حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا
مدخل
الدكتور علي شريعتي (1977م) من المفكّرين المسلمين البارزين في القرن العشرين، قرن الصراع بين الاشتراكيّة والرأسماليّة، وقرن ذروة النهضة الإسلاميّة الحديثة. وانطلاقاً من كونه خرّيجاً أكاديميّاً في «علم الاجتماع» من جهة، وعدم كونه منتمياً إلى فئة رجال الدين من جهة أخرى، أخذت أفكاره رواجاً خاصّاً في العالم الإسلامي عموماً.
أريد أن أتناول هنا حضوره وتأثيره في العالم العربي باختصار بالغ، لكنّ ما سأتحدّث عنه ليس بعيداً عن تشابه المشاهد في العالم الإسلامي، فإنّ المشهد في العالم العربي ربما يكون متشابهاً مع المشهد في تركيا؛ لأنّ همومنا واحدة ومشاكلنا في العالم الإسلامي واحدة أو متقاربة على الأقل، فمن الطبيعي أن تكون ثمّة قواسم مشتركة بين مشاهد تركيا والعالم العربي و.. فيما يخصّ حضور الدكتور شريعتي.
لكي ندرس حضور عليّ شريعتي في العالم العربي، لابدّ لنا أن ندرس جانبين:
الجانب الأوّل: شريعتي بنفسه وميّزات الأفكار التي يحملها، ممّا أدّى إلى رواجها والترحيب بها في المجتمعات العربيّة.
الجانب الثاني: المشهد في العالم العربي الذي تلقّف بنسبةٍ مّا أفكار شريعتي.
إنّ قضيّة تأثير الأفكار في المجتمع قضيّة معقّدة، لا ترتبط فقط ببراعة المفكّر أو روعة أفكاره، بل لخصوصيّات اللحظة الزمنيّة سياسياً واجتماعياً وثقافياً دورٌ كبير في نشر الأفكار أو رفضها، فالقضيّة ليست ذات طرفٍ واحد، ففي بعض الأحيان قد تكون أفكار المفكّر في غاية الروعة لكنّ المجتمع لا يتقبّلها، وقد تكون الأفكار ليست ذات بال، لكنّ المجتمع يتقبّلها. والسبب في ذلك أنّ ثمة علاقة جدليّة متناسبة ما بين الأفكار التي يطرحها المفكّر، وطبيعة اللحظة الزمانية والمكانية التي يتموضع فيها المجتمع؛ فإنّ الأفكار والنظريّات لا يمكن أن تنفصل عن المجتمع، ومن ثمّ لا يمكن فصلها عن الظروف السياسيّة والاجتماعية التي تُولد ـ أي الأفكار ـ فيها.
أذكر هنا أنّ الشيخ محمّد رشيد رضا، وهو من كبار تلامذة الإمام الشيخ محمّد عبده، كتب يتحدّث عن الإمام أبي إسحاق الشاطبي (790هـ)، إمام المقاصديّين، وقد اعتبر رشيد رضا في هذا المقال أنّ الفكرة التي أتى بها الشاطبي فكرةٌ رائعةٌ ومهمّة وإنقاذيّة، لكن مع الأسف الشديد جاءت في الوقت الخطأ، ولذلك ماتت لسبعمئة سنة إلى أن جاء الشيخ محمّد عبده، وأعاد إحياءها بشكلٍ تدريجي وصولاً إلى يومنا هذا. في كثيرٍ من الأحيان تكون الأفكار رائعة لكنّ الفضاء التاريخي لا يتحمّلها، والعكس صحيح.
أقصد من ذلك أنّ أيّ نجاح لأفكار شريعتي في العالم العربي لا يعني بالضرورة أنّ الأفكار هذه صحيحة، وكذلك أيّ فشل لأفكاره في البقعة نفسها لا يعني أنّ أفكاره ليست بالضرورة صحيحةً؛ لأنّ القضية مرتبطة بطرفين، وليس بطرفٍ واحد فقط. إنّ معيار تقويم الأفكار ليس الجمهور الذي يتّبعها أو يرفضها بالضرورة، بل إنّما يتمّ الحكم عليها في كثير من الأحيان من خلال دراسة بنيتها الداخليّة وآثارها الخارجيّة، وكذلك المنهج الذي تقوم عليها، دراسةً علميّة وموضوعيّة.
الأمر الآخر الذي لا بدّ أن نلتفت إليه، ونحن ندرس حضور شريعتي في العالم العربي، هو أنّ صورة شريعتي في العالم العربي تختلف تماماً عن صورته في إيران، يجب أن نُدرك هذه القضية بشكلٍ واضحٍ وجلي. إنّ صورة شريعتي في إيران قَلِقة تتجاذبُه الآراء والأفكار بين من يقبل بها ومن لا يقبل بها، أمّا صورته في العالم العربي ـ لا أقلّ في فترة ما قبل التسعينيات، وهي ما أسمّيه هنا شريعتي الأوّل ـ لا نقاش فيها أبداً، ليست هناك أيّة حساسية تجاهها، ولا نجد خلافاً في وجهات النظر حولها باستثناء مساحة محدودة جداً في الأوساط الحوزويّة التي ربما كانت لها بعض التحفّظات في ذلك الزمان.
