محاضرات سماحة الشيخ حيدر حبّ الله
تحرير وتنظيم
مركز إجابات للبحوث والدراسات الإسلامية
!
{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبيراً}
(الإسراء: 9)
في البداية
هذه المحاضرات المتواضعة هي محاولة بسيطة للمساهمة في الدرس التفسيري للقرآن الكريم، وهي تهدف إلى العيش في فضاء الكتاب العزيز، إلى جانب سائر مصادر المعرفة الدينية، وليس الغرض منها التقصّي والتفصيل أو الخروج بنتائج نهائيّة بقدر ما الهدف هو ممارسة محاولةٍ أوّلية لا أكثر. وإلا فإنّ غير نقطةٍ من النقاط التي نثيرها هنا سبق أن عالجناها بالتفصيل في مناسبة أخرى، أو هي تستحقّ علاجاً أكثر سعةً وبسطاً لم يكن المقام ليسمح به.
وقد قام بعض الإخوة الكرام في مركز إجابات للبحوث والدراسات الإسلاميّة بالتصدّي لتحرير هذه المحاضرات الصوتية وتنظيمها كتبيّاً وتخريج مصادر البحث ونحو ذلك، وقد قاموا بجهد مضنٍ في هذا السياق، وقد قمت بعد ذلك بإعادة النظر في هذه الدروس المدوّنة لأضيف أو أغيّر بعض الأمور التي رأيت من المناسب إضافتها أو تغييرها، وأضع بعض العناوين الأخرى بهدف المزيد من تنظيم البحث وتسهيل وصول القارئ الكريم إليه.
إنّني إذ أشكر من كلّ قلبي الإخوة الأفاضل في مركز إجابات للبحوث والدراسات الإسلاميّة على جهدهم الطيّب والكريم هذا، أسأل الله تعالى لهم التوفيق لكلّ خير، إنّه وليّ قريب.
كما أتوجّه بالشكر الجزيل لحوزة الثقلين الموقّرة، لاسيما شخص مديرها صاحب الفضيلة السيد عباس نجيب خلف حفظه الله تعالى، لما بذلوه من جهد كريم لا يُنكر في الإعداد والتنظيم لهذه المحاضرات المتواضعة.
وأخيراً، أشكر القارئ العزيز على تجشّمه عناء مطالعة هذه الموضوعات، راجياً منه أن لا يبخل عليّ بأيّ ملاحظة نقديّة أو إضافة نوعية مفيدة، والله وليّ التوفيق.
حيدر محمد كامل حبّ الله
2 ـ 4 ـ 1435هـ
2 ـ 3 ـ 2014م
مدخل عامّ
قبل الدخول في سلسلة هذه الدروس والمحاضرات التفسيرية المتواضعة، والتعرّض لتفسير سورة الانشراح، من الضروري أن نلفت النظر إلى موضوعين مدخليين:
1 ـ لماذ ا تفسير القرآن الكريم؟
قد يسأل سائل في أوساط المؤسّسة الدينية والحوزة العلميّة، لاسيما العربية منها، عن السبب أو الدافع وراء إطلاق درس تفسيريّ أسبوعي([1])، وسياقات الحوزة مكتظّة بالدروس الفقهيّة والأصوليّة، فما هي الضرورة التي تدعو إلى ذلك؟
إنّ ما نسعى إليه حثيثاً في هذه الدروس ويدعونا إلى الاشتغال بمثل هذه البحوث القرآنيّة، هو ضرورة تكوين عقليّة قرآنيّة تفسيريّة في ذهن طلاب العلوم الدينيّة، وعلينا الإسهام في تكريس هذه الثقافة بوصفها ركيزةً أساسيّة في وعينا ومشاركاتنا؛ فقد تعوّدنا أن نطلّ على القرآن الكريم بعيونٍ فقهية وأصوليّة، وربما نحسب ـ خطأً ـ أنّ هذه العيون هي النوافذ الوحيدة التي يمكننا أن نفهم هذا الكتاب المقدّس ومضامينه العالية عن طريقها، مع أنّ الحقيقة ليست كذلك؛ إذ قد تكون هناك قائمة من العيون والنوافذ الأخرى التي تقف على رأسها: «العين التفسيريّة العامّة» التي تتذوّق القرآن الكريم وترسم مزاجه، كما وتتعرّف على طريقته وأسلوبه العام، وتحاول أن تتنقّل بين مفاهيمه من خلال طريقته في العرض والبيان.
إنّ ما نتمنّى طرحه والبحث فيه من خلال هذه الدروس المتواضعة ليس فقط معلومات عامّة يمكن للطالب أن يعرفها ويحصّن نفسه بها، وإنّما هو جهدٌ مركّز لإيجاد نمطٍ حديث مختلف عن سياقاتنا الحوزويّة ـ ذات الطابع الفقهي والأصولي ـ في فهم القرآن الكريم، نمطٌ ينطلق من بُنية القرآن اللفظيّة واللغويّة والبيانيّة، ليصل إلى نتائج تتّفق مع هذه البنية وتتّسق معها، كما ينطلق أيضاً من قراءة مقاصدية للآيات والسور.
وهذا لا يعني التعريض بالعيون الأخرى والانتقاص منها، بل على العكس نحن نريد هذا التنوّع في زوايا النظر والتعدّد في العيون الباصرة لكتاب الله تعالى، والذي ندعو إليه هو عدم إغلاق قائمة العيون التفسيريّة الأخرى، وحصرها في عين واحدة أو عينين؛ فإنّ الصورة التفسيريّة والفهميّة للقرآن الكريم لا يمكن أن تسير في طريق النُضج والكمال والتمام إلا بإضافة مثل هذه العيون التي نريد الحديث عنها.
2 ـ منهجنا في هذه الدروس التفسيرية
أ ـستعتمد هذه الدروس إن شاء الله الأسلوب السهل، الذي يحاول أن يتمتع بالسلاسة والابتعاد عن الحالة النخبويّة الاستدلاليّة التخصّصيّة، فهي محاولة توفيقيّة بين النخبويّة والعموميّة، مبتعدة قدر الإمكان عن الاستدلالات المفصّلة والإشكاليّات المعقّدة.
نعم، ربما نطرح شيئاً من ذلك، لكنّ هذا لا يعدو كونه مروراً تذكيريّاً عابراً؛ فالهدف الذي نرنو إليه من هذه الدروس هو أن نطلّ على القرآن الكريم إطلالة عامّة تمهيديّة، نستشرف من خلالها طرائق بيانه ونفتش عن مفاهيمه ومغازيه وحسانه.
ب ـليس الهدف من هذه البحوث الوصول إلى قناعات حاسمة ونهائية، لا تحتمل الجدل ولا النقاش؛ فإنّ هذا يُعدّ من تفسير القرآن بالرأي وفقاً لفهم بعض العلماء لهذه المقولة المذمومة، وإنّما نطمح أن نقدّم مفاتيح للتدبّر والتأمّل في كتابه عزّ اسمه.
بل ما نؤمن به هو أنّه على كلّ ممارسة عقليّة بشريّة لفهم النصّ القرآني والحديثي أن تتحلّى عموماً بالتواضع والابتعاد عن ادّعاء احتكار الحقيقة المطلقة في النتائج، بل اللازم على كلّ من يريد أن يقدّم تفسيراً للآيات القرآنيّة الكريمة أن يختم محاولته بالقول: هذا ما فهمته من النصّ، وربما تكون هناك دلالات أخرى لم ألتفت إليها.. بل ربما أكون مخطئاً نتيجة محدودية علمي ومعرفتي.
ج ـلن نستخدم في هذه المحاولة أسلوب التفسير الموضوعي بأيّ معنى من معانيه، إلا بنحوٍ عابر بين الفينة والأخرى حيث نرى ذلك ضرورةً، بل سنمارس الأسلوب التجزيئي في التفسير؛ فنطلُّ من خلاله على سورٍ صغيرة تدفعنا في بعض الأحيان إلى متابعة قصص وآيات قرآنيّة أخرى، وذلك لوجود وجه في دراستها والتأمّل فيها، أو نضطر في أحيانٍ أخَر إلى تناول مفهوم من المفاهيم القرآنيّة تفرض علينا استحقاقات البحث معالجته على مستوى النصّ القرآني برمّته.
د ـلا نريد في هذه البحوث أن نقدّم استقصاءاً تامّاً لعموم الآراء والوجوه التفسيريّة ومعالجتها بعد ذلك بالنقض والإبرام، وإنما نصبو إلى عرض أبرز الوجوه والأنظار التفسيريّة لعلماء المسلمين بشيء من المقارنة والملاحظة، ومن هنا ارتأينا أن نعتبر هذه البحوث مدخلاً إلى تفسير القرآن أو دروساً تمهيديةً فيه، وليست تفسيراً نهائيّاً مستوعباً أو شاملاً.
بعد أن اتضحت هذه المقدّمات الأربع لا بأس بأن نوضح خارطة عملنا العامّة ومنهجنا التنظيمي لهذا التفسير، ضمن النقاط التالية:
أولاً:تفكيك أوّلي لغوي للآيات الكريمة على مستوى المفردات وعلى مستوى التركيب.
ثانياً:التعرّض لمجموعة من الملاحظات التي وجّهت من قبل بعض الباحثين المستشرقين والباحثين المعاصرين أيضاً إلى القرآن الكريم، نظير ما طرحه بعضهم من أنّ بعض الآيات القرآنيّة منافية للحقائق التاريخيّة أو أنّ بعضها باطل ومتناقض في نفسه، وسنحاول في هذه الدروس أن نطلّ على إشكالاتهم بالتحليل والنقد والملاحظة؛ لأنّ الدفاع عن القرآن ـ في مثل هذه الأزمنة التي كثرت الإشكاليات فيها ـ أمرٌ ضروريّ وأساسي، ولا يمكن إغفال هذه الإشكاليات أو الاستخفاف بها أو إغماض العين عنها وتجاهلها، وعلينا الانطلاق في نقدها من أسس علميّة ولغويّة وبيانيّة، لا أن يكون الدافع لذلك أو المبرّر هو المنطلقات الأيديولوجية والعقائديّة المسقطة على النصّ إسقاطاً، والتي لا تراعي لنظامه البياني ولسانه التعبيري أيّ حرمة في بعض الأحيان، فإذا أمكن الجواب عنها فبها ونعمت، وإلا فالأفضل التزام الصمت والإقرار بالعجز.
ثالثاً: مقارنة ومقاربة الآيات مع بعضها حيث تدعو الحاجة، حتى لا يتمّ استهلاك الحديث في آيةٍ واحدة بمعزل عن سياقاتها الخارجية المتصلة والمنفصلة.
رابعاً: محاولة استخلاص بعض المفاهيم والرسائل والحِكم التي تقدّمها الآيات القرآنيّة الكريمة على اختلاف المستويات التربويّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والثقافيّة والإداريّة والسياسيّة وغيرها، وسنركّز بنحو الإجمال على المفاهيم التي أراد القرآن الكريم أن يدير حركة المجتمع الإسلاميّ من خلالها روحيّاً وتربويّاً واجتماعيّاً، وفي بعض الأحيان قد نضطر إلى شيء من التفصيل في ذلك.
وسيكون خيارنا الأوّل هو سورة الانشراح، والتي تُعدّ من صغار السور القرآنيّة، حيث سنتوقّف لنلاحظ ما تحمله من مفاهيم ومعانٍ ودلالات ورسائل، كما سنتوقّف قليلاً مع مقاصدها التربويّة والعمليّة والميدانيّة أيضاً.
ÉOó¡Î0«!$#Ç`»uH÷q§9$#ÉOŠÏm§9$#
óOs9r&÷yuŽô³nSy7s9x8u‘ô‰|¹ÇÊÈ$uZ÷è|ÊururšZtãx8u‘ø—ÍrÇËÈü“Ï%©!$#uÙs)Rr&x8tôgsßÇÌÈ$uZ÷èsùu‘ury7s9x8tø.ÏŒÇÍȨbÎ*sùyìtBÎŽô£ãèø9$##·Žô£ç„ÇÎȨbÎ)yìtBÎŽô£ãèø9$##ZŽô£ç„ÇÏÈ#sŒÎ*sù|Møîtsùó=|ÁR$$sùÇÐÈ4’n<Î)ury7În/u‘=xîö‘$$sùÇÑÈ
سورة الانشراح بين المكيّة والمدنية (معايير التمييز بين المكّي والمدني)
يبدو أنّه قد أجمع المسلمون على «مكيّة» سورة الانشراح المؤلّفة من ثمانِي آيات قرآنية عدا البسملة، والسؤال الأوّل الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف نعرف مكيّة هذه السورة؟ وكيف استطاع العلماء المسلمون اكتشاف أنّ هذه السورة مكيّة وليست مدنيّة؟ وهذا ما يفتح على سؤال عام هو: ما هي المعايير والآليات المتبعة لاكتشاف مكيّة سورةٍ من مدنيّتها؟
لقد استند العلماء هنا لإثبات مكيّة سورة الانشراح إلى طريقين هما:
الطريق الأوّل: الوثائق التاريخيّة
فقد تعارف بين المفسّرين ـ لمعرفة مكيّة السورة أو مدنيّتها ـ أن يستندوا إلى النصوص المأثورة عن النبي الأكرم أو أهل بيته أو الصحابة والتابعين، وأنّ هذه السورة هل نزلت بجميع آياتها أو بعضها في مكّة أو في المدينة. وعلى أساس هذه الطريقة المتعارفة والسائدة عيّنوا أمكنة نزول السور في المصحف الشريف، ومن هنا ارتأينا أن نضع اصطلاح الوثائق التاريخية على هذا الطريق الذي اتبعوه.
