجوده جسديّاً عند أحد الطرفين قبل العقد عدم إمكان بناء العلاقة الزوجيّة)، فهذا العنوان يصبح قادراً على الانطباق على مصاديق جديدة، بلا حاجة لسنّ قوانين مستجدّة، فينطبق على مرض الأيدز وأمثاله مثلاً. ومثل هذا موضوع عناصر الاحتكار المنصوصة في الشرع وغير ذلك الكثير.
إلى غير ذلك من عشرات ـ وربما مئات ـ الحالات البالغة الأهميّة والتي يمكن لمنهج الاجتهاد التاريخي أن يحوّل الفقيهُ نتائجَها في مرحلة الاستنباط نفسها بصورة تخرج أكثر قدرة على تغطية الوقائع المستجدّة.
2 ـ المنهج المقاصدي في فهم الشريعة، وهو منهج يلتقي كثيراً مع المنهج المتقدّم، حيث يعتبر ـ فيما يعتبره ـ أنّ النصوص الدينيّة جاءت تارةً لتبيّن الأهداف المطلوبة بالذات، وأخرى لتبيّن الوسائل التي تُرصد لتحقيق هذه الأهداف، وأنّ خطأ الاجتهاد الإسلامي يكمن في نظرته للنصوص كلّها على أنّها من نوع واحد، والحال أنّ التمييز بين الوسائل والأهداف من شأنه أن يحرّرنا من نصوص الوسائل، ليجعلنا ألصَقَ بنصوص الأهداف، ويضع نصوصَ الوسائل بصفتها اُطراً زمنيّة مرحليّة مثلاً أو بصفتها خاضعة لمتطلّبات الأهداف بحسب كلّ مرحلة.
هذا إلى جانب أنّ المنهج المقاصدي يمكنه أن يرمّم حالات الفجوات التي نراها في فهم الشريعة، فبدل نظام (جمع المتفرّقات وتفريق المجتمعات) والذي يدفع الفقيه للعجز عن الخروج بصورة أنظمة فقهيّة متكاملة ـ نتيجة اعتماد معياريّة الحجيّة ـ كما لمس ذلك أصحابُ نظريّة فقه النظرية أنفسهم مثل السيد الصدر، نذهب نحو نظام نصوص المقاصد والأهداف لنجعلها حاكمةً على النصوص التفصيلية الجزئيّة ومقدّمةً عليها، بحيث تُعطي نوعاً من الانسجام بين أطراف المنظومة القانونيّة، وهو ما يحقّق قدرةً على تغطية الوقائع دون فجوات وإمكانيّةً لمتابعة المتغيّرات دون الوقوع في تناقضات ميدانيّة.
إنّ الاجتهاد المقاصدي والاجتهاد التاريخاني يعتمدان منهج تقشير النصوص وفصل الزمني منها عن المتعالي عن الزمان والمكان الخاصّين، ورصد الأحكام الحقيقيّة التي جاءت الشريعة من ضمنها، خاصّة إذا قلنا بالفكرة التي ترى أنّ النصوص لا تساوي في عددها عدد الأحكام بل هي أكثر، بمعنى أنّ ما يصدر عن النبيّ مثلاً لا يعني أنّ كلّ شيء فيه هو حكم، بل بعضه حكم وبعضه تطبيق الحكم على الحالة الزمنيّة أو تشخيص وسائل تحقيق الحكم في اللحظة الزمنيّة النبويّة.
وفي سياق نظريّة المقاصد، تظهر مقولة كشف الملاكات والعلل الكامنة خلف تشريع الأحكام الواردة في النصوص، وهو اتجاه بدأنا نشهد تفاعلاً معه في الفترة الأخيرة، خاصّة على صعيد الأمور غير العباديّة، انطلاقاً من الحاجة للفهم العقلاني للأحكام تارةً، ودفعاً نحو منح التشريعات مزيداً من المرونة والتكيّف أخرى، فكلّما تمكّن الاجتهاد من كشف العلل والملاكات ـ ولو من خلال نصوص علل الشرائع والأحكام ـ أمكنه ممارسة التعميم والتوسعة في معطيات النصوص نفسها، تبعاً للعلّة التي تقوم بالتوسعة والتضييق كما هو معروف في أصول الفقه الإسلامي، وبهذه الطريقة تتحوّل النصوص إلى أكثر عموميّةً وشموليّة، أو فقل: تتوفّر لدينا المزيد من نصوص الشمول والعموم.
من هذا كلّه، نلاحظ كيف أنّ بعض نقّاد نظريّة منطقة الفراغ اعتبروا أنّ البديل هو المنهج المقاصدي وأمثاله([12]).
3 ـ نظريّة دور الزمان والمكان في الاجتهاد، والتي اشتهر بها السيّد الخميني، رغم أنّها موجودة في الفقه الإسلامي من حيث أصلها، إلا أنّ هذه النظريّة بالفهم الذي ألمحنا إليه آنفاً ونحن نشرح الاتجاه المدرسي، تساعد كثيراً على فهم الوقائع المعاصرة بحيث تبديها وكأنّها غير ثابتة، أو وكأنّها مغايرة لما دلّ عليه هذا النصّ أو ذاك، فاستخدام الإنسان للطبيعة وحيازته لما فيها من غير المملوك ملكيّةً شخصيّة لأحد، حكمٌ غير مطلق في ذاته، بل له إطاره الموضوعي، وهو أن يكون هذا الاستخدام متوازناً بحيث لا يُلحق الضرر بالآخرين أو باستقرار الاقتصاد العام، فعندما ينظر الفقيه الخبير بالحياة المعاصرة لموضوع من هذا النوع، فسيعرف أنّ تجويز التصرّف العام بالخيرات الطبيعيّة بهذه الطريقة خارج عن أصل الحكم الذي جُعل في الشرع؛ لأنّه متعنون بعنوان آخر ظهر مصداقه في هذا العصر، وهو عنوان الضرر وأمثاله، وأحياناً ربما يكون عنوانَ ظهور طبقة اجتماعيّة مفرطة في الهيمنة الاقتصادية، وما يؤدي ذلك إلى إضرار بحياة الفقراء والمساكين، الأمر الذي لم يكن له وجود بهذا الشكل سابقاً بسبب عدم ظهور التقنيات الحديثة.
إنّ الدولة هنا لا تقوم بسنّ قوانين جديدة، بل في حقيقة الحال تقوم باكتشاف حيثيّات النصوص وملابساتها وإطارها الموضوعي، لكي تعرف أنّ هذه الأحكام ليس موضوعها هذا الزمان، بل موضوعها حالة عدم تأثير تمكّن الإنسان من الطبيعة على حصول طغيان طبقي يجحف بالعامّة من الناس والسواد الأعظم فيهم.
أكتفي بهذه العناصر الثلاثة الإضافيّة التي من شأنها منح الشريعة المزيد من الشموليّة والمرونة والتكيّف والتعقيل.
ومجمل القول في هذه النظريّة/الاتجاه: إنّ هذه المبادئ والعناصر برمّتها هي التي تستطيع أن تحلّ لنا الأزمة التي يخلِّفها ما يُطلق عليه (منطقة الفراغ)؛ وذلك من خلال تغيُّر الأحكام تبعاً لتغيُّر عناوينها؛ أو من خلال العناوين الثانويّة؛ أو من خلال عمومات الأدلّة وإطلاقاتها؛ أو من خلال إعطاء وليّ الأمر صلاحيّة سنّ مقرَّرات إجرائيّة تطبيقيّة جزئيّة أو غير ذلك. ومن هنا حاول هذا الفريق من العلماء، الذين لأكثرهم موقفٌ سلبيّ من حركة التحديث في الفقه، أن ينتقدوا نظريّة الطباطبائي والصدر، حيث وسموا نظريّاتهم هذه بكونها تقرِّر نقصان الشريعة، وهو أمرٌ مسلَّم البطلان.
بهذه الطريقة يتمّ إثبات استيعاب الدين لكلّ مرافق الحياة، ونثبت مواكبة المتغيّر وتغطيته من قبل الشريعة، وفي الوقت عينه لا نحتاج لمُعينٍ قانوني خارج إطار النصّ. وبهذا يكون سرّ الخاتميّة والكمال والكلّية والشمول.
قراءة تحليليّة نقديّةللفهم المدرسي لآليّات الشمول التشريعي
تمهيد
في سياق تحليل هذه النظريّة والتعليق عليها، نجد أنّها سعت عبر التاريخ لإحكام نفسها وتقديم ذاتها بشكلٍ متناسق منتظم وشامل ومحكم؛ لكن هل استطاعت بالفعل أن توفّق بين الشموليّة القانونيّة ـ بوصفها أصلاً مفروضاً هنا بالنسبة إليها ـ وبين إدارة المتغيّرات وتغطية المستجدّات أو لا؟ هل تعاني هذه النظريّة من مشاكل داخليّة أو لا؟
هذا ما سنحاول في هذه المرحلة أن نتعرّف عليه باختصار، ولسنا نقصد هنا البحثَ في أصول هذه النظريّة وعناصرها؛ فلكلّ واحدٍ من العناصر التي ذكرناها بحثُه الخاص والمطوّل في قواعد الاجتهاد الشرعي، وليس هو موضوعاً لتأمّلاتنا هنا، بل يهمّنا هنا ـ بشكلٍ أساس ـ رصد مدى قدرة هذه النظريّة على التوفيق من جهة، وعلى استبعاد دور الإنسان من العمليّة القانونيّة من جهة ثانية.