عندما ندرس شريعتي في العالم العربي ينبغي أن نعلم أنّ صورته في العقل العربي تختلف تماماً عن صورته في العقل الإيراني، وعلى سبيل المثال على المستوى الشيعي، بإمكاننا أن نلاحظ أنّ الإمام موسى الصدر الذي له مكانته في العالم العربي خاصّة في لبنان، كان من الذين يطرحون أحياناً أفكاراً مشابهة لبعض أفكار شريعتي، وله عباراتٌ يؤيّد فيها بعض أفكار شريعتي، ومن الطبيعي أن تترك مواقف شخصيّة مثل موسى الصدر تأثيرها على كثيرٍ من الشيعة في لبنان وخارجه، وكذلك الشهيد مصطفى جمران أيضاً كانت له مواقف مشهودة في هذا السياق، وعليه، فمن الطبيعي أن تترك مواقفه وتوجّهاته هذه تجاهَ شريعتي وأفكاره تأثيرها على الشيعة خاصّة من كان في لبنان في تلك الفترة.
كذلك الحال مع السيد محمد باقر الصدر الذي كان فقيهاً مجتهداً يرجع إلىه الناس في الفتوى، حيث لم يُبدِ أيّ حساسيّة في التواصل مع شريعتي، بل كتب رسالةً نقدية تتّصل بانتقاد شريعتي له حول كتاب الولاية، حيث كان قد كتب شريعتي نقداً حول هذا الكتاب، وهو نقد منشور ومترجمٌ إلى اللغة العربية أيضاً، والسيد محمّد باقر الصدر كتب في مراسلةٍ شخصيّة نقداً على هذا النقد، وتمّ إرساله إلى شريعتي، غاية الأمر أنّنا لا نعرف أين ذهب هذا النقد؟ وهل وصل لشريعتي أو لا؟!
هذا يدلّ على أنّ الساحة العربيّة ليست لديها أيّة عقدة أو حساسيّة من التواصل مع شريعتي، ونحن نتكلّم عن رموز تلك الفترة في الساحة العربية، مثل موسى الصدر ومحمّد باقر الصدر ومصطفى جمران وغيرهم.
على أيّة حال، عندما نريد أن نتحدّث عن شريعتي في العالم العربي، لا بدّ أن نقسّم حياته إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى: وهو ما أسمّيه شريعتي الأوّل، وهي فترة ما قبل التسعينيات من القرن الماضي تقريباً.
المرحلة الثانية: وهو ما أسمّيه شريعتي الثاني، وهي فترة ما بعد التسعينيات من القرن الماضي تقريباً.
المرحلة الأولى: شريعتي الأوّل (ما قبل التسعينيّات)
لكي ندرس صورة وحضور شريعتي في تلك الفترة في العالم العربي، علينا أن نعرف فضاء هذا العالم آنذاك، بماذا كان يضجّ العالم العربي؟ وما هي القضايا التي كان يتطلّع إليها الشارع العربي؟ ثمّ ندرس شريعتي وأفكاره لنرى ما الذي أدّى إلى نفوذ أفكاره في العالم العربي؟ ولماذا تمّ الترحيب بها من قبل القارئ العربي؟
أوّلاً: فضاء العالم العربي قبل التسعينيّات
إذا درسنا الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة للعالم العربي في تلك الفترة نجد الآتي:
1 ـ فشل الأنظمة العربيّة في تحقيق الإصلاحات
كانت فترة السبعينيّات والثمانينيات وجزء من التسعينيّات فترةَ فشل الأنظمة العربيّة في الإصلاح السياسي والاقتصادي، حيث قاموا بعشرات من المشاريع التي ادّعوا أنّهم يريدون أن يقوموا عبرها بإصلاحات سياسيّة أو اقتصاديّة في المجتمع، لكنّ معظمها باء بالفشل.
هذا ما أحدث حالةً من الإحباط الرهيب عند الإنسان العربي إزاءَ أشكال هذه الأنظمة برمّتها، بعضها كان قريباً للمعسكر الشرقي، وبعضها الآخر كان أكثر قرباً من الأنموذج الغربي.
إنّ هزيمة عام 1967م كانت بالنسبة إلى العرب كارثةً حقيقيّة، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فالمجتمع غير العربي لا يعرف حجم التأثير الكارثي لهذه الهزيمة على الإنسان العربي، فهو لم يشعر بها، لكنّ الإنسان العربي شعر بها وعاش تداعياتها مدّة طويلة.
إنّ كلّ تلك الآمال الهائلة التي بناها الإنسان العربي على القوميّة العربيّة بزعامة زعيمٍ أسطوري مثل جمال عبد الناصر(1970م) انهارت في يومٍ واحد، لقد انتهت هذه الأسطورة برمّتها خلال ستّة أيّام من الحرب مع (إسرائيل)، وتحوّلت كلّ هذه الآمال إلى أوراقٍ ممزّقة، وهو الآن يعيش في حالةٍ من الإحباط الشديد والهزيمة النفسيّة.
