• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
العلوم الشرعية (الفقه وأصوله) الفلسفة والكلام علوم القرآن والحديث فكر وثقافة
# العنوان تاريخ الإعداد تاريخ النشر التعليقات الزائرين التحميل
30 نظريّات التوثيق لرجال كتاب كامل الزيارات / قراءات مقارنة ونقديّة 2021-09-04 2021-09-04 0 5523

نظريّات التوثيق لرجال كتاب كامل الزيارات / قراءات مقارنة ونقديّة

حيدر حب الله([1])

تمهيد

الشيخ أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه (368هـ)، أحد العلماء الثقات المشهود لهم بالعلم والوثاقة، له كتب عديدة منها كتاب كامل الزيارات الذي وقع الكلام في توثيق رواة أسانيده.

وربما يكون الشيخ الحرّ العاملي (1104هـ) أوّل من فتح الحديث حول وثاقة رجال كتاب «كامل الزيارات»([2]) كلّهم، حيث استفاد هذه النتيجة من مراجعة مقدّمة هذا الكتاب، ليصحّح ـ كما قد يوحيه ظاهر عبارته ـ تمام أسانيده من حيث الرواة الواقعين فيها، معتقداً أنّ صاحب الكتاب وثّق بنفسه رواة كتابه([3]).

ووفقاً لصحّة هذا الاستنتاج، سوف تثبت وثاقة 366 أو 388 شخصاً إضافيّاً على ما قيل، بعد كون مجموع رواة الكتاب عددهم 681 شخصاً([4]).

وقد ترك هذا الجهد الإخباري تأثيراً على المراحل اللاحقة، ففيما رفض المحدّث حسين النوري ـ وهو من الإخباريّين ـ هذه القاعدة معتبراً أنّ المقدار المؤكّد من التوثيق يرجع إلى مشايخه المباشرين، والبالغ عددهم 32 شيخاً عنده([5]).. أخذ السيد الخوئي المعروف بأصوليّته وبتشدّده في علم الرجال بهذه القاعدة فترةً من حياته، ليعدل عنها في نهايات عمره كما هو المعروف، ويذهب مذهب المحدّث النوري في اختصاصها بالمشايخ المباشرين([6])، وإن كان في بدايات عمره ـ كما قيل ـ كان لا يأخذ بهذه القاعدة حتى في المشايخ المباشرين([7]).

رجال كامل الزيارات، المواقف والاتجاهات

بهذا يظهر أنّ هناك أكثر من موقف من الموضوع، تبعاً للاختلاف في تفسير مقدّمة الكتاب، كما سنبيّن:

الموقف الأوّل: وثاقة جميع الرواة الواقعين في أسانيد مطلق روايات كامل الزيارات، بلا فرق بينها، وهذا ما قد يظهر من كلّ من الحرّ العاملي والسيد محمّد سعيد الحكيم وغيرهما([8]).

الموقف الثاني: وثاقة بعض الرواة الواقعين في أسانيد الكتاب.

وقد انقسم أنصار هذا الموقف إلى اتجاهين:

الاتجاه الأوّل: توثيق بعضٍ معيّن، وكان ضمن هذا الاتجاه عدّة آراء:

الرأي الأوّل: ما قد يظهر من السيد الخوئي في بعض المواضع من المعجم، من اختصاص التوثيق بمطلق الرواة الواقعين في خصوص الأسانيد التي تنتهي إلى المعصومين فقط([9]).

الراي الثاني: ما نُسب للسيّد الخوئي، من أنّه اختار لاحقاً توثيق الرواة الواقعين في الأسانيد المنتهية إلى المعصومين، حيث لا يوجد في السند رفعٌ ولا إرسال ولا شخص غير إمامي([10]).

الرأي الثالث: ما نُسب للسيد علي السيستاني، من قولٍ سابق كان يراه، وهو أنّ التوثيق خاصّ بالأسانيد التي تكون للروايات المتصلة بثواب زيارة النبي والأئمّة، دون مطلق روايات الكتاب([11]).

الرأي الرابع: اختصاص التوثيق بالمشايخ المباشرين فقط، دون غيرهم، وهو ما ذهب إليه المحدّث النوري، والسيد الخوئي في رأيه الأخير، كما أشرنا قبل قليل، وإليه ذهب أيضاً السيد الصدر وغيره([12]).

يشار إلى أنّ الشيخ عرفانيان كان يشكّك في صحّة نسبة العدول إلى السيد الخوئي، ويرى النصّ الذي نُشر عنه من صنيعة بعضهم!([13]).

الاتجاه الثاني: وهوالذي يذهب إلى توثيق بعض غير معيّن، وفيه رأيان:

الرأي الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ جواد التبريزي، من أنّ المراد توثيق الرواة الواقعين في أسانيد بعض الروايات من كلّ باب، ولو رواية واحدة غير معيّنة، بحيث يكون في كلّ باب رواية واحدة على الأقلّ معتبرة السند([14]).

وهذا الرأي لا يثبت شيئاً هنا، إلا في مثل حالة ما لو تكرّر اسم راوٍ في باب واحد في كلّ الروايات فنحرز أنّه موثق.

الرأي الثاني: ما يُنسب إلى السيد علي السيستاني من رأيه الأخير، وهو وثاقة بعض من وقعوا في الأسانيد، بطريقة غير معيّنة، فقد يكونون من المشايخ أحياناً ومن غيرهم حيناً آخر([15]).

الموقف الثالث: عدم وجود توثيق هنا لأيّ من رواة الكتاب على الإطلاق، وهو ما نُسب للسيد الخوئي ـ كما قلنا آنفاً ـ في رأيه القديم، لكنّه يبعد أن يراد عدم التوثيق المطلق، بل لعلّه يريد التوثيق لبعض غير معيّن، بما يساوق عدم وجود قاعدة رجاليّة هنا يمكن الاستناد إليها.

ولعلّه يلحق بهذا الرأي ما يُنسب للسيد أحمد المددي، من أنّ المراد هنا توثيق المصادر، دون النظر لتوثيق أيّ من الرواة.

وعلى أيّة حال، فسوف نأخذ بعين الاعتبار الفرضيّة التفسيريّة الأوسع هنا، ثم نقوم بالاشتغال عليها، ومن خلال ذلك سوف يتبيّن الموقف من تمام الآراء في تفسير النصّ العمدة هنا.

النصّ العمدة، وصياغة نظريّة التوثيق العام

إنّ المرجع في هذا التوثيق العام هو نصّ مؤلّف كتاب كامل الزيارات، وهو أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي (368هـ)، فقد ذكر في مقدّمة كتابه النصّ التالي: «فأشغلت الفكر فيه وصرفت الهمّ إليه، وسألت الله تبارك وتعالى العون عليه، حتى أخرجته وجمعته عن الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين من أحاديثهم، ولم أخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم إذ (إذا)([16]) كان فيما روينا عنهم من حديثهم صلوات الله عليهم كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال، يؤثر (يأثر) ذلك عنهم (عن المذكورين) غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم. وسمّيته كتاب كامل الزيارات وفضلها وثواب ذلك..»([17]).

فهذا النصّ يؤكّد فيه ابن قولويه أنّه حصل على روايات كتابه هذا من الثقات من أصحابنا، وهذه شهادة توثيق واضحة وجليّة لكامل الرواة الواردين في أسانيد هذا الكتاب، يُعزّز ذلك بأنّ كلمة «وقع» الواردة في النص تعني «وصل»، ووصول الرواية من ناحية الثقات (وليس سمعته من المشايخ الثقات) أمرٌ مشترك بين جميع رواة السند، ولو لم يكن مقصوده توثيق الجميع وإنما توثيق البعض، لما كانت هناك فائدة لذلك؛ لأنه إذا كان باقي رجال السند ضعافاً فَقَدَت الرواياتُ قيمتَها.

يُضاف إلى ذلك أنّ الذي يمكن الإحاطة به هو روايات الثقات، لا الروايات التي بعض رواتها ثقات، مع أنّه أقرّ بعدم إمكان الإحاطة، فنقل خصوص ما نقله، كما أنّ تصريحه بأنّه لا يروي عن الشذاذ من الرجال، وكون لفظ «أصحابنا» عام شامل لا يتعارف إطلاقه على جماعة معيّنة كالمشايخ المباشرين، وترحّمه عليهم.. ذلك كلّه شاهد العموميّة في شهادة التوثيق المذكورة([18]).

هذه هي الصيغة الاستدلاليّة العامّة على توثيق تمام رجال كتاب كامل الزيارات.

ومن الواضح أنّ هناك بحثاً مسبقاً يفترض أن يكون مفروغاً عنه هنا، وهم لا يبحثونه عادةً، انطلاقاً من وضوح المسألة عندهم، وهو صحّة نسبة هذا الكتاب بنسخته القائمة اليوم إلى ابن قولويه أو إلى شخصٍ عالم ثقة من المتقدّمين قال هذا النصّ الذي في المقدّمة، وإلا فإذا نوقش بعدم إمكان تصحيح نسبة نُسخ كتاب كامل الزيارات التي ظهرت منذ حوالي أربعة أو خمسة قرون تقريباً، وأنّه لو صحّت فليس الكتاب لابن قولويه، بل لآخرين، مثل ما قد يقال من أنّه للحسين بن أحمد بن المغيرة البوشنجي أو غيره، فإنّ الأمر يتخذ نسقاً آخر من البحث، ونفترض هنا التسليم بنسبة الكتاب، كما نفترض التسليم بصحّة النسخ (ونسبتها) التي فيها النصّ العمدة الذي في المقدّمة، والذي يقع محلّ البحث والاستدلال.

المطالعات النقديّة على التوثيق العام، عرض وتعليقات

لقد تعرّضت نظريّة التوثيق العام هنا للعديد من الانتقادات، المتراوحة بين عدم الدلالة وإجمال الدلالة، والتي ستُبدي لنا المواقف المتعدّدة في تفسير النصّ العمدة هنا، وأبرزها:

الانتقاد الأوّل: إنّ هذا النص مجمل مردّد أمره بين توثيق خصوص مشايخ ابن قولويه الذين يروي عنهم بدون واسطة، وبين توثيق جميع الرواة الواقعين في أسانيد هذا الكتاب، فإن جملة «وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته» ربما يُقصد منها: وصلنا من ناحية مشايخنا الثقات، لا أنّ كلّ رواة السند ثقات، ومع وجود هذا الاحتمال المعتدّ به، لا تركنُ النفس إلى استظهار الكلّية، فيؤخذ بالقدر المتيقّن ـ كما هي حالات إجمال الكلام ـ وهو هنا المشايخ المباشرين([19]).

ومن الواضح أنّ نتيجة هذا الانتقاد هو توثيق بعض معيّن من رواة الكتاب وهم المشايخ المباشرون، كما أنّه يقوم على الإجمال النسبي في النصّ بما يفرض الأخذ بالقدر المتيقّن، وهو المشايخ المباشرون.