وقد دلّتنا الوثائق التاريخيّة المأثورة على أنّ سورة الانشراح مكيّة.
الطريق الثاني: الاستناد إلى سورة الضحى
هناك اتجاه تفسيريّ يرى أنّ سورتي الانشراح والضحى سورة واحدة في واقع الأمر، وليستا سورتين منفصلتين، ووفقاً لهذا الرأي سيكون لمعرفة مكان نزول سورة الضحى دورٌ كبير في تحديد مكان نزول سورة الانشراح؛ لأنهما سورة واحدة كما قرّر هذا الاتجاه.
وحيث إنّ سورة الضحى قد نزلت في مكّة المكرّمة بعدما انقطع الوحي فترةً من الزمن، كما يقول المؤرّخون وعلماء القرآنيات، فلابد إذاً أن تكون سورة الانشراح مكيّةً أيضاً.
معايير المكيّة والمدنيّة، وقفات تأمّل وتحليل
ويمكن لنا هنا التوقّف عند هذين المستندين اللذين طرحهما العلماء لإثبات مكيّة سورة الانشراح، وذلك:
1ـرغم أنّ الطريق الأوّل (الطريق التوثيقي التاريخي) نافعٌ جداً، إلا أنّ الإثبات التاريخي وتوثيق هذه النصوص المنقولة عن النبي وأهل بيته وصحابته مشكلة حقيقيّة تقف أمامه؛ إذ تعاني أغلب هذه النصوص من عدم وجود سند علمي معتبر لها يفضي إلى حصول الاطمئنان بمؤدّاها، لكنّ المفسّرين تسالموا على هذا الطريق، وكتبوا في المصاحف النتائج التي قرّرها وفقاً لرواياتٍ مرويّة عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين.
ومن هنا، أمكن أن نطرح طريقاً آخر لاكتشاف مكيّة السورة أو الآية من مدنيّتها وهو: الاعتماد على الطريق التحليليّ الاجتهاديّ التفسيريّ، فحينما ينظر الباحث في الآية أو السورة الكريمة ويتأمّل ثناياها وسياقها ولسانها وموضوعها، فإنّه قد يتمكّن ـ في كثير من الأحيان ـ من تعيين مكان نزولها، ويعرف أنّ السورة (أ) مثلاً نزلت في مكّة، وأنّ السورة (ب) نزلت في المدينة أو العكس، فالسياق والموضوع وطريقة العرض والبيان قد يكونان مكيّين وقد يكونان مدنيّين، وهذه الأمور التي نستند إليها في هذا الطريق المتني (مقابل السندي التاريخي) ليست أموراً تعبديّة نصيّة، وإنما هي تحليليّة اجتهاديّة متنيّة.
ومن خلال هذا المقياس الاجتهادي بكلّ آلياته، نستكشف مكيّة بعض السور أو مدنيّتها بنحو حتمي أو اطمئناني أو ترجيحي، لكن تبقى لدينا سور وآيات يمكن أن يُشكّك في نسبتها عبر هذا الطريق، نظراً لوجود رواية تخالف التحليل والاجتهاد الذي وصل إليه الباحث من خلال تفحّص نصوص السورة والآية وموضوعها وسياقها وطريقة عرضها وبيانها، فربما يصل الباحث إلى مكيّة سورة أو مدنيّتها من خلال ذلك، لكن يجد روايةً تخالف الفرضية التي وصل إليها، وفي هذا السياق فقد يذهب باحث إلى أنّ مثل هذه الروايات لا يمكن أن تقف حائلاً أمام النتيجة التي وصل إليها من خلال المقياس الاجتهاديّ التحليلي؛ لأنها روايات ضعيفة لا يمكن الاستناد إليها ولا الاكتراث بها أصلاً، كما ذهب إلى ذلك جملة من العلماء في سورة الانشراح كالعلامة محمد حسين الطباطبائي؛ فرغم أننا نقلنا فيما تقدّم إجماعاً ـ إذا جاز هذا التعبير ـ على مكيّة سورة الانشراح، نرى أنّ الطباطبائي يذهب في تفسيره إلى مدنيّتها، ويعزو سبب ذلك إلى سياقها، حيث قال: «والسورة تحتمل المكيّة والمدنيّة، وسياق آياتها أوفق للمدنيّة»([2]).
وربما يكون كلام السيد الطباطبائي أقرب للصحّة؛ وذلك أنّ التأمّل في ثنايا السورة يُشعر أنّ حديثها في المدينة المنوّرة؛ لأنّ افتراض كونها نزلت في الأيام الأولى أو في الأيام الأخيرة في مكّة حينما أراد الرسول الأكرم|الهجرة إلى المدينة، يتنافى مع السياقات التي تتحدّث عنها الآيات مع النبي؛ فهي تقرّر له انشراح الصدر وارتفاع الضيق الكامن في صدره، كما تتحدّث إليه عن رفع الوزر والعبء الثقيل الذي كان على ظهره، وأخيراً تخبره بالشأن الكبير الذي حصل له بين الناس، ومن ثمّ انحسار مراحل العُسر وبداية مراحل اليسر.. وبعد جميع الاختبارات التي تحمّلها|جاء القرآن ليخبره عن مرحلة جديدة، ربما تكون نهاية شوطٍ، وبداية شوطٍ آخر جديد.
هذه السياقات كلّها وطريقة العرض والبيان تحتمل احتمالاً ناجزاً أن تكون السورة مدنيّة أو حتى بعد معركة بدر على أقلّ التقادير، حينما دخلت الدعوة الإسلاميّة مرحلةً جديدة في القوّة والنفوذ والشهرة، ولا يمكن أن نذهب بعد كلّ هذه القرائن إلى مكيّتها.
إذن، حينما لا تحسم الوثائق التاريخيّة الموقف من مكيّة السورة أو مدنيّتها، فلابد من الرجوع إلى ثنايا السورة وسياقها للتأمّل فيها وحسم الموقف، وربما يترجّح ـ كما نوّهنا ـ رأي الطباطبائي في هذا الموضوع، من افتراض مدنيّة هذه السورة.
2ـذكرنا فيما تقدّم ـ عند الحديث عن الطريق الثاني لإثبات مكيّة سورة الانشراح ـ أنّه قد تمّ الاعتماد هنا على عدم كون هذه السورة مستقلّة بحدّ ذاتها، وإنّما تشكّل هي وسورة الضحى سورةً واحدة، وأنّ وحدتهما ربما تبلغ حدّ كونها الرأي المشهور بين المسلمين، بل يكاد يكون عليه إجماع علماء الإماميّة المتقدّمين أيضاً، وإن حملت الفترة الأخيرة انزياحاً عن هذا الإجماع وإعادة نظر في مرتكزه الذي انطلق منه.
وقد ذكر القائلون بوحدة سورتي الانشراح والضحى أنّ الذي حدا بهم إلى ذلك هو التأمّل في هاتين السورتين وملاحظة الروايات أيضاً، إذاً فهناك عنصران دفعا للقول بوحدة السورتين وهما:
العنصر الأوّل:إذا قارنّا بين أواسط سورة الضحى وأوائل سورة الانشراح، نجدهما على نسق واحد؛ فإنّ هذه الآيات من سورة الضحى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى…}تتناسب وتتناسق مع هذه الآيات من سورة الانشراح: {َألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ}، فهي جميعاً متناسبة مع سياقٍ امتنانيّ واحد، وتبدو جملاً متلاحقة مصطفّة بعضها وراء بعض، تحكي عن موضوع واحد، هو الامتنان على الرسول الأكرم|.
العنصر الثاني: نصّت بعض الروايات المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام على وحدة هاتين السورتين، نظير الرواية التي نقلها الصدوق عن الصادق×: {…مُوَسَّعٌ عَلَيْكَ أَيَّ السُّوَرِ قَرَأْتَ فِي فَرَائِضِكَ إِلَّا أَرْبَعَ سُوَرٍ، وَهِيَ سُورَةُ وَالضُّحَى وَأَلَمْ نَشْرَحْ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعاً سُورَةٌ وَاحِدَةٌ..}([3]).
ويمكن الملاحظة على هذا الطريق الثانيبأنّ افتراض وجود التناسب بين أواسط سورة الضحى وأوائل سورة الانشراح لا يكفي لترجيح كونهما سورة واحدة، خاصّةً وأن آية: {ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}لم تسبقها «واو عاطفة» كي نقول: إنها مع الآيات التي سبقها من سورة الضحى في سياق واحد متراتب، ومن ثمّ نختار كونهما سورة واحدة، ومجرّد تشابههما في اللسان، لا يكفي في هذا الترجيح مع عدم وجود «واو العطف».
أمّا المرويّات التي استند إليها أصحاب هذه الاتجاه، فقد بحثها الفقهاء وناقش المتأخرون منهم في أسانيدها ومصادرها، بل نحن نجد أنّ السيد الخوئي عبّر في بعض أبحاثه عنها بأنها مجموعة من المراسيل والضعاف التي لا يمكن البناء عليها. من هنا مال أو ذهب بعض العلماء المتأخّرين ـ كالسيد السيستاني والشيخ بهجت والشيخ الفياض والسيد الحكيم ـ إلى عدم وجود دليل على وحدتهما، وإن ذهب بعضهم إلى عدم إجزاء قراءة سورةٍ واحدة منهما في الصلاة وأنّه لابد من الجمع بينهما؛ لأنّ هذا الحكمَ تكليفيّ تعبديّ يختصّ بالصلاة فقط، وعليه إنّ الحكم بكراهة قراءة سورتين بعد الفاتحة يرتفع في سورتي الضحى والانشراح.
بل حتى لو قلنا بكونهما سورة واحدة، فهذا لا يثبت مكيّة آيات الانشراح؛ لأنّ السورة الواحدة يمكن أن يكون قسم من آياتها قد نزل في مكّة وقسم آخر منها نزل في المدينة، وهذا متداول في القرآن الكريم، فوحدة السورتين بحسب الجمع القرآني لا يساوي وحدتهما بحسب النزول القرآني، وإن كان هذا الاحتمال يغدو ضعيفاً كلّما صارت السورة قصيرةً وصغيرة من حيث الحجم وعدد الآيات، فليلاحظ جيداً.
هذا ما أردنا بيانه في كيفيّة تميّز مكيّة السور والآيات عن مدنيّتها، ويبدو أن الطريق الاجتهاديّ التحليليّ أكثر نجاعة وإصابة من الطريق الأوّل، في مساحة لا بأس بها من الآيات والسور القرآنيّة. ومن الطبيعي أنّ الأمور تنفتح هنا على اليقين تارةً والاطمئنان أخرى والترجيح القويّ ثالثة.
لماذا البحث عن المكّي والمدني من سور القرآن وآياته؟ (الضرورة المعرفية والتفسيرية)
وقد تسأل هنا عن الفائدة من وراء التمييز في السور والآيات القرآنية بين المكّي والمدني، ما دام القرآن كلّه يهدف لهداية الإنسان وتعليمه وتزكيته؟ ومن ثمّ فأيّ ضرورة لمعالجة موضوع مكيّة سورة الانشراح؟
والجواب: إنّ موضوع المكّي والمدني بالغ الأهميّة بالنسبة للدراسات القرآنية، وله دور في أكثر من مجال يمكن أن أشير منها إلى ما يلي:
1 ـ مجال الاجتهاد الشرعي، من حيث إنّ المكيّة والمدنيّة تساعد في معرفة المتقدّم والمتأخّر من الآيات، وهذا ما يميّز الناسخ عن المنسوخ ولا يقلبهما، وبهذا يساهم موضوع المكّي والمدني في موضوع الناسخ والمنسوخ، فبدل أن ننسخ الناسخ بالمنسوخ، يمكننا ـ بمساعدة المكّي والمدني ـ أن ننسخ المنسوخ بالناسخ.
2 ـ مجال الوعي التاريخي للقرآن الكريم، حيث نفهم تراتبية الآيات تاريخياً، فنفهم طريقة القرآن في بيان الأمور ومرحليّته في رصدها وتحليلها، كما قيل في مثل تحريم الخمر في الإسلام، والوعي التاريخي بالنص القرآني يساعد على فهم بُنية هذا الكتاب الكريم؛ لأنّه غير منعزل عن الواقع التاريخي الذي نزل فيه، لاسيما على القول بحدوث القرآن وعدم قدمه، خلافاً للأشاعرة، ووفاقاً للشيعة والمعتزلة.
