حيدر حبّ الله([1])
يعتبر العلامة السيّد محمّد حسن الأمين (مولود عام 1946م) أحد المفكّرين المعروفين شيعيّاً في العالم العربي، وهو في بنية تفكيره ينتمي إلى مدرسة لا تؤمن إطلاقاً بالتفسير الحرفي للنصوص، وهو من أهمّ الشخصيّات المقاصديّة الشيعيّة المعاصرة.
يدخل الأمين إلى قضيّة فهم الشريعة من ثنائيّة الشريعة والفقه، فيعتبر أنّه ما لم نفصل بين خصائص الشريعة وخصائص الفقه فلن يتطوّر الفقه الإسلامي إلا بشكل بسيط، ويقصد بذلك أنّ ما يملك هالةً قدسيّة هو الشريعة، أمّا الفقه فهو مجرّد عمليّة فهم للشريعة تخضع للمتغيّر المعرفي البشري، ومن ثمّ فالقول بأنّ الرادّ على الفقيه هو كالرادّ على الله بطريقة تغلق مجال الحوار بين الفقيه وغيره هو بنفسه أحد عوامل ضمور الفقه الإسلامي، بل يعتبر الأمين أنّ الفقه ليس شأن الفقهاء لوحدهم، بل هو لتشعّب تأثيراته يحتاج لمساهمة أنواع متعدّدة من الاختصاص كلّ من موقعه.
ويرجع الأمين سبب عجز الفقه اليوم إلى جعله مختصاً بالفقهاء، ومقولة الاختصاص هذه أضرّت بالفقه عنده؛ لأنّه لم يشارك فيه كلّ ما له صلة بمساحة الفقه من العلوم الإنسانيّة، وهو ما أدّى برأيه إلى عزل الفقه والفقهاء وذهاب الإنسان المعاصر نحو مدارس فكريّة وفلسفية وإنسانيّة أخرى للتعامل مع الحياة عبرها، فعزل الفقهاء وازدادت نسبة النشاط الذهني المحض في عملهم، بل صاروا يفكّرون بأنفسهم كثيراً وقضاياهم.
يريد الأمين هنا أن يتوصّل إلى نتيجة يقرّرها عبر القول بأنّ إصلاح المنظومة الاجتهاديّة لا يمكن أن يكون من خلال أنظمة الفقه القائمة اليوم؛ لأنّ هذه الأنظمة لا تنتج سوى هذا الفقه، فلابدّ من تحوّل منفصل.
وبهذا يتوصّل الأمين إلى هذه النتيجة، وهي أنّ فقه الأولويّات والفقه المقاصدي لا يمكن لهما أن يتحقّقا في هذه الأمّة إلا عبر تحوّل فكري شامل يكون تحوّل الفقه انعكاساً له لا أكثر، وإلا فسيظلّ الفقه ـ كما هو عليه الآن ـ شكلاً من أشكال الصناعة والحرفة لا غير، إنّه يقول: «لا أمل بل لا جدوى من فقه جديد لبنية قديمة».