لكنّ هذا الانتقاد متوقّفٌ في استحكامه النهائي على ردّ تقريبات الاستدلال بهذا النص/الشهادة، كما سوف يأتي في الانتقادات اللاحقة، وكذلك على ردّ النظريّات التفسيريّة الأخرى المطروحة هنا، لهذا لا نبتّ فيه إلى ما بعد الانتهاء من المقاربات التفسيريّة المتعدّدة، فانتظر.

الانتقاد الثاني: إنّ كلمة «وقع» تعني «وصل»، ووصول الخبر يكون من ناحية المشايخ، وإن كان الحقّ أنّ الجميع مساهم في الوصول والإيصال. أما الترحّم فلا يدلّ على أنّهم غير مشايخه، على أساس استبعاد وفاتهم جميعاً لحظة كتابة هذه المقدّمة، لاحتمال أنّه ألّف هذا الكتاب في آخر عمره، وعادة ما يكون مشايخ الرجل متوفّين في هذه السنّ، فلا مانع من الترحّم عليهم حتى لو بقي واحد أو اثنان. وأما أنه إذا لم يكن سائر رجال السند ثقاتاً فلا فائدة من وثاقة خصوص المباشرين من المشايخ، فهذا يتم لو كان ابن قولويه هادفاً لتصحيح السند على طريقة نظريّة حجية خبر الواحد الثقة، أما إذا كان هدفه إعطاء وزن لكتابه وأنّه لم يأخذه عن النكرات أو الضعاف أو ما شابه، فهنا يكفي أن يذكر أنه أخذ هذه الروايات من كبار رجال الطائفة النقّاد الخبراء في عصره، ليجعل بذلك وزناً لكتابه.

وأما المقارنة بين عدم إمكان الإحاطة بأخبار الثقات وغيرهم مع إمكان الإحاطة بالأخبار التامة السند، فهذا جيد، لكنّه يصدق أيضاً على النظريّات الأخرى، بمعنى أنّه حيث كانت الروايات كثيرة جداً لا يمكن حصرها لهذا اخترت أن أنقل ما حدّثني به شيوخي الثقات، فإن إمكان الحصر هنا وارد، فلا ترجيح لهذا الاحتمال على ذاك.

وأما تصريحه بأنّه لا يروي عن الشذاذ من الرجال، فهذا أيضاً لا يختصّ بغير مشايخه، فقد يكون ابن قولويه ـ كعادة الكثير من شيوخ تلك الفترة ـ قد أخذ عن كثير من المشايخ الغث منهم والسمين المعروف منهم والمجهول، فأحبّ أن تتمحّض رواياته في هذا الكتاب بأن تكون مرويةً عن المشايخ المعروفين المشار إليهم بالبنان في عالم الحديث والرواية. هذا على تقدير الربط بين تعهّد الرواية عن الثقات وتعهّد عدم الرواية عن الشذاذ.

كما أنّ تعبيره بكلمة: «أصحابنا»، وإن لم يكن اصطلاحاً في المشايخ، لكنّ إطلاقها على المشايخ هادفاً عدم النقل عن شيوخه من غير الشيعة، ليس بالخطأ ولا بالغريب.

وعليه فتمام الوجوه التي ذكروها لدعم تفسير النص بما يفيد الشموليّة لغير المشايخ لا تنهض شاهداً.

وهذا الانتقاد يهدف أيضاً للانتصار لتوثيق البعض المعيّن، وهم المشايخ فقط، كما أنّه يعتمد الإجمال والترديد في العبارات، بحيث يؤخذ منها بالقدر المتيقّن، فيصلح هذان الانتقادان هنا لتضعيف النوثيق العام، لا لتعيين التوثيق الخاصّ، إلا بعد تحقيق سائر الملاحظات القادمة، فانتظر.

الانتقاد الثالث: ما ذكره غير واحد، من أنّ الأخذ بهذه الشهادة سيوقعنا في بعض المشاكل، وذلك أنّ ابن قولويه قد ذكر في المقدّمة أنّه لا يروي عن الشذاذ النكرات من الرواة، وأنّه لا يروي إلا عن المعروفين بالعلم المشهورين بالرواية، وعن خصوص الثقات، وأنهم من أصحابنا أي الشيعة، وترحّمه عليهم..

وإذا أخذنا عناصر شهادة ابن قولويه سنجدها بأجمعها مخرومة؛ وذلك:

أ ـ إنّ قريباً من نصف رواة هذا الكتاب (قيل: أكثر من 200 شخص) هم أشخاص مجهولون بل مهملون لا يُعرفون في عالم الحديث والرواية، فضلاً عن أن يكونوا مشهورين بالحديث والعلم، وبعض الرواة لم يردوا سوى في كتاب ابن قولويه هذا، فكيف نتصوّر وفاءه بتعهّده؟! وهل يعقل القول بالتخصيص هنا في العام الخبري وهو مستهجن عرفاً؟! خذ مثالاً أحمد بن إسحاق القزويني، وأحمد بن جعفر البلدي، وأحمد بن الحسن الميثمي، وغيرهم، مضافاً إلى إيراده روايات عن نساء، ونادراً ما تكون هناك امرأة في عالم الحديث والعلم والرواية تحسب مشهورةً معروفة في تلك الفترات.

ب ـ إنّ بعض الرواة الواردين في الكتاب يعدّون من المشهورين بالضعف بين الشيعة مثل الحسن بن علي بن أبي عثمان، ومحمد بن مهران، والقيسي، والبطائني الوالد والولد، وعمر بن سعد، محمد بن جمهور العمي، وعبد الله بن القاسم الحارثي والحضرمي، وعمرو بن شمر، وسهل بن زياد، وعبد الرحمن بن كثير الهاشمي، وعلي بن حسان الهاشمي، وأبي جميلة المفضل بن صالح، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم و..

ج ـ إنّ عدداً من رواة الكتاب من غير الشيعة بحيث لا يصحّ توصيفه بأنهم من «أصحابنا»، مثل عمر بن سعد، وليث بن أبي سليم، وهو ـ على ما قيل ـ غير شيعي، وإسماعيل بن زياد السكوني وغيرهم.

د ـ إنّ جملة من روايات هذا الكتاب مرسلة ومرفوعة، فكيف يوثّق ابن قولويه أشخاصاً لا يعرفهم؟!

هـ ـ عدم التفات الطوسي والنجاشي لهذا التوثيق.

و ـ استرحامه في المقدّمة على هؤلاء، مع أنّه ذكر بعض من لا يستحقّ الرحمة قطعاً، مثل عائشة زوج النبيّ، وليث بن أبي سليم العامي، والبطائني الواقفي، وعمر بن سعد، وغيرهم.

مضافاً إلى أنّ طريقة القدماء أن يحقّقوا الخروج من عهدة شيخهم، أمّا من بعده فلا يشعرون بأنّه يلزمهم إثبات وثاقته، كما رأينا من الشيخ النجاشي سابقاً حيث يرفع الكلفة إذا كانت بينه وبين الضعيف واسطة، إلى غير ذلك مما يدفع للقول إما بأنّه مشتبه أو غير دقيق أو يريد خصوص المشايخ المباشرين حملاً له على حُسن الظنّ والصحّة، وأخذاً بالقدر المتيقّن من الشهادة([20]).

وهذا الانتقاد بضمّ بعض فقراته إلى بعض لا بأس به، وإن كان يمكن التخلّص من بعض فقراته، مثل فقرتي: د ـ هـ؛ لأنّ الإرسال قد يكون للنسيان مع الوثوق بوثاقة من نسي اسمه ولاسيما مع عدم كثرة المراسيل، وعدم ظهور هذه القاعدة في كلمات الطوسي والنجاشي لا يعني عدمها بعد عدم كونهم ـ إما تعهداً وإما عملاً ـ بصدر بيان تمام القواعد والحيثيات الرجالية، كما صار واضحاً. وأمّا قضيّة الترحّم فهي صحيحة لو رجعت لعدم تعارف ترحّم علماء الشيعة على مثل عائشة زوج النبيّ، أمّا في نفسه فلنا موقف آخر ولنا فيه كلام.

وعلى أيّة حال، فهذا الانتقاد يريد أيضاً أن يثبت توثيق المشايخ خاصّة لا مطلق الرواة، معتمداً على الأخذ بالقدر المتيقّن الرافع للإشكالات عن النصّ من خلال توفيقه مع متن الكتاب.

ولكنّ السؤال الأبرز بعد هذه الإشكالات هو: كيف عرفنا أنّ هذه الانتقادات الثلاثة المتقدّمة تفضي إلى الانتقال في التوثيق من مطلق الرواة إلى خصوص المباشرين من مشايخ ابن قولويه؟

قد يبدو أنّ مبرّر ذلك ـ كما يلوح من بعض الكلمات ـ هو حُسن الظنّ بابن قولويه، وصوناً لكلامه عن الإخبار على خلاف الواقع([21])، وربما يتعزّز هذا الأمر عندما ننظر في الصيغ الماضوية في المقدّمة التي كتبها ابن قولويه، حيث هي ظاهرة بأنّ هذه المقدمة كُتبت بعد تصنيف الكتاب، الأمر الذي يُبعد احتمال أنه كان بصدد التعهّد بشيء ثم نسي أثناء تأليف الكتاب أو عدل عن نظره الأوّل دون أن يقوم بتغيير المقدّمة، كما هي الظاهرة الموجودة عند بعض المؤلّفين.

لكن هل هذا يحصّل وثوقاً بإرادته لخصوص المشايخ؟ وهل حقاً عبارته تحمل ظهوراً في ذلك؟ قد يقال بأنّ المشتهر التعبير بالمشايخ بدل الأصحاب وأنّ تعبير الاسترحام لا يناسب المشايخ خاصّة، فلماذا نأخذ بالقدر المتيقّن ولا نقول بأنّه وثق رواة كتابه لكنّ توثيقه لا يعتدّ به لوجود منقوضات عديدة فيه، فليس هو بمعصوم([22])، وسيأتي الجواب عن أصل هذا السؤال بإذن الله؛ فإنّه لو صحّت نظرية مثل الشيخ جواد التبريزي لكفت في إبطال هذه الإشكاليات كلّها مثلاً([23])، وكذلك لو قيل بأنّ غرضه تصحيح الكتاب بمعنى الصحّة عند القدماء لا غير، كما قد يظهر الميل إليه من المرتضوي اللنكرودي([24]).

هذا كلّه، فضلاً عن أنّه لا يُفهم من العبارة توثيق مطلق مشايخه ولو في غير هذا الكتاب كما هو واضح، خلافاً لما قد يستوحى من كلمات السيّد الأبطحي من توثيق مطلق مشايخه ولو في غير هذا الكتاب، حتى بلغ بهم ثلاثةً وخمسين شيخاً([25]).