هنا بدأنا نشهد غزو ثقافة الإحباط واليأس والفشل والنقد وجلد الذات عند النخبة العربيّة، بل عند جميع الشرائح والطبقات الاجتماعيّة؛ لأنّ البرامج التي قدّمت لم يكن لها أيّ مردود إيجابي على الإطلاق. إنّنا نشاهد آثار هذه الانتكاسة في الأعمال الفكريّة، وفي الفنّ والإعلام، وفي الحياة اليوميّة.
2 ـ المعارضة ورفض الوضع القائم
إنّ الشعور بالإحباط والفشل هذا سوف يؤدّي بالشارع العربي إلى أن يتّجه نحو المعارضة والرفض للوضع القائم، فتأخذ الثورة والمعارضة مكان الإحباط واليأس أملاً بالتغيير في المجتمع، فأيّ خطاب بإمكانه أن ينفخ روحاً في الإنسان العربي، فمن الطبيعي أن يتمّ تلقّيه بقدر من الإيجابيّة، فإنّ الأغلبيّة الشعبيّة العربيّة تريد أن تخرج من هذه المأساة التي بدّدت آمالها كلّها، وبهذا اتّجهت نحو المعارضة والثورة والرفض للوضع القائم.
3 ـ تنامي التيارات اليساريّة في العالم العربي
من هنا نشهد في هذه الفترة تنامي التيارات اليساريّة في العالم العربي على غرار سائر البلدان الإسلاميّة، بل جميع الأمم المستضعفة، حيث بدت الشيوعية والاشتراكية بوصفهما طريقَ الحلّ للخروج من الأزمات التي كان يعاني منها المستضعون في العالم، فكلّ تيار يساري يرفض الوضع القائم ويثور عليه، بدأ بالتنامي؛ لأنّ التيارات اليسارية كانت تطلق شعار التغيير والخلاص والعدالة الاجتماعيّة و.. وهذا ما كان يرومه الإنسان العربي الذي رأى جميع آماله في مهبّ الريح وفقد ثقته بالوضع القائم، فغزت التيارات الشيوعيّة والماركسية والاشتراكيّة الجامعات برمّتها بشكلٍ رهيب لا سابق له، وصارت تتمدّد في العالم كلّه، لتأخذ جميع جوانب الحياة حتى الدين الذي كان يعتبره التيار الاشتراكي أفيوناً للمجتمع، ظهرت اتجاهات في تلك الفترة تحاول أن تُثبت أنّ الدين أيضاً يؤمن بالنضال وممارسة العنف من أجل العدالة، وظهر ما يسمّى بـ «لاهوت التحرّر».
هذا كلّه يرشدنا إلى التمدّد الكبير الذي حصل عليه التيار اليساري في تلك الفترة، فكلّ من أراد أن يقوّم شيئاً كان يقوّمه بميزان الاشتراكيّة، فالدين الحقّ هو الذي يؤيّد الاشتراكيّة والنضال من أجل العدالة، والحكومة الحقّة هي الحكومة التي تطبّق الاشتراكيّة في المجتمع وهكذا.
إذن، أيّ مقولة كانت قريبة من حركة اليسار وتنسجم معها، صار من المتوقّع أن يتقبّلها الشارع العربي ويرحّب بها؛ لأنّ حركة اليسار صارت تمثّل عنوان الرفض في الأمة العربيّة، كانت تمثّل عنوان الثورة والمواجهة مع فشل الأنظمة عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً وإنسانياً بكلّ ما للكلمة من معنى.
هذا هو المشهد في العالم العربي في تلك الفترة، ولنأتِ الآن إلى شريعتي، لنرى ما هي الأفكار أو الميزات التي كان شريعتي يمتاز بها في ظلّ هذه الظروف العصيبة التي كانت تمرّ بها الأمّة العربيّة في حينها، ممّا أدّى إلى قبول أفكاره والترحيب بها في المجتمعات العربيّة آنذاك؟
ثانياً: خصائص شريعتي وأفكاره
عندما ندرس شريعتي وأفكاره آخذين بعين الاعتبار الظروف التي كان يمرّ بها الشارع العربي في تلك الفترة، نجده يمتاز عن الآخرين بميّزات، منها:
1 ـ اللغة غير المذهبيّة عند شريعتي
إنّ الأمر الأوّل الذي أدّى إلى نفوذ أفكار شريعتي في المجتمعات العربيّة السنّية، فضلاً عن الشيعيّة، هو أنّ لغة شريعتي وأدبيّاته في مجمل كتبه وكلماته لا تتّسم بطابعٍ مذهبي أو طائفي على الإطلاق، حتى عندما يتكلّم عن الإمام علي بن أبي طالب، لا تشعر بأنّه إنسان مذهبي، أو عندما ينتقد سياسة هذا الخليفة أو ذاك، لا تشعر أنّه ينتقدها من خلفيّة مذهبية أو من عقدة طائفيّة، فليست عنده حساسية مذهبيّة بقدر ما عنده حساسيّة إنسانيّة تتّصل بالفقر والإنسان والعدالة.. فهو لا يخوض في السجالات المذهبيّة والطائفية التي لطالما كانت من أبرز عوامل تشظّي الأمة الإسلاميّة عنده.