ويمكننا هنا القيام ببعض المداخلات التحليليّة والتقويميّة، كالآتي:
1 ـ الاجتهاد بين إنتاج القانون والكشف عنه
إنّ الحديث عن الاجتهاد بوصفه أحد عناصر المواكبة، هو ـ على صحّته ـ في حقيقة أمره خروج عن محلّ حديثنا؛ لأنّنا نتحدّث عن الشريعة الإلهيّة نفسها في شموليّتها واستيعابها للمتغيّر، لا عن وسائل إدراكنا للشريعة، وسبل الوصول المتواصل إلى أحكامها وقوانينها، فالاجتهاد ليس أمراً يصطفّ بمحاذاة الشريعة ويكوّن جزءاً منها حتى تُصبح لها قدرة الشمول ببركته، ولا هو مصدر تشريعي، فهو مثل اللغة التي يستعان بها لفهم الشريعة، فليس هو واللغة عناصر مكوّنة للشريعة، وإنّما هو محاولة للكشف عنها، وحتى لو غضضنا الطرف عن ذلك فالاجتهاد ليس عمليّة شرعيّة محضة، وإنّما أتى بقرار بشري بلا حاجة لنصّ شرعي عليه إذا كان هناك نصّ شرعي بالفعل عليه، وغايته أنّ الشريعة لم تنهَ عنه.
نعم، قد يتمّ هذا الحديث عندما نفسّر الاجتهاد بأنّه التقنين البشري البديل عن النصّ، لكن مع ذلك إذا كان بديلاً عن النصّ فهذا إقرار بعجز النصّ عن التغطية أو على الأقل إقرار بأنّه في ظرف عدم ظهور النص يساهم العقل في التشريع والتقنين، ويكون معيناً قانونيّاً في تلك اللحظة.
من هنا، يُفترض حذف الاجتهاد هنا من قائمة عناصر التغطية والاستيعاب، واعتباره ـ حصراً ـ منهاجاً فهميّاً بشريّاً لوعي هذه التغطية على تقدير وجودها.
2 ـ وظائف العقل بين القوانين والمقرّرات، محاولة لتبسيط الدور!
يجب أن نتوقّف قليلاً عند مفهوم الأحكام التدبيرية الحكوميّة، حيث حاولت هذه النظريّة تصويرها بوصفها (مقرّرات) تقع في سياق تنفيذ الأحكام الأوّلية والثانوية. إنّ هذا التصوير للمشهد يوحي ببساطة الدور القانوني لهذه الأحكام، كما يحاول إقناعَنا بأنّها ليست تشريعاً في عرض التشريعات الأخَر، وأعتقد أنّ تحليل هذا الموضوع واتخاذ موقف منه هو حجر الزاوية في قبول أو رفض هذه النظريّة هنا.
هل هذا التفسير لدور الدولة ووليّ الأمر صحيح أو لا؟ هل ما قدّمته هذه النظريّة كان واقعيّاً أو أنّ ما رآه أنصار النظريّة الأولى ـ مثل الميرزا النائيني والسيد الصدر ـ كان هو الواقعي، حيث أدركوا في اللاوعي بأنّ دور الدولة له بُعدٌ قانوني وليس إجرائيّاً فحسب؟ ما هو الذي يجعل قراراً ما قانوناً وما الذي لا يُعطيه صفة القانون والتشريع؟
إنّ وقوع قانونٍ ما في صراط تحقيق وتنفيذ قانونٍ أو غرضٍ قانوني آخر لا يسلب عنه صفة كونه قانوناً أو يحوّله إلى مجرّد مقرّرات لا تحوي خاصية القانون، فإنّ بعض تشريعات الشريعة الإسلاميّة نفسها جاءت في سياقٍ من هذا النوع. كما أنّ المدّة الزمنية ليست هي المعيار أيضاً حتى نقول بأنّ خلود قانونٍ ما يمنحه صفة التشريع، أما زمنيّته فإنّها تسلبه هذه الصفة.
إنّ ما يمنح صفة القانونيّة هو أن يكون هذا التشريع قد وُضع لتنظيم علاقة من علاقات الاجتماع البشري أو الاجتماع القومي أو.. في سياق مجموعة قوانين أخرى وضمن شبكة العلاقة معها، لتحقيق غرض مصلحي عام راجع إلى هذا المجتمع. وهذه الصفة كما تكتسبها قوانين الشريعة الإسلاميّة، كذلك تملكها تلك المقرّرات التي تسنّها الدولة أو مجلس النواب لتنظيم وضعٍ ما ولو في ضمن مدّة زمنية معيّنة لا تتسم بالخلود والدوام.
إنّ المساحة التي تسمّى بالمقرّرات لو راجعناها اليوم لوجدنا فيها مساحةً قانونيّة هائلة تطال مختلف مرافق حياة الناس الاقتصاديّة والاجتماعية والسياسية و.. فكيف صار هذا كلّه عملية غير تقنينيّة فيما غيرها قانوني؟!
إنّ المشكلة الأساس التي وقعت فيها النظريّة المدرسيّة هي أنّها خفّفت من دور الإنسان في صنع القانون، ولم تقبل بتوصيف الأشياء بأوصافها الواقعيّة حفاظاً على المبدأين الرئيسيّين اللذين انطلقت منهما، عنيت: ما من واقعة إلا ولها حكم، وإنّ العقل ليس مشرّعاً وإنما المستبدّ بالتشريع هو الله سبحانه، وكأنّها أحسّت بأنّ إعطاء دور التشريع للعقل هو تراجع جذري عن المرجعيّة الإلهية في صنع القانون، الأمر الذي يشكّل خرقاً لمبدأ التوحيد.
دعونا نذهب لمزيد توضيح، فهل حقّاً أنّ الأحكام الولائيّة التي يتصل كثير منها بعامّة الناس على امتداد مساحة الدولة أو العالم الإسلامي، هي في واقع الأمر مقرَّرات إجرائيّة تنفيذيّة بسيطة، وليست سنّاً لقوانين إضافيّة، كما تحاول هذه النظريّة أن تبسِّطها؟! هل يسمّيها القانون الوضعي اليوم مقرّرات أو قوانين؟
يبدو لي أنّ النائيني والصدر وآخرين شعروا بأنّ مساحة الأحكام الولائيّة ليست بسيطةً، ومن ثمّ لا يمكن أن يقال: إنّها مجرّد إجراءات تطبيقيّة يسيرة، كما تذهب لذلك النظريّة المتقدِّمة؛ فكيف يمكن الذهاب إلى أنّ قوانين البيئة اليوم مثلاً هي أمورٌ بسيطة؟! وكيف يمكن أن نتعقَّل أنّ الشريعة التي اهتمَّتْ بطريقة دخول الإنسان إلى بيت الخلاء لم تهتمّ بقضايا الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطب الشمالي والموادّ الكيميائيّة التي أُسِّست لها مجالس قانونيّة في العالم؛ بغية إيجاد الحلّ المناسب لها؟! كيف يمكن تبسيطها وجعلها قضايا جزئيّة بسيطة فيما أحكام الطهارة والنجاسة قضايا كلِّية وعميقة، تحتاج لتدخُّلٍ مباشر من الله تعالى؟!
من هنا، قد يصف المنتصرون لسائر النظريات البديلة هنا.. النظريّةَ أعلاه بكونها تبسّط المشكلة، ولا تنظر إليها بعُمْقٍ، أو أنّها غير مدركة بجدّ للجهد القانوني الضخم الذي تقوم به مؤسّسات الدولة خارج إطار النصوص الدينيّة، فالدولة ومؤسَّساتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، بمختلف تشعّباتها وتراتبيّتها، مع آلاف القوانين المتعلِّقة بعمل المحاكم والوزارات والإدارات و.. تحتاج إلى رؤيةٍ معمَّقة لا يمكن طرحها من خلال المبادئ المتقدّمة التي طرحتها النظريّة المدرسيّة. ولا يمكن افتراض جميع هذه الأمور ثانويّة بسيطة تحتاج إلى مقرَّرات إجرائيّة جزئيّة تطبيقيّة. كما لا يمكن للباحث أن يتعقَّل أنّ أمثال هذه الأمور تحتاج إلى قوانين إجرائيّة جزئيّة تفتقدها النصوص الشرعيّة الأساسيّة، بينما نجد نصوصاً شرعيّة في قضايا جزئيّةٍ بسيطة للغاية في حياة الإنسان! هذا كلُّه يدعونا إلى تقديم نظريّة أكثر عمقاً ودقّةً من هذه النظريّة.
إنّ تغيير كلمة (القوانين) إلى كلمة (المقرَّرات)؛ بهدف تبسيط دور العقل الإنساني وعقل وليّ الأمر في ما يقوم به، لا يغيِّر من واقع الحال شيئاً. فالنصوص الدينية الموجودة اليوم ليس فيها شيءٌ عن الكثير من هذه المسمّاة بالمقرَّرات، رغم أنّ هذه المقرَّرات تطال اليوم أبعاداً عميقة في تنظيم حياة الإنسان المالية والاقتصادية والسياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، أليس من الأفضل أن نقول بأنّ حجم هذه التحوُّلات ـ مع عدم وجود نصوص، وإنّما مبادئ تشريعيّة عامّة ـ كاشفٌ عن أنّ الشريعة تركت هذا الأمر من الأوّل، وأوكلَتْ إلى العقل الإنساني أن يدير أموره في ظلِّ عناوين شرعيّة عامّة؟! فلماذا نبخل على العقل الإنساني في تسمية نشاطه الضخم هذا بأنّه تقنينٌ، ونقوم بتقزيم جهوده، عبر وصفها بأنّها مجرَّد مقرَّرات أو تطبيقات؟!
قد تقول لي: إنّ العناوين الثانويّة والقواعد الشرعيّة العامّة تقوم الدولة بتطبيقها على الواقع الخارجيّ، ولو في مساحة زمنيّة معيّنة، ولا تقوم بأيّ دورٍ آخر.