فالمتحصّل إلى الآن بطلان نظريّة توثيق الجميع، على انتظار البتّ في بطلان نظرية توثيق المشايخ خاصّة أو تصحيحها.

الاختلاف بين السيدين الحكيم والسيستاني، عرض ومحاكمة

وقد ردّ السيد محمّد سعيد الحكيم على هذه الإشكاليّات مصرّاً على الوقوف على ظاهر عبارة ابن قولويه، بردّ حاصله: إنّ عناصر الضعف التي بُيّنت في هذا الإشكال يجب النظر فيها بتأنٍّ وتفكيكها بحيث نرفعها، وفي الوقت عينه نحافظ على ظاهرة عبارة ابن قولويه في التوثيق العام، وذلك:

أ ـ إنّ وجود الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة في الكتاب لا ينافي تعهّد ابن قولويه؛ إذ لايبعد أن يكون عالماً بأنّ الشخص الذي أرسل لا يُرسل إلا عن ثقة، فذكر الخبر المرسل عالماً بوثاقة الواسطة ولو لم يعرف عينها، أو يكون الكتاب الذي أخذ منه هذه الرواية المرسلة معلوم الصحّة؛ لعرضه على أهل البيت أو خواصّ أصحابهم وتصحيحهم له، وهو أمر متيسّر لمثل ابن قولويه، وليس بالبعيد.

ب ـ إنّ حصره الرواية عن أهل البيت إنّما هو على تقدير عثوره على روايات لهم في هذا الموضوع أو ذاك، لا مطلقاً، كما أنّ وجود روايات عن غير أهل البيت في هذا الكتاب غايته أنّه يجعلنا نفسّر تعهّده بالنقل عنهم خاصّة على أنّه على نحو الغلبة، وهذا غير تعهّده بالنقل عن الثقات في الكتاب بحيث لا يتضرّر الثاني بالأوّل، وهكذا الحال في روايته عن غير الإماميّة، فإنّ الظاهر من عدم روايته عن غير أصحابنا هو من كان بعيداً منهم لا من كان مخالطاً لهم بحيث يكون حديثه من حديثهم، كالسكوني وأبي الجارود وطلحة بن زيد وغيرهم؛ فإنّ هؤلاء ملحقون بأصحابنا في الحديث.

ج ـ إنّ وجود عدد كبير من المهملين في أسانيد هذا الكتاب ليس بضائر؛ فإنّ كتب الرجال أهملت الكثير من الرواة ولم تترجمهم، فلعلّ هؤلاء كانوا معروفين ولكن لم تترجمهم لنا كتب الرجال التي وصلتنا. وكتب الرجال أغلبها كتب فهارس مصنّفين أو كتب من هم رواة عن الأئمّة لا من وقع في الطرق بعد ذلك.

د ـ إنّ اشتمال الكتاب على أشخاص مضعّفين إن اُريد به أنّهم مضعّفون عند غير ابن قولويه بحيث يحتمل أنّهم عنده ثقات فلا ضير؛ لإمكان توثيقه لهم مع كون سائر علماء الطائفة كانوا يرونهم ضعفاء، إذا غايته تعارض الجرح والتعديل، وأمّا لو لم يحتمل ذلك بحيث لا يحتمل أنّ شهرة ضعفهم ووضوحها كانت خافيةً عليه، فيمكن القول بأنّه روى عنهم حال كونهم ثقاتاً عند أداء الرواية، حتى لو عرض لهم ما أوجب سقوط روايتهم لاحقاً كضعف الذاكرة وفساد العقيدة وغير ذلك. ولو كان هذا الحمل بعيداً فلا مانع من تحمّله نظراً لجلالة مكانة المؤلّف، فهو أولى من حمل كلامه على خصوص مشايخه المباشرين([26]).

وقد أجاب السيد محمّد رضا السيستاني هنا بجوابٍ مفصّل يقوم على أمور:

1 ـ إنّ دعوى أنّ المراسيل التي ذكرها ابن قولويه في كتابه كان قد أخذها عمّن لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، بعيدةٌ جداً؛ فإنّ المرسِلِين في كتابه يزيد عددهم عن الستين شخصاً، وفيهم العديد من الضعفاء كسلمة بن الخطاب، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم، ومحمد بن جمهور العمي، بل فيهم من جرى التصريح فيه بأنّه يروي عن الضعفاء، كمحمد بن خالد البرقي، وسائرهم بين مجهول ومهمل وموثق، فلو كان هؤلاء جميعاً لا يرسلون إلا عن ثقة لظهر على ذلك شاهد واشتهر، وعددهم كبير جداً، ولتميّزت رواياتهم عن سائر المرويّات في كتب الحديث، ولم ينقل لنا أحد تعهّد هؤلاء بمثل ذلك، وفي العادة يتمّ التصريح بمثل هذه التعهّدات والالتزامات فيما لم نجد عيناً ولا أثراً لذلك.

بل إنّ العديد من المراسيل التي ذكرها ابن قولويه بعضها وقع الإرسال فيه بأكثر من واسطة واحدة، وفي هذه الحال يصعب جداً على المرسِل أن يتحقّق من وثاقة الواسطة غير المباشرة له.

2 ـ إنّ دعوى أنّ ابن قولويه قد يكون أخذ مرفوعاته ومرسلاته ومقطوعاته من كتاب قامت القرائن الخارجيّة على صحّته نتيجة عرضه على الأئمّة أو غيرهم، فهو ـ لو سلّمناه ـ لا يفيد هنا شيئاً؛ لأنّنا لا نتكلّم في التصحيح، بل نتكلّم في التوثيق.

3 ـ إنّ دعوى أنّ ابن قولويه ذكر رواياتٍ عن غير المعصومين لأنّه بيّن في المقدّمة أنّه يروي عن غيرهم إذا لم يكن فيما وصله منهم كفاية، فهذا الكلام مبنيٌّ عل وجود كلمة (إذا) في النصّ، كما هو الموجود في الطبعة النجفيّة والطبعة القميّة، إلا أنّ المذكور في الطبعة الطهرانيّة، وكذلك في بحار الأنوار وخاتمة المستدرك ـ بالطبعة الحجريّة ـ هو لفظ (إذ)، وهو الأنسب بالعبارة.

4 ـ وأمّا وجود غير الإماميّة في الكتاب بزعم أنّهم ملحقون بهم كالسكوني، فهذا محض احتمال ليس عليه شاهد، نعم في كتب الفهارس فعلوا ذلك هناك لمصالح ترجع للتصنيف، ولكنّه لا يكفي هنا.

وأمّا دعوى أنّ روايته عنهم غايتها إخلاله بتعهّده بذلك لا بتعهّده بالرواية عن الثقات، فهو غير دقيق؛ لأنّ المقاربة النقديّة المتقدّمة كلّها لا تريد أن تتعامل مع كلّ مفردة لوحدها، بل تريد أن تجعل مجموع هذه الإرباكات غير قابل للتوجيه، فلاحظ.

5 ـ إنّ دعوى أنّ إهمال كتب الرجال للكثير من الرواة ليس أمراً غريباً، فقد يكونون ثقاتاً لكنهم أهملوهم، غير صحيحة؛ لانّ ابن قولويه لم يقف عند حدود توصيف هؤلاء بالثقات، بل وصفهم أيضاً بالمعروفين بالرواية والمشهورين بالحديث والعلم، وصدق مجموع هذه الأوصاف على ما يقارب نصف روايات الكتاب في غاية البعد، وإلا لظهر وبان. بل حتى توثيق كلّ هؤلاء ليس بالأمر الذي يغيب في العادة عن كتب الرجال، كيف وقد رأينا تضعيفاتٍ لبعضهم!

6 ـ أمّا توجيه وجود الضعفاء بانّه اختلاف في الجرح والتعديل يجري مثله في العادة، فهو غير دقيق؛ فإنّ الاختلافات تكون ببضعة أسماء بين الطوسي والنجاشي وغيرهما؛ أمّا أن يوثق شخص عدداً كبيراً من الرواة المطعون فيهم عند الكلّ أو البعض فهذا شيء لم يقع حتى في تضعيفات ابن الغضائري، فمن وردت فيهم مطاعن هنا يبلغ عددهم 62 راوياً، وهذا رقم ضخم وهم: أحمد بن الحسين بن سعيد، وأحمد بن هلال العبرتائي، وإسماعيل بن سهل، وأمية بن علي القيسي، وبكر بن صالح، وثابت أبو المقدام، وإبراهيم بن إسحاق النهاوندي، وجعفر بن محمد بن مالك، والحسن بن الحسين اللؤلؤي، والحسن بن راشد، والحسن بن علي بن أبي حمزة، والحسن بن علي بن أبي عثمان، والحسن بن علي بن زكريا العدوي، والخيبري، وداود بن كثير الرقي، وزكريا المؤمن، وزياد القندي، وسالم بن مكرم أبو سلمة، وسعد بن طريف، وسلمة بن الخطاب، وسهل بن زياد، وصالح بن سهل، وصالح بن عقبة، وصالح النيلي، وعبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي، وعبد الرحمن بن كثير الهاشمي، وعبد الله بن أحمد الرازي، وعبد الله بن بحر، وعبد الله بن بكر الأرجاني، وعبد الله بن حماد الأنصاري، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم، وعبد الله بن القاسم الحارثي، وعبد الله بن القاسم الحضرمي، وعلي بن أبي حمزة، وعلي بن أحمد بن أشيم، وعلي بن حديد، وعلي بن حسان الهاشمي، وعلي بن ميمون الصائغ، وعمرو بن شمر، والقاسم بن الربيع الصحاف، والقاسم بن يحيى، ومحمد بن أبي عبد الله الرازي الجاموراني، ومحمد بن أسلم الجبلي، ومحمد بن أورمة، ومحمد بن جمهور العمي (القمي)، ومحمد بن الحسن بن شمون، ومحمد بن سليمان الديلمي، ومحمد بن سنان، ومحمد بن صدقة، ومحمد بن عبد الله بن مهران، ومحمد بن علي القرشي، ومحمد بن عيسى بن عبيد، ومحمد بن الفضيل، ومحمد بن موسى الهمداني، ومحمد بن يحيى المعاذي، والمعلى بن خنيس، والمعلى بن محمد البصري، والمفضل بن صالح، والمفضل بن عمر، والمنصور بن العباس، وموسى بن سعدان الحناط، ويونس بن ظبيان.

وهذا كلّه يعني أنّ ابن قولويه يختلف عن الرجاليّين في توثيق وتضعيف عدد كبير من الرواة مما لم يعهد مثله، بل توثيقه لعدد من مشاهير الكذابين.

7 ـ إنّ القول بأنّ توثيقه لهؤلاء كان حال أدائهم الرواية، فهو مخالف لظاهر كلام ابن قولويه، ويبعّده أنّ هؤلاء لم يثبت أنّ لهم مرحلتين في حياتهم، ولم يثبت أنه أخذ منهم في المرحلة الصالحة، فكلّها فروض في فروض بلا شاهد.