3 ـ مجال فهم تاريخ الدعوة الإسلاميّة، فعندما نصنّف الآيات القرآنية الكريمة مكيّاً ومدنياً، وكذلك نصنّفها داخل المكّي والمدني إلى حقب ومراحل، فنحن نستطيع أن نتخذ من النص القرآني مساعداً لنا على فهم تطوّرات الدعوة الإسلاميّة، كونه يتصل بها، ولهذا فكلّ من يؤمن بمبدأ جعل القرآن الكريم أهمّ مصدر موثوق لدراسة السيرة النبويّة، عليه أن يتعامل مع النصّ القرآني من موقع النزول التدريجي التاريخي، ويقوم بتحقيب آياته، كي يفهم المتقدّم والمتأخّر ويرصد التطورّات زمنيّاً.
4 ـ إنّ دراسة المكّي والمدني تساعد أيضاً على ردّ بعض الإشكاليّات التي وجّهها بعض الناقدين للقرآن الكريم، لاسيما المستشرق الناقد، حيث قالوا بأنّ ارتباطه بالتاريخ المحيط به جعله بشريّاً، وهنا يمكن دراسة الآيات المكية وتنوّعها، وكذلك المدنية وتنوّعها، لكي نبطل هذه المقولة مثلاً، فعندما يقولون بأنّ السور المكيّة سور قصار؛ لأنّ المخاطب بها هم قريش وأقحاح العرب، وليس أهل الكتاب، وأنّ النبيّ قد فقد ثقافته العربيّة بالذهاب إلى المدينة واحتكاكه بأهل الكتاب، فهنا يمكن لدراسة المكّي والمدني أن تساعد في العثور على نصوص وسور مدنية تمتاز بخواصّ السور المكيّة من هذه النواحي مثلاً وبالعكس، مما يشكّل عنصراً مساعداً على استخدام النبي نظام السور الطويلة في مكّة، أي في الفضاء الذي كان فيه يعيش مع العرب الأقحاح الأميين، والعكس صحيح، وأنّ ظاهرة التفصيل في البيان ليست مدنيّةً فقط.
ولهذا فقرائن المدنيّة والمكيّة كثير منها قرائن ترجيحيّة وليست قطعيّة؛ لأنّ الكثير منها مشتركٌ بين المكّي والمدني، غاية الأمر أنّ الطابع العام للمكّي يغلب عليه هذه القرينة، فيما الطابع العام للمدني تغلب عليه القرينة الأخرى، فليست الأمور محدّدات رياضيّة، وإنّما هي معطيات غالبية عامّة.
5 ـ مجال تفسير القرآن الكريم وتقييم روايات النزول، فإنّ دراسة موضوع المكّي والمدني تساعد في تصحيح بعض روايات النزول وإبطال بعضها الآخر وبالعكس، فعندما تكون هناك آية ثبت لدينا نزولها في مكّة، فهذا يعني بطلان أحد تفاسيرها الذي لا يتناسب مع النزول في مكّة، بل يتناقض معه، أو يعني ترجيح رواية في أسباب النزول على رواية أخرى، وهنا علينا الترجيح العلمي بين معطى التفسير ومعطى الوثيقة التاريخية والتحليلية لمدنيّة السورة أو الآية أو مكيّتهما، وكثيراً ما وقعت بين المفسّرين مثل هذه الأمور التي ناقش بعضهم في تفسير بعضهم الآخر من زاوية أنّ الآية لا تتحمّل هذا التفسير بعد نزولها في مكّة، وعدم نزولها في المدينة ونحو ذلك، وهذا ما نجده مبثوثاً في كلمات المفسّرين للكتاب الكريم.
ولعلّه لهذه الأمور وغيرها وجدنا في بعض الروايات المروية عن الصحابة والتابعين وعن أهل البيت النبويّ، التفاخر بمعرفة المكي والمدني، وأين نزلت هذه الآية أو تلك، وكأنّ معرفة ملابسات النزول ومكان النزول وظرفه المحيط، ممّا يساعد المفسّر على وعي أكبر بالآية القرآنية الكريمة وعلاقاتها بالآيات الأخرى.
إلى غير ذلك من الفوائد التي تنتج عن دراسة موضوع المكّي والمدني، والتي تعدّ أحد تطبيقات موضوع الوعي التاريخي المساعد على فهم كتاب الله تعالى.
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}
تحمل هذه الآية الكريمة مجموعة من النقاط الأساسيّة لابد من التوقّف عندها، وهي:
1 ـ الآية الكريمة ونوعية الاستفهام
يمكن أن يكون الاستفهام الذي حملته هذه الآية بنحو الاستنكار، كما يمكن صياغته بنحو التقرير، والبيانان يرجعان إلى نقطة واحدة، فهذا الاستفهام مهما تنوّعت واختلفت أنحاؤه يحمل معنى واحداً لا يُختلف فيه، نعم صياغات العلماء تنوّعت في تفسيره وبيانه، فقد قالوا: إذا كان استنكاريّاً فهو يعني استنكار عدم شرح الصدر، والنتيجة تعني حصوله، أي حصول شرح الصدر والتأكيد على هذا الحصول. وإذا كان تقريريّاً فهو يعني التساؤل من المخاطَب بالقول: أوليس نحن الذين شرحنا صدرك؟ فكأن المخاطَب يجيب: نعم شرحتم صدري، وهذا معناه حصول الشرح أيضاً. وبعبارة أوضح: سواء اخترنا الاستنكاريّة أو التقريريّة من هذا الاستفهام، فإن الجميع مؤدٍّ إلى ثبوت شرح الصدر.
أمّا الشاهد على هذا الكلام، فهو الآيات التي تلي هذه الآية؛ إذ قالت بعد ذلك:
{$uZ÷è|ÊururšZtãx8u‘ø—ÍrÇËÈü“Ï%©!$#uÙs)Rr&x8tôgsßÇÌÈ$uZ÷èsùu‘ury7s9x8tø.ÏŒÇÍÈ}،فهذه الآيات تعطي معنى إيجابيّاً، فتكشف عن أنّ المراد من الاستفهام الأوّل هو الإيجاب، أي ثبوت شرح الصدر للرسول.
2 ـ شرح الصدر بين البعد المعرفي العلمي والبعد السلوكي الروحي
«الشرح» لغةً يعني: فتح الشيء وبسطه، تقول: شرّحت اللحم، أي قطّعته فانبسط، فاتسع، وتقول: شرحت الدرس: أي كان منغلقاً فبسطته، كأنّه كان منضمّاً إلى بعضه فقمت بتجزئته وبسطه. ويظهر أنّ الشرح يستبطن دائماً مفهوم البسط، وهو يقع في قبال القبض والضمّ والإغلاق والضيق([4]).
في ضوء هذا التفسير اللغوي، سيحتمل شرح الصدر في هذه الآية معنين اثنين:
المعنى الأوّل: وهو المعنى المعرفي،أي كأنّ الآية تقول: لقد شرحنا صدرك، أي فتحناه، فصارت فيه طاقةٌ استيعابيّة أكبر. وإليه يرجع قول من قال من المفسّرين: إن قلب النبيّ|صار مستعداً لنزول الوحي والعلم والحكمة والفيض والمعرفة، فكأنهم افترضوا أنّ شرح الصدر مرتبطٌ بالجانب العلمي والمعرفي، أو بالسعة الوجوديّة وقابليّة القابل كما يعبّر العرفاء والفلاسفة.
وهذا يعني أنّ الآية تريد إخبار النبي عن السعة الحاصلة في صدره لتحمّل المزيد من العلوم والمعارف والإدراكات، ووفقاً لهذا التفسير فسوف يحتمل أن يكون المراد هو الشرح الحاصل في صدره في بداية البعثة، أي أن الله قد هيّأ قلبه لتلقّي العلوم والمعارف ونزول الوحي عليه، وهذا الأمر لا يمكن أن يكون في نهاية البعثة، كما سنوضح النتيجة التي تترتّب على ذلك لاحقاً إن شاء الله.
المعنى الثاني: وهو المعنى السلوكي النفسي والروحي، ويقصد به أنّ الآية تريد أن تقول: لقد شرحنا صدرك، أي جعلناه منشرحاً منبسطاً مستبشراً في قبال الانقباض، فيكون المعنى سلوكيّاً عمليّاً لا علاقة له بالعلم والمعرفة، فالارتياح وعدم التعب، وذهاب الهمّ والغمّ، هي مفاهيم تدخل في الإطار النفسي الروحي والتربوي السلوكي، بخلاف التفسير الأوّل الذي تأطّر بالمعنى العلمي والمعرفي، فكأنّ الآية الكريمة تريد أن تخبر النبي الأكرم بأنّك كنت تعاني من انقباضٍ وضيقٍ في حالتك النفسيّة والروحيّة، فجعلنا عندك انشراحاً وانبساطاً واستبشاراً فيها وخروجاً من حالة اليأس والهم والغم والضيق.
وخلاصة القول: إنّ الآية دالّة على حصول الانشراح في الصدر، وهذا الانشراح يمكن فهمه بنحوين:
إمّا حالة انشراح علميّة ترتبط بالجانب الفكري والمعرفي، فتكون أقرب تناسباً مع أوائل البعثة، حيث حصل الشرح والاتساع في قلبه|كي يستوعب العلم والمعرفة والوحي، وهو بطبيعته انشراحٌ مستمر يشمل الحاضر والماضي في نفس الوقت.
وإمّا حالة انشراح عمليّة ترتبط بالجانب السلوكي والنفسي فتكون أقرب تناسباً مع أواخر البعثة، فكأنّ المعنى العملي للانشراح يريد أن يقول للنبي|: لقد عشت فترةً طويلةً من العناء والهمّ والغمّ والتعب والضيق… وها قد حان الوقت كي تستبشر وتتفاءل وتتأمّل ويسكن قلبك بعيداً عن التعاسة والنكد.
3ـ وقفات وتأملات في التجربة النبوية مع ثنائي شرح الصدر وضيقه
لو ألقينا نظرةً عامّة على الآيات القرآنية الكريمة التي تتناول مفهوم شرح الصدر وضيقه، فسوف نجد أنّها تتحدّث عن «شرح الصدر» في مقام الذات تارةً، وأخرى في مقام العلاقة مع الغير:
أ ـ أمّا في مقام الذات والعلاقة مع النفس،فنحن نلاحظ الآية الكريمة التي تقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ..} (الأنعام: 125)، وهذا يعني أنّ الله يفتح الصدر ـ ليصبح بلا نفرةٍ وحواجزٍ ـ لتلقّي الإسلام والتسليم به وقبوله.
ونجد في قبال هذا الانشراح ضيقاً وانغلاقاً تحدّثت عنه هذه الآية نفسها قائلةً: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماء..}، وضيق الصدر هذا نتيجته الضلال؛ لأنّ صاحبه لا يفتح صدره لتلقّي الإسلام، وهذا الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة أنّ الضلال في هذه الدنيا قد يكون عقاباً على العمل، إذا صدر الضلال للإنسان من الله سبحانه، وبهذا ترتفع المزيد من الإشكالات التي توجّهت إلى القرآن الكريم في خصوص إشكاليّة الإضلال الإلهي التي جاءت في نصوصه، ومقارنة الإضلال الإلهي بالإضلال الشيطاني، وقد سنتحدّث عن هذا الموضوع في بحوث لاحقة.
ب ـ وأمّا في مقام العلاقة مع الغير،فنحن نلاحظ الآيات القرآنية الوافرة التي تحدّثت عن حالة الرسول النفسيّة وهو يواجه الكفّار والمنافقين، وقد نصّت في أكثر من مرّة على ضيق قلبه وصدره|، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ..} (الحجر: 97)، فإنّ الكذب والافتراء والوشاية والضغط الاجتماعي لمواجهة الدعوة جعلت النبي الأكرم يشعر بالأسى وضيق الصدر، ولكنّ الله يخبره أنّ علاج هذه الحالة عنده جلّ اسمه، والعلاج يبدأ بالعبادة والتسبيح والعودة الروحية إلى الله سبحانه، حيث قال تعالى بعد ذلك: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر: 98 ـ 99). أجل يا محمّد أن تعود إلى عبادة الله وترجع إليه، فهذه الأمور هي التي تعطيك انشراح الصدر لتواصل هذا الطريق، وربما يكون هذا العلاج هو أحد تطبيقات: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.
لقد واجه الرسول الأكرم محناً كثيرةً في هذا الطريق؛ إذ حدّثنا القرآن الكريم عن الإرهاق والتعب الشديد الذي كان يمرّ به في رسالته حتى كادت أن تذهب نفسه من شدّة ذلك، وهذا شأن أصحاب المشاريع الرساليّة الكبيرة؛ إذ لا تذلّل الصعاب لهم إلا بمعيّة تعبٍ وإرهاقٍ ومعاناةٍ تطول وتكثر.