من هنا فالقارئ العربي ـ والسنّي بالخصوص ـ لم يعد يشعر بحاجز المذهبيّة والطائفيّة بينه وبين شريعتي، لهذا استطاع شريعتي أن يوصل أفكاره إلى قلوب وأذهان مخاطبيه من مختلف المذاهب الإسلاميّة، وأخذت هذه الأفكار مأخذها في نفوسهم وعقولهم، بينما الذي يصرّ على السجالات المذهبيّة في أدبياته، وإن أتى بأروع الأفكار والنظريّات، سوف يجد أنّ حاجز المذهبيّة هذا يمنع عن وصول أفكاره إلى نفوس المخاطَبين.
إذن، هذه اللغة والبنية التفكيريّة لشريعتي، والتي تقدّم الأفكار المذهبيّة دون أن تكون في لباسٍ مذهبي أو في عباءة مذهبيّة، كان لديها فعل السحر في القارئ السنّي، فلم يشعر بأيّ حساسية على الإطلاق تجاه أفكاره وآثاره. ورغم انتقادات شريعتي لبعض الرموز السنّية من الصحابة وغيرهم لم تكن هذه الانتقادات بالتي تمسّ إحساس الإنسان السنّي في العالم العربي، وهذا ما أدّى إلى وصول أفكاره إلى عدد كبير من المسلمين بمختلف مذاهبهم.
2 ـ شريعتي ونقده الذاتي لمذهبه وقوميّته
ما زاد من الثقة بشريعتي في أوساط مغايرة مذهبياً أو قوميّاً، هو نقده الذاتي الذي مارسه في أكثر من موضع من كلماته، حيث لم يكتفِ بنقد الآخرين، بل نقد مذهبه وقوميّته أيضاً، فأنت عندما تمارس نقداً لمذهبك يشعر المختلف معك في المذهب بمصداقيّةٍ أكبر بالنسبة إليه على الأقلّ، وكذلك عندما تمارس نقداً لقوميّتك فالآخر المختلف قوميّاً يشعر بمصداقيّة أكبر.
من هنا، وجدنا بعض الكتّاب العرب الذين لديهم ميول قوميّة، عندما يقرأ شريعتي قراءة قوميّة ـ بصرف النظر عن صحّة هذه القراءة ـ يقول بأنّ نقد شريعتي للصفويّة سهّل أن يكون قريباً من العرب، فعندما يأتي شخصٌ إيراني ينتقد الصفويّة بهذه الطريقة، فهذا معناه أنّني أستطيع أن أتفاهم معه أكثر؛ لأنّني لا أشعر أنّ بيني وبينه مشكلة قوميّة، كما لا أشعر أنّ بيني وبينه مشكلة مذهبيّة أو طائفيّة.
نقد شريعتي لرؤى مذهبيّة سائدة داخل مذهبه، ونقده للإسلام المحافظ أو التقليدي كما يسمّيه بعضهم، وكذلك نقده لقوميّته، عزّز من مصداقيته، وأكّد للآخر أنّه ليست لديه عقدة مذهبيّة أو بروباغاندا خاصّة، بل هو رجلٌ منفتح على نقد جميع الاتجاهات أو تأييدها حسب ما يراه صحيحاً، متحرّراً من العُقد المذهبية أو الطائفة أو القوميّة..
وبهذا ساعد هذا النوع من الخطاب المتحرّر من العُقد المذهبيّة والقوميّة في ترحيب المتلقّي العربي بأفكار شريعتي، فاستطاع أن يُوصل خطابه وصوته إلى أكبر عدد ممكن من الناس في العالم العربي.
3 ـ شريعتي واهتمامه بالقضايا الإنسانيّة
الميزة الثالثة في خطاب شريعتي وأفكاره والتي ساهمت في نفوذها في العالم العربي، هو تناوله للقضايا الإنسانيّة، إنّ شريعتي يحاول أن يقدّم قراءة عن الدين تتناول هذه القضايا الإنسانيّة، فنجده يركّز كثيراً في أعماله على قضايا الفقر والظلم والطبقيّة والعدالة الاجتماعيّة ونحو ذلك. وهذه المنظومة من الخطاب كلّها عناصر مكوّنة لخطاب إنساني، هو مهتمّ بالشيعي والسني على السواء، وكذلك يهمّه العربي والتركي والإيراني والأمازيغي بدرجةٍ واحدة.
كان شريعتي يرى الحلّ في إصلاح التركيبة الاجتماعيّة، ولعلّ تخصّصه في مجال علم الاجتماع، جعل كلّ اهتمامه منصبّاً على بنية الاجتماع البشريّ الإسلامي، فأفكاره كلّها تتمحور حول البنية الاجتماعية، ولذلك ركّز على قضايا الفقر والطبقيّة والحرّيات وما شابه ذلك.