لكنّ القضيّة تكمن في ضرورة فهم طبيعة عمل الدولة ومجالسها اليوم، وذلك أنّ تطبيق العناوين العامّة ـ خاصّةً منها ما كان مثل العناوين الثانويّة المعروفة ـ يختلف من حالةٍ إلى أخرى، فلو أنّ شخصاً يعرف أنّ العمل الفلاني يجرّ الضرر عليه كالصوم، ففي هذه الحال نقول: إنّ هذا الشخص عيّن الحالة الخارجيّة، ثم قام بتطبيق العنوان العام على الحالة ممّا أنتج بشكل تلقائي حكم الحالة التي هو فيها.
لكن هل تقوم الدولة ومجالس الحل والعقد اليوم بممارسة هذه العمليّة عينها بكلّ بساطة أو لا؟
إنّ الجواب هنا يظهر من خلال رصد ما تقوم به الدولة ووليّ الأمر والمجالس التشريعيّة بالدقّة؛ فالدولة هنا تقوم برصد الحالة الخارجيّة، ثم تأتي بالعنوان الشرعي العام لتطبّقه على الحالة، لكنّ عمليّة التطبيق هذه والتي تهدف لتحقيق أغراض العنوان العام الشرعي، تحتاج لوسيط يمكنه أن يسيّل ويحقّق انطباق العنوان على الحالة للخروج من مستلزماته ومقتضياته، وهذا الوسيط ليس سوى قيام الدولة وأجهزتها القانونيّة بوضع سلسلة من القوانين تؤمّن من خلالها الاستجابة لانطباق العنوان العام ـ ولو الثانوي ـ على الحالة التي نحن فيها، فالتقنين هو واسطة استجابة الانطباق على الحالة، وليس نفس الانطباق الذاتي، وهذا معناه أنّ الدولة تقوم بسنّ القوانين استجابةً للعنوان الثانوي مثلاً، لا أنّها تقوم فقط بمجرّد كشف انطباق العنوان على معنونه كما هي الحالات الشخصيّة، وهذا ما أظنه دفع النائيني والصدر والقرضاوي وغيرهم للقول بأنّ الدولة تقوم في الحقيقة بعمليّة قانونية كاملة، غاية الأمر أنّ الإطار الدستوري لهذه العمليّة قد جاء من الشريعة الإلهيّة.
وعليه، فهناك فرق بين انطباق العنوان على الحالة والحكم بحكم العنوان عليها، وبين إنتاج قانونٍ للحالة في هدي العنوان وحكمه، وهذا التمييز في تقديري هو ما اكتشفه أصحاب النظريّة الأولى، وحاول أن يبسّطه أصحاب النظريّة الثانية، فعندما تقوم الدولة بسنّ تشريعات تتصل بالملاحة البرّية والبحريّة والجويّة، أو وضع قوانين تتصل بالجمارك أو الاستيراد والتصدير، أو بالضرائب على الدخل أو القيمة أو وضع قوانين تتصل بالجنديّة والخدمة العسكريّة، أو بقضايا البناء والإعمار، أو بقضايا البيئة، وغير ذلك، فهي لا تقوم بمجرّد صبّ عنوان وجوب حفظ النظام أو عنوان دفع الضرر مثلاً، بل هي تأخذ العنوان وحكمه الشرعيّ لتستجيب له عبر القيام بسنّ قوانين قادرة على تحقيق مصلحة العنوان الشرعي وأغراضه.
وبعبارة أخرى: إنّ الموضع الذي يتمّ فيه تطبيق العناوين الثانوية العامّة هو في نفسه سلسلة قانونيّة وليس مفردة خارجيّة، والإنسان هو الذي يقوم بالكشف عن هذه السلسلة القانونيّة وليس الحكمُ الثانوي بنفسه، تماماً كما هو الإنسان المكلّف بالكشف عن تحقّق موضوع الحكم بالنسبة إليه لكي يقوم بصبّ الحكم على الحالة، وليست الشريعة هي التي تُخبر بتحقّق موضوع الحكم هنا أو هناك، فلو أنّك اليوم أخذت حكم لزوم دفع الضرر أو لزوم حفظ النظام وتجنّب الهرج والمرج، فهل يمكنه لوحده أن ينفعك في وضع قوانين السير؟ بالتأكيد سيكون الجواب بالنفي؛ لأنّ قوانين السير لا يتمّ استنطاق الحكم الثانوي للوصول إليها، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أنّه اكتشفها منه، بل الإنسان هو الذي يقوم بسنّ القوانين التي تحقّق حالة ارتفاع الهرج والمرج، فيكون محقّقاً لمفاد الحكم الثانوي بضرورة حفظ النظام مثلاً وهكذا.
وخلاصةُ القول: إنّ إعطاء شخص ثلاث أو أربع قواعد قانونيّة عامّة؛ ليقوم بوضع مئات المقرَّرات في ضوئها، يستدعي منطقيّاً تسمية جهوده هذه بالتقنين الجزئي تحت سقف الدستور الكُلِّي؛ فليست القوانين الجزئيّة التي تقوم بها المجالس النيابيّة في العالم في ـ كثيرٍ منها ـ سوى استعانة بكُلِّيات الدستور، وتحويلها إلى مفردات قانونيّة، فكيف نسلب وصف التقنين عن كلِّ هذا؟ وما هي معايير تسمية هذا الجهد تقنيناً أو سَنّاً لمقرَّرات؟ هل قدَّمت هذه النظريّة رؤيةً تمييزيّة بين جهود التقنين البشري (المقرَّرات) وما تقدِّمه النصوص الدينية من قوانين جزئيّة كثيرة أيضاً، حتّى نقول: هذا تقنين، وذاك ليس بتقنين؟! وأين؟! وهل التقنين ـ بوصفه مفهوماً ـ مشروطٌ بالخلود، فنحن لا نريد أن نخلع على هذه الجهود اسم القانون الكُلِّي الأبدي، لكنَّ توصيفه بأنّه تقنين ـ ولو زمنيّ ـ ليس أمراً غير موضوعيّ أبداً، بعيداً عن أيديولوجيا التبرير والتوجيه.
بل من حقّنا أن نسأل هنا أيضاً: عندما تعطي الشريعة للحاكم والقاضي صلاحية سنّ التعزيرات غير المحدّدة في الشرع، ألا يتضمّن ذلك نوعاً من إحالة تقرير حجم العقوبة إلى القاضي/الإنسان؟ إنّ الكثير من القوانين في الدول التي لا تعتمد الدستور ـ مثل المملكة المتحدة ـ تُحال إلى القضاة، فلماذا لا نعتبر أنّ إحالة مستويات العقوبة للقاضي ووليّ الأمر هو نوعٌ من التفويض القانوني ضمن إطار الشريعة؟ وبماذا يصف لنا أنصار نظريّة شموليّة الشريعة التفصيليّة مثل هذا؟
بل إنّ الكثير من متأخّري أنصار النظريّة المدرسيّة هنا يقرّون بالشخصيّة الولائيّة للنبيّ والإمام، ويعتبرون أنّه من الممكن أن تصدر منهم مواقف ولائيّة، ويفسّرون الحكم الولائي بأنّه الحكم الذي يصدره النبيّ بوصفه حاكماً لا بوصفه مبلّغاً. والسؤال: هل يقوم النبيّ بمجرّد تطبيق العنوان على المعنون فقط فيُخبرنا عن الحكم الشرعي في مورد الحكم الولائي أو أنّه يقوم عندهم بوضع قانون حقيقي جديد نسمّيه بالجعل الولائي؟ فعندما نقول بأنّ النبيّ يمكنه أن يضع الزكاة على غير العناصر التسعة فهل هذا تطبيق محض، أو هو صلاحية قانونيّة اُعطيت له؟ الأمر يحتاج لتفسير، فلو كان مجرّد تطبيق فكيف يفسّرون لنا وجود نصوص عن النبيّ ليست سوى أحكام ولائيّة؟ وماذا ستعني عندهم أحكام النبيّ التدبيريّة؟ بل كيف يمكن تصوّر تشريعات قائمة بنفسها نعتبرها اليوم ولائيّة للمعصوم صدرت من شخصيّته الولائيّة وليس من شخصيّته التبليغيّة، وفي الوقت عينه نتحدّث عن شموليّة الشريعة؟! فإنّ الحكم الذي يُصدره النبيّ في حالة معيّنة إذا كان ولائيّاً فهذا معناه أنّه مجرّد مصداق مباشر لحكم شرعي، ومن ثمّ فليس هناك شيء إضافي قام به النبيّ سوى أنّه كشف عن مصداق الحكم الشرعي، في لحظة زمنيّة معيّنة، وعليه فمن الخطأ تقسيمهم الشائع ما يصدر عنه إلى ولائي وغير ولائي، إذ الشخصيّة الحكوميّة له لا دور لها هنا، بل الصحيح أن نقول بأنّه إمّا تطبيق لحكم شرعي في لحظة زمنيّة مقتضية لهذا الأمر أو هو أصل الحكم الشرعي، بلا فرق بين كونه حاكماً أو غير ذلك.
3 ـ نظريّة السكوت: هل أعلنت الشريعة مرجعيّة العقل أو وافقت على قوانينه؟
لا أستهدف من هذه المداخلة تسجيل مقاربة نقديّة على هذه النظريّة، بل يعنيني الإضاءة على فرضيّات احتماليّة غابت عنّا في بعض الأحيان، والهدف هو إثارة الصور والفرضيّات في الذهن لتوفير إمكانات تحليليّة أكبر، فيرجى الانتباه.