لقد كان النبيّ حريصاً جدّاً على هداية الناس، وكان يعيش الألم والحسرة من إعراضهم عن رسالة الخلاص التي أتاهم بها، وقد لاحظنا في مرّات متعدّدة كيف أنّ القرآن كان يؤدّب النبي ويعلّمه كيف يواجه إعراض الآخرين عن الدعوة والرسالة، وأنّ السبيل ليس هو الحسرة وإتلاف الأعصاب والطاقات الذاتية تألّماً وكمداً وحزناً، وإنّما هو القيام بما عليك من واجبات وعدم التقصير في مسؤولياتك، ثم العودة الروحية دوماً إلى الله تعالى الذي بيده أمر الهداية والرشاد للخلق، ومن هنا خاطب الله رسوله قائلاً: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات} (فاطر: 8)، فمهمّتك تقتصر على الإنذار، وباقي الأمور على خالقهم ومصوّرهم.
ومن هذه النافذة، ينبثق لنا أصلٌ تربويّ قرآنيٌّ تعامل الله عزّ اسمه به مع رسول الأكرم؛ حيث أوصاه عدّة مرّات ـ وقد ضاقت هموم الرسالة وأعبائها في صدره ـ أن لا يتعب نفسه ويهلكها ما دام قد أنجز مهمّاته على خير وجه، فلا ينبغي عليك يا محمد أن تُهلك نفسك أسفاً لعدم إيمانهم، فقيامك بمهمّاتك كافٍ، والأمر بعد ذلك إليهم وإلى الله، فإن أرادوا فبها وإن لم يشاؤوا فهم بالخيار، قال تعالى: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين}(الشعراء: 3)، وهذا اللون من التربية القرآنيّة كنّا قد اصطلحنا عليه بـ «مبدأ الوسطية في حمل الهمّ الديني والدعوي»([5]).
وهذا المبدأ يذكّرنا بالمشكلة التي يعاني منها بعضٌ من حملة المشاريع، ممّن لم يضعوا هذا المبدأ نصب أعينهم أثناء مزاولتهم أعمال المشروع؛ فنجدهم ـ حينما لا يجدون استجابةً لمشروعهم ـ فريسةً للضغط النفسي والشدّ العصبي، وكأنّ تغيير المجتمع وإرضاخه للقبول بهذا المشروع ضرورة لابد من قيامها، مع أنّ هذا الأمر غير مطلوب على الإطلاق، بل على صاحب المشروع ممارسة واجبه بمهنيّةٍ واحترافٍ، مستخدماً كلّ الوسائل الممكنة والمشروعة، وبعدها لا داعي للإحباط.
وقد حمل القرآن آيات متعدّدة تحمّلت مسؤولية بيان هذا المبدأ الواضح غير ما تقدّم من آيات، نظير قوله تعالى: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْء.. لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ..}(الأنعام: 25، 66)، ولا شك في أن هذا المنهج التربويّ القرآني يؤدّي إلى انشراح صدر الداعية والعامل والمجاهد والمصلح والهادي في مجتمعه.
وعوداً على بدء، نجد القرآن الكريم أيضاً يتحدّث عن عوامل شرح الصدر ـ غير الرجوع إلى الله بالعبادة والعروج ـ من خلال حديثه عن دور الوحي والقرآن نفسه فيما يخبر به عن تجارب الآخرين، فقد قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَك..}(هود: 120)، ومن الواضح أن تثبيت القلب واستقرار الفؤاد شكلٌ من أشكال الانشراح في قبال ذهاب الفؤاد وتزلزله والذي تكون نتيجته انهيار الإنسان.
وفي هذا السياق، نلاحظ أنّ النزول النجومي الترتيبي للوحي كان له تأثير في تثبيت فؤاد الرسول|والمؤمنين المحيطين به، قال تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبّت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً}(الفرقان: 32)؛ فحينما تستمرّ حركة الإيمان بالعمل والمثابرة والتبليغ الرسالي تجد أمامها ما يثبّت الفؤاد ويشحذ القلب، ولكن حينما تستمر فترة طويلة ـ كعشرين سنة مثلاً ـ دون أن تجد ما يثبّت فؤادها ويقوّي قلبها فلا شكّ أنها ستعيش حالة من اليأس والخيبة وفقدان الأمل الذي ينعكس على مشروعها بكلّ تأكيد، وهذا ما تمثّله الانتصارات في حياتنا اليوميّة؛ فإنّ الإنسان الذي يعيش طيلة حياته بلا انتصارات ـ بغض النظر عن مستوياتها ومجالاتها وميادينها ـ سيصاب دون شكّ بإحباط وخيبة وتلاحقه الويلات والثبور، فالقضية في تثبيت الفؤاد هنا أشبه بالمعركة الحاسمة التي تدار رحاها فيخرج الزعيم المقاوم ليتحدّث بحديثٍ تهدأ النفوس من خلاله ويُعطي جرعة للمقاتلين.
إنّ مسألة حاجة الداعية والمبلّغ لحالة شرح الصدر الروحية والنفسية تظلّ تحظى بأهميّة كبيرة في إمساكه بأموره وحركته وانفعالاته، ولنلاحظ معاً تجربة نبيّ الله موسى عليه السلام، حيث تعبّر عن مثالٍ قرآني يمكنه أن يقرّب هذه الفكرة، فقد تحمّل×مسؤوليّة شاقّة وكبيرة في نفس الوقت، وهي مواجهة فرعون.
ولإيضاح ثقل هذه المسؤولية علينا أن نعرف سياقها بالكامل. هبْ أنّ الطلب موجّه إلى إنسان عادي لا يمتلك مقاماً اجتماعيّاً مبرّزاً يمكّنه من مواجهة الزعيم الأعلى المتسلّط، ليتنكّر عليه أفعاله وهو في محضره وبلاطه، فلا شكّ أنها مهمّة صعبة وشاقّة حقّاً، أن تقف في بلاط السلطان، ثم تقوم بشنّ نقدٍ على أساسيات سلطانه وملكه، إنّ القضية بالغة الصعوبة والضغط النفسي، من هنا رأينا أنّه عندما شعر موسى بعِظمِ هذه المهمة وكِبَرها طلب من الله قائلاً: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}،فإنّ طبيعة هذه المشاريع قابضة للصدر، وقبض الصدر يُفشل المشروع، وطلب في نفس الوقت:{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}، بمعنى توفير الإمكانات لإنجاح المشروع والابتعاد عن الصعاب والعُقد التي تحول دون إنجاحه {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي}، كي لا يقول البعض إنك تتحدّث بطلاسم ورموز لا نفهمها فتصبح الحجّة غير كاملة عليهم، ولم يكتف موسى بهذا القدر بل طلب أيضاً: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} (طه: 25 ـ 31)، فأنا بحاجة إلى معين في هذا الطريق الشائك.
وفي سياق تطبيقات الانشراح القرآني طرحت بعض الروايات موضوعة «تنصيب الإمام علي×» بوصفها تطبيقاً من تطبيقات انشراح الصدر المتناسب مع مدنيّة هذه السورة؛ فإنّ الرسول الأكرم قد انشرح واطمئن فؤاده وقلبه بتنصيبه×؛ لأنّ مسيرة الرسالة التي ناضل الرسول من أجلها ستكون في يدٍ أمينة.
وخلاصة القول:إنّ أوّل أصل تحتاجه المشاريع الكبيرة هو شرح الصدر، ولذلك رُزق النبي|ذلك في هذا الإطار والسياق، وربّاه القرآن الكريم على الخروج من حال الضيق إلى حالة الشرح عبر الوحي نفسه، وعبر العبادة والرجوع المتواصل إلى الله سبحانه.
4 ـ الصدر بين ثنائية المادّة والروح، كيف يُشرح الصدر الجسماني؟!
لقد اتضح أنّ عملية الشرح عملية ذات بُعد معنوي، سواء فسّرناها بجانبها العلمي أم بجانبها السلوكي، وهذا ما يطرح تساؤلاً هنا ربما يشكّل ـ بل قد شكّل ـ إشكاليّةً نقدية على القرآن الكريم، من حيث معارضته لمعطيات البحث الفلسفي المبرهن، فالله تعالى يقول: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46)، وهنا يقول بأنّه يشرح الصدر، مع أنّ القلوب التي تعمى والشيء الذي ينشرح ليسا في صدر الإنسان الذي يحتلّ جزءاً من القسم العلوي من البدن، فكيف تناسب إطلاق مثل هذه التعابير التي أثبت البحث الفلسفي وغيره بطلان أساسيّاتها، عندما برهن على تجرّد الروح وعدم جسمانيّتها، وتجرّد الإدراك كذلك؟!
إن القلوب التي تُدرك المعلومات هي أمور مجرّدة، مع أنّ القرآن نصّ على أنّ العمى لا يصيب الأبصار وإنما يصيب القلوب التي في الصدور، والقلب الذي في الصدر هو ـ كما يعبّر القدماء ـ جسمٌ صنوبريّ، ليس من شأنه العمى أو الإبصار ولا الإدراك أيضاً، وهذا يعني معارضة هذه الآية للنتائج التي توصّل إليها الفلاسفة برهانيّاً.
وبغية الإجابة على هذا الإشكال، علينا التذكير بأمرٍ نُعدّه أساسيّاً وفاعلاً في عموم المحاولات التفسيرية، وهو ضرورة الاهتمام باللغة العربية أثناء العمل التفسيري، فمع زوال الوعي اللغوي العربي في مثل هذه المحاولات، لا شكّ أنّنا سنقع في مشاكل كبيرة. وفي سياق معالجة القضيّة المشار إليها يمكن ذكر محاولتين للتعامل مع هذا الموضوع:
المحاولة الأولى:إنّ كلمة الصدر في اللغة تطلق ويراد بها ذات الإنسان، وكأنّ الآية الكريمة تريد أن تقول: إنّه تعمى العقول التي جعلت فيكم وكوّنت وجودكم، وإنما ذكر الصدر للمقابلة مع العين؛ لأنّه عندما نفى العمى البصري عنهم أراد إثبات نوعٍ آخر من العمى، وهو عمى البصيرة، فذكره، ولكي يُبعده عن الجانب الظاهري من الإبصار الذي يكون في الوجه والعين، ذكر الصدر ليشير إلى الجانب الباطني من الإنسان؛ لأنّ الصدر باطنٌ في الجسد، فيكون المعنى: إنّ عيونكم وإن كانت تبصر بالإبصار الظاهري المادي، لكنّ قلوبكم وذواتكم وعقولكم لا تفقه ولا تعقل، بل هي عمياء بالعمى الباطني المستكنّ في أعماقكم، والمشار إليها ـ أي لهذه الأعماق ـ بالصدر.
وفي هذه الآية الكريمة هنا أريد من شرح الصدر شرح كيانه الداخلي وأحاسيسه الباطنيّة ومشاعره وما في وجدانه وأعماقه. فالتعبير لا يراد منه البعد الخبري، بل يراد منه هذا الإيحاء المجازي الذي يعبر بنا من الصدر المقابل للظاهر، إلى الباطن الوجداني نفسه، فهذا استخدام طبيعي جدّاً في اللغة العربية.
المحاولة الثانية:أن نتخطّى الدلالة المفردة إلى دلالة التركيب، بمعنى بدل ان نبحث عن معنى كلمة الصدر، وأنّ المراد منها باطنه وأعماقه، في مقابل الظاهر، نذهب مباشرة إلى تركيب (شرح الصدر)، حيث يعني في اللغة خروج الإنسان من حال الانقباض إلى حال الانبساط والراحة النفسية والاستبشار، وبهذه الطريقة لا يكون لكلمة (صدر) موقع، بل الموقع للمركّب الثنائي الذي يفسّر بوصفه مفردةً واحدة، وهذا كثير في لغة العرب، تقول: كشفت الحرب عن ساقها، وتقصد اشتدّت، فكلمة كشف الساق لا يراد منها مفرداتها، وإنّما يراد معنى مرادف لثنائي الكلمتين معاً، وهو اشتداد الأمر.
وأعتقد بأنّ أحد هذين التفسيرين يمكن أن يكون مقبولاً أكثر من الرواية التي ـ وبصرف النظر عن قيمتها التاريخية ـ حاولت تفسير هذه القضيّة بمعنى أنّ الرسول تعرّض لعمليّة جراحيّة إلهيّة، ففُتح صدره المادي من خلالها، واُخذ قلبه ونُظّف وأعيد مكانه، وهذه الحادثة هي المسمّاة بحادثة شقّ الصدر المعروفة، بغض النظر عن دلالتها الواقعيّة الخارجيّة على وقوع هذا العمل أو دلالتها الرمزيّة، إذ قد يقال: ما معنى أن القلب يُطهّر من الدم وهو يُعدّ مضخةً له؟! الأمر الذي يرجّح رمزية هذه الرواية أو إيكال علمها إلى الله تعالى.