وعليه، فبعد التسليم بجلالة ابن قولويه وخبرويّته في الحديث، كما شهدوا له بذلك، يلزم رفع اليد عن التوثيق العام لصالح معنى آخر([27])، سواء كان توثيق خصوص المشايخ أم غيره.

وبعض ما أفاده السيد السيستاني حفظه الله صحيح تامّ، ولا أقلّ من مساعدته في إيجاد الترديد في النفس، بحيث يُلزمنا مع ما تقدّم ـ في الحدّ الأدنى ـ بالأخذ بالقدر المتيقّن من دلالة العبارة.

إلا أنّه يمكن التأمّل في مواضع عدّة من كلامه رعاه الله:

الموضع الأوّل: إنّ الإيراد على السيد الحكيم ببُعد كون ستين رجلاً ممّن لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة غير واضح؛ لأنّه توجد فرضيّة معقولة في أن يكون هؤلاء قد تتبّع ابن قولويه مشايخهم فرآهم جميعاً من الثقات عنده، أو رأى أنّ كلّ واحدٍ منهم كانت غالبيّة مشايخه وجميع من يُكثر من الرواية عنه من الثقات عنده، فتوصّل إلى تقوية احتمال كون مراسيلهم مرويّةً عن الثقات، كما أشرنا إلى ذلك في مراسيل الثلاثة.

فهنا لا يوجد تعهّدات لفظية ولا حاليّة ولا يوجد نقل إجماع عن الطائفة حتى نقول ببُعد عدم وجود مؤشر له في كلماتهم، بل غايته أنّ هؤلاء الستين قد تتبّع ابن قولويه ـ على نظريّاته ـ مشايخهم، فرأى هذه الغلبة في رواياتهم عن مشايخهم الثقات، وليس من الضروري أن يكون كلّ مشايخهم عنده ثقاتاً، فاطمأنّ بوثاقة الشيوخ الواردين في رواياتهم المرسلة هذه، وأيّ ضير في ذلك؟!

نعم، الإرسال متعدّد الوسائط ـ كالإعضال ـ يصبح هذا التفسير فيه بعيداً نسبيّاً في إمكانه الواقعي.

الموضع الثاني: إنّ ترجيح كلمة (إذ) على كلمة (إذا) غير واضح؛ لأنّ النسبة متساوية من حيث المعنى، فكما يجوز أن يكون أراد بأنّنا لا نروي عن غيرهم ممّا ذكروه عن النبيّ مثلاً إلا عندما لا نجد في رواياتهم ما نريده، كما أفاد شبيهه الطوسي أيضاً في كتاب العدّة([28])، كذلك يحتمل أنّه يريد أن يقول: إنّنا لا نروي عن غيرهم لكفاية ما وصلنا منهم كفايةً تامّة، فما هو الموجب القهري للترجيح؟ وحتى لو ترجّح فهل هو بمستوى الظهور الهادم لاحتمال الطرف الآخر؟

يضاف إلى ذلك أنّ المستشكل اعتمد على ما جاء في نقل البحار والمستدرك، وهذا لا يكفي؛ لأنّ الطبعة القميّة التي كانت بتحقيق القيومي، وفيها كلمة (إذا)، قد تمّ فيها الاعتماد على نسختين مخطوطتين، وهما مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي التي ترجع إلى عام 1093هـ، وهي معاصرة للمجلسي نفسه، ومخطوطة الآستانة الرضويّة([29])، نعم طبعة دار المرتضوية وهي الطبعة النجفيّة (طبعة عام 1398هـ) لا تشرح المخطوطات التي استندت إليها، فما هو الموجب لترجيح نقل البحار والمستدرك على مخطوطة القرن الحادي عشر الهجري؟! ليس هناك من موجب سوى الاعتماد على طريق صاحب البحار وصاحب المستدرك (ولعلّ الثاني وصلته عين نسخة الأوّل أو نقل عنه كما يظهر من مواضع) إلى كتاب كامل الزيارات، ولكنّه غير صحيح؛ فإنّه فضلاً عن عدم ثبوت كون طرق المتأخّرين حقيقيّةً، وإثباتُ حقيقيّتها يحتاج إلى قرينة في هذا المورد أو ذاك، كما حقّقناه في محلّه بالتفصيل.. لا ينفع هنا؛ لأنّ غايته وجود طريق معتبر من صاحب البحار إلى كتاب كامل الزيارات، ونحن لا نلتزم بحجيّة خبر الواحد مطلقاً، فمع وجود مخطوطة معاصرة للمجلسي يوجد فيها تعبير (إذا)، ومع كون هذا التعبير ينسجم مع سلوك المصنّف في داخل الكتاب ممّا يجعل سلوكه مرجّحاً لنسخة (إذا) بنحو القرينة، مع هذا كلّه، لا يحصل لنا اطمئنان بكون النسخة الصحيحة هي نسخة (إذ)، وهذا كاف في المقام، لاسيما على ما سيأتي من صاحب الإشكال نفسه هنا من وجود بعض الأخطاء في عبارة خاتمة المستدرك نفسه على مستوى المقطع الثاني من النصّ/العمدة.

وحيث لا موجب للترجيح، فإنّنا لا نستطيع أن نجزم بكون العبارة هي (إذ)، فلا يرد الإشكال في أنّه خالف تعهّده بعدم النقل عن غير المعصومين؛ لعدم إحراز وجود تعهّد مثل هذا منه.

الموضع الثالث: إنّ استبعاد احتمال الرواية عن السكوني وأمثاله بدعوى كونهم ملحقين بالأصحاب، غير وجيه؛ فقد فعلها أصحاب التصانيف والفهارس، واندراج هؤلاء في أصحابنا وروايتهم في رواياتنا مشهود عظيم، فاّيّ مانع من مثل هذا الحمل مع قلّة عدد من نحرز عدم كونهم من الإماميّة؟! هذا لو قلنا بأنّ كلمة (أصحابنا) منصرفة لخصوص الإمامي، أمّا لو جعلناها عامّةً لمطلق الشيعي، فسيكون عدد المُقحَمين في غاية الندرة كالسكوني مثلاً، فلماذا لا يكون هذا الأمر معقولاً في هذه الحال؟! نعم ذكر عمر بن سعد وأمّ المؤمنين عائشة لن يكون مفهوماً في هذه الحال، علماً أنّ أغلب المواضع التي ذكر فيها عمر بن سعد احتمل بعضهم فيها أن يكون المراد عمرو بن سعيد المدائني، عدا مورد واحد حسب الظاهر، ولا اُريد أن اُعلّق على هذا. والرواية عن عائشة قليلة للغاية جداً، بل حتى السكوني وليث بن أبي سليم رواياته قليلة جداً.

ولا اُريد هنا نفي هذه المشكلة، بل اُريد تخفيف حجمها فقط، فلاحظ.

الموضع الرابع: إنّ تفكيك السيد الحكيم بين تعهّد الرواية عن الشيعي وتعهّد الرواية عن الثقات لا يناقش بجملة: إنّ مرادنا مجموع المعطيات التي تربك النصّ لا كلّ فقرة فقرة على حدة؛ لأنّه لو تمكّن السيد الحكيم من الجواب عن سائر المشاكل فسيكون جوابه التفكيكي صحيحاً، ولو لم يتمكّن فلن ينفعه التفكيك هنا، نعم ما يصلح إيراداً عليه هو أنّ التعهّد بالرواية عن الثقات والتعهّد بالرواية عن الأصحاب وردا في عبارة واحدة متصلة ببعضها في جملة واحدة، فالتفكيك لن يكون عرفيّاً بين الدعويين، ولعلّ هذا ما قصده المستشكل من كونه يوجب الإرباك.

الموضع الخامس: إنّ ما قيل من أنّ الإهمال هنا غير معقول؛ لكون المهمَلين هم من المشاهير كما تفيده العبارة، مبنيٌّ على تفسير صاحب الإشكال نفسه والقائم ـ كما سيأتي ـ على الربط بين مقطَعي النصّ العمدة في المقام، وسوف نعلّق في محلّه على هذا الكلام، ونُثبت أنّه لا دليل عليه في الجملة الأولى الدالّة على التوثيق. نعم يصلح هذا إيراداً على أحد تفاسير المقطع الثاني نفسه لو فهم منه عدم إيراده اسم أحد ليس بمشهور في عالم الحديث والعلم، ومن ثمّ يُضعف وثوقنا النوعي بشهادة ابن قولويه نفسه.

الموضع السادس: إنّ الردّ على السيد الحكيم بأنّه لا يُعقل أن يختلف ابن قولويه مع الطائفة كلّها في 62 راوياً، فيوثق من ضعّفوه، يمكن النقاش فيه من جهتين معاً:

الجهة الأولى: إنّ الكثير من التضعيفات التي استند إليها لتضعيف هؤلاء غير ثابتة عند جماعة، كتضعيفات ابن الغضائري، التي يرى السيد الحكيم نفسه أنّها لا يعمل بها منفردةً لتشدّده([30])، وبعضها تضعيف من رجل واحد كالطوسي أو الصدوق، ولعلّ سائر الأصحاب يوافقون ابن قولويه في توثيقه، لا هذا ولا ذاك في تضعيفهما.

الجهة الثانية: إنّ غاية ما تفيده هذه الإشكاليّة هو كون ابن قولويه من المتساهلين في أمر التوثيق، لاسيما على مباني اجتهاديّة النشاط الرجالي كما يراه المستشكل هنا نفسه، وليس هذا بالأمر الغريب، فقد عرف في أوساط أهل السنّة عن الحاكم النيسابوري وابن حبان البستي أنّهما متساهلان في التوثيق والتصحيح، واختلفوا معهما في مواضع كثيرة جداً، ولهذا ترك بعضهم الاعتماد على تقويماتهما في الحديث والرجال، فأيّ مانع أن يكون ابن قولويه من المتساهلين في أمر التوثيق، كبعض المتأخّرين والمعاصرين، فيوثق عدداً كبيراً ممّن لم توثقهم الطائفة، وربما كان يمثل مدرسةً متساهلة في هذا الصدد، ولعلّه لهذا لم يعملوا بتوثيقاته ولم يشيروا إليها نتيجة هجرانها مثلاً، وعليه فلا يكفي كثرة التعارض لإسقاط دلالة العبارة على التوثيق العام لو كانت دالّةً. نعم على مبانينا قد يوجب ذلك ضعف قرينة الوثوق بتوثيقات هذا الرجل.