لقد سعت هذه النظريّة في الحفاظ على الأصول التحتيّة التي سبقت الإشارة إليها، من شموليّة التشريع وعدم وجود مُعين قانوني، إلا أنّ التحليل يقودنا هنا إلى تساؤلٍ يتّصل بقضيّةٍ يجب التنبّه لها، وهي أنّ ما يُعرف بالعناوين الثانوية الأمّ، وكذا كثير من الأحكام الشرعيّة في مجال المعاملات والعلاقات غير العباديّة، ربما يرجع إلى العقل نفسه وإلى التجربة الإنسانيّة السابقة على الشرع، فمثل قانون ضرورة حفظ النظام يرجع مدركه الأمّ إلى العقل والبناء العقلائي، ومثل قانون التزاحم يعدّ العقلُ والسيرة العقلائيّة الأساس فيه، وكذلك الحال في قواعد الضرر والمشقّات والضرورات والإكراه والتقيّة، بل وأيضاً لزوم الوفاء بالعقود و.. وإذا كانت مثل هذه المعايير القانونيّة والمرجعيّات التشريعيّة هي في الأصل أحكاماً بشريّة، فهذا ما يطرح تساؤلاً وهو أنّ الاستناد إليها هو استنادٌ إلى قانون عقلي ومُعين قانوني، وليس في جوهره استناداً إلى نصّ ديني أو حكم إلهي محض، فكيف نقول بأنّ المقرّرات التي يعتمدها وليّ الأمر نابعة كلّها من الشرع؟! ومجرّد أنّ الفقهاء قد طرحوا قواعد التزاحم وحفظ النظام في كتبهم لا يصيّر هذه القواعد مستمدّةً من النصوص أو دينيةً؛ إذ من الممكن أن يكون مصدرُها عقليّاً وليس شرعيّاً.
وهذه الإشكاليّة تفتح على موضوع بالغ الأهميّة والخطورة، وهو تحديد دور العقل في بناء الفتاوى الشرعيّة، فنحن لو غضضنا الطرف عن الأخذ بحكم العقل المستقلّ ـ كما عليه بناء العدلية من المعتزلة والإمامية، من غير بعض الإخباريين ـ نجد أنّنا بحاجة لمعرفة المعيار في جعل حكمٍ ما مأخوذاً من الشرع أو من المصدر الإلهي، فإنّه من الواضح أنّه لو دلّ النصّ على حكمٍ ما لا يُعهد من العقلِ الحديثُ عنه، لصحّ القول بأنّ هذا الحكم إلهيٌّ لا سبيل إليه إلا بالمشرّع الإلهي عبر الوحي مثلاً، مثل تفاصيل الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وغير ذلك، لكن هل كلّ الفتاوى الفقهيّة تنشأ من هذا النوع من الأدلّة؟
إنّ الذي يلاحَظ من الأحكام الشرعيّة الموجودة بين أيدينا اليوم أنّها على أنحاء من حيث مدركها ومستندها:
أ ـ فبعضها مدركه نصّي، وهذا المستند حصري لولا النصّ لما فهم الإنسان ـ حسبما يبدو ـ هذا الحكم.
ب ـ وبعضُها مدركه عقليّ، فلو لم يأت الشرع أساساً لظلّ هذا الحكم موجوداً في حياة البشر يديرون به أمورهم، كحرمة الاعتداء على الآخر بقتله أو حرمة السرقة أو غير ذلك من حُسن العدل وقبح الظلم.
ج ـ وبعضها مدركه عقلائي، بنى العقلاء عليه نظام حياتهم ومعاشهم، ولو لم يأت الشرع لاستمرّ بناؤهم هذا.
ولو تأمّلنا في هذه الثلاثة ـ بصرف النظر عن التمييز الدقيق بين الثاني والثالث منها ـ لوجدنا أنّ المجموعة الأولى من الأحكام تغطي مساحةً من حياة البشر، فيصدق معها أنّ الشريعة قد غطّت هذه المساحة، أمّا الثانية والثالثة فهي في حقيقتها تشريعات، إلا بشكل استثنائي نادر في نطاق البناءات العقلائيّة، وهنا يُسأل: ألا يعني قيام قسمٍ كبير من القوانين والفتاوى الفقهيّة اليوم على العنصر الثاني والثالث أنّ العقل الإنساني قد ساهم بشكلٍ فاعل في ما بتنا نسمّيه الفتاوى الشرعيّة؟! وهل مجرّد سكوت النصّ عن البناءات العقلائية يعني نسبة مضمون هذه البناءات إليه وسلب نسبتها عن العقل الإنساني؟ وألا يصحّ أن نقول بأنّ الفتاوى والأحكام الشرعيّة هي حاصل جهود مشتركة من العقل والنص ساهمت في بناء منظومة قانونيّة للحياة البشريّة؟ ولماذا اعتبرت هذه النتائج التي تغطي الحياة البشرية بمثابة تغطية للشريعة التي قدّمتها البنيات التحتيّة على أنّها متعالية عن العقل وأنّه عاجز عن ممارسة دور المقنّن؟ ومجرّد أنّ الفقيه هو الذي استخدم العقل ومارس البناء العقلائي لا يصيّر النتائج شرعيّةً فقط بذاك المعنى، بل إنّ سكوت الشارع عن أكثر من 99% من البناءات العقلائيّة شاهد اعترافه بأنّ العقل والعقلائيّة مصيبان في تقنيناتهما.
إذن، نقطة التساؤل هنا يمكن صياغتها على شكلين:
أ ـ هل سكوت الشريعة عن كلّ هذا الكمّ القانوني الذي وضعه العقل والعقلاء يعني أنّ هذه التشريعات إلهيّةً فقط، أو أنّ الأصحّ أن نقول بأنّها تشريعات وقوانين بشريّة وافق عليها الشرع؟ ومن ثمّ ففاعل القانون هنا وواضعه ليس هو الله المشرّع وليست هي النصوص، بل الفاعل والواضع هنا هو الإنسان، والله وافق على تشريعات الإنسان وتجربته البشريّة، واعتبرها مصيبةً لواقع الاعتبار القانوني اللازم.
ب ـ هل سكوت الشريعة عن كلّ هذه المعطيات المتصلة بأحكام العقل والعقلاء هو موافقة على هذه الأحكام أو هو في جوهره موافقة على مرجعيّة العقل الإنساني في التشريع في الجملة، فكأنّ الشريعة لم تتدخّل في المساحة التي يقوم العقل والعقلاء فيها بالتشريع اعتماداً منها على مرجعيّة العقل بوصفه هبة الله للإنسان، لا أنّها تدخّلت بالموافقة على الأحكام دون الموافقة على أصل مرجعيّة العقل والبناء العقلائي؟ وهذا يعني أنّ سكوت الشارع عن البناءات العقلائيّة والأحكام العقليّة العمليّة ليس هو مجرّد ضمٍّ لها إلى شريعته بالضرورة، بل هو إحالة أو إقرار بمرجعيّة العقل والتوافق العقلائي القانوني، وتركاً لهذه المساحة ما دام النشاط العقلي والعقلائي يتحرّك فيها بشكل مصيب.
وبعبارةٍ أخرى: هل السكوت هنا إعلان بيان حكم شرعي أو هو ترك التدخّل المباشر لصالح الإحالة على مرجعيّة معترف بها، وهي مرجعيّة العقل والتوافق العقلائي؟
هذه الأسئلة يمكن لأنصار هذه النظريّة هنا الإجابة عنها وفقاً لأصولهم الفكريّة، من حيث إنّ تفسير شموليّة الشريعة بمعنى الشموليّة التفصيليّة يجعل الفرضيّة الأقرب هنا هي صيرورة أحكام العقل والعقلاء جزءاً من الشريعة، ويمكن لنا أن نقرّ بدور العقل في الوصول إلى جزء من الحقيقة القانونيّة، لكنّ هذا لا يكفي للاعتماد عليه دون وجود إمضاء شرعي لكلّ حالة من حالات حكم العقل والعقلاء.
4 ـ طاقة النصّ، هل تقدر النصوص المطلقة والعامّة على حلّ مشكلة النوازل فعلاً؟
نريد هنا أن نسلّط الضوء أكثر على حالة أن يأخذ الفقيه اللسان التعميمي أو الإطلاقي الموجود في النصوص، ثم يقوم بوصله وربطه بالواقع المستجدّ، كأن يأخذ بعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، لكي يأخذ حكم بعض المعاملات الماليّة المستجدّة كبعض أنواع الشركات الحادثة، وفي هذه الحال سوف يمتلك الفقيه مستنداً من النصّ يحكي بشكلٍ من أشكال الحكاية عن الموقف المستجدّ. واُريد هنا أن أنتقد خصوص ظاهرة الإفراط في استخدام النصّ وطاقاته التعميميّة، لفهم حكم بعض الظواهر الحادثة، ولا اُريد أن اُعلّق على أصل استخدام العمومات والمطلقات ولا على استخدام الأصول العمليّة أو البناءات العقلائيّة، فهذا ليس ضمن نطاق هذه المداخلة الآن، ومن ثمّ فهدفي من هذه المداخلة هو تخفيض مستوى التفاؤل بإمكانيّة اعتماد طاقة النصّ ـ من العموم والاطلاق ـ لحلّ بعض المشاكل الحادثة والوقائع النازلة بعيداً عن العناوين الثانويّة.