5 ـ شرح الصدر بين المفهوم المستقل وغير المستقلّ
ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآيتين الثانية والرابعة من نفس هذه السورة قد فسّرت بنفسها شرح الصدر في الآية الأولى، حيث قالت: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك.. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، فشرح الصدر يعني وضع الوزر من جهة، ورفع الذكر من جهة أخرى، فلا حاجة للتكلّف والتأوّل الذي قدّمه البعض في تفسير معنى شرح الصدر، وهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد جواد مغنية([6]).
وما قدّمه صاحب تفسير الكاشف لا إلزام به بنحو الحصر؛ إذ لم يستند إلى معطى لغوي يحسم ذلك، فربما يكون شرح الصدر مقدّمةً للعمل، وقد يكون نتيجةً لتحقّق المنجزات التي منها ما أشارت الآيتان إليه، كما أوضحنا ذلك فيما تقدّم، وربما يكون لرفع الوزر ورفع الذكر خاصّة، وقد تكون الآيات الأخرى بيّنت بعض الأسباب ولم تذكر جميعها، ولا شكّ أن الآية الثانية والرابعة هي مصداق من مصاديق أسباب شرح الصدر ولا نقاش في ذلك، لكنّهما ليسا بنفسيهما شرحاً للصدر كما هو واضح.
6 ـ ما هو السبب وراء إضافة كلمات (لك، عنك) في الآيات؟
ثمّة سؤال يتبادر إلى الذهن حول البنية التركيبيّة لهذه الآية وما تلاها من آيات كريمة، وهو عن السبب وراء إضافة ضمائر: «لَكَ، عَنْكَ، لَكَ» بعدما حملت الآية مفردات: «صَدْرَكَ» و «وِزْرَكَ» و«ذِكْرَكَ»؛ إذ المعنى يستقيم بدون ذكر تلك الكلمات بعد أن تمّ التعبير عن مضمونها بالضمير المتصل (الكاف) في آخر قوله: «صَدْرَكَ» و «وِزْرَكَ» و«ذِكْرَكَ»، فما هي الخصوصيّة الفنيّة والضرورة اللغويّة التي تريد هذه الإضافة بيانها؟
لقد طُرحت في كلمات المفسّرين احتمالات متعدّدة هنا لبيان سبب ذلك، لكنّا سنقتصر على احتمالين اثنين يشكلان أهم ما قيل:
الاحتمال الأوّل: أن يكون ذلك من الإيضاح بعد الإبهام والانتظار بهدف ترسيخ المفهوم، وهذا معناه أنّ الإضافة المذكورة إنما هي لزيادة التوكيد والتنبيه ولأجل بيان شيء ينتظره السامع ويترقّبه، فعندما يسمع السامع الآيات بهذه الطريقة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ.. وَوَضَعْنا عَنْكَ.. وَرَفَعْنا لَكَ..}فسوف يترقّب وينتظر بياناً لتسكن به نفسه والسؤال الملحّ في داخله حول متعلّق الشرح والوضع والرفع في هذه الآيات، وما أن تضاف إلى الأولى مفردة: « صَدْرَكَ»، وإلى الثانية مفردة: «وِزْرَكَ»، وإلى الثالثة مفردة:« ذِكْرَكَ» حتى تسكن نفسه وينقطع سؤاله، فهي مفردات توضح الجهة المشروحة والجهة الموضوعة والجهة المرفوعة، بهدف ترسيخ المفهوم عبر آلية التنبيه الذي يتلوه انتظار فيتلوه إيضاح حاسم([7])، فأنت تقول لشخص: لقد اشتريت لك.. فيتنبّه وينتظر، وعندما تقول له بعد ذلك كلمة (كتاباً) سوف يكون وقع الأمر المشترى أكبر عليه وآكد في نفسه.
الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك لبيان عودة النفع إلى الرسول، فإنّ ضميرا «لَكَ، عَنْكَ» إنما هما لبيان أنّ الفائدة والنفع المرجوّين من أعمال الشرح والوضع والرفع عائدان إلى شخص الرسول الأكرم|، دون أن يرجعا إلى الله تبارك وتعالى، فهو نوعٌ من التكريم له والامتنان عليه في الوقت نفسه، تكريم للنبي محمّد وامتنان من الله جلّ اسمه عليه، وكأنها مثوبة وجزاء يستحقّه([8])، وفي الوقت عينه إشارة ـ لطالما استخدمها النصّ القرآني ـ إلى أنّ الأفعال الإلهيّة لا تعود أغراضها ومنافعها لله تعالى، إذ هو الصمد المستغني المطلق، وإنّما ترجع للعباد أنفسهم، وهي ثقافة قرآنية نجدها مبثوثةً في الكثير من آيات الكتاب العزيز.
7ـالشرح بين الفاعل المفرد والفاعل الجمع (نشرح)، الدلالة والغاية
ثمّة تساؤل ربما ينقدح في ذهن القارئ وهو: لماذا وظّفت الآية الكريمة مفردة «نَشْرَحُ» بصيغة الجمع، ولم تستخدم مفردة «أشْرَحُ» بصيغة المفرد، مع أنّ المفترض أنّ المتحدّث واحدٌ وهو الله جلّ اسمه؟
هناك إجابة متداولة ومعروفة تستند إلى اللغة العربيّة؛ وذلك أنّ استخدام صيغة الجمع في لغة العرب للتعظيم أمرٌ متداول، فتكون النون هنا للتعظيم، نظير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، ومن الواضح أن المتحدّث هو الله تعالى، فلا غرو في أن يعظّم نفسه ويجلّها([9]).
ولكن ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ صيغة الجمع المستخدمة هنا تشير إلى أنّ عمليّة الشرح لم تكن من الخالق تعالى وحده، وإنما شاركته في ذلك الملائكة أو غيرهم، وعلى هذا الأساس صحّ الاستخدام دون عناية أو تجوّز([10])، وفي سياق هذه الرؤية يميل بعض الباحثين المعاصرين في المجال القرآني لتحويل هذه الرؤية إلى منهج في فهم صيغ الجمع الواردة في القرآن الكريم والمنسوبة له تعالى؛ فيَدّعُون هناك أنّ المراد منها ليس وحده فقط، وإنما تشمل الله والمدبرات والتي هي الملائكة وغيرها، وفق النظريات الكلاميّة المطروحة في محلّها.
ولكنّ هذه النظرية إنما تصحّ إذا تمكّنت من الانسجام مع المزاج القرآني العام، ومن الواضح عدم انسجامها معه؛ فالصبغة العامة للخطاب القرآني هي صبغة التفرّد الإلهي وعدم المشاركة له في الأفعال، دون أن يعني ذلك سلب الأفعال عن غيره تعالى، والقرآن حريص أن لا يوحي بأنّ أحداً يشارك الله في فعل شيء؛ لأنّ هذا المفهوم شديد الالتباس، وهو على النقيض من الحالة العامّة التي يريد الله تعالى كسرها في الثقافة العربية آنذاك، ومحلّ بحثنا من هذا القبيل؛ فلا نظنّ أنّ مزاج القرآن الكريم حينما يريد أن يبيّن أمراً فعله الله لرسوله أو لغيره أن يبيّنه بطريقةٍ يريد من خلالها الإشارة إلى آخرين اشتركوا معه في هذا العمل أيضاً، فلا يشارك الله تعالى أحدٌ حينما يريد البيان.
ومن هنا، فما دامت اللغة العربيّة تسمح بمثل استخدام الجمع للتعظيم، واستحقاق الله تعالى لهذا الاستخدام بلا تجوّز، فلا حاجة لمثل تلك الافتراضات؛ لأنّ ـ الآيات وفقاً لهذه الافتراضات ـ ستجعل مع الله شريكاً ولو في التصوّر الأوّلي.
وحتى لو قلنا بأنّ المشاركة طوليّة، لكنّ الاستخدام الجمعي دون إشارة إلى ذلك يوقع في التباسيّة الشرك، وهذا غير نسبة الأفعال إلى آخرين مثل نسبة التوفّي إلى الملائكة أو نسبة الوحي إليهم؛ ففي تلك الموارد جرى توضيح أنّ النسبة وقعت في طول النسبة إليه تعالى، أمّا في مثل موردنا فالأمر مختلف، من هنا نجد هذا الأمر مرجّحاً لفهم التعظيم من الجمع، دون أن ننفي واقعاً تدخّل غير الله بنحو العلة الطوليّة في حصول هذه الأفعال، فكلامنا ليس في واقع الأمر، وإنّما في صياغة هذا الواقع على مستوى لا يخلّ بمفهوم التوحيد وحساسيّته، لاسيما في تلك المرحلة، فليلاحظ جيداً.
{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك}
تتحرّك هذه الآية الكريمة لبيان الأمر الثاني الامتناني الذي يذكره الله تعالى لرسوله بوصفه نعمةً أنعمها عليه، ألا وهو وضع الوزر الثقيل عن ظهر الرسول الأكرم. ولاستجلاء معاني هذه الآية الكريمة يمكن التوقّف عند نقاط عدّة أهمّها:
1 ـ المعطيات الأوليّة في دلالات الآية الكريمة
الوضع والحطّ عن الظهر يعني التخفيف عنه، والوضع عنه غير الوضع عليه، فإذا أضفته لـ «عَنْ» أعطى معنى الرفع، فيقال: وضعت عنه، أي: رفعت عنه، بمعنى التخفيف والتقليل، أمّا إذا لحقتها «على» فتعطي معنى الحمل فيقال: «وضعت على ظهري.. أي: حملت فوقه»، حيث يوجد فيها مزيد من التحمّل والكلفة.
والآية بصدد بيان امتنانٍ قرآني آخر على النبي الأكرم|؛ فتريد أن تقول له: يا محمّد، لقد تحمّلت أعباءً كثيرة ومسؤوليّات كبيرة في الفترة السابقة، وكان ظهرك يَئِنّ منها فامتننّا عليك بأن خفّفنا عنك ذلك.
2 ـ حقيقة الوزر، ومعركة الرأي والتأويل في قضيّة العصمة النبويّة!
الملاحظ وفق ما تقدّم عدم وجود مؤونة زائدة في تفسير هذه الآية لحدّ هذه اللحظة، لكنّ المشكلة بدأت تتعقّد أكثر فأكثر حينما وقع البحث بين المفسّرين حول معنى «الوزر» المقصود في هذه الآية؛ إذ اُقحمت جرّاء ذلك البحوث الفلسفيّة والكلاميّة في الكتب التفسيريّة، الأمر الذي زاد البحث إرباكاً وغموضاً لا طائل من ورائه ولا حاجة له أصلاً كما سنبيّن ذلك لاحقاً.
وسأعمد هنا إلى ذكر ستة آراء جاءت في كلمات علماء التفسير حول معنى «الوزر» المراد في هذه الآية، لنلاحظ بعد هذا العرض السببَ الذي آل بهم إلى هذا الفهم الذي لم تكن هناك حاجة ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ تستدعيه أو ضرورة توجبه كما أسلفنا.
1 ـ 2 ـ الوزر والعبادات الثقيلة
المعنى الأول الذي طرح هنا هو العبادات الثقيلة، ويقصد بذلك أنّ «الوزر» في هذه الآية هو العبادات الثقيلة والصعبة التي وضعت على كاهل النبي في بدايات الدعوة، والتي خَفّفها الله بعد ذلك عنه، كما جاء في بعض روايات عدد ركعات الصلاة، وأنّها كانت كثيرة فطلب النبي من الله تخفيفها فخفّفها، فيكون ذلك من قبيل ما أشارت إليه الآية الكريمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِی کَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157)، أي أنّ الله عزّ وجلّ بعدما وضع مجموعةً من التكاليف العباديّة على الرسول، ها قد حان الوقت إلى تخفيفها وتقليلها([11]).
واللافت أنّنا لم نلاحظ شاهداً واحداً على مثل هذ الاحتمال،فكيف اُقحمت العبادات في تفسير الوزر الوارد في هذه السورة، مع أنّ السياق مختلفٌ تماماً؛ إذ هو مرتبط بإنسانٍ تحمّل أعباءً كثيرةً في دعوته للناس وقد ضاق صدره جرّاء ذلك، كما أشارت لذلك آيات أخَر تقدّمت وسنشير إلى بعضها أيضاً، وفي هذا الجوّ الذي تحدّثت عنه السورة أخبر الله سبحانه وتعالى نبيّه قائلاً: أنظر كيف أنّي تكرّمت عليك بأن شرحت صدرك ورفعت ذلك الضيق وكلّ تلك الأحمال والمسؤوليات التي كانت على ظهرك، كما رفعنا لك ذكرك بعد أن كنت مهملاً بين الناس، وعليك أن تعلم أنّ العسر يترافق معه اليسر والفرج، فما علاقة هذا السياق بموضوعة تخفيف عدد ركعات الصلاة؟!