وبهذا كان خطاب شريعتي خطاباً إنسانيّاً، ونحن نعيش في عصر هيمنة الثقافة الإنسانيّة أو الإنسانويّة، الذي يجعل الإنسان محور العالم فتقوّم الأشياء بميزانه، فكلّ شيء يحصّل منافعه ومصالحه فهو المطلوب وكلّ شيء يناقض مصالح الإنسان فهو مطرود. وخطاب شريعتي كان يتّصل دائماً بالإنسان، وكان يوظّف المفهوم الديني في قضيّة يمكن أن يشعر الإنسان بأنّه مستفيد منها الآن، وترجع بالصالح العام عليه، وتحقّق العدالة الاجتماعيّة التي يتوق إليها الإنسان العربي في تلك اللحظة الزمنيّة بالذات.
إنّ حديث شريعتي عن احترام الإنسان ورفض استحماره أو استغبائه، وتمرّده على السلطات التي تصادر حرّية الإنسان وعقله وإرادته، هذا كلّه صبّ في الإطار العام الذي يتوق إليه الإنسان العربي، بل أعتقد يتوق إليه كلّ إنسان في هذا العصر تقريباً.
4 ـ شريعتي وعدم انتمائه إلى سلطةٍ قائمة
الميزة الرابعة التي يمتاز بها خطابُ شريعتي، هو عدم انتمائه إلى سلطة قائمة معيّنة، فهو في حدّ نفسه لا يتكلّم عن سلطة موجودة ليُحسب على أنّه هو الناطق الرسمي باسم هذه السلطة أو تلك، فإنّ لحظته الزمنيّة سمحت له بأن لا يكون متحدّثاً باسم أيّ سلطة قائمة، فلم يكن مضطرّاً للدفاع عن سلطةٍ، متشبّثاً بكلّ حشيش من جهة، ومن جهة ثانية لم تكن تخنقه عيوبُها وإشكالاتها؛ إذ عندما تتحدّث باسم سلطة قائمة سوف تلحقك العيوب والإشكالات التي تحوم حول تلك السلطة، وستصبح كأنّك متّهمٌ بها، بينما شريعتي في تلك الفترة الزمنيّة التي كان يعيشها، لم يكن يتكلّم باسم سلطة معيّنة، فلا يتحدّث باسم سلطة اشتراكيّة أو سلطة إسلاميّة أو دينية سياسية أو غير ذلك.
إنّ هذا الأمر يساعد المفكّر في نشر أفكاره عادة؛ لأنّه لا يتحمّل وزر السلطة التي ربما يكون يدافع عنها، فيستطيع أن يتكلّم بحرّية أكبر، لذلك رأينا خطابه معارضاً للسلطة الاشتراكيّة الستالينيّة من جهة، وللأنظمة الرأسماليّة والسلطة الدينية المحافظة التقليدية من جهة ثانية.
وكما قلنا فإنّ الإنسان العربي في تلك الفترة كان قد فقد أمله بالأنظمة السياسيّة القائمة، فكان هذا النوع من الخطاب الناقد للسلطات القائمة، يشكّل بالنسبة له بارقة أمل في ليلة مُظلمة، ولهذا ذهب وراءه علّه يجد بديلاً عن الأنظمة والسلطات القائمة، وإن كان هذا الأمل لم يُختَبَر بعد، لكن بما أنّه لم يختبر بعد فهو ما يزال في إطار الأمل ويمكن أن يكون هو البديل عن الأنظمة والسلطات الفاشلة، وهذا ما يدفع الإنسان العربي لكي يُتابع مُنجزاً من هذا القبيل.
يجب أن أؤكّد هنا أنّ شريعتي رغم اقترابه الفكري من الفهم الاشتراكي للحياة، لكنّه مع ذلك لم يحسب على أنّه اشتراكي إلا في بعض الأوساط التي كانت على خلافٍ معه وهي محدودة في العالم العربي؛ إذ لم يقدّم شريعتي نفسه يوماً على أنّه ناطق رسمي باسم التيارات الاشتراكيّة، رغم أنّ خطابه كان قريباً في كثير من عناوينه وشعاراته من الخطاب الاشتراكي في تلك الفترة.
5 ـ شريعتي وعدم التصادم مع اليسار الاشتراكي
رغم الانتقادات التي كان شريعتي يوجّهها نحو الاشتراكيّة، لكن لم يكن التيار الاشتراكي على تصادم معه، بل رحّبوا بأفكاره، إذ كان خطابه قريباً إليهم، وكان يركّز على ذات المفاهيم في كثير من الأحيان وبلغة تجذب القلوب، بينما نجد التيار الاشتراكي على تصادم كبير مع مثل الشيخ مرتضى مطهري أو السيد محمّد باقر الصدر، مع أنّهما أيضاً كانا قريبين إلى المفاهيم الاشتراكيّة في بعض المساحات على الأقلّ، فما الفرق بين محمّد باقر الصدر ومرتضى مطهري وعلي شريعتي؟
ثمّة فرق كبير بينهم، فإنّ شريعتي رغم أنّه يتكلّم دينياً وينتقد بعض تجلّيات الاشتراكية، لكنّه لا يشكّل تحدّياً وتهديداً لليسار، بينما محمّد باقر الصدر أو مرتضى مطهري مع أنّهما يلتقيان مع الاشتراكيّة في بعض المفاهيم، ويتكلّمان عن موضوع العدالة الاجتماعية والطبقيّة ومحاربة الفقر وقضايا الإنسان، لكن كان لديهما رؤية مستقلّة ينظّران لها، وهو الإنسان المؤمن بالحياة السياسية المتديّنة، فهما يشكّلان منافساً لليسار الاشتراكي في العالم العربي، بينما شريعتي لا يشكّل منافساً بهذا المعنى.