إنّ الملاحظ في اجتهاد النوازل أو الاجتهاد في المسائل المستحدثة أنّ الفقهاء اعتمدوا كثيراً على العموم والإطلاق في النصوص لتسرية الحكم لحالاتٍ لم يكن لها وجود من قبل، خاصّة مع فرضيّة أنّ الأحكام مسوقة مساق القضايا الحقيقيّة وليست الخارجيّة، ولهذا يجد المتابع لحركة الاجتهاد في المسائل المستحدثة ـ خاصّة خلال القرن الأخير ـ أنّ الفقه الإسلامي ركّز كثيراً على طاقة النصّ من جهة أولى، كما اهتمّ كثيراً بالأصول العمليّة (البراءة والاحتياط والاستصحاب و..) من جهة ثانية، وتابع ـ من جهةٍ ثالثة ـ قضيّة العلل وبيانات التعليل في النصوص كي يعمّم بها أو يوسّع، مستعيناً بالسِّيَر والبناءات العقلائيّة من جهة رابعة.
وهنا ينبغي إعمال المزيد من التأمّل في قدرة هذه النصوص على إعطاء حكمٍ أوّلي للظاهرة المستجدّة، حيث لا نتحدّث عن الحكم الثانوي، فهل يمكن للنصوص العامّة أو المطلقة حلّ هذه النوازل جميعها؟ وهل أنّ مناهج الاجتهاد التي قدّمتها التجربة الفقهيّة إلى الآن على مستوى فقه النوازل والمستحدثات كانت موفّقةً من جهة قراءتها للنصوص أو أنّها أثقلت ـ أحياناً ـ كاهل النصّ مستهدفةً استخراج نتائج منه لا يفهمها العرفُ وأهل اللغة؟
أعتقد أنّ النصوص تتنوّع هنا إلى أنواع عدّة:
النوع الأوّل: النصوص التي نجد لديها القدرة على تحقيق هذا الغرض مباشرةً، كما لو أطلقت قانوناً عاماً على موضوع واحد، غاية الأمر أنّ هذا الموضوع الواحد ظهرت له أشكال جديدة ومصاديق حادثة متساوية في صدق العنوان عليها كمثال العقود المتقدّم، فإنّ صدق الآية الكريمة أو آية التجارة عن تراضٍ على مختلف أشكال التجارات الحادثة (بعد فرض شمول كلمة التجارة لغير البيع) يساوي تماماً صدقها على أشكال المعاملات المالية السابقة، غاية الأمر أنّ العنوان ظهر له مصداقٌ جديد، وحيث إنّ النصّ لم ينصبّ على عناوين المصاديق بنفسها، وإنّما على العنوان الجامع لها، لهذا لم تكن هناك مشكلة في ظهور مصداق جديد مشمول للحكم، ويمكن حينئذٍ أن نقول: إنّ كلّ نازلة أو مستحدثة إذا شكّلت ظهوراً جليّاً لمصداقٍ جديد لعنوانٍ كان له في الشرع حكمٌ واضح وشفّاف، فإنّ قدرة النصّ على الشمول ستكون واضحة لا لُبس فيها بصرف النظر عن قضيّة الإطلاق الأزماني التي أثارها أمثال شبستري وشمس الدين، والتي سوف يأتي الحديث عنها ـ إن شاء الله تعالى ـ في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
خلافٌ في معياريّة المستحدثات والقضايا النازلات
ولعلّه لذلك، أي لوضوح خروج هذا النوع عن وجود مشكلةٍ فيه في موضوع بحثنا، لم يعدّه بعضُ من كتب في فقه المسائل المستحدثة جزءاً من مستحدثات المسائل([13])، فقد وقع خلاف بين الباحثين في تعريف المسألة المستحدثة والضابط الموضوعي فيها على رأيين:
الرأي الأوّل: إنّ المسألة المستحدثة هي كلّ موضوع جديد يُطلب له حكمٌ شرعي، سواء لم يكن في السابق أم كان لكن تغيّرت بعض قيوده، فالأوّل من قبيل النقود الاعتباريّة التي لم تكن من قبل، والثاني من قبيل اعتبار الماليّة لبعض الأعيان النجسة التي لم تكن لها ماليّة([14]).
ولعلّه يندرج ضمن هذا الرأي التعريف السنّي المعروف للنوازل؛ إذ عادةً ما يقصدون بها الوقائع المستجدّة الملحّة، والتي تتطلّب اجتهاداً ونظراً، ولم يكن حولها عند السابقين موقفٌ أو بحث حقيقي([15]).
الرأي الثاني: إنّ المسألة المستحدثة هي خصوص تلك المسألة التي لم يكن لها أو لا يعقل لها موضوعٌ في السابق، مثل ترقيع الأعضاء وزرعها أو مثال النقد الورقي المتقدّم، وهذا ما ذهب إليه صاحب الرأي المتقدّم الذي رفض جعل مثل التجارات الحادثة المشمولة للعمومات من النوازل والمستحدثات.
ونحن وإن كنّا نميل إلى جعل التعريف الأوّل هو الأصحّ، والمسألة مسألة اختيار واعتبار؛ لعدم ورود هذه التعبيرات في كتابٍ أو سنّة، إلا أنّنا نقرّ بأنّ هذا النوع من المستحدثات لا نواجه مشكلةً أساسيةً فيه مع النصوص، والسبب هو أنّ النص يحكي عن نفس العنوان الذي ينضوي تحته المصداق الجديد، فتتساوى حكايته عنه مع حكايته مع المصداق القديم، ولا تظهر مشكلة دلاليّة في البَين.
من إطلاق العنوان وعمومه إلى طاقة التعليل والملابسات والوسائل المساعدة
النوع الثاني: النصوص التي لا نجد فيها عموماً أو إطلاقاً من هذا القبيل الذي تقدّم في النوع الأوّل، إلا أنّ الجهد الفقهي يحاول أن يُلامس النصّ والواقع الحادث بطريقة فيها ضربٌ من الدقّة والخفاء، ومع ذلك يعدّ المرجع هو الإطلاق، وذلك كما لو ورد النص بطريقة لا تشمل الحالة الحادثة بحيث تكون هذه الحالة مجرّد مصداق جديد للعنوان الوارد في النصّ، لكنّه كان يحتوي تعليلاً صالحاً للشمول للحالة الجديدة، فيؤخذ حينئذٍ بإطلاق التعليل، ليكون مفاد الحكم أوسع من مفاد الخطاب، فعندما تحرَّم الخمر (عصير العنب المختمر بنفسه تدريجيّاً)؛ لإسكارها، ثم تظهر موادّ جديدة مسكرة ليست بخمرٍ بالمعنى العرفي، فإنّه ولو لم نتمكّن من جعل تحريم الخمر شاملاً للحالة الجديدة، لعدم صدق عنوان الخمر المأخوذ في الخطاب عليها، إلا أنّ التعليل يمكنه أن يستوعب هذه الحال، ويُفْهِمَنا أنّ المشرّع يحرّم في الأصل كلَّ مسكر.
إنّ قدرة النصوص التي تبيّن العلل على مساعدتنا هنا كبيرةٌ، شرط أن يكون ظاهر النصّ واضحاً في أنّه يريد بيان مركز الحكم، سواء كانت العلّة إثباتيّةً أم ثبوتيّة، والعلل ـ كما نعرف ـ تضيّق وتوسّع.
ومن الواضح أنّه في الحالتين المشار إليهما لا نواجه ما أثاره ـ كما سيأتي ـ العلامة شمس الدين، من أنّ النصوص لا تشمل الحالة الجديدة لا بعمومٍ ولا بخصوص، فإنّ الشمول هنا واضح، ولا يحتاج إلى تكلّف أو تطويع للنصّ.
لكن قد لا يملك الفقيه أيّ دلالة إطلاقية من هذا النوع في النصّ، ومع ذلك نجده يتلمّس طرقاً للخروج من المأزق، وهذه الطرق يمكن ذكر بعضها، وهو:
أ ـ إلغاء الخصوصية، بأن يجد النصّ يحكي عن حالة قديمة، لكنّه يرى أنّ العُرف يُلغي خصوصيّة الحالة السابقة ويرى النصّ شاملاً لما كان مثلها في الروح.
ب ـ التجريد، وذلك بأن يأخذ النص ويجرّده عن خصوصيّاته الزمكانيّة بطريقة تحليلية عرفيّة، فيرى أنّه يشمل الحالة الجديدة.
ج ـ أن يسعى الفقيه لإرجاع بعض العناوين الحادثة إلى عناوين قديمة، كإرجاع عقد التأمين إلى عقد من العقود المتعارفة قديماً.
وقد رأينا الكثير ممّن اجتهد في المسائل المستحدثة يستخدم هذه السبل للوصول إلى الموقف الشرعي، وقد يقع أحياناً في تأوّلٍ مفرط للنصوص، وقد يقع في أحيان اُخَر في تكلّف واضح وإضافة ذاتيّة افتُرضت افتراضاً في النصّ، وهنا لابدّ من أن يكون إيقاع الفهم عرفيّاً.