من هنا، يعتبر الأمين أنّ انعزال الفقه عن الحياة العامّة هو سبب فقدانه القراءة الشموليّة والمقاصديّة، ولا يتحمّل ذلك الفقهاء وحدهم، بل بنية الاجتماع الإسلامي التي تحوّلت نحو الاستبداد هي التي أضرّت بالناس والفقهاء معاً، وهو أمرٌ يرى الأمين فيه أنّه بدأ عقب خلاف عليّ ومعاوية، فاللحظة التي أمسك فيها معاوية بالسلطة انتهى فيها عصر الإرادة الحرّة وانتهى زمن المشاركة العامّة في بناء المجتمع، وهو ما ترك أثره على الفقه كلّه إلى يومنا هذا. وبهذا يفهم الأمين السبب في ازدهار كلّ العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة في العصر العباسي عدا علم السياسة، وذلك أنّ هذا العلم لو ازدهر لقضى على الاستبداد، وهو ما كانت السلطة العباسيّة وقبلها الأمويّة ترفضه رفضاً قاطعاً. إنّ ضمور علم السياسة في حياة المسلمين أثر كثيراً على الفقه وعزله؛ وقتل حضور الفقه في الاجتماع الإسلامي العام، وكأنّ الفقيه بات يتحرّك في منطقة عصبها الحيويّ ليس بيديه، بل بيد السلطان، فما لم يقترب من العصب الحيوي فلن يمكنه تقديم مشروع اجتماعي كامل، والأمين يرى في فقهاء الأحكام السلطانيّة كالماوردي فقهاءَ مخيّبين للآمال على بعض الصعد؛ لأنّهم كتبوا الأحكام السلطانيّة من وجهة نظر السلطان نفسه وبما يخدم مصالحه ولا يضرّ بوضعه، ورغم أنّ منجزهم يُعتزّ به ويفتخر، لكنّه لو كتب من زاوية خارج ـ سلطانيّة لكنّا رأينا اليوم مشهداً آخر.
من الفقه المقاصدي السلطاني إلى الفقه المقاصدي الإلهي
وبهذا يطرح الأمين فكرة الفقه المقاصدي السلطاني والفقه المقاصدي الإلهي إذا صحّ التعبير، فالفقيه السلطاني بدت عليه علائم المقاصديّة؛ لكنّها مقاصديّة سلطانيّة، تهدف لتحقيق مقاصد السلطان وبقائه، وزيادة حجم تكبيل الأيادي في الأمّة، بينما الفقه الإلهي هو فقهٌ تحريريّ عند الأمين؛ لأنّ الشريعة جاءت لتحرير الإنسان من الأغلال، ومنحه حريّته على أكثر من صعيد.
لقد أفاض الفقه السلطاني في إثبات وجوب طاعة الحاكم، لكنّه غاب عن كيفيّة صيرورة الحاكم حاكماً، وما الذي يجب علينا فعله لأجل ذلك بما يحفظ تحرّر الإنسان وعدم وصوله إلى نوع من العبوديّة، وهو مقصد أساس للشريعة، ولهذا يعتبر الأمين أنّ طاعة أولي الأمر هي طاعة القوانين التي يتولّى أولو الأمر تنفيذها في المجتمع، وليست طاعةً لهم منفصلة عن القوانين، فهو يريد أن يجعل سلطة وليّ الأمر نوعاً من سلطة القانون نفسه، وليست متعالية عنه أو منفصلة، وعليه فالمطلوب فقهٌ مقاصدي سياسي تحرّري مقابل فقه الطاعة.
يُعتبر الأمين من الشخصيّات التي تربط كثيراً الوضع السياسي ـ الاجتماعي بمنظومة العلوم الدينيّة، فيما يشبه آليّات عمل علم اجتماع المعرفة، فطريقته في تناول الأحداث حتى المعرفيّة هنا تقوم على ذلك، وهو دائماً يربط النظام السياسي في الأمّة بمنجزاتها الفكرية والعلميّة، ولهذا يقول: «إنّ الفقه نشاط معرفي لا يتمّ خارج الزمان».
على خطٍّ آخر، يرى السيّد الأمين أنّ البنية الحالية العقيمة هي بنية خاضعة لسلطة ثلاثيّة: الإجماع والشهرة والاحتياط، وهي غير قادرة على التفكير خارج سياق ما قرّره الفقهاء من قبل، رغم أنّهم قرّروه لمصالح وأوضاع تهمهم هم وليس بالضرورة تهمّنا، من هنا فهو يعتبر من مقاصد الشريعة أن تستجيب لمختلف العصور، ولو قرأنا ظواهر الإجماع والشهرة والاحتياط فإنّنا نراها اليوم تُعجز الفقه عن المواكبة والاستجابة لقضايا عصرنا، ومن ثمّ فهي مناقضة من وجهة نظره لمقاصد الشرع، بمعنى أنّ المنهج الثلاثي هذا يوجب نقض أغراض الشريعة في الاجتماع البشري. إنّ تقديس التراث عند السيد الأمين منع المسلمين من أن يكونوا مستقبليّين.