إنّ نوعيّة الموضوعات التي طرحها شريعتي، وطريقة العرض التي قدّمها، والرؤية الفكريّة التي انطلق منها لم تكن تشكّل ـ في تقديري ـ بالنسبة إليهم منافساً، بل مُلاقٍ، فيما محمد باقر الصدر أو مرتضى مطهري يشكّلان تلاقياً وتنافساً في الوقت عينه، وهذا ما جعل اليسار في العالم العربي أقرب ـ نسبيّاً ـ إلى شريعتي منه إلى مرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر، اللذين انتقدا الماركسيّة مئات المرّات في كتبهما، بينما شريعتي لم ينتقد الماركسيّة في بنيتها الفكريّة أو الفلسفيّة، بقدر ما انتقد أشكالاً من تجلّيات الماركسيّة، مثل الماركسية الستالينيّة وما بعدها.
إنّ شريعتي لا يريد أن يقول بأنّ الإسلام هو الحلّ في مقابل الاشتراكيّة أكثر من أنّه يريد أن يثبت بأنّ الإسلام أيضاً يؤمن بالنضال من أجل العدالة ويحارب الفقر والطبقية، بينما مرتضى مطهّري أو محمد باقر الصدر يرفضان الاشتراكيّة رفضاً باتاً في بنيتها الفلسفيّة ويقدّمان الإسلام على أنّه هو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ المجتمع من الظروف المأساوية هذه ويحقّق العدالة الاجتماعية على مستوى مختلف شرائح المجتمع.
وأعتقد أنّ عدم كون شريعتي رجلَ دين قد ساهم في ذلك، إذ لا يتوقّع القارئ أنّ عنده أيدولوجيا أو بروباغندا خاصة، فمجرد أن يرتدي الإنسان زيّ رجال الدين، فهو يُلقي للطرف الآخر أنّني أدعو الناس إلى إطار فكري معيّن، وهذا في حدّ نفسه سيجعل اليسار العربي على قلق، فيتحسّس منه، وهذا ما حصل مع محمّد باقر الصدر، فهو تصادم مع اليسار ولم يكن على تواصل معه، رغم أنّ الكثير من الأفكار المتصلة بقضايا الإنسان في تلك الفترة، تناولها الصدر أيضاً في أعماله وكتاباته.
6 ـ شريعتي وعدم التصادم مع الإسلام
رغم أنّ شريعتي يركّز على المقولات الإنسانيّة أو يؤكّد على بعض المفاهيم اليساريّة، لكنّه يسعى لكي لا يعارض الدين والإسلام أبداً، فهو يتكلّم باسم الدين ويقدّم برنامجه في إطار لا يتصادم مع الإسلام، ويرى أنّ الدين يؤمن بالنضال من أجل العدالة ويحارب الفقر والطبقية في المجتمع، وهذا ما أدّى إلى الترحيب بأفكاره هذه في العالم الإسلامي أكثر؛ فإنّ شعوبنا شعوبٌ متديّنة، بل تحبّ الدين، وتنتظر أحداّ يقدّم لها نسخة عن الدين قابلة للعيش.
ثمّة فرق كبير بين مجتمعاتنا وبعض المجتمعات الغربيّة تجاه الدين في الفترة التي جاء فيها شريعتي، فإنّ شعوبنا في نفسها متديّنة وليست لديها مشكلة مع الدين نفسه، وإنّما تعاني من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بينما بعض الشعوب الغربية كانت تعارض الدين نفسه، ولا تستطيع أن تقبل وجوده في ذاته.
وهذا يعني أنّ أيّ خطاب يمكنه أن يحلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجتمعاتنا ولا يتصادم مع الدين، بل فيه رائحة الدين، فهو مرحّب به أشدّ الترحيب، وأيّ خطاب يؤكّد على الدين ولكنّه لا يحلّ مشاكلنا لم يَعُد مرحّباً به، وكذلك أيّ خطاب يحلّ مشاكلنا ولكنّه يتصادم مع الدين سيخلق مشكلة.
إذن، النقطة الإيجابية في شريعتي أنّه من جهة يتكلّم متحدّثاً عن الدين، ومن جهة أخرى يحاول أن يعالج هذه المشاكل، فلا يُحدث في نفس القارئ العربي ـ على الأقل ـ أيّ تصادم بين هاتين الهويّتين، أي الهويّة الإنسانيّة في إطار التغيير الاجتماعي، والهويّة الدينية التي يحملها، وهذا هو الذي يريده الإنسان المسلم اليوم عموماً، والعربي خصوصاً في تلك الفترة على الأقلّ.