رجوع الفقيه خالي الوفاض من النصوص ومعيناتها، مشاكل فقدان النصوص
النوع الثالث: النصوص التي لا تحمل دلالةً إطلاقيّة مباشرة أو قدرة استيعابيّة غير مباشرة بالشكل الذي شرحناه آنفاً، وهنا قد يفقد الفقيه كلّ هذه الأدوات المتقدّمة، فيريد أن يضع قوانين لقضايا البيئة أو الجمارك أو غيرها، فلا يجد نصوصاً مباشرة ولا إطلاقات مباشرة، ولا يملك تعليلات واضحة مرتبطة بحيث تقدر بنفسها على صياغة منظومة قانونيّة لقضايا البيئة اليوم، ولا يمكنه ممارسة التجريد وإلغاء الخصوصيّة إلا بضربٍ من التكلّف والتأويل، فما العمل في هذه الحال؟
هنا يواجه الفقيه بالفعل بعض المشاكل بما يُعيق إمكانية إسناد الفتاوى الصادرة في المستجدات الحادثة إلى النصوص إلا بضربٍ من التكلّف، وأهمّ هذه المشاكل هو الآتي:
المشكلة الأولى: أزمة الانصراف الدلالي الجادّ
المشكلة الأولى هنا هي انصراف النصوص ـ في هذه الحال ـ عن هذه القضايا الحادثة التي لم يكن لها عين ولا أثر في زمن النصّ، فكيف يمكن من النصوص أخذ أحكام زرع الأعضاء أو الإحرام في الطائرة عند محاذاة المواقيت أو حقوق الملكيّات الفكريّة أو غير ذلك؟! وهل حقاً نستطيع بكلّ جرأة أن نقول للآخر: إنّ أحكام هذه الأمور وردت في نصوص الكتاب والسنّة؟
إنّ النصوص منصرفة عن هذه القضايا وتتعرّض لقضايا من نوع آخر ومناخ آخر، فمن الصعب إثبات وجود نصوص في هذه الموضوعات إلا بضرب من التكلّف المبنيّ على مصادرة قبليّة تثبت أنّ كلّ واقعة ولها حكم، وهي مصادرة تُثبت وجود حكم، ولكنّها لا تُثبت وصول نصّ إلينا في هذا الحكم.
وقد يُجاب عن هذه المشكلة بأنّ هذه الانصرافات بدويّة ناشئة عن كثرة وجود مصداق محدّد، مع أنّ الأحكام سيقت على نهج القضيّة الحقيقيّة([16]).
ولكنّ هذا الجواب ينفع في النوع الأوّل الذي يحوي إطلاقاً في العلّة أو في العنوان، لا تكون معه المسائل الحادثة سوى مجرّد مصداق جديد لعنوان ورد حكمه صريحاً في النصّ، ولا ينفع في أيّ حالةٍ أخرى؛ لأنّ الانصراف في الحالات الأخرى هو انصراف أساسي، بمعنى أنّ النصوص لا تحكي عن عنوان يشمل الحدث الجديد، ولا يفهم منها العرف النظر لمثل ذلك (بعيداً عن الغرق في مصطلحات الانصراف الناتج عن كثرة المصداق أو غيره) فأين هو النصّ في مقادير الزكاة في الغلات على القمر وكذا مقدار الكرّ من الماء وأنّه بالوزن أو بالحجم؟ هل يمكن للإنسان العرفي لو قرأ نصوص الزكاة أو الكرّ أن يفهم هذه القضيّة عبر طرق الاجتهاد السائدة؟ وأين هي نصوص العبادات في القطب الشمالي؟ وهل نستطيع أن نقول بأنّ النصوص تشمل الحالة هناك بحيث يصلّي الإنسان بمقدار يوم في العام ـ كما يذهب إليه بعض الفقهاء([17]) ـ ونحن قد نشعر بأنّ الشريعة لا يُعقل انسجامها مع مفهوم من هذا النوع؟ وماذا عن الصلاة لو سافر شخص لسنوات طويلة في طائرة سرعتها بسرعة الأرض بحيث لم يمرّ عليه لا شروق ولا غروب طيلة سنوات، فأين هي نصوص حكم الصوم لو سافر المكلّف إلى الغرب وبقي مسافراً لأيام ـ بل لسنوات ـ بحيث لا تغيب الشمس عنه؟ وإذا حاضت المرأة وشرطنا في الحيض استمرار الدم ثلاثة أيّام متتالية ثم صعدت في صبح اليوم الأوّل في طائرة واتجهت غرباً بسرعة الأرض واستمرّت كذلك ثلاثة أيّام من أيّام أهل الأرض، لكنّها لم يمرّ عليها إلا وقت صبح واحد طويل، فهل إطلاقات النصوص تشمل هذه الحال بحيث لا يحكم بالحيضيّة هنا أو أنّ الإطلاق يفهم منه ما يكون بالنسبة لأهل الأرض؟ هل حقّاً يفهم العرف شيئاً حول هذه القضيّة من إطلاقات نصوص الحيض؟! وماذا لو تمكّن البشر يوماً من الانتقال إلى كوكبٍ لا تُشرق عليه الشمس ولا تغرب أصلاً، فكيف تستطيع النصوص أن تغطّي آلاف الأحكام المتصلة بالزمان والأيّام والليالي؟ أليس من الأفضل هنا أن نتحدّث عن فقدان النصّ وليس عن عموماته؟
وقد تصرّ على اعتبار الانصراف هنا مصداقيّاً وليس عرفيّاً، لكن ماذا عن تغيير الجنس، وترقيع الأعضاء والاستنساخ وغيرها من عشرات المسائل؟!
هل حقّاً يمكن لنا أن نُقنع محايداً بأنّ النصوص الموجودة بين أيدينا تشمل بالإطلاق والعموم هذه الحالات أو أن الفقهاء في حالات أقلّ من هذا المستوى نجدهم يدّعون الانصراف بلا تكلّف؟ هذا فضلاً عن اشتمالها على القوانين البيئيّة وقضايا استهلاك ثروات الأرض وغيرها.
أعتقد أنّ إشكاليّة الانصراف هي بهذا المعنى، خاصّةً وأنّنا لا نقدر على إثبات أنّ النبيّ كان في مقام البيان من هذه الجهة لهذه الحالة الطارئة، والنصوص عندهم كثيراً ما يحملونها على الأعم الأغلب، فكيف نتمسّك بالإطلاق ونحن لا نحرز نظر المتكلّم في هذا النصّ بالخصوص لمثل هذه الحالات؟! فلعلّه بيّن هذه الحالات في مكان آخر لم يصلنا. هذه هي مشكلة الانصراف وضعف انعقاد الإطلاق، لا بمعنى مجيء عنوان «العقود» ويُدّعى انصرافه عن العقود الجديدة، فإنّ هذا أمره سهلٌ يسير، بل بمعنى أنّ من راجع نصوص الشرع من أوّلها إلى آخرها لا يخرج باستنتاج مفاده أنّ هذه النصوص تحكي عن هذه القضايا أساساً، إلا بضربٍ جديدٍ من الاجتهاد، فإنّ كلامنا في قواعد الاجتهاد السائدة.
والغريب أنّ بعض الباحثين المعاصرين حاول أن يوحي بأنّ القضايا الحادثة لم تكن غريبة عن ذهن أبناء تلك العصور حتى تحدث قطيعة بين العصرين، فذكر أنّ وسائل النقل الحديثة يمكن أن تشملها أدلّة السفر من خلال مسألة الإسراء وطيّ الأرض وبساط سليمان، وكذلك مسألة إحياء الموتى بإذن الله، فهي تناسب ترقيع العضو وإطلاق دليل طهارة الحيّ لجزئه الترقيعي، ومثل وجود يوم مقداره خمسون ألف سنة، فإنّه يناسب صدق عنوان اليوم (النهار) على الأيّام الطويلة كعشرين ساعة، وهكذا سائر المعاجز والكرامات يمكن أن تخلق جوّاً في هذا السياق([18]).
إنّني أرى أنّ هذا الحدّ من التكلّف لجعله مؤيّداً للعمومات والمطلقات غريبٌ عن فقيه متمرّسٍ موضوعي، فأيّ ربط بين إحياء الموتى بوصفه ظاهرةً عيسويّة ومسألة ترقيع الأعضاء حتى نستفيد من الإطلاقات هنا؟! هل هذا الفهم عرفي وعقلاني أو هو رغبة غارقة في التكلّف وتأويل النصوص لتلبّي حاجاتنا ونحن في مأزق؟! وهل نحن نتحدّث عن عجز في المخيّلة آنذاك حتى يكون لهذا الموضوع ربط بإمكانيّة الأخذ بالإطلاق؟! إنّ الإطلاق والعموم يرجع فيهما للعرف، ونحن الآن نتكلّم بكلام نذكر فيه كلمة يوم ومسافة وزمن ومكان، فهل هذا يعني أنّ هذه الكلمات في استخداماتنا تشمل الحالات النادرة ويفهم بعضُنا من بعض لو أطلقنا الكلامَ مثلَ هذه الحالات أو هو منصرف للحالة الطبيعيّة؟ ولذلك أنت تجد أنّ مثل السيد الخوئي لا يقبل بجريان حكم اليوم الواحد على اليوم الذي يكون في القطب الشمالي ويستمرّ لسنة كاملة بليله ونهاره؛ حيث يرى أنّ العرف يفهم من كلمة يوم هذا المقدار المعروف، أمّا اليوم الذي يستوعب السنة كاملةً فاللفظ منصرفٌ عنه جزماً بحسب تعبير الخوئي نفسه([19]).
ومن هذا القبيل، محاولة الدفاع بأنّ صاحب الشرع عالمٌ بالغيب وبكلّ المصاديق الحادثة، فتكون نصوصه شاملةً للمستجدّ، وهذا بخلاف غيره ممّن لا يتوقّع فيه هذا العلم([20]).
فإنّ هذا تفسيرٌ أيديولوجي غير مقبول؛ وذلك أنّنا لا نعلم أنّ صاحب الشرع قد قصد الموارد الحادثة أساساً من هذه النصوص، وإنّما نعرف بالنصوص، وهو يستخدمها على طريقة العرف، فالمرجع هو الفهم العرفي للنصّ ولو مع الأخذ بعين الاعتبار علمه ودرايته، فالمرجع هو النصّ نفسه في أن يعبّر لنا، ومجرّد أنّه يعلم لا يوجب تبلور الظهور العرفي إلا في الحال الأولى والثانية ـ لو تمّت عناصرها ـ من حالات الإطلاق والعموم والتي قد لا تحتاج إلى معرفته الغيبيّة أساساً.