نعم، وربما يكون هذا التفسير تحليلاً قدّمه بعض المفسّرين القدامى من التابعين، كما هو ديدن بعضهم، وسار عليه بعض المفسّرين الذين جاؤوا فيما بعد، ولكنّه في واقع أمره ليس سوى احتمال يحتاج إلى ما يرجّحه.
2 ـ 2 ـ الوزر بمعنى الذنب
المعنى الثاني هنا هو الذنب، وقد انطلق الذين ذهبوا إلى تفسير الوزر بهذا المعنى من القول بأنّ الوزر في لغة العرب يعني الذنب، وقد استخدمه القرآن بهذا المعنى في بعض آياته؛ فالأوزار تلك الذنوب التي يحملها الناس يوم القيامة، فيصبح معنى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك}نفس الفحوى التي أفادتها هذه الآية من سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: 1 ـ 2)، فبعد أن جاهدت يا محمد وتحمّلت العناء وكابدت في هذا الطريق، فإنّ جزاء ذلك هو تخفيف الذنوب التي ارتكبتها.
والملاحظ في هذا التفسير،أنّ إقحام مفردة «الذنب» ولّدت لنا صخباً وسجالاً كلاميّاً يتعلّق بعصمة الرسول الأكرم؛ إذ دخل مفهوم العصمة في إسهامات المفسّرين في هذه الآية وفي آية سورة الفتح التي تقدّمت، ونصّوا على بطلان هذا الرأي؛ لكونه يتنافى مع عصمة النبي الأكرم؛ لأنّ افتراض كون الوزر المرفوع في هذه الآية هو الذنب الثقيل العظيم يعني أنّ النبي قد ارتكب ذنباً كبيراً أنقض ظهره كما يعبّر القرآن الكريم، وهذا ما لا يمكن القبول به كلاميّاً.
بدورنا سوف نؤجّل الملاحظة على هذا الاحتمال إلى حين استعراض الاحتمالات اللاحقة التي جاءت في سياقه وفلكه ودائرته، وسنبيّن هناك أنّ تفسير الوزر بالذنب هو من باب الخلط بين المفهوم والمصداق.
3 ـ 2 ـ الوزر بمعنى الذنوب الصغيرة غير المنافية للعصمة
المعنى الثالث الذي طرح هنا هو الذنوب الصغيرة غير المنافية للعصمة، وقد حاول أصحاب هذا الرأي أن يحسّنوا من نتيجة الرأي الثاني، فأرادوا أن يفسّروا الوزر بالذنب دون أن يصطدموا في الوقت عينه مع نظريّة العصمة الكلاميّة، فقالوا: إنّ الوزر المقصود هو الذنوب الصغيرة التي تكون بمثابة «ترك الأولى» كما يعبّر عنها كلاميّاً، لا الذنب بعرضه العريض الذي يشمل الذنوب الكبيرة والمتوسّطة أيضاً، وبهذه الطريقة نحافظ على الدلالة اللغوية للمفردة وفي الوقت عينه لا نتورّط في مشكلة عقديّة.
وقد يسأل سائل:بماذا يُفسّر أصحاب هذه النظرية النصّ القرآني الذي جاء بعد هذه الآية وهو: {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}، فهل يعني ذلك أنّ اللّمم من الذنوب وصغارها قد أنقض ظهر النبي؟ وهل يتناسب المعنيان معاً؟
ويجيب أصحاب هذا الرأي بأنّ مسألة نقض الظهر لا ترتبط بهذه الذنوب البسيطة التي يكون ارتكابها من قبيل ترك الأولى، وإنما لأنّ الأنبياء سيثقلون ظهورهم بشدّة التفكير والهمّ بهذه الذنوب البسيطة التي ارتكبوها على طريقة: «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين»، من هنا جاءت الآية لتخبرهم بزوال هذا الهمّ ورفعه عنهم. وبذلك تصوّر أصحاب هذا الوجه أنهم وفّقوا للجمع بين الدلالة اللغويّة المفترضة لمفردة «الوزر» وهي الذنب، وبين «نظرية العصمة».
وسنؤجّل الملاحظة على هذا الاحتمال أيضاً فانتظر.
4 ـ 2 ـ الوزر بين الذنب الكبير وإقحام نظام المجاز اللغوي
المعنى الرابع هو الذنب الكبير، وإقحام المجاز، وهذا ما ذهب إليه بعض المعتزلة وبعض الإماميّة أيضاً، حيث رأوا أنّ المقصود من الوزر هو «الذنب الكبير»، ولكن حيث إنّه قد ثبت في محلّه كلاميّاً استحالة الذنوب الكبيرة على الأنبياء، فلابد من المصير إلى التأويل والتجوّز، بأن يكون المقصود منه المسؤوليّات والتكاليف والوظائف الكبيرة التي ألقيت على كاهله|.
والشاهد على هذا المجاز والتأويل هو الآيات التي تليها، أي: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}؛ فإنّ الذنب ليس عسراً كي يكون معه يسر، فلابدّ من جعل هذه الآية بمثابة الشاهد على أنّ المراد من الآيات التي قبلها هو حمل شيء في تأديته صعوبة وجهد، وبالتالي يأتي اليسر بعده لتخفيف ذلك.
وبهذه التركيبة حافظ مفسّرونا على الدلالة اللغويّة لمفردة «الوزر» والتي تعني عندهم «الذنب الكبير»، وأقحموا في سياق هذه الدلالة المفترضة مقدّمةً كلاميّة تقرّر «استحالة الذنب الكبير على الأنبياء»، وجمعاً بين الاثنين اضطروا إلى التأويل والمجاز فقالوا: الوزر هو استخدامٌ مجازيّ يراد منه الحمل الثقيل من غير الذنوب، ومبرّر المجاز هو التشابه في الحمل والثقل، ونصّوا على أنّ قرينة ذلك هو تعبير الآيات الكريمة التي بعدها:{فإنَّ مَعَ العُسِر يُسْرَاً}؛ فإنّ هذه الآيات لا تنسجم مع افتراض أن يكون الوزر هو الذنب، كأن يكون معناها: «لقد ارتكبت يا محمد ذنباً وها نحن قد خفّفنا الذنب عنك فإن مع العسر يسراً»، ولا شكّ أن هذا المعنى لا يستقيم ما لم نفترض أنّ المقصود من الوزر هنا ليس معناه الحقيقي وهو الذنب، وإنما الحمل الثقيل.
والذي نلاحظه في هذا الوجه التفسيريهو إقحام عنصرين لتفسَّر الآية بهما، جاء الأول من خارج نظام النصّ، أعني من علم الكلام ليفيد «استحالة الذنب الكبير على الأنبياء»، فيما جاء الثاني من النظام اللغوي العام، والذي يتعلّق بـ «النظام المجازي ومبرّراته اللغويّة»، ومن الواضح أنّ كلا هذين المقدّمتين لا حاجة لإقحامهما في هذا البحث بالمرّة، كما سوف نرى ذلك قريباً.
5 ـ 2 ـ رفع الوزر بمعنى إثبات العصمة
المعنى الخامس هو رفع الذنب وإثبات العصمة، حيث ذهب أصحاب هذا الرأي ـ خلافاً للرأي الثاني والثالث والرابع بدرجةٍ معاكسة ـ إلى أنّ هذه الآية من الآيات المثبتة للعصمة، لا من الآيات التي تقف بوجهها فنضطرّ للتأمّل فيها، وذلك أنّ وضع الوزر عن النبي|يعني عصمته من الذنوب، فكأنّ الله تعالى يريد أن يقول لرسوله: يا محمّد، ها نحن قد عصمناك من الذنوب ولا يوجد على ظهرك شيء منها، وبالتالي فأنت «معصوم»([12]).
ولا شكّ أن هذا الفهم خلاف الظاهر جداً،وخلاف الفهم العربيّ للآية، بل لا ينسجم مع سياق الآيات أيضاً، ولا ندري أيّ معنى تفيده صيغة الإخبار بالماضي التي حملتها الآية: {أنقض ظهرك}، إذا لم نفترض وقوع المعاصي منه|بناءً على تفسير الوزر بالذنب، وأنّه جاءته العصمة من الذنوب بعد ذلك؟!
6 ـ 2 ـ الوزر بمعنى مطلق الحمل(حيادية الآية مع موضوع العصمة)
لكي نفهم هذا المعنى لابدّ أن نشير إلى أصلين تفسيريين مهمين، وذلك كالتالي:
أصلان تفسيريّان: قاعدة مرجعيّة اللغة القديمة، وقاعدة التمييز بين المفهوم اللغوي والمصداق
المعنى السادس هو الحمل، والخروج من سياق موضوعة العصمة، حيث يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّ المنهج الصحيح لفهم معنى الوزر الوارد في هذه الآية هو الرجوع إلى اللغة نفسها، لا إلى المعاني التي اعتاد الذهن الديني عليها، والعودة إلى الكتب اللغويّة واستخدامات العرب لمفردة «الوزر» لا يحوجنا إلى إقحام مجموعة من القواعد الكلاميّة في هذا المجال، ومن ثمّ انعكاس الخلافات الكلاميّة على البحث التفسيري وعلى رؤية المفسّر، فالآية لا دلالة فيها لا على العصمة ولا على رفع العصمة ولا على موضوعة العصمة أو حقيقتها على الإطلاق، بل المعنيّ من الوزر هو الحمل الثقيل كما أفادت الكتب اللغويّة، ومنه سُمّي الوزير وزيراً؛ لأنّه حمل بعض مسؤوليات الملك والسلطان فيتحمّل عنه بعض مهامّه فهو حامل لها([13]).
والذي حدا ببعض المفسّرين إلى تفسير هذه المفردة بالذنب هو بعض الاستخدامات القرآنية التطبيقيّة للكلمة بهذا النحو، فحَسِبَ أنّ الوزر هو الذنب في لغة العرب، فاقترن معنى الوزر بالذنب في ذهنه، ففسّر جميع الآيات القرآنيّة التي استخدمت هذه المفردة بذلك، مع أنّ هذا من الخلط بين المفهوم والمصداق؛ فإنّ القرآن الكريم حينما طبّق مفهوم الوزر على الذنب لا يعني بذلك انحصار مفهوم الوزر بمصداق الذنب كي نفهم من الوزر ـ قرآنيّاً ـ إرادة الذنب، بل يبقى الوزر يحتفظ بمعناه اللغوي وهو الحمل، نعم يُعدّ الذنب أحد مصاديقه قرآنيّاً.
ويشهد على ما نقول أيضاً أنّ القرآن الكريم نفسه قد استخدم الوزر بغير معنى الذنب، إذ قال تعالى: {حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4)، فلو فرضنا أنّ الوزر بمعنى الذنب، فهل للحرب ذنوب مثلاً حتى ننتظر رفعها؟! وإنّما المقصود أنّ المقاتلين يحملون الدروع والسيوف والرماح أثناء القتال وسيضعونها عند انتهاء الحرب([14]).
وهذا ما يدعونا ـ ويدعو عموم الباحثين أيضاً ـ إلى التركيز على مثل طريقة ابن فارس في كتابه معجم مقاييس اللغة؛ حيث نرجع إلى المعنى الأصليّ للمفردة، وبعد ذلك نعرف كيفيّة إسقاط هذا المعنى الأصليّ على مصاديق متعدّدة، فتظهر جرّاء ذلك معانٍ متعدّدة له في مقام الاستعمال لا في مقام الوضع، وهذا لا يعني أنّ استخدام هذه المفردة في أحد مصاديقها حقيقةً وفي مصاديقها الأخرى مجازاً؛ بل هو استخدام حقيقي في كلّ الموارد، غايته ينتج عنه بقرينة السياق ومناسبات الحكم والموضوع تعيين المعنى الحقيقي في المورد الذي جاء فيه بما يتناسب معه.
وهذا ما يقودنا إلى أمرٍ آخر يشكّل مرتكزه اتجاهاً في البحث التفسيري، وهو من العناصر السيّالة الواسعة الاستخدام في عموم البحوث القرآنيّة وهو أنّه لا ينبغي على المفسِّر ـ خصوصاً إذا كان عربيّاً ـ أن يراهن على المعاني المنسبقة إلى ذهنه بزعم أنه عربي؛ فإنّ كثيراً من هذه المعاني المنسبقة إنما تنسبق لذهنه لأنسه بها، وإلا فواقع اللغة وجوهرها وحاقّها يفيد عكس ذلك، فعلى الباحث أن لا يغترّ بالمعنى الأوليّ الذي يتبادر إلى ذهنه في الوهلة الأولى وعليه العودة إلى اللغة ومصادرها وتركيباتها واشتقاقاتها لمعرفة ذلك، وتحليلها على نهج التمييز بين الوضع والاستعمال، وبين المفهوم والمصداق.