بل يحاول الأمين أن يقرأ مسألة الاحتياط لا من زاوية مقاصديّة فحسب، بل من زاوية إيمانيّة أيضاً، فهو يقول بأنّ الفقيه ينطلق في احتياطاته من الورع، لكنّه لم يسأل نفسه عن خوف اختراق الورع لو كثرت احتياطاته وتسبّبت بمشاكل في الأمّة؟ إنّ ترك الاحتياطات هو سبيل الورع، ومن ثمّ فحتى المفهوم التقوي لمسألة الاحتياط تمّ فهمه بشكل خاطئ هنا.
ويُلفت الأمين نظرنا بمقاربة جميلة وهو يحلّل الربط بين المقاصديّة والاحتياط؛ حيث يرى أنّ الفقيه المقاصدي عندما يتعامل مع الاحتياط يرى أنّ الأحكام الفقهيّة المنتجة للعسر والحرج الاجتماعيّين هي التي تدخل في ذمّة الفقيه، لا أنّها تبرئ ذمّته؛ فالقضية هنا معكوسة؛ لأنّ الفقيه المقاصدي هو فقيهٌ يعتبر أنّ السماحة والسهولة ونفي العسر والحرج من أكبر مقاصد الشريعة في الخلق، فلو كانت احتياطاته تفضي لعكس هذا المقصد، عندما نرى تأثيراتها بشكل منكشف على الناس الذين يعانون ويسكتون من هذه المعاناة بسبب السلطة المقدّسة للفقيه، فهذا يعني أنّ مقتضى الاحتياط المقاصدي هو رفع العسر والحرج، أي نقض هذه الاحتياطات الفتوائية المنتجة لهذا النمط العسير من الحياة، والذي يضيّق على الناس واسعاً.
ويعجبني السيد الأمين وهو يستحضر هنا قاعدة «للمجتهد إذا أخطأ أجرٌ، وإذا أصاب أجران»، فهو يفسّرها بطريقة مختلفة، فبدل أن يكون معناها منحصراً بإسباغ الشرعيّة الإلهيّة على عمل الفقيه ولو أخطأ، يلزم أن نفهمها بمعنى تحرير الفقيه من عقدة الخطأ في إصابة الواقع، إنّ قلق الفقيه في اختيار رأي فقهيّ أمرٌ صحّي، لكنّ تحوّل هذا القلق إلى عُقدة أمرٌ غير صحّي إطلاقاً.
ويتوقّف الأمين عند موضوع الحيل الشرعيّة، فيعتبر أنّ كلّ حيلة تناقض مقاصد الشريعة فهي مرفوضة، ويقدّم مقاربة لا تخلو من لطافة هنا، وهو أنّه يرى أنّ الحيل الشرعية ربما توهمنا أنّ الفقيه يحاول مواكبة الحياة لأجل إيجاد توفيق بينها وبين الشريعة عبر الحيل، بينما هو في الحقيقة يهرب من الواقع عبر هذه الالتفافات الشكليّة عليه، فيما الفقيه مطالبٌ بمواجهة الحياة وليس باختلاق الوسائل الملتويّة للتعامل معها بهدف وضع حلول آنيّة فقط.