وما قلناه يستوي فيه القول بكون نشاط الرجاليّين قائماً على الحدس الاجتهادي أو على الحسّ، وإن كان على الحدس أوضح؛ فقد يكون ابن قولويه وصلته شهادات توثيق لهؤلاء، ووصلته شهادات تضعيف، لكنّه كان ممّن لا يأخذ بشهادات التضعيف، لانطلاقها من مواقف عقدية مثلاً في قضيّة الغلو، فلم يفهم منها تضعيفاً في النقل بقدر ما فهم منها تضعيفاً في العقيدة، كما هي الحال في الكثير من شهادات التضعيف التي لم يعتنِ بها أمثال الوحيد البهبهاني والشيخ النمازي وغيرهما، حتى أنهم فسّروا كلمة ضعيف بأنّ المراد منها الضعف في المذهب مثلاً.

وبهذا يظهر أنّ ما يصلح قرائن لإفادة الإرباك هو:

أ ـ وجود ـ ولو قليل ـ لغير الإماميّة من الرواة في الكتاب، مع كون التعهّد بالوثاقة مندكّاً في التعهّد بالرواية عن الشيعي في نصّ واحد وجملة فاردة.

ب ـ إنّ كلمة (وقع لنا) تحتمل المشايخ المباشرين وغيرهم، وفيها احتمالات اُخَر ستأتي.

ج ـ إنّ القرائن التي ذكرت لترجيح التعميم كلّها خضعت للنقاش كما تقدّم في الانتقاد الثاني.

د ـ وجود مراسيل متعدّدة الوسائط، وهي في العادة قلّما يمكن تحصيل وثاقة الطريق كلّه فيها.

هذا، وقد يستوحى أنّ ابن قولويه كان متساهلاً في التوثيق على تقدير ثبوت التوثيق العام، وهذا يضعف من قيمة توثيقاته عندنا، وعليه، فحتّى الآن ما تزال إفادة التعميم تعاني من شيء من التردّد، فانتظر.

الانتقاد الرابع: ما سجّله بعض المعاصرين، إشكالاً على توثيق خصوص المشايخ المباشرين، وحاصله: إنّه لو كان المراد ذلك لكان معناه أنّ جميع مشايخه من الثقات المعروفين المشهورين بالعلم والحديث، وهذا أمرٌ يصعب تصديقه، فإنّ فيهم أبا الحسين أحمد (محمّد) بن عبد الله بن علي الناقد، وأحمد بن محمّد بن الحسن بن سهل، والحسن بن الزبرقان الطبري، والحسين بن علي الزعفراني، وحكيم بن داود بن حكيم، ومحمد بن الحسين الجوهري، وهؤلاء لا ذكر لهم من غير طريق ابن قولويه لا في كتب الرجال، ولا في أيّ سند من الأسانيد، فكيف يُعقل كونهم معروفين بالرواية ولم ينقل عنهم أحد من طبقة ابن قولويه؟! فحتى لو لم يكونوا من أصحاب الكتب والمصنّفات لماذا لم ترد أسماؤهم في الطرق والإجازات والأسانيد، مع أنّ مقتضى شهرتهم هو ذلك؟!

لا يقال: إنّ طريقة أصحاب الفهارس كانت تقوم على اختصار الطرق وليس بسطها.

فإنّه يقال: لم يكن الجميع كذلك، كالطوسي في الفهرست، وحتى مع ذلك كان يلزم ظهور اسم أحدهم في بعض الطرق ولو قليلاً هنا وهناك، بل الغريب أنّ أحداً من هؤلاء لم يرد ذكر اسمه في فصل (من لم يرو عنهم) من رجال الشيخ الطوسي، مع كونه مناسباً لذلك؛ مما يشير لشدّة جهالتهم، مع أنّ المفترض أنّهم قريبون من عصر الشيخ جداً، وبهذا نمنع نظريّة توثيق خصوص المشايخ المباشرين([31]).

وهذا الانتقاد لا بأس به بوصفه قرينةً نافعة في المباشرين وغيرهم لا دليلاً، والغريب أنّ ما يشبهه لم يقبل به صاحب الإشكال في مراسيل الثلاثة وتوثيقاتهم كما تقدّم. وإلا فربما يصادف أنّ بعضاً من مشايخه قد يكونون معروفين بالرواية، لكن لم يتفق أن تُرجموا أو ذُكروا في الأسانيد الواصلة إلينا لسببٍ أو لآخر؛ إذ ليس عندنا دليلٌ على أنّ كلّ راوٍ معروف ولو في مدرسة حديثية معيّنة ـ وكونه معروفاً لا يعني أنّه الأعرف ـ فلابدّ أن تعرفه سائر المدارس الحديثيّة وتصل مرويّاته للجميع، لاسيما لو كانوا مشايخ من مناطق بعيدة أخذ منهم الرواية بالإجازة كآسيا الوسطى وما وراء النهر وغير ذلك في بعض الفترات الزمنيّة، وحيث كان العدد قليلاً أمكن تفادي مثل هذه المشكلة، وقد نُقل أنّ ابن قولويه أخذ من مشايخ في الريّ وخوزستان ومصر والعراق وغيرها([32])، بل لو تأمّلنا قليلاً لوجدنا بعض مشاهير الشيوخ، إنّما عُرفوا في الرواية ووقعوا في الأسانيد عبر شخص واحد، كإبراهيم بن هاشم الذي اشتهر عظيم الشهرة من خلال ولده.

نظرية السيستاني الخاصّة، بيان ونقد

الانتقاد الخامس: ما طرحه السيّد علي السيستاني، ويظهر موافقته لاحقاً من الشيخ آصف محسني، من أنّ هذه العبارة لا تدلّ لا على توثيق كلّ الرواة ولا خصوص المشايخ المباشرين، وإنما يُقصد بها أنّه يُنظر في الرواية التي يرويها الشاذّ من الرجال، فإن رأى أنّ المشهورين بالعلم والحديث قد نقلوا هذه الرواية عن هذا الرجل في كتبهم نقل هو بدوره هذه الرواية، بلا فرقٍ بين أن يكون الراوي الشاذّ من مشايخ ابن قولويه أو غيرهم.

وقد اعتقد السيستاني بأنّ هذا هو ظاهر كلام ابن قولويه بعد التأمّل، مضافاً إلى عناصر خارجيّة، مثل ضعف بعض الرواة وعدم شهرة بعض المشايخ كما أسلفنا([33]).

وقد عمّق ولده السيد محمّد رضا السيستاني بيان والده ووسّعه، ولعلّه تطوير لما في بحوث الوالد المنشورة، وحاصل ما أفاده يمكن ترتيبه بترتيب إضافي منّي؛ للتوضيح، ضمن مراحل:

المرحلة الأولى: إنّ الموضع محلّ الشاهد من مقدّمة ابن قولويه ينقسم إلى مقطعين:

المقطع الأوّل: وهو جملة: «وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته»، وقد أقرّ بأنّ هذا المقطع يفيد التوثيق العام لو بقينا معه لوحده فقط([34]).

المقطع الثاني: وهو يقع بعد المقطع الأوّل مباشرةً متصلاً به، وهو جملة: «ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال، يأثر ذلك عنهم غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم».

وهذا المقطع تمّ نقله في المطبوع المتوفّر من كتاب كامل الزيارات مختلفاً، فقد جاء في بحار الأنوار بالصيغة أعلاه، نقلاً عن كامل الزيارات، لكن في هامش طبعة البحار جاء: وفي نسخة: «يؤثر ذلك عن المذكورين»، بدلاً من «يؤثر ذلك عنهم»([35])، ومثله ما نقله المحدّث النوري عن كامل الزيارات في خاتمة المستدرك في الطبعة الحجريّة، لكنّ الموجود في الطبعة النجفيّة لكامل الزيارات (الطبعة المرتضويّة بتصحيح العلامة الأميني) والطبعة القميّة (بتحقيق الشيخ القيومي ونشر مؤسّسة الفقاهة) جاء: «يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين»، وهو ما جاء أيضاً في الطبعة الأخيرة من خاتمة المستدرك، بينما في الطبعة الطهرانيّة (نشر مكتبة الصدوق، بإشراف علي أكبر الغفاري)، جاء: «يؤثر ذلك عنهم ـ عليهم السلام ـ المذكورين».

وعليه فعندنا عدّة صيغ:

أ ـ يأثر ذلك عنهم غير المعروفين بالرواية، وهذا موجود في البحار وخاتمة المستدرك بالطبعة الحجريّة.

ب ـ يؤثر ذلك عن المذكورين غير المعروفين بالرواية، وهو موجود في هامش البحار.

ج ـ يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين، وهو الموجود في الطبعة القميّة والنجفية، وفي الطبعة الأخيرة لخاتمة المستدرك.

د ـ يؤثر ذلك عنهم ـ عليهم السلام ـ المذكورين، وهو الموجود في الطبعة الطهرانيّة.

المرحلة الثانية: بناء على ما تقدّم، يمكن طرح تفسيرين في هذا المقطع/الثاني:

التفسير الأوّل: إنّ جملة: «غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم» كأنّها وصف لقوله: «الشذاذ من الرجال»، فيكون المعنى: ولا أخرجت حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال غير المعروفين بالرواية. وهذا ما فهمه جمهور العلماء الباحثين في هذه العبارة.

التفسير الثاني: إنّ جملة «غير المعروفين» تهدف لتوصيف رجال آخرين يروون أحاديث الشذّاذ، فيصبح المعنى: ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال إذا كان الراوي له عنهم من غير المعروفين بالرواية، وهذا التفسير هو الذي يقوم على فهم السيد علي السيستاني للنصّ.

المرحلة الثالثة: إذا تأمّلنا معنى كلمة الشذّاذ من الرجال، سنرى أنّ أصله اللغوي هو الانفراد، فشذّ عن القوم أي انفرد عنهم، وهنا تحتمل ثلاثة معانٍ:

المعنى الأوّل: أنّهم مغمورون في مقابل المعاريف المشهورين.

وهذا المعنى بعيد هنا؛ لأنّ الجملة ستعني أنّه لا يخرج حديثاً جاء عن الرواة غير المعروفين بالحديث ولو كانوا ثقاتاً، وهذا بعيد؛ إذ هؤلاء لا يعبّر عنهم بالشذّاذ، حيث إنّ المعاريف قلّة في العادة.

المعنى الثاني: أنّهم الرواة الذين يروون الروايات الشاذّة، فيكون ابن قولويه قد تعهّد بعدم إيراد روايات هؤلاء الرواة.

وهذا أيضاً معنى بعيد هنا، حيث لا يُعهد في الرواة من هو كذلك، ولكان الأنسب به أن يقول: ولا أخرجت فيه حديثاً شاذاً، بدل أن يقول: ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذّاذ، قاصداً عدم نقل شواذّ الأخبار.

المعنى الثالث: أنّهم الرواة المطعون فيهم، فينفردون عن سائر الرواة بذلك.

وهذا هو المتبادر من اللفظ، وهذا التعبير موجود، فيشار به إلى كبار المطعون فيهم من الرواة.