وعلى هذا فالصحيح في معنى الوزر في هذه الآية هو أنّها تريد مخاطبة الرسول|قائلةً له: يا محمد لقد تحمّلت أعباء وهموماً وغموماً ومصاعب ومسؤوليات كثيرة في هذا الطريق الشاقّ، وقد حان اليوم الذي لابد من نزع هذه الأوزار التي وضعت على ظهرك، وذلك ببركة من الله سبحانه الذي أوصلك إلى النصر والفوز والراحة في نهاية المطاف. ولا يوجد أيّ داع أو مبرّر لإقحام بعض البحوث الكلاميّة المرتبطة بالعصمة في هذا المجال، وهذه هي نقطة الخطأ في عموم التفاسير الخمسة المتقدّمة تقريباً.
وبهذا نخرج بقاعدتين تفسيريّتين هما:
القاعدة الأولى:قاعدة مرجعية اللغة بمصادرها القديمة وعدم الاغترار بما ينسبق إلى الذهن اليوم عند المفسّر بزعم أنّه عربي أو أنّه يعرف العربية، فكثيراً ما يتفاجأ الإنسان بمعطيات تذهله في الموضوع اللغوي كانت غائبة عنه بحجاب ادّعاء المعرفة اللغوية، فاللغة تحتاج دوماً لمراجعة تقريباً.
القاعدة الثانية:قاعدة التمييز في رصد الاستعمالات اللغوية للمفردات وفق ما جاء في المعاجم وغيرها، وذلك بين المعنى والمفهوم الذي تعطيه المفردة وبين المصداق، فلا نحسب المصداق مفهوماً، ثم نتعامل مع تطبيقٍ ثانٍ للمصداق على أنّه مجاز. وتفصيل الكلام في هاتين القاعدتين نحيله إلى محلّه ومناسبته.
أصل تفسيري: قاعدة بيانية القرآن وتأثيرها على علاقته بالعلوم العقليّة وغيرها
وفي هذا السياق أيضاً، علينا أن نؤسّس لأصل تفسيريّ آخر، لابد أن يكون شاخصاً أمام الباحث وهو يريد أن يبدأ بعمله التفسيري، وهو أنّه إذا آمنا ـ ولا يسلّم البعض بذلك ـ أنّ القرآن الكريم هو بيانٌ ومبين ونور وتبيان فلابد أن تكون نتيجة ذلك أنّ القرآن يفصح عن مراداته بنفسه، أو بعبارةٍ أدقّ: لا يغلق معانيه بنفسه ويتحوّل بنفسه إلى معيق عن فهم مراده، فإنّ هذا المفهوم مناقض لبيانيّته، بل مناقض لعربيّته، وقد بحثنا في محلّه أنّ العربيّة التي عنتها الآيات القرآنيّة نظير قوله تعالى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (يوسف: 2)، ليست هي اللغة العربيّة في مقابل اللغات الأخرى كالفارسيّة والانجليزيّة والتركيّة..، وإنما تعني قدرة الإفصاح والإعراب عن المضمون، فهي صفة وليست اسماً، حيث يقال بأنّ فلاناً أعرب عن ما في نفسه، أي أفصح عن ذلك وكشف، ومنه سميت اللغة العربية لغةً عربيّة؛ لأنّ العرب يرونها تعرب عما في النفس، فيما يرون لغة الأعاجم غير ذلك، فكانوا يسمّونها طنيناً، لأنّها أشبه ـ بالنسبة إليهم ـ بالصوت الموسيقي غير المفهوم معناه، ولهذا سمّوها بالعجمة تشبيهاً لها بما لا يفهم ولا يعقل، وعليه فالفارسية بالنسبة للفارسي هي لغةٌ عربية، والانجليزية بالنسبة للانجليزي لغة عربيّة بهذا المعنى أيضاً؛ لأنّ العربية وصفٌ وليست اسماً هنا.
وعليه فالقرآن الكريم له القدرة على إيضاح نفسه، والعربيّة تنضم إلى قائمة الآيات الدالّة على بيانيّة القرآن الكريم بناءً على هذا التفسير، وسيتم التأصيل لهذا الموضوع في بحوث هذه السلسلة إن شاء الله.
وعلى أساس ما تقدّم ينبغي اكتشاف المراد القرآني من خلال تركيب الآيات، والقرائن المتّصلة والمنفصلة والحاليّة والمقاليّة والمقاميّة، والشواهد التي تحملها نفس الآية أو الآيات الأخرى، أمّا إذا حملت الآية معنى واضحاً وجليّاً وقطعيّاً لكنّ تطوّرات البحوث الفلسفية والكلاميّة والطبيعيّة ـ مثلاً ـ أدّت إلى ظهور نظريّة جديدة مخالفة، فهل تصلح هذه النظريّة والاكتشاف الذي جاء بعد قرون من نزول القرآن الكريم على صدر النبي الأكرم|أن تكون قرينة صارفة لتلك الدلالة المؤكّدة في الآية الكريمة؟
لا شكّ أن البحث الكلاميّ والفلسفي والطبيعيّ.. لا يمكن أن يكون قرينة صارفة للنصّ القطعيّ الواضح من الآيات الكريمة، فهذا الأمر ليس بعرفيٍّ ولا عقلائيٍّ ولا لغويٍّ؛ فعندما نفترض بيّانيّة النصّ القرآني ووضوحه فمن غير المعقول أن يتحدّث بشيء ويجعل قرينته المؤكّدة أو الصارفة تنتظر تطوّر البحوث الفلسفيّة والكلاميّة والطبيعيّة بعد قرون من الزمن لتحدّد المعنى الذي يريده، فإنّ كلام شخص آخر لا يصلح ليكون قرينة على مراد الشخص الأوّل في نظام الدلالات اللغوية.
والنتيجة التي نريد أن نخلص إليها هي أنّ البحث الكلاميّ والفلسفي والطبيعيّ لا يمكن أن يكون قرينة على مرادات النصوص القرآنيّة بحيث تصرف اللفظ عن ظاهره؛ وما الأدلة العقليّة النظرية ـ ولا نعني الأوليّات والبديهيات ـ إلا منبّهات ودواعٍ للتنقيب عن القرائن التي تصرف هذه الآية عن ظاهرها الذي فُرض معارضاً للأدلة العقليّة.
أقول هذا للتعليق على ما طرحه أصحاب الاحتمالات المتقدّمة الذين أقحموا مقدّمةً كلاميّة خارجية ترتبط بعصمة النبي الأكرم|وعدم إمكان صدور ذنب كبير منه؛ فإنّ الأدلة العقليّة التي حملتها هذه البحوث لا تصلح للقرينيّة وفقاً لما أشرنا، وإنما تُشكّل منبّهاً للبحث والتفتيش عن قرينة في داخل النصّ أو في آية اخرى لصرفه عن ظهوره وجعله متوافقاً مع مفاد هذه الأدلة والبراهين الفلسفيّة والكلاميّة، كما في قرينيّة هذه الآية: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}(الأنعام: 103)، لنفي دلالة بعض الآيات على جسميّة ومكانيّة الله جلّ وعلا أو رؤيته.
3 ـ إنقاض الظهر وعظيم المسؤوليّات الدعوية والتبليغيّة
تقدّم الآية اللاحقة ـ كما رأينا ـ توصيفاً مهمّاً لحجم المسؤوليات التي يضطلع بها الأنبياء والأولياء والعاملون في سبيل الله تعالى، فهي تصفه بأنّه ينقض الظهر، والنقض لغةً هو الحلّ والفكّ، مقابل الاستحكام والإبرام، وأنقض الظهر أي أنّ الظهر من شدّة الثقل تفكّكت عظامه، فيتحلّل، كناية عن شدّة الثقل، تقول: سقف البيت ينقضّ أي يتفكّك، فتصدر منه أصواتٌ تكشف عن تفكّك أحجاره وأعمدته، وهي مقدمات لسقوطه وعدم قدرته على التحمّل([15]).
فـ {أَنقَضَ ظَهْرَك}تعبير كنائيّ مجازيّ رائع عن أنّه فكّكه من شدّة ثقله، فسُمع له صوت الانقضاض والقرقعة، وهو كاشف عن أنّ المسؤوليّة التي كان يحملها الرسول|صعبة وثقيلة وجسيمة؛ حيث بذل كلّ غالٍ ونفيس من أجل إنجاحها حتى كاد ظهره أن يتفكّك.
وهذا خير مؤشّر للرساليين الذين يحبّذون أن يقتدوا به صلوات الله عليه وعلى آله وسلّم في مسيرته، فعليهم أن يتهيّؤوا لتحمّل الأعباء الجسيمة والعظيمة لنشر مشروعهم ورسالتهم أسوةً بالنبي|الذي تفكّك ظهره وتضعضع من أجل ذلك، وعليهم أن لا يكتفوا بسويعات من هنا ومن هناك لا تشفي الغليل ولا تبرأ الجرح ولا تنقض الظهر، فمسؤوليّة كل إنسان بحسبه.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}
1 ـ رفع الذكر بين المنهج التفسيري المصداقي الخاصّ والمنهج المفهومي العام
قبل أن نبدأ بذكر المعنى اللغوي لمفردة «الذكر»، علينا التنويه إلى بعض الصعوبات التي واجهت المفسّرين في تفسير أمثال هذه المفردة في عموم النصّ القرآني.
فهناك منهجان في هذا البحث سنصطلح على الأوّل: المنهج المصداقي، وعلى الثاني: المنهج المفهومي:
1 ـ أمّا المنهج المصداقي،فقد ذهب أصحابه إلى التعاطي مع مفردة رفع الذكر عبر نهج التفتيش عن مصاديق وحالات يرتفع بها ذكر الرسول:
أ ـفقال بعضهم: إنّ المقصود من الذكر في هذه الآية هو اقتران الشهادة بالرسالة في الأذان بالشهادة بالوحدانيّة، ولعلهم حسبوا هذا هو رفع الله لذكر محمّد؛ لأنّه أوّل مصداق يتبادر إلى الذهن، أو لأن الأذان وسيلة إعلاميّة توجب ذياع الصيت.
ب ـوقال بعض آخر: إنّ رفع ذكره هو في قرن طاعته بطاعة الله تبارك وتعالى([16])، من قبيل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}(المائدة: 92).
وهذا النهج هو النهج الذي يكون التفسير فيه بالمصداق والذي جرت عليه العديد من الكتب التفسيريّة وخصوصاً المتقدّمة منها؛ حيث يقوم المفسّر بتفسير المفهوم الكليّ الذي تقدّمه الآية وفقاً لأوّل مصداق يتبادر إلى ذهنه فيضيّق الآية بالمصداق، وهؤلاء أسروا أنفسهم بتتبّع المصاديق وحصر دلالة الآية العامّة في مصداق محدّد يجدونه عندهم من أبرز المصاديق، وهذه هي أزمة الغرق في المصاديق.
2 ـ امّا المنهج المفهومي،فقد ذهب أنصاره إلى أنّ المقصود من رفع الذكر في هذه الآية، هو الشهرة وذياع الصيت بالخير، فهو مرفوع مشتهر بين الناس بالخير، أمّا مظاهر وتجلّيات وعناصر رفع الذكر الذي حصل له|فربما يكون ما نراه من دخول الناس: {فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(النصر: 2)، وإقبالهم على الدعوة وتأثيرها في نفوسهم، وربما يكون تداول النصّ القرآني أو الأذان أو الصلاة على محمّد وآله من مظاهر رفع الذكر وتجلّياته، وربما يكون أيضاً تأثير الدعوة في نفوس الناس، ولا حاجة لي ـ بوصفي مفسّراً ـ أن أغرق في المصاديق، ثم أنسى الرسالة الكليّة الأساسيّة التي قدّمتها لي الآية الكريمة، وهي أنّ الله تبارك وتعالى قد أمتنّ عليك يا محمد وكرّمك ورفع ذكرك بالخير بين الناس بعد أن كنت نكرةً مهملاً مجهولاً لا يعرفك أحد، وها أنت تلهج الألسن باسمك في جميع البلدان والأزمان، أمّا مصاديق هذا الرفع وتجلّياته ومظاهره فهي بحوث تفصيليّة، لا تلزم المفسّر إلا في بعض الموارد التي يحتاج فيها لرصد المصاديق كي يفهم امتدادات المفهوم العام، لا كي يحصر المفهوم بهذا المصداق أو ذاك دون وجود حاصر من النصّ أو اللغة أو التاريخ أو غير ذلك.