المشكلة الثانية: معضلة سنّ القوانين الحادثة
إنّ هذه الطرق المتقدّمة وإن أفادت في مساحة معيّنة وتجاوزت مشكلة الانصراف المتقدّمة على سبيل الفرض، إلا أنّها لا تستطيع أن تجيب ـ مع العمومات ـ عن القوانين الحادثة التي نحتاجها اليوم، والتي يقوم وليّ الأمر والدولة الإسلاميّة بسنّها لمصالح تراها، مثل بعض قوانين السير أو المحاكمات أو الاستيراد والتصدير أو غير ذلك؛ لأنّ هناك الكثير من القوانين اليوم ليس لها مرجعٌ في النصوص سوى مرجعيّة المصلحة أو حفظ النظام أو نحو ذلك، وقد سبق أن ناقشنا في اعتبارها مقرّرات إجرائيّة، وهذا يعني أنّ النصوص لا تحوي سوى الأصول التحتيّة لهذه القوانين كحفظ النظام، وهذا غير أن تحوي النصوصُ القوانينَ نفسَها، فكيف يمكن أن أدّعي شموليّة الشريعة وأنا أفترض أنّ هذه القوانين غير موجودة في النصوص أساساً وإنّما يأتي بها وليّ الأمر ـ كائناً من كان ـ تحت عنوان شرعيّ عام؟!
قد تقول: إنّه من غير الممكن أن تحوي النصوص كلّ هذه القوانين؛ لأنّها وليدة ظروف جديدة لا يفهمها المسلم في العصر الأوّل، ومن ثمّ فمن غير الميسور عمليّاً مخاطبته بها، مما يفرض على الشريعة أن يكون خطابُها بالعموم الكلّي.
والجواب: إنّ هذا إقرار بالعجز؛ بل هذه هي دعوى العلمانيّ أو الحداثي في عدم قدرة الدين على مواكبة العصور اللاحقة جميعها، فليس المهم الآن لماذا لا نجد هذه القوانين في النصوص، بل المهم أنّنا حقّاً وواقعاً لا نجدها في النصوص، سواء كان فقدانها مبرّراً أم غير مبرّر.
والنتيجة التي نخرج بها من هذه المداخلة كلّها هي أنّ طاقة النصوص لا تتمكّن من استيعاب كلّ الوقائع المستجدّة والحادثة، وأنّنا أمام خيارين: إمّا التكلّف والتأوّل في فهم النصوص بطريقة غير عرفيّة ولا لغويّة، أو الإقرار بعدم وجود بعض القوانين والمواقف من بعض الظواهر الحادثة في النصوص، وأنّ علينا نحن أن نتخذ منها موقفاً أو نسنّ فيها قانوناً ننطلق فيه من المبادئ التشريعيّة العامّة والروح القانونية الكليّة للدين بحيث لا نتصادم مع أيّ موقفٍ شرعي ثابت، ولا أقلّ من أنّ الاستعانة بطاقة النصّ ليست ناجحة دائماً في الكشف عن الشموليّة ميدانيّاً.
هذه النتيجة التي نتوصّل إليها الآن تُثبت لنا ـ بالتجربة والمراقبة الذاتيّة ـ أنّ فكرة فقدان النصوص التي انتبه إليها الفقه السنّي في القرن الثاني الهجري، باتت جميع المذاهب الإسلامية تواجهها اليوم، وأنّه من الضروري التفكير بحلّ لهذه الظاهرة، وحيث إنّ فكرة القياس الظنّي وأمثاله لا دليل عليها من وجهة نظرنا، لزمنا الرجوع إلى مرجعيّة أخرى، وهي في تقديري مرجعيّة (العقل الإنساني المؤمن) ضمن هدي الشريعة وقيمها في دائرة المستجدات التي نفتقد فيها نصوصاً، والأمر يحتاج لجرأة الإقرار بفقدان النصوص.
5 ـ نقصان المعرفة الفقهيّة وادّعاء بناء نظام دنيوي منافِس!
من الضروري الانتباه إلى النقطة ما قبل الأخيرة من نقاط توضيح هذه النظريّة، وهي التمييز بين الدين في نفسه والدين بالنسبة إلينا أو في أفق إدراكنا ووعينا، فنحن نوافق تماماً على هذا التمييز، بمعنى عدم وجود موجب للتطابق دوماً بين الأفقين المذكورين، لكنّ هذا لا يمنع من تسجيل مداخلة هنا، وهي أنّ المجتهد الإسلامي أقام نظريّته في الشرع على مبدأ التنجيز والتعذير، معتمداً ـ بحسب وجهة نظره في أغلب ما خرج به من قوانين إسلاميّة ـ على الظنّ الذي توصّل في أصول الفقه إلى القول بحجيّته، وعلى أنّه غير متأكّد من كون ما توصّل إليه يمثل موقف الشريعة الكامل من الموضوع، وهذا المبدأ له طابع أخروي بالتأكيد، بمعنى أنّه وفق اجتهاد الفقيه يمكنه أن ينجّي الإنسان في الآخرة، لكن إذا كانت النظريّة القانونية الإسلامية ظنيّةً في أغلب مواردها، وغير كاملة في عناصرها المكتشفة، فكيف يمكن تقديمها اليوم بوصفها علاجاً للقضايا الدنيويّة وصيغةً قانونيّة تنظّم حياة الإنسان في علاقته بالإنسان والطبيعة؟!
إنّ تقسيم الأحكام إلى أوّلية وثانوية من جهة والتخفيف من دور الدولة بوصف قوانينها بالمقرّرات من جهة ثانية، لن يغيّر شيئاً من واقع أنّ هذه الأحكام غير مؤكّدة في بُعدها الواقعي، وأنّ نظريّات إمكان التعبّد بالظنّ لا تقدّم سوى صوراً إمكانية لتعقّل هذا التعبّد في مقابل استحالته، دون أن تتمكّن من إثبات نفسها كما ذكرنا ذلك غير مرّة، ومعه فكيف يمكن للنظريّة الإسلامية اليوم أن تقدّم نفسها في مقابل التيار العلماني ما دامت هي بنفسها غير متأكّدة من أنّ ما توصّلت إليه يمثل الدين الواقعي الذي نظّم حياة الإنسان واستوعبها بكلّ تفاصيلها؟!
يبقى هذا السؤال برسم المدرسة التقليدية، بل هو في واقع أمره إيرادٌ على مجمل تيارات الاجتهاد السائدة بما فيها أصحاب نظريّة الثابت والمتغيّر ومنطقة الفراغ.
إلا أنّ هذه الإشكاليّة لا تأتي بشكل قوي على نظريّتنا في عدم حجيّة الظنّ في الدين، بل يمكن الدفاع عن الرأي المدرسي هنا أيضاً وردّ ثقل هذه الإشكاليّة عنه، وقد سبق أن بحثنا هذه القضيّة بشيء من التفصيل في موضع آخر، وقدّمنا بعض الحلول والمخارج فراجع([21])، حتى لا نكرّر أو نطيل.
لكن ثمّة نقطة ينبغي الانتباه إليها هنا، وهي أنّ الاستعانة بالأصول العمليّة (البراءة ـ الاحتياط..) في حلّ مشكلات المتغيّر والحادث، لا تنفع هنا؛ لأنّ المفروض أنّ بحثنا يقع ضمن فكرة تسييل شمولية الشريعة الواقعية أو المنكشف لنا منها، والمفروض ـ وفق قواعد أصول الفقه ـ أنّ الأصول العمليّة جميعاً، أو مع غض النظر عن الاستصحاب، هي مجرّد وظائف عمليّة في حال انعدام المعرفة بالحكم الواقعي تماماً وعدم قيام مؤشر عليه يحظى بقيمة وحجيّة، ومن ثمّ فالأصول العمليّة تحدّد وظائف المكلّفين في هذه الحال، ولا تقدّم شريعةً شاملة تطرح نفسها برنامجاً للحياة، وإن كانت في نهاية المطاف برنامجاً عمليّاً للمكلّف يجعل ذمّته بريئة عند عدم وصوله للشريعة الواقعيّة. هذا كلّه بصرف النظر عن القول بأنّ الأصول العمليّة كلّها ـ أو عدا الاستصحاب ـ ليست إلا مواقف العقل الإنساني العملي في ظلّ غياب الشريعة بقصد رفع مسؤوليّتها عن كاهل الإنسان.
6 ـ إلى أين يتجه بنا الفهم التاريخاني والمقاصدي؟
بعيداً عن التعليق على النقاط الأساسيّة لهذه النظريّة، أودّ هنا أن أسلّط الضوء قليلاً على المناهج الجديدة في الاجتهاد، والتي يمكنها أن تساعد على تقوية موقع هذه النظريّة، إنّني أعتقد بأنّ الأمر يقف على عكس ذلك تماماً، وبالحدّ الأدنى لا تتمكّن نظريات مقاصد الشريعة ولا المنهج التاريخي في فهم النصوص من إسعاف هذه النظريّة المدرسيّة هنا في مدّعياتها إلا أحياناً وبشكل جزئي؛ والسبب في ذلك هو تحليل بنية هذين المنهجين والمآلات المترقّبة التي يمكن أن يوصلا إليها، فإنّ المنهج التاريخي والمنهج المقاصدي إذا استطاعا التحكّم بمفاصل الاجتهاد الديني، فهما في العادة يتجهان نحو تحرير الفقه من القوالب والصيغ الزمنيّة الموجودة في النصوص والخطابات، وهذا ما يُنتج تلقائيّاً تحوّل النتائج الفقهيّة إلى نتائج أكثر كليّةً وعموميّة، وغياب الصيغ التطبيقيّة عنها لصالح صيرورتها زمكانية ووسائليّةً غير مقصودة بذاتها عند الشارع سبحانه وتعالى.