المرحلة الرابعة: وهنا ننتقل إلى الجملة التالية، حيث يمكن توضيحها على الشكل التالي:

أ ـ كلمة (يأثر ـ يؤثر) بمعنى واحد تقريباً، ويقصد منها الحكاية والنقل، ولعلّ الأوّل من اللفظين أصحّ.

ب ـ كلمة (ذلك) ترجع إلى (حديثاً)، أي يؤثر الحديث عن المعروفين.

ج ـ كلمة (عنهم) يحتمل رجوعها إلى:

1 ـ الأئمّة، وهو المستوحى من بعض الطبعات، لكنّه غير صحيح، والظاهر أنّه من زيادة المصحّحين وفقاً لفهمهم للعبارة.

2 ـ الشذاذ، أي يؤثر الحديث عن الشذاذ من الرجال.

3 ـ الثقات من أصحابنا، أي يؤثر الحديث عن الثقات من أصحابنا، وهذا في غاية البعد حيث لا يستقيم المعنى معه.

د ـ إنّ الموجود في الطبعة القمية والنجفية والطهرانيّة يشير إلى إضافة كلمة (عن المذكورين)، والعبارة لا تستقيم بذلك، فالأصحّ ما جاء في البحار والطبعة الحجريّة من مستدرك الوسائل، من كون (عن المذكورين) نسخة بدل عن كلمة (عنهم)، فتصبح الجملة: يأثر ذلك عنهم غير المعروفين بالرواية.

وبناءً عليه، فإنّ كلمة (غير المعروفين) ستكون في موضع الرفع فاعلاً لقوله: (يأثر)، لا وصفاً للشذّاذ؛ لوقوع الفصل بين الجملتين، فيكون المعنى هكذا: ولا أخرجت فيه حديثاً مما روي عن الشذاذ من الرجال ينقل الحديثَ عن هؤلاء الشذاذِ من هو غير معروف بالرواية والحديث.

المرحلة الخامسة: وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، يصبح المفاد الكلي للمقطع محتملاً لاحتمالين:

الاحتمال الأوّل: (لا أخرج حديثاً عن أهل البيت روي عن الشذاذ من الرجال غير المعروفين بالرواية)، وهذا يعني تعهّده بأنّ من ينقل عنهم هم جميعاً من المشاهير.

الاحتمال الثاني: (لا أخرج فيه حديثاً عن الرجال المطعون فيهم إذا رواه عنهم من لم يكن معروفاً بالحديث والرواية).

والموائز بين الاحتمالين أمور:

المائز الأوّل: إنّ الشاذّ على الأوّل يراد بهم غير المعروفين بالحديث، بينما على الثاني يراد بهم المطعون فيهم.

المائز الثاني: إنّ مرجع ضمير (عنهم) سيرجع على الاحتمال الأوّل للأئمّة، فيما سيرجع للشذاذ على الثاني.

المائز الثالث: إنّ الاحتمال الأوّل يفيد التعهّد بعدم ذكر رواية عن غير المشاهير لا عن الثقات، بينما الاحتمال الثاني يقرّ باشتمال الكتاب على أحاديث المطعونين إذا رواها المشاهير.

ويضعّف الاحتمال الأوّل أنّ مقتضاه حمل كلمة الشذاذ على غير المشاهير ولو كانوا ثقاتاً، وكون جميع رواة الكتاب من المشاهير، وهذا أمرٌ بعيد جداً.

بينما يغدو الاحتمال الثاني ضعيفاً بسبب ركاكة التعبير نسبيّاً، إذ كان عليه أن يقول: (ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال إذا لم ينقله عنهم المعروفون بالرواية المشهورون بالحديث والعلم).

لكنّ مضعّفات الاحتمال الأوّل أقوى بكثير، فيترجّح الاحتمال الثاني، وبه يلزم تفسير (الثقات من أصحابنا) في المقطع الأوّل بخصوص المشاهير المعبّر عنهم بنقّاد الأخبار.

المرحلة السادسة: المؤيّدات الخارجيّة

ويتعزّز هذا الاستنتاج النهائي من النصّ بأنّ لمثل هذا شواهد من كلمات الأصحاب مثل:

1 ـ قول الصدوق في تذييله لبعض الروايات: «.. كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه سيء الرأي في محمّد بن عبد الله المسمعي راوي الحديث، وإنّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب؛ لأنّه كان في كتاب الرحمة، وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي»([36]).

2 ـ قول ابن طاوس في مقدّمة فلاح السائل: «وربما يكون عذري أيضاً فيما أرويه عن بعض من يُطعن عليه أنّني أجد من اعتمد عليه من ثقات أصحابنا الذين أسندت إليهم عنه أو إليه عنهم قد رووا ذلك عنه، ولم يستثنوا تلك الرواية ولا طعنوا عليها، ولا تركوا روايتها، فأقبلها منهم، وأجوّز أن يكون قد عرفوا صحّة الرواية المذكورة بطريقة أخرى محقّقة مشكورة، أو رأوا عمل الطائفة عليها، فاعتمدوا عليها، أو يكون الراوي المطعون على عقيدته ثقة في حديثه وأمانته»([37]).

بل الظاهر أنّ هذا هو مراد الكليني والصدوق والطبري في مقدّمة الكافي والمقنع وبشارة المصطفى.

وعليه، فلا يستفاد من نصّ ابن قولويه توثيق أحد بعينه، فلا تنفع هذه المقدّمة في شيء محصّل([38]).

ولدينا هنا مجموعة من التعليقات:

التعليق الأوّل: إنّ ما نُقل عن شخص السيد السيستاني في تفسير المقطع الأوّل، من أنّه جملة معترضة لا علاقة لها بالكتاب، مخالفٌ لظاهر الفهم العرفي للنصّ برمّته، فابن قولويه يقول بأنّه لا يخرج فيه حديثاً عن غير أهل البيت، وأنّني لا اُحيط بأحاديثهم في باب الزيارات ولا في غيره، لكنّني أنقل ما وَقع من جهة الثقات من أصحابنا، فالنصّ مترابط، وإلا فما هو المقدّر في كلمة (لكن ما وقع لنا)؟! ليس من مقدّرٍ أقرب من أن يقال: (لكن أنقل ما وقع لنا)، فدعوى كونها جملة معترضة غير واضح كثيراً.

التعليق الثاني: إنّ اختيار معنى المطعون فيهم بخصوصه من كلمة الشذّاذ، لم أجد ما يعيّنه، وإن كان ممكناً في نفسه، وذلك أنّه من المعقول جداً أنّ ابن قولويه أراد المعنى الأوّل (المغمور من الرواة)، هادفاً بذلك منح قيمة إضافيّة لكتابه، فهو يقول: إنّني لا أنقل عن غير الثقات، بل إنّني لا أنقل عن مطلق الثقة، وإنّما عن خصوص الثقة المعروف في الأوساط الحديثية؛ كي يكون كتابي مورد قبول المدارس والاتجاهات الحديثيّة القائمة التي قد يعرف بعضها المغمور وقد لا يعرفه آخرون، فيثيرون حوله التساؤل حتى لو كان عندي رجلاً ثقةً، وبذلك يكون ابن قولويه قد وضع خاصيتين لرواة كتابه: الوثاقة، والمعروفيّة، وهذا تماماً مثل ما فعل الشيخ الصدوق في مقدّمة كتاب الفقيه، حيث نصّ على أنّه ينقل عن الكتب المشهورة المعروفة([39])، فالشهرة ذات دور أيضاً في قيمة الرواية المنقولة وليست الوثاقة هي صاحبة الدور الوحيد لاسيما على طرق المتقدّمين، بل قد يقال بأنّ كون الرجل شاذاً بهذا المعنى يجعله مشوباً بعدم الوثاقة، فكأنّ الشذوذ نفسه نوع طعنٍ في الرجل، فلا يصحّ أن يقال فيه كيف لا يروي عن الشاذ وهو ثقة؟!([40]).

وأمّا القول بأنّ المعاريف قلّة فهذا غير صحيح؛ فلا يقصد هنا من المعاريف أشهر الرواة على الإطلاق، بل الرواة الذين تداول اسمهم في الأوساط، لا مثل راوٍ لا يعرفه إلا شخص أو شخصان في مدرسة حديثيّة بعيدة جغرافيّاً عن الحواضر العلميّة، ولا تتردّد روايته ولا اسمه في كتب المحدّثين وطرقهم.

وعليه يمكن القول بأنّ ابن قولويه تعمّد اختيار المشهورين إلى جانب عنصر الوثاقة، ويمكن الجمع بين هذا المعنى وبين النتيجة النهائية في تفسير المقطع الثاني، بحيث يكون المحصّل: إنّني لا أروي إلا عن الثقات، كما لا أروي إلا عن المشهورين المعروفة أحاديثهم([41])، نعم قد أروي عن غير المشهورين بالعلم والحديث شرط أن يكون هؤلاء قد روى عنهم المشاهير وخرّجوا حديثهم الذي سأرويه في كتابي، فأيّ ضير في هذا التفسير وأيّ غرابة؟!

وبهذا تبقى الجملة الأولى دالّةً على التوثيق العام، ونحافظ على تفسير السيد السيستاني للجملة الثانية، مع الحفاظ في الوقت عينه على معنى المغموريّة من كلمة الشاذّ، بقرينة مقابلتها بكلمة المشهورين في النصّ نفسه، حتى لو لم يتعارف اطلاق وصف الشاذّ على غير المشهور. وبهذا نفسّر وجود الكثير من المهملين في كتاب ابن قولويه، فإنّ هؤلاء قد يكونون هم الشذاذ الذين إنّما نقل عنهم لكون الناقل عنهم في سنده هو من المعاريف والمشاهير، فتأمّل جيّداً.

نعم، ما قد يبعّد هذا الاحتمال التفسيري لكلمة الشذاذ شيء آخر غير ما ذكره السيستاني، وهو أنّ الجملة ستصبح على الشكل التالي: ولا أروي عن شخص غير معروف إذا روى عنه شخص غير معروف، مع أنّه كان يناسبه أن يقول: ولا اُخرج فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال ينقل ذلك عنهم من هو مثلهم، بلا حاجة لذكر تعبير (غير المعروفين)، إلا أن يقال: إنّ الشاذ رتبة موغلة في عدم المعروفيّة، فليس كلّ من هو غير معروف بشاذ، بل هو المغمور التامّ المغموريّة.