7 ـ شريعتي ولغة المعارضة
النقطة السابعة في خطاب شريعتي والتي أعتقد بأنّها ساعدت في نفوذ أفكاره في العالم العربي، هي لغة المعارضة التي كان يمتلكها، وكما قلنا فإنّ العالم العربي يتوق إلى من يقدّم له لغة المعارضة بعد فشل الأنظمة العربيّة، وهذا ما كان يجده القارئ العربي في شريعتي وأفكاره فانجذب نحوها ورحّب بها أشدّ الترحيب.
8 ـ شريعتي واللغة الجماهيريّة
النقطة الأخيرة التي أعتقد بأنّها في غاية الأهميّة هنا، هي اللغة الجماهيريّة التي كان يستخدمها شريعتي لبيان أفكاره، فلا نجد له كتاباً واحداً معقّداً أو محاضرةً واحدة معقّدة، بينما نجد عند سائر المفكّرين الكبار في الفضاء الإسلامي بعض الأعمال المعقّدة وذات الطابع التخصّصي إلى جانب بعض الكتابات والأعمال الواضحة والجماهيريّة.
وعلى سبيل المثال، عندما ننظر في الإطار الإمامي إلى السيد محمّد باقر الصدر نجد أنّ بعض كتاباته وبحوثه تعتبر بالنسبة إلى القارئ العادي بحوثاً معقّدة، فلا يستطيع جمهور الناس أن يستفيد منها، وبعض بحوثه وكلماته يمكن للقارئ العادي أن يستفيد منها، بينما نجد مع شريعتي لغة مفتوحة تماماً، فيستطيع أن يستفيد منها أكبر عددٍ ممكن من الناس، من هنا نجد كتابات شريعتي تأخذ مكانتها في معارض الكتاب إلى يومنا هذا.
وبحسب إحصاء بعض الكتّاب العرب في الشمال الأفريقي ـ وهو إحصاء قديم يعود إلى ما يقرب من خمسة عشر سنة ـ يأخذ شريعتي المرتبة الأولى، ومحمد باقر الصدر المرتبة الثانية، ومرتضى مطهري المرتبة الثالثة.
أعتقد أنّ اللغة أيضاً ساعدت في أن تأخذ أعمال شريعتي الذروة، إذ إنّه لا يتناول البحوث عادة بذهنيّة فلسفية أو أصوليّة أو منطقيّة، بل ليس في هذه المجالات، وهذا قد ساعد كثيراً في ترحيب الناس بأفكاره وآثاره.
كانت هذه بعض العناصر التي ربما تكون قد ساعدت على نفوذ أفكار شريعتي في العالم العربي والترحيب بها، وهي في فترة ما قبل (1995م) تقريباً، وهو ما سمّيته بـ«شريعتي الأوّل». وقد حان الوقت لكي ننتقل إلى المرحلة الثانية من رحلة أفكار شريعتي في العالم العربي وهو ما أسمّيه ب ـ «شريعتي الثاني».
المرحلة الثانية: شريعتي الثاني (ما بعد التسعينيّات)
إنّ قضية تعامل المجتمع مع الأفكار ليست قضية بسيطة تتعلّق بالفكر نفسه فحسب، بل ثمّة عناصر عديدة تؤثّر على نوعية التعامل معها، ومن أهمّ هذه العناصر الظروف السياسية والاجتماعية. وشريعتي وأفكاره لم يكونا استثناءً من هذه القاعدة العامّة، من هنا نجد أنّه قد بدأت تظهر صورة جديدة عن شريعتي في العام العربيّ، وفي الوسط الشيعي بالخصوص منذ عام (1995م) إلى اليوم. وهذا ما أسمّيه «شريعتي الثاني» وهو شريعتي المعارض للمؤسّسة الدينيّة.
هذه هي الصورة التي بدأت تنحت لشريعتي، ويتمّ تسليط الضوء علىها. شريعتي في هذه الصورة الجديدة هو المعارض للمؤسّسة والسلطة الدينيّة، وهو المعارض لسلطة الفقهاء، فبعد أن كان شريعتي تمثالاً لمعارضة الظلم والاستبداد أصبح الآن تمثالاً لمعارضة السلطة الدينيّة، فأخذوا يركّزون على بعض أفكاره التي تقع في هذا السياق، مثل «الإسلام من دون مؤسّسة دينيّة» و«التشيع العلوي والتشيع الصفوي» فاهتمّوا بها وكبّروها.
هنا بدأ هذا الجانب من شريعتي يتجلّى أو يُظهّر أكثر من قِبَل أفراد أو تيارات أو جماعات باتت لديها مشكلة مع السلطة الإسلاميّة أو الدينيّة، فأصبح شريعتي رمزاً لمعارضة السلطة الدينيّة ورموزها هذه المرّة.
هذا ما وجدناه في الوسط الشيعي أكثر منه في الوسط السنّي؛ لأنّه بدأ نتيجة الظروف السياسيّة والاجتماعية التي كان يمرّ بها المجتمع الشيعي في إيران آنذاك، فكما قلنا لا يمكن دراسة الأفكار والنظريّات بعيداً عن الظروف السياسية والاجتماعية، وبخاصّة أنّ هذه الصورة لشريعتي جاءت متزامنةً مع حركتين في العالم الإسلامي استبطنتا حركةً نقدية تجاه السلطة الدينيّة أو بعض رموزها. لا أريد أن أحمّل هاتين الحركتين المسؤولية، وإنّما أريد أن أقول بأنّها جاءت متزامنة مع هاتين الحركتين الأمر الذي أثّر على نشوئها ونموّها، وهاتان الحركتان هما:
حركة الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي، وما رافقها من خلق فضاءات ثقافيّة جديدة في إيران.