وينجم عن ذلك أنّ الفقه لن يكون غالباً ـ خاصّة في مجال العلاقات الإنسانيّة وفي السياسات والإدارة المجتمعيّة ـ سوى مجموعة من الكلّيات والقواعد العامّة والمبادئ القانونيّة والدستوريّة، وهذا ما يعزّز موقف القائلين بعدم إمكان التوصّل ميدانياًَ إلى الشموليّة التفصيليّة للشريعة، بل ستغدو الشريعة أقرب إلى الصيغ العامّة التي تحتاج بطبيعتها للإنسان كي يقوم بصبّها على شكل قوالب قانونيّة تفرضها ظروف الزمان والمكان.
من الممكن أن يكون التوظيف الجزئي لمنهجَي المقاصد والتاريخيّة نافعاً في بعض الحالات، لكنّ تحكيم هذين المنهجين يوسّع في العادة من الدائرة الكليّة ويضيّق من الدائرة التفصيليّة، ويلغي الفتاوى التي تلاحق تفاصيل الأشياء ليضع الموقف أمام إطار أكثر عموميّةً، وهذا ما يقع لصالح الرافضين لفكرة الشمولية التشريعية التفصيليّة بالشكل الذي بيّناه عند مناقشة استخدام العناوين الثانويّة في إدارة المتغيّرات وتغطية المستجدّات.
7 ـ شموليّة الشريعة والموقف من الحياة المعاصرة
أختم التعليقات على هذه النظريّة بالحديث ـ بشكلٍ مختصر أيضاً ـ عن الموقف السلبي من الحياة المعاصرة، والذي تكلّمنا عنه مطلع الحديث عن هذه النظريّة.
إنّ هذا الموقف مقبولٌ إلى حدّ جيّد في رأيي؛ فالحياة المعاصرة تحتاج لإعادة نظر شاملة، وتكوينها مجدّداً وفقاً لرؤية أكثر دينيّةً وأخلاقيّة، وما يبدو لنا هو أنّه قد جُررنا نحو خطأ تاريخي كبير باعتماد نمط عيش من هذا النوع، لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ ما فرضته الحياة المعاصرة كان كذلك، بل هناك مسار تطوّري بشري طبيعي يجب أخذه بعين الاعتبار حتى لو لحقتنا بعض سلبيّاته المترقّبة، والحياة المعاصرة ليست شيطاناً مطلقاً.
بل لو فرضنا هذا، فإنّ الشريعة كما هي مسؤولة عن تصحيح هذا الخطأ وتقديم برامج في هذا الصدد، كذلك هي مسؤولة عن تحديد مواقف المكلّفين من الأفراد والجماعات في ظلّ هذا الوضع، إلى أن يتغيّر الحال، وتعود الأمور لصورتها الصحيحة على سبيل الفرض، ما دامت هذه الشريعة شاملة وخالدة.
وفي حالةٍ من هذا النوع، ما هو موقف الشريعة من الظروف الطارئة وأنماط الحياة القائمة اليوم في ظلّ عدم إمكان تغييرها أو في ظلّ احتياج هذا التغيير إلى مدد زمنية طويلة المدى؟ فماذا يفعل الناس في هذه الفترة؟ وكيف يديرون أمورهم ومستجدّاتهم؟ ونحن لا نتكلّم عن أفراد فقط، بل نتكلّم عن الأمّة الإسلاميّة كلّها فيما هو اللازم عليها اتخاذه في هذه الحال.
إنّ رفض أنماط من الحياة المعاصرة لا يعني أنّنا تخلّصنا من استحقاق الجواب عن أسئلتها ما دامت قائمة، ومن ثم فهذا التوجّه لا يغيّر كثيراً من المشكلة التي نحن فيها؛ لأنّ الشريعة ليست فقط شريعة الله في حال كون الناس صالحين في مدينةٍ فاضلة، بل هي الشريعة أيضاً في ظلّ أسوأ الظروف، وفي حال كون الناس في أوضاع غير صحيّة كذلك؛ لأنّ المفروض أنّ القانون الشامل هو القانون الذي ينظّم حياة البشر في مختلف ظروفهم وأحوالهم.
وأكتفي بهذا القدر من المداخلات على هذه النظريّة، لأنتقل إلى النظريّة الثالثة في هذا المجال، وقد تبيّن لنا أنّ النظريّة المدرسيّة غير قادرة على تقديم تفسير معقول لشموليّة الشريعة يتمكّن من مواكبة المتغيّرات والمستجدات كافّة، ليُثبت الشموليّة التفصيليّة بالمعنى المدرسي على أرض الواقع.
___________________________
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (شمول الشريعة، بحوث في مديات المرجعيّة القانونيّة بين العقل والوحي: 376 ـ 413)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر دار روافد في بيروت، الطبعة الأولى، 2018م.
([2]) ثمّة كتابات كثيرة في الفقه السني القديم والحديث حول موضوع تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان والأحوال والعادات، وقاعدة العادة محكمة، وغير ذلك ممّا يدرس عوامل تغيّر الأحكام والفتاوى في النظريّة والتطبيق، فلتراجع، فقد صُغنا البحث بشكل كلّي هنا.
([3]) راجع: الخميني، صحيفة نور 2: 170، و21: 98؛ وأحمد مبلّغي، الثابت والمتغيّر في الفقه الإسلامي، قراءة في جهود التيار النهضوي: الخميني، الطباطبائي، الصدر، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 1: 207 ـ 209.
([4]) انظر ـ على سبل المثال ـ: مطهري، الإسلام ومتطلّبات العصر: 144، 149، 151؛ والشيرازي (تحت إشرافه)، شموليّة الشريعة نقد نظريّة الفراغ القانوني في الإسلام، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 38 ـ 39: 16 ـ 17؛ وكامل الهاشمي، الثابت والمتغيّر في الفقه الديني (ضمن كتاب تجديد الفكر الديني): 170 ـ 171.
([5]) انظر: القرضاوي، عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلاميّة: 71 ـ 73.
([6]) راجع: دائرة المعارف فقه مقارن 1: 215 ـ 216 (تحت إشراف الشيخ مكارم الشيرازي)؛ وجعفر السبحاني، الأحكام الشرعيّة بين الثوابت والمتغيّرات، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 48: 165؛ وصدر الدين القبانجي، الأصالة والمعاصرة في نظريّة أهل البيت، مجلّة آفاق الحضارة الإسلاميّة، العدد 10: 119 ـ 120؛ ويستوحى من محمّد المؤمن، قوانين ثابت ومتغيّر، مجلّه فقه اهل بيت (بالفارسيّة)، العدد 56: 74 ـ 75، وإن كان في بحوث أخرى للشيخ المؤمن يظهر منه القبول بمبدأ جعل القانون من قبل ولي الأمر، بل يجعله من وظائفه، فلاحظ له: الولاية الإلهيّة الإسلاميّة 1: 316 ـ 323. وقد سبق أن تعرّضنا لبعض كلامه.
([7]) انظر: محمّد بن حجر بن حسن القرني، التشريع الوضعي في ضوء العقيدة الإسلاميّة: 50 ـ 51.
([8]) الراوندي، فقه القرآن 1: 13.
([9]) انظر: الغزالي، المستصفى: 296.
([10]) انظر: القرضاوي، عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلاميّة: 49 ـ 64.
([11]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: تحت إشراف الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، دائرة معارف فقه مقارن 1: 213 ـ 221؛ وشموليّة الشريعة نقد نظريّة الفراغ القانوني في الإسلام، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 38 ـ 39: 13 ـ 17، 20 ـ 26؛ وتفسير الأمثل 13: 284 ـ 285؛ وأنوار الفقاهة 1: 553؛ وعبد الله نصري، الدين بين الحدود والتوقّع: 124 ـ 138؛ ومطهري، الإسلام ومتطلّبات العصر: 144، 149، 151؛ وجعفر السبحاني، الأحكام الشرعيّة بين الثوابت والمتغيّرات، مصدر سابق: 161 ـ 172؛ وجعفر مرتضى العاملي، الآداب الطبيّة في الإسلام: 89 ـ 97؛ ومحمد باقر السيستاني، اتجاه الدين في مناحي الحياة: 683 ـ 688؛ ومنهج التثبّت في الدين، حقيقة الدين: 141 ـ 146 (وإن كان يُفهم منه في بعض العبارات أنّه يرى شيئاً قريباً من النظريّة الأولى المتقدّمة)؛ وهاشم الهاشمي، الشريعة، الثوابت والمتغيّرات، عرض ونقد، مجلّة رسالة التقريب، العدد 48: 100 ـ 114؛ وانظر: محمد تقي المدرّسي، التشريع الإسلامي، مناهجه ومقاصده 2: 217 ـ 294.
([12]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: أبو المجد حرك ويوسف كمال، الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنّة: 64 وما بعد.
([13]) محمد القائني، المبسوط في فقه المسائل المعاصرة (المسائل الطبيّة 1): 19.
([14]) ناصر مكارم الشيرازي، بحوث فقهيّة هامّة: 233 ـ 234.
([15]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: مجموعة رسائل ابن عابدين 1: 17؛ ووهبة الزحيلي، سُبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة: 9؛ ومحمد بن حسين الجيزاني، فقه النوازل، دراسة تأصيليّة تطبيقيّة 1: 18 ـ 26. هذا، وغالباً ما عُرفت النوازل عند المالكيّة بكونها متصلة بعمل القضاة.
([16]) انظر: القائني، المبسوط في فقه المسائل المعاصرة 1: 25 ـ 26، 41.
([17]) انظر: الخميني، تحرير الوسيلة 2: 637 ـ 638.
([18]) القائني، المبسوط في فقه المسائل المعاصرة 1: 92 ـ 93.
([19]) انظر: مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 2: 144 ـ 145.