التعليق الثالث: إنّ المعنى الثاني لوصف الشذوذ لا موجب لنفيه؛ فإنّه لا مانع من أن يكون وصف الشذوذ قد لحق الراوي بلحاظ حال رواياته في الغالب، فالراوي يغلب عليه رواية الروايات الشاذّة التي ينفرد بها ولا يتابعه ولا يوافقه عليها سائر الرواة والثقات والمعاريف، أو يكثر منه نقل الروايات التي تُعارض روايات الثقات المعاريف، فأراد ابن قولويه أن يتحرّز عن الرواية عن مثل هذا الشخص حتى لو كان ثقةً في نفسه عنده، بموجب عموم المقطع الأوّل؛ لأنّ ذلك قد يُضعف مكانة كتابه، فاستثنى من هذه الحال صورة ما إذا نقل الرواية عن هذا الشاذّ مَن هو من المشاهير العلماء، فيجبر هذا النقل صفة الضعف في الشاذ، وهو ضعفٌ لا يرجع إلى إخراجه عن الوثاقة عنده بالضرورة، كما صار واضحاً.

وأمّا القول بأنّه لا يُعهد في الرواة من هو شاذّ بهذا المعنى، فهو غير صحيح هنا؛ إذ جملة من رواة كتابه لا نعرف عنهم شيئاً ولم تصلنا رواياتهم كما أقرّ صاحب هذا النقد هنا، فلعلّ هؤلاء كان بعضهم من شذّاذ الرجال بهذا المعنى، فأراد تبرير نقله عنهم بهذه الطريقة. كما أنّ ابن قولويه غير ناظر إلى شذوذ الرواية التي ينقلها هذا الشاذّ ويريد ابن قولويه نقلها في كتابه، حتى نقول كان من الأنسب له أن يعبّر: ولا أخرجت فيه حديثاً شاذاً.. لأنّ ابن قولويه لا يريد تبرير تخريج حديث شاذ في كتابه بقدر ما يريد تبرير وقوع رجل شاذ في السند ـ بهذا المعنى للشذوذ ـ يكون ناقلاً لرواية لا شذوذ فيها هنا في هذا الكتاب، فالنظر لشذوذ الراوي لا لشذوذ الرواية المنقولة في هذا الكتاب، بل حتى يمكن القول: النظر لرواية شاذّة رواها راوٍ شاذّ، والراوي الشاذ بهذا المعنى لا يلزم أن تكون جميع رواياته شاذّة، بل يكفي وجود غَلَبَة أو كثرة في رواياته يقع فيها الشذوذ بحيث يُعرف برواية شواذّ الأخبار.

وإطلاق الشاذ والشذاذ على المنفردين برأي مع وثاقتهم في أنفسهم كثيرٌ في كتب الفقه وغيرها فراجع، فلا بأس أن يُفهم منه هنا أنّه راوٍ شاذ بمعنى الانفراد برواية دون أن يتابعه فيها أحد أو حتى مع نقل غيره ما يعارضها.

ويتحصّل من التعليق الثاني والثالث أنّ حصر السيستاني الشذوذ بالمطعون فيه ـ رغم أنّنا لم نجد هذا الوصف يُطلق على ضعيف بشكل يصبح مصطلحاً ـ لا دليل عليه، وبهذا تنهار كلّ الرؤية التي شادها هنا؛ لأنّه أراد من رؤيته أن يُثبت رواية الرجل عن ضعفاء لو نقل الرواية عنهم مشاهير، وبهذا يهدم المقطع الأوّل، في حين كان لابدّ أن يجعل المقطع الأوّل الذي تمّ الإقرار بعمومه في نفسه قرينةً على إرادة غير معنى المطعون فيه من الشواذ في المقطع الثاني، وبهذا يبقى النص برمّته دالاً على التوثيق العام.

التعليق الرابع: إنّ العناصر والمؤيّدات الخارجية التي تقدّمت لا تعيّن تفسير السيد السيستاني للنتيجة النهائيّة؛ فنحن نوافقه على تفسيره للمقطع الثاني، في غير معنى كلمة الشذاذ، وبهذه الطريقة نحافظ على المقطع الأوّل، وتكون المؤيدات الخارجيّة غير منافية لما توصّلنا إليه، بل متساوية النسبة للرؤيتين معاً.

وخلاصة القول: إنّنا استفدنا من هذا الانتقاد برمّته تفسير معقولاً وجديداً للمقطع الثاني في غير كلمة الشذاذ، وهو بنفسه يصلح ردّاً على جملة من الإشكالات التي سجّلت قبل ذلك على التوثيق العام مثل وجود المهملين؛ لأنّ النتيجة ستكون أنّ ابن قولويه يتعهّد بأمرين: وثاقة رواة كتابه، وكونهم من المشاهير أو نَقَل هذه الروايات عنهم العلماءُ المشاهير، فهذا الانتقاد يصلح دفاعاً عن نظريّة التوثيق العام في بعض جوانبه، فلاحظ جيّداً.

تفسير الشيخ التبريزي، وقفة نقديّة

الانتقاد السادس: ما ذكره الشيخ جواد التبريزي، من أنّ كلام ابن قولويه لا يُراد منه توثيق جميع المشايخ ولا جميع الرواة، وإنما يريد أن يُثبت أنّ جميع عناوين الأبواب الواردة في كتاب كامل الزيارات تحتوي ولو على رواية واحدة تامّة السند وكلّ رجالها ثقات، فهو يريد إثبات صحّة عناوين كتابه وأبوابها، فيكون كلامه مبنيّاً على التغليب، كما يظهر من تتبّع كتب الأدعية والزيارات([42]).

وقد قلنا سابقاً بأنّ هذا الرأي لا يُثبت شيئاً هنا، إلا في مثل حالة ما لو تكرّر اسم راوٍ في باب واحد في كلّ الروايات فنحرز أنّه موثق. وربما أيضاً يساعد على ذلك لو أورد في بابٍ ما روايات كلّها مراسيل متعدّدة الإرسال والوسائط، ثم ذكر رواية واحدة مسندة (كما جاء في الباب 94)، فقد يساعد ذلك على توثيق رواة الرواية المسندة؛ لبُعد تصحيحه لسائر الروايات مثلاً.

لكنّ هذا الفهم لكلام ابن قولويه غير واضح، وذلك:

أوّلاً: إنّه غير مفهوم عرفاً ولغة، إذ كيف عَرَف التبريزي أنّ مراده تصحيح ولو رواية واحدة سنداً؟ وأين هي القرينة في ذلك؟ ولعلّ لديه قرائن خفيت علينا، وإلا فتركيبة النصّ المتقدّم لا تساعد على افتراضٍ من هذا النوع.

ثانياً: إنّ دعوى أنّ كتب الأدعية والزيارات قائمة على ذلك هي الأخرى غير واضحة، فلم يظهر لنا وجود عُرف في هذه الكتب على تصحيح العناوين ولو برواية واحدة، بل رأينا أنّ غالب هذه الكتب قد يكون مبنيّاً على تصحيح القدماء تارةً، وعلى قاعدة التسامح في أدلّة السنن أخرى، أمّا التصحيح بالمعنى الموجود عند المتأخّرين فهذا ما لم نجده عُرفاً قائماً بين أصحاب كتب السنن والأعمال.

وعلى أية حال، فالذي يبدو لي في هذا الأمر أنّ التفسيرين اللذين أثارهما كلّ من السيد السيستاني والشيخ التبريزي في تفسير نصّ ابن قولويه غير واضحين، من حيث هدمهما لقاعدة التوثيق العام، وسيأتي تفسير يحتمل أنّه المراد الواقعي للشيخ التبريزي.

النقد المختار لنظريّة التوثيق

الانتقاد السابع: ما نراه هو الصحيح في نقد نظريّة التوثيق بمقدّمة كامل الزيارات، وحاصله: إنّ الوصول إلى وضوح في تفسير هذه المقدّمة أمر يحوي بعض الصعوبة، وذلك أنّها تحتمل احتمالات أربعة عندي، بعد هدم مرجّحات كلّ قول من الأقوال السابقة:

الاحتمال الأوّل: أن يكون معنى جملة: (وقع لنا من جهة الثقات) هو: وصلنا من طرف الثقات، بحيث يُشبع حيثيّة ذلك كون الشيخ ثقة، حيث يقال: وصلني هذا الخبر من طرف أحد الثقات، وهذا التفسير معقول لغةً وعرفاً، وقد سبق أن ذكرنا أنّ مضعّفاته غير صالحة للتضعيف، لاسيما بعد أن اخترنا تفسير السيد السيستاني للجملة الأخيرة التي تعني عدم روايته عن الشذاذ (بصرف النظر عن معنى الشذاذ) إن لم يروِ عنهم المشاهير العلماء.

وهذا الاحتمال له إمكانيّة أخرى، وهي أن يكون المراد أن من صدّرت بهم سلسلة السند من طرف الإمام هم ثقات، تماماً بعكس نظريّة توثيق المشايخ خاصّة، فيكون المعنى: ما وصلنا من ناحية الرواة الثقات الذين رووا هذه الروايات عن النبي أو الإمام.

الاحتمال الثاني: أن يكون معنى جملة: (وقع لنا من جهة الثقات) هو: مطلق رجال السند، حيث يقال: وصلني هذا الخبر عن النبي من ناحية الثقات، أي أن السلسلة كلّها دالّة، وبهذا تثبت نظرية التوثيق العام.

الاحتمال الثالث: أن يكون معنى جملة: (وقع لنا من جهة الثقات) هو: التغليب، بمعنى أنّه لو فرض أنّ الجملة دالة على خصوص المشايخ أو على مطلق السلسلة السنديّة، فهو لا يريد بيان قانون عام، بل يريد بيان أمر غالبي، بهدف تتميم قيمة كتابه، فلو أنّه من أصل 500 رواية مثلاً، ذكر 470 رواية مسندة بشكل صحيح تام، أمّا سائر الروايات، فلم يتوقّف كثيراً عند سندها؛ ولو لأنّ وجودها تأييدي بالنسبة إليه، كما لو كانت محفوفة بروايات أخَر صحيحة السند، ففي هذه الحال يمكن استخدام هذا التعبير، وهو أنّنا نروي ما وصلنا من جهة الثقات، وأمّا بعض الروايات القليلة التي لا تشكّل 5 في المائة مثلاً فهذه نذكرها وتعدّ أمراً مغتفراً متسامحاً فيه لاسيما لو كانت تعضده نصوص أخر، وأظنّ أنّ هذا المعنى هو أو شبهه ما أراده الشيخ التبريزي، وبه نفسّر وجود بعض المهملين وغير المشاهير وبعض الضعفاء وبعض المراسيل وغير ذلك، بعد أن نرفع اليد عن التفاسير الحديّة لتعهّدات أمثال هؤلاء المحدّثين.

ومثل هذا الفهم موجود حتى في أبرز كتب الصحاح عند أهل السنّة، فراجع.