وحركة العلامة السيد محمد حسين فضل الله في العالم العربي.
لقد جاءت هاتان الحركتان بقراءة نقديّة أو صاحبتهما قراءة نقدية. وفي هذا الفضاء وما فيه من تجاذبات في العالم العربي وإيران، تمّ إظهار شريعتي بمظهرٍ آخر، يختلف عن المظهر الذي كنّا نعرفه قبل ذلك، فظهر مناهضاً للسلطة الدينية أكثر ممّا هو مناهض للسلطات السياسيّة القائمة في مصر أو في ليبيا أو في دول أخرى آنذاك.
الخلاصة والنتائج
إذا أردنا أن ندرس حضور شريعتي وأفكاره في العالم العربي لا بدّ أن نفصل بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل التسعينيّات من القرن الماضي تقريباً. وهي الفترة التي أخذت أفكار شريعتي فيها رواجاً في العالم العربي ورحّب بها التيار الإسلامي واليساري معاً. وثمّة خصائص امتاز بها شريعتي في خطابه ممّا أدّى إلى نفوذ أفكاره في العالم العربي ولا أعتقد أنّ مضمون رؤيته الفكريّة كان يمتاز كثيراً عن الآخرين بقدر ما كان خطابه يمتاز عنهم، فإنّ لغته الجماهيريّة، وجرأته النقديّة لذاته ومذهبه وقوميّته وأعراف مجتمعه ومجتمع المسلمين عموماً، وكونه إنساناً متحرّراً من الانتماء إلى أيّ سلطة معيّنة بما فيها السلطة الدينيّة، واهتمامه بقضايا الإنسان، ذلك كلّه أثّر جداً على القارئ العربي، فلم يشعر بحساسيّةٍ تجاهه بل تفاعل معه.
المرحلة الثاني: وهي مرحلة إعادة إنتاج شريعتي بوصفه على النقيض من المؤسّسة الدينية والسلطة التي معها.
أختم كلامي هنا بإشارة سريعة إلى نقد شريعتي، فربما في إيران كُتب الكثير في نقد أفكاره وأعماله، لكن لا نجد في العالم العربي إلى يومنا هذا نقداً كثيراً حول شريعتي وأفكاره، وأغلب النقد الذي كُتب على شريعتي في العالم العربي هو من قِبل التيارات الدينية الشيعيّة، وبخاصة في زمن شريعتي الثاني، وليس أبداً على الإطلاق في زمن شريعتي الأوّل.
إذن، العالم العربي لم يعرف بعدُ مرحلة نقد شريعتي، رغمَ أنّ مقولات شريعتي في الأيديولوجيا والثوريّة قد تعرّضت بشكل عام ـ بعيداً عن شريعتي نفسه ـ للكثير من النقد من قبل النخبة العربيّة.
ويهمّني هنا أن أقارن بين شريعتي عربيّاً وشريعتي تركيّاً، وفق ما قدّمه الأخ الباحث في محاضرته التي سبقت كلمتي هذه، فربما ما يزال شريعتي في المشهد التركي يعتبر بمثابة مركز التغذية، لكن في العالم العربي شريعتي ليس مغذٍّ للفكر الديني أو الثوري اليوم، بقدر ما يتلاقى مع الفكر الموجود أو يتمّ توظيفه لخدمة أمرٍ من الأمور.
إنّ الرؤية التي قدّمها شريعتي كانت متناسبة مع تلك الفترة الزمنيّة التي كان يعيشها، لكن أقترح أن تُعقد ندوات لدراسة جدوى أفكار شريعتي في عصرنا الحاضر، لنرى هل صار شريعتي اليوم نسخة منتهية الصلاحية أو لا؟ هل انتهى عصر شريعتي بانتهاء عصر الأيديولوجيا بظهور حركة نقد الإسلام وتأثيرات الغرب الليبرالي الذي فتّت كلّ العقائد واتّجه بالإنسان اليوم نحو اللادينية واللأبالية ودمّر البنى الأخلاقية للإنسان؟ هل شريعتي ما زال اليوم يمكن أن يخدم في شيء أو لا؟
هذه صورة موجزة عن انطباعي الشخصي تجاهَ شريعتي وحضوره في العالم العربي وأسباب الترحيب بأفكاره، والمسارات التي عبرتها أفكاره إلى يومنا هذا، ولكنّها ليست دراسة إحصائيّة تعتمد الأرقام الدقيقة، بقدر ما هي ـ كما قلتُ ـ انطباعات.
([1]) ألقيت هذه المحاضرة في مركز «راهبري ورثة الأنبياء»، في إيران، يوم الأحد بتاريخ 23 ـ 6 ـ 2019م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثمّ راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والإضافات والتوضيحات.