ويطرح الأمين فكرة رساليّة الفقيه، فهو يعتبر أنّ التعامل مع الفقيه بوصفه متخصّصاً سبّب خللاً مهمّاً في الفقه، فالفقيه ليس مجرّد متخصّص يقدّم بحوثه، بل يحمل معه شأناً رساليّاً، ومعنى إدخال الرساليّة في صُلب هويّة الفقيه أنّه مطالب بتقديم أفكار تُخرج الإنسان من أغلال الشرائع السابقة والشرائع الوضعيّة المعاصرة، وتقدّم له رؤية يمكنها تحقيق العدل في المجتمع، أمّا أن ينكفئ الفقيه ليقول: أنا أبحث في النصوص واُعطيكم نتيجة فهمي للنصّ وانتهى كلّ شيء، وكأنّه محلّل أدبي للنصوص الشعريّة والنثريّة، فهذا غريب عن مهمّة الفقه والفقهاء، وكأنّي بالسيد الأمين يريد أن يفهم رساليّة الفقيه من خلال النزاع الذي عرف في العصر الحديث حول هويّة المثقّف من أنّه رساليّ ملتزم أو لا.
يعتبر الأمين ـ في سياق تأثير الاجتماع الإسلامي على الدراسات الدينيّة ـ أنّ نهايات العصر العباسي الأوّل شهدت تحوّلات كبيرة ضدّ العقل، في حركة الأشاعرة وأهل الحديث، وهذا التحوّل الذي هيمن على العقل الإسلامي فرض على العقل تراجعاً، ومن ثمّ لم نعد اليوم قادرين على التفكير عبر العقل بحريّة، وأصبحنا مكبّلين كثيراً وكأنّنا نرتكب جناية.
وفي الوقت الذي يصنّف السيّد الأمين ما يُسمّى بالصحوة الإسلاميّة والعودة إلى الدين في العصر الحديث أمراً مهمّاً، إلا أنّ مشكلة الصحوة عنده أنّها عودة خيبات وإحساس بالضعف، وعودة عاطفة، وما لم تكن هذه العودة عودة وعي، فإنّنا مقبلون على مشاكل كثيرة.
يرى الأمين أنّ مقصديّة العدل أساسٌ كبير في الشريعة وأنّ الله ترك الكثير من الأمور لنا بشريّاً لنقوم نحن بإدارتها عبر مقصديّة العدل، ومن هذه الأمور قضايا السلطة برمّتها، والمقاصد عنده هي مفتاح قدرة الفقه اليوم على الحضور الحقيقي في العالم.
ويقدّم الأمين دوماً أمثلة مما يعتبره الفقه الذكوري؛ لأنّه يعتبر الفقه ذكورياً والشريعة غير ذكوريّة، ويرى ذكوريّة الفقه آتية من طبيعة الحياة في القرون الأولى. إنّه يتحدّث عن مقصديّة العدل في العلاقات بين الرجل والمرأة فيعتبر أنّ التشريعات المتعلّقة بالمرأة كثير منها مناقض للعدالة، فالمرأة في حياتها الزوجيّة لا تملك أيّ ضمانات لحاضرها ولا لمستقبلها، وبإمكان الرجل طلاقها في أيّ لحظة دون أيّ ضمان، مع أنّها شاركت معه حقيقيّاً في بناء الأسرة وبناء قوّته الماليّة كذلك. من هنا يدافع الأمين عن مقاسمة الثروة بين الرجل والمرأة؛ لأنّه يعتبر أنّ عمل المرأة في البيت هو جزءٌ من عمليّة تكوين القدرة الماليّة للرجل، وليس منفصلاً عنه، ومن ثم فالفقه المقاصدي يجب أن ينظر إلى طبيعة الحياة اليوم ليشارك في إنتاج أحكام على وفق المقاصد الشرعيّة([2]).
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (الاجتهاد المقاصدي والمناطي، المسارات والأصول والعوائق والتأثيرات 1: 291 ـ 295)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر دار روافد في بيروت، الطبعة الأولى، 2020م.
([2]) هذه الأفكار طرحها الأمين في مواضع عديدة من حواراته ومحاضراته، فانظر ـ على سبيل المثال ـ: مقاصد الشريعة (كتاب قضايا إسلاميّة معاصرة): 143 ـ 172.