الاحتمال الرابع: ما يخطر في بالي بوصفه احتمالاً قويّاً في نفسه، وهو أن لا يكون نظر ابن قولويه لا إلى كلّ رجال السند ولا إلى خصوص المشايخ ولا إلى التغليب، بل إلى مصادر كتابه، فابن قولويه أخذ رواياته هذه عن عشرة مصادر مثلاً، ووصلته عبر الطرق والأسانيد، وفي داخل هذه المصادر قد يوجد أيضاً سند إمّا بواسطة أو بواسطتين مثلاً، فما قصده ابن قولويه هو أنّني أخذت روايات كتابي هذا ـ تغليباً أو تحقيقاً ـ من المصادر الموثوقة، أي من المصادر التي دوّنها الرواة الثقات في قضايا الزيارات ونحوها، مثل كتاب الزيارات لابن فضال والحسين بن سعيد وغيرهما([43]).

وفي هذه الحال يصبح معنى العبارة كالتالي: وإنّني أنقل في كتابي هذا ما وصلنا من روايات في كتب الثقات من أصحابنا تتصل بالزيارات وغيرها، فهو غير ناظر إلى إثبات الكتب له، ولا إلى سند صاحب الكتاب للإمام لو كان بينه وبين الإمام سند، بل ناظر لأصحاب الكتب المعتمدة بوصفها مصادر عنده، وقيمة هذه الكتب في نفسها.

ويغدو هذا الأمر معقولاً أكثر عندما يكون طريقه لأصحاب هذه الكتب متعدّد الأسانيد أو تكون نسبة هذه الكتب إلى أصحابها معلومة عند الطائفة بلا حاجة لسند، وبالتالي لا يكون ذكره للسند توثيقاً للطريق بينه وبين أصحاب الكتب، فتأمّل جيداً، وهذا أمر متعارف أيضاً بين المتقدّمين.

وعلى هذا التردّد الرباعي، يغدو من الصعب الحصول على قاعدة توثيقيّة عامّة من هذا الكتاب، ولو تنزّلنا لقلنا بتوثيق خصوص المشايخ المباشرين دون التوثيق العام، لو تركنا فرضيّة التغليب وتوثيق المصادر، وبهذا نثبت توثيق حوالي 32 شيخاً من الرواة([44]).

والنتيجة: إنّه لم يثبت توثيق عام يطال رجال كامل الزيارات، نعم، لا بأس في أصحاب المصادر والمشايخ المباشرين من الأخذ به أمارةً ناقصة، لا كاملة، ولا دليلاً على التوثيق.

([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (منطق النقد السندي 1: 480 ـ 513) تأليف حيدر حب الله، والذي صدرت طبعته الأولى عن مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، عام 2017م.

 ([2]) هذه هي تسمية الكتاب لنفسه وفق الطبعة المتداولة اليوم، وقد سمّاه الشيخ الطوسي بجامع الزيارات في كتاب (الفهرست: 92)؛ وسمّاه النجاشي بكتاب الزيارات في (رجال النجاشي: 124)، كما أطلق عليه الطوسي هذا الاسم أيضاً في (مصباح المتهجّد: 853). وقد يطلق عليه اسم كتاب المزار في بعض النسخ. كما يُشار إلى أنّ لمحمّد بن أحمد بن داود القمي كتاباً باسم كامل الزيارات، وهو غير كتاب الزيارات الذي لابن قولويه، وقد ذكره ابن طاوس بهذا الاسم في (إقبال الأعمال 2: 268).

 ([3]) الحرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 30: 202.

 ([4]) عرفانيان، مشايخ الثقات: 155؛ ومحمد آصف محسني، بحوث في علم الرجال: 64؛ وباقر الإيرواني، دروس تمهيديّة في القواعد الرجاليّة، القسم الثاني: 176؛ وجعفر السبحاني، كليات في علم الرجال: 300.

 ([5]) النوري، خاتمة مستدرك الوسائل 3: 252 ـ 257.

 ([6]) انظر: معجم رجال الحديث 1: 23 (مقدّمة الطبعة الخامسة)، و 50، وصراط النجاة 2: 457.

 ([7]) انظر: الإيرواني، دروس تمهيديّة في القواعد الرجالية: 176 ـ 177 الهامش رقم: 3؛ ويُفهم من الشيخ الداوري أنّه ساهم في إقناع الخوئي بالعدول أخيراً عن رأيه، فانظر: أصول علم الرجال بين النظريّة والتطبيق: 184.

 ([8]) الحرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 30: 202؛ والحكيم، مصباح المنهاج (التجارة) 1: 462؛ والنمازي، مستدركات علم رجال الحديث 1: 62؛ وانظر: اللنكراني، تفصيل الشريعة (كتاب الحج) 2: 307، و 3: 31، 52، و4: 176.

 ([9]) انظر: معجم رجال الحديث 13: 181 (ط. النجف)، و 10: 339.

 ([10]) نسبه له محمد رضا السيستاني، قبسات من علم الرجال 1: 91.

 ([11]) المصدر نفسه.

 ([12]) انظر: الصدر، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 84 ـ 85 (تقرير بقلم: السيد كمال الحيدري)؛ ومباحث الأصول ق2، ج4: 500؛ وعلي الحسيني الصدر، الفوائد الرجاليّة: 60؛ وعرفانيان، مشايخ الثقات: 123.

 ([13]) انظر: عرفانيان، مشايخ الثقات: 156 ـ 157.

 ([14]) التبريزي، صراط النجاة 2: 457؛ ونسبه لمجلس درسه تلميذُه السيد منير الخباز في: بحوث في فقه الحج 1: 114؛ وانظر أيضاً: التبريزي، تنقيح مباني العروة (كتاب الطهارة) 2: 278.

 ([15]) نسبه له محمد رضا السيستاني، قبسات من علم الرجال 1: 91.

 ([16]) ما أضعه بين قوسين إنّما هو لأجل اختلاف الطبعات والنسخ على ما سيأتي بيانه قريباً بعون الله.

 ([17]) ابن قولويه، كامل الزيارات: 37.

 ([18]) انظر: أصول علم الرجال: 183 ـ 184.

 ([19]) راجع: تحرير المقال: 57؛ ودروس تمهيدية في القواعد الرجاليّة: 177؛ وهو المنقول عن السيد محمّد حسين فضل الله شفاهاً.

 ([20]) انظر فقرات هذا الانتقاد موزّعةً في: الخوئي، الاستدراك على رجال كامل الزيارة ـ نصّ منسوب إليه بعد عدوله عن التوثيق العام، وقد نقله الشيخ عرفانيان في كتابه:ـ مشايخ الثقات: 153 ـ 154؛ والسبحاني، كلّيات في علم الرجال: 302 ـ 303؛ ومحسني، بحوث في علم الرجال: 61 ـ 62؛ وتحرير المقال: 57 ـ 58؛ وأصول علم الرجال: 184 ـ 185؛ ودروس تمهيدية في القواعد الرجاليّة: 177؛ والغريفي، قواعد الحديث 1: 241 ـ 245؛ واللنكرودي، الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد 1: 91؛ والسيفي المازندراني، مقياس الرواة: 199 ـ 200؛ وعلي الحسيني الصدر، الفوائد الرجاليّة: 60.

 ([21]) الداوري، أصول علم الرجال: 185؛ والسيفي المازندراني، مقياس الرواة: 200.

 ([22]) انظر: آصف محسني، بحوث في علم الرجال: 62، 64.

 ([23]) انظر: منير الخباز، بحوث في فقه الحج 1: 114.

 ([24]) انظر: اللنكرودي، الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد 1: 91 ـ 92.

 ([25]) انظر: الأبطحي، تهذيب المقال 4: 506 ـ 525.

 ([26]) محمد سعيد الحكيم، مصباح المنهاج (التجارة) 1: 461 ـ 463.

 ([27]) محمد رضا السيستاني، قبسات من علم الرجال 1: 105 ـ 120.

 ([28]) انظر: العدّة في أصول الفقه 1: 149.

 ([29]) كامل الزيارات: 29 ـ 34، تحقيق القيومي.

 ([30]) انظر: مصباح المنهاج (كتاب الطهارة) 1: 474.

 ([31]) محمد رضا السيستاني، قبسات من علم الرجال 1: 120 ـ 122؛ وعلي السيستاني، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 21 ـ 22.

 ([32]) انظر: دائرة المعارف بزرك اسلامي 4: 491 ـ 492 ( ابن قولويه، حسن انصاري).

 ([33]) السيستاني، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 21 ـ 22؛ ومحسني، بحوث في علم الرجال: 64.

 ([34]) لكنّ السيد منير الخباز ينقل عن بعض أساتذته ـ والظاهر أنّ مراده السيد علي السيستاني نفسه ـ أنّ المقطع الأوّل لا يفيد هنا شيئاً؛ لأنّ غايته أنّه جملة معترضة، فكأنّ إيراداً جاء بأنّ حصر روايات أهل البيت غير ممكن، فأجاب ابن قولويه بأنّ ذلك لا يعني نقصاً؛ لإمكان الإحاطة بما جاء من طريق الثقات، وهذا كلام عام لا علاقة له بالكتاب نفسه، وإلا فالحديث عن الكتاب جاء مجدّداً من قوله بعد ذلك: ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ..؛ فراجع: منير الخباز، بحوث في فقه الحجّ 1: 114 ـ 115.

 ([35]) بحار الأنوار 1: 75.

 ([36]) الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 24.

 ([37]) ابن طاوس، فلاح السائل ونجاح المسائل: 9.

 ([38]) انظر: قبسات من علم الرجال 1: 92 ـ 102، 122 ـ 124.

 ([39]) انظر: الصدوق، كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 3.

 ([40]) ليس غرضنا تبنّي هذا التفسير، بقدر ما نهدف لنقد الإثارة التي قالت بأنّه لا يُعقل أن لا يروي عنه وهو ثقة، فتأمّل جيداً.

 ([41]) أطلق الشاذ على الشخص غير المعروف حديثه بين المحدّثين في بعض المواضع، فانظر: ضعفاء العقيلي 1: 213، وأطلق على من له رواية تخالف رواية الثقات، فيقال: شذّ عنهم، فانظر: الجرجاني، الكامل 1: 115.

 ([42]) التبريزي، صراط النجاة 2: 457؛ ونسبه لمجلس درسه تلميذُه السيد منير الخباز في: بحوث في فقه الحج 1: 114؛ وانظر أيضاً: التبريزي، تنقيح مباني العروة (كتاب الطهارة) 2: 278.

 ([43]) لابن فضال والحسين بن سعيد الأهوازي وأحمد بن محمّد القمي وحمزة بن القاسم والحسين بن علي الخزاز وغيرهم كتاب الزيارات، كما جاء في رجال النجاشي: 36، 58، 68، 89 ـ 90، 140 و..

 ([44]) كنت في الدورة الرجاليّة الأولى أذهب لتوثيق المشايخ المباشرين خاصّة، لكنّني في هذه الدورة صار عندي شكّ بهذا أيضاً، فلا بأس باعتبار رواة كامل الزيارات ممّن ورد فيهم أمارة توثيق ناقصة، وليس أمارة كاملة، فضلاً عن دليل.

comments are closed

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 36797751       عدد زيارات اليوم : 3508