أصل تفسيري: أصالة المفهوم في التفسير واستثنائية المصداق
ومن هنا، ينقدح أصل تفسيريّ آخر، يوجب على المفسّر أن لا يستغرق في حصر المفهوم العام الذي تحمله الآيات ومفرداتها بمصداقٍ معيّنٍ، فيقتل بذلك الشموليّة والكليّة التي فيها بعد الفراغ عن وجود هذه الكلّية والشمولية بحسب بُنية النص وسياقاته وقرائنه، وهذا ما تحدّث عنه العديد من المفسّرين كالعلامة الطباطبائي، وأسموه «قاعدة الجري والانطباق»؛ فحرّروا الآية من انحصارها في المصداق؛ ففي الوقت الذي تُعطي قيمة للمصداق بكونها دالّة عليه، لا تهدر عموميّتها وشموليّتها واستيعابها بالانحصار به، فالآية تتكرّم على المصداق بشموله، لا أنّ المصداق يفرض على الآية تخصيصه، ما لم يقم دليل خاصّ يفيد الحصر والتعيين.
2 ـ آية رفع الذكر، والموقف من مسألة الشهرة والجاه
ولا بأس أن ننوّه ونحن في نهاية الحديث عن هذه الآية الكريمة إلى موضوع «الشهرة»، حيث يحسب بعض الناس أنّ الاشتهار وذياع الصيت أمرٌ مذموم، وأنّ على الإنسان أن لا يبحث عنه، وأنّ ذلك يُعدّ جزءاً من التربيّة الأخلاقية، فأن تكون مهمل الذكر خيرٌ لك ـ على المستوى الروحي ـ من أن تكون ذائع الصيت، وهذا ما تنشره الكثير من الآراء عند بعض علماء الأخلاق على اختلاف مدارسهم.
ولكنّ هذا الكلام ليس بسليم فيما يبدو لي؛فإنّ الخطاب القرآني عموماً لا يعدّ الشهرة أمراً مستهجناً وقبيحاً، بل يعدّها ميزةً وجمالاً وبركةً للإنسان. وذياع الصيت والمقام ليس شرّاً محضاً كما هو سائد في بعض ألوان ثقافتنا الدينيّة، بل قد تكون هذه الأمور وسائل لتمرير المبادئ الرساليّة التي يعتقد الإنسان بها، إذ لا شك أنّ مكانتك عند الناس تُسهم في ذلك، بل ربما تشير الشهرة في الآية الكريمة هنا إلى شكلٍ من أشكال الثواب الذي يمنحه الله تعالى للإنسان الذي تحمّل الأعباء والمشقّة في طريق الرسالة.
نعم، لا شكّ في استهجان وقبح طلب الجاه لأجل الجاه والشهرة حبّاً لدنيا وعشقاً لزخرفها؛ إذ تضافرت النصوص الدينيّة وكلمات علماء التربية والأخلاق على ذمّه، أمّا أن تكون الشهرة لتمرير المشاريع الخيّرة والإسهام في مساعدة الناس وإعانتهم والتأثير الصالح فيهم فلا مشكلة فيها، بل قد تكون مطلوبة، لكن على الإنسان أن ينتبه إلى مخاطر ومزالق هذا العنوان، فبينهما خيط رفيع ودقيق، والشيطان قابعٌ مترقّب في مثل هذه الحالات.
فالشهرة مثل المال ومثل العقل ومثل كلّ موهبة يمنحها الله للإنسان، هي طاقة يمكن توظيفها في الخير، ويمكن توظيفها في الشرّ، وليست في حدّ نفسها شرّاً، حتى نخاف منها ونطالب بالعزلة والإهمال، بل المطلوب على المستوى الاجتماعي تحصيل المال والعلم والشهرة وقوّة البدن كي نتمكّن من توظيف ذلك كلّه في خدمة الدين والإسلام والإنسان والخير وقيم الرسالة والسماء، فالمؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف.
ولا تقتصر المسألة على مستوى التنظير القرآني لهذا الموضوع، بل قد قدّم القرآن الكريم نماذج عمليّة للتدليل على هذا الأمر، فهذا هو نبي الله يوسف×يقول لملك مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55)، فلم يستهجن الموقف أحدٌ رغم أنّه يطلب السلطة التي تلازم الشهرة هنا؛ لأنّ هدفَه كان إدارة أزمة المجاعة التي كانت ستعاني منها مصر آنذاك، مضافاً إلى تخطيطه في مصير علاقته وعودة أهله وأخوته إليه كما كشفت عنها القصّة بأحداثها الموضوعيّة. بل هذا هو نبي الله سليمان×أنموذج آخر؛ حيث طلب من ربّه قائلاً: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}(ص: 35)، فطلب السلطان على الجنّ والإنس والحيوانات والرياح والجبال وغيرها لا مشكلة فيه ما دامت هناك أهداف ساميّة ومشروعة.
وفي هذا السياق، علينا أن نفهم النصوص الحديثية التي ذمّت طلب الإمارة، فإنّ المراد منها إمّا ثبوت هذا الحكم ضمن حالات خاصّة أو ذمّ طلب الإمارة للإمارة، بحيث تكون السلطة هي الغاية لا الوسيلة المشروعة، أو يلازمها ارتكاب المفاسد الدينية والأخلاقيّة.
وممّا تقدّم يتضح أنّ الشهرة إمّا أن تكون وسيلةً أو غاية؛ فإذا كانت وسيلة لأهداف ساميّة ومبادئ عالية كخدمة الدين والناس فلا ريب في رجحانها، وإذا كانت وسيلة للشر والفساد فلا شك في ذمّها، أمّا في غير ذلك فلا يبدو من النصّ القرآني ما يوجب الذمّ والتقريع، وربما لهذا لم يحكم مشهور الفقهاء على الأقلّ بحرمة طلب الشهرة والسلطة التي هي جائزة في نفسها ولا تلازم حراماً أو قبيحاً.
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
تنطلق هاتان الآيتان الكريمتان من ركيزة تعظيم حال الرجاء والأمل والاستبشار بالمستقبل، فتجعلان ذلك شعاراً لهما، في مقابل اليأس والقنوط والتشاؤم من المستقبل.
وبغية إلقاء الضوء على تفسير هاتين الآيتين، سنحاول الإجابة على مجموعة من الأسئلة الواقعة أو المفترضة.
1 ـ ماذا تعني المعيّة في الآيات؟ وما معنى: إنّ (مع) العسر يسراً؟
تداولت كلمات المفسّرين الحديث حول معنى المعيّة التي حملتها هذه الآيات، فقدّموا مجموعةً من المحتملات، نقتصر على ذكر ثلاثة منها:
الاحتمال الأوّل:أنّ يراد أنّه لا يشكّل العسر حالةً دائميّة في حياة الإنسان، وإنما حياته خليط من العسر واليسر، فأيّامٌ منها تمرّ على الإنسان نكداً ومرارةً وألماً وشؤماً، فيما أيام أخرى ترافقها السعادة والاستبشار واللّذة والتفاؤل، وعلى الإنسان أن يضع نصب عينيّه حقيقةً يلاحظها ويشعر بها في أيام حياته، وهي أنّه مع كلّ عُسر يمرّ به في موضوعٍ ما هناك يُسر يناله في موضوع آخر، فإذا كان في عسر مالياً فهو في يُسر على مستوى علاقاته الزوجية، وإذا كان في عُسر مع أصدقائه فهو في يُسر على المستوى الصحّي وهكذا، فعليه أن لا ينظر للحياة على أنها مجموعةٌ من الصعاب والمشاقّ والمتاعب والبؤس فقط. بل عليه أن يكون متوازناً في نظرته لها، سواء على المستوى الفردي أم المستوى الاجتماعي.
وهذا المعنى من المعيّة محتمل في هذه الآيات الكريمة،وهو يتناسب مع المعيّة المطلقة التي تكون في نفس اللحظة والزمان بالاصطلاح الفلسفي، فهناك عسر في أمور ويسر في أمور أخرى في نفس اللحظة والزمان، فكأنّ الآية تريد أن تقول: إنّ كلّ آنات الحياة مزيج من الانفراجات والانغلاقات، وما عليك إلا أن تقرأ الحياة قراءة واقعيّة تعرف قوانينها السارية فيها.
الاحتمال الثاني:ولا يريد أصحاب هذا الاحتمال أن ينظروا للحياة نظرةً كليّة، ثم يصنّفوها إلى يُسر وعسر كما ذهب إليه دعاة الاحتمال الأوّل، وإنما أرادوا أن ينصّوا على ضرورة أن يتجاوز الإنسان هذا الواقع الذي يمرّ به ويصفه على أنّه عُسر، وذلك من خلال التفتيش في الحياة لاكتشاف عناصر الانفراج واليسر فيها؛ فإنّ أسباب اليُسر والانفراج والتفاؤل ربما تكون كامنة في نفس الواقع العسير الذي يمرّ به، وكأنّ هذه الآيات تريد أن تقرّر بأنّ عليك أن لا تضطرب حينما تواجه العُسر والضيق، بل عليك ملاحظة عناصر الانفراج في داخل نفس هذه المتاعب التي تمرّ بها، فإنّ ملاحظتها توصلك إلى الانفراج النهائي.
ولعلّ عموم بني البشر حينما تحيط بهم المشاكل من هنا وهناك تجد التشاؤم هو البصمة الغالبة عليهم؛ لأنّهم لا يظنّون وجود انفراج محتمل يدفعهم للتفاؤل، وهذا ما رفضته هذه الآيات بوصفه منطقاً للحياة، وعلى الإنسان أن يفتش عن عناصر الانفراج والسعة كي يوفّق إلى سبيل ذلك، فمعنى الآية هو أنّ داخل كلّ عُسر هناك عناصر اليُسر والخلاص من هذا العُسر نفسه.
ولا شكّ أنّ الاحتمالين المتقدّمين يُعدّان قواعد وأصول في حياتنا الفرديّة والاجتماعيّة.
الاحتمال الثالث:لا تعني المعيّة في هذا الاحتمال معناها الفلسفي الدقيّ، وإنما تعني التوالي والتعاقب، فخلف كلّ عُسر تجد يُسراً، وخلف كلّ ظلام ينبثق النور، وهذا المعنى هو الذي ينسجم مع سياق الآية وفقاً لما قدّمناه من شرحٍ للآيات السابقة؛ فكأنّ الآيات السابقة أرادت أن تقول: يا محمد، تحمّلت حملاً ثقيلاً في الفترة الماضية جرّاء أعباء الدعوة والرسالة؛ فأهملك الجميع وحاصروك وحاربوك، وها قد جاء عصر الانفراج والفسحة؛ فإنّ مع العسر يسراً، وبعد كل شدّة فرجاً، وهذا ما نعبّر عنه بمعيّة التوالي والتعاقب.
وعلى الباحث أن لا يقرأ اللغة العربية من خلال النافذة الفلسفيّة فقط، فيعكس اصطلاحات هذه النافذة على تلك اللغة، فلا يفهم من المعيّة إلا معناها الفلسفي، مع أنّ العرب يطلقون مثل هذا النوع من المعيّة كنايةً عن الصعوبات والأزمات والظلمات التي تتلوها حلول وأنوار، وأنّ قانون الحياة قائم على أساس أنّ وراء كلّ صعوبة انفراجة، ووراء كلّ غروب شروقاً، وبعد كلّ ظلام نوراً، وهذه سنّة تاريخية اجتماعيّة، فعمر العُسر قصير زائل، ولابد من ترقّب اليُسر بعده، لكنّ هذا مرهونٌ بالصبر والتحمّل.
وهذا الاحتمال الثالث هو الذي رجّحه أغلب المفسرين، وعلى هذا الأساس يكون مفاد هذه الآيات على وزان قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}(الطلاق: 7). والمنصرف عرفاً من هذا التعبير هو التفسير الثالث، ولا نمانع شمول الآية للأوّل والثالث معاً، فيما نرى التفسير الثاني بعيداً عن ظاهر اللفظ.
2 ـ هل اليُسر بعد العُسر قانونٌ خاصّ أم قانونٌ عام؟
بعد أن فرضنا أنّ اليُسر بعد العسر قانونٌ في هذه الحياة وسنّة تاريخية اجتماعيّة، ومبدأ نفسي وتربوي، يأتي تساؤل آخر في البين: هل هو قانون خاصّ بالتجربة النبويّة، أم هو قانون حياتيّ عامّ يشمل عموم بني البشر بغض النظر عن مشاريعهم الإلهيّة أو الإنسانيّة؟ وإن شئت قلت: هل الآية مسوقة مساق التعليل لبيان قاعدة إنسانيّة عامّة في التاريخ والاجتماع، أم هي خاصّة في إطار ما يتعلّق بالقضايا الدينيّة والتجربة النبويّة فهي توصيف لحدث جزئي أو شبه جزئي؟
قد يقول قائل: إنّ قانون اليُسر بعد العُسر قانون خاصّ بالنبي الأكرم وما شابه أهدافه الرساليّة؛ وذلك:
أولاً:استناداً إلى «فاء التفريع» التي جاءت في بداية الآية؛ حيث إنّ هذا يكشف عن أنّ اليسر خاصّ بالعسر الذي مرّ به النبي؛ فبعد أن شُرح صدره ورُفع له ذكره ووضع عنه وزره جاء اليسر بعد العُسر، أي جاء يسره هو بعد عسره.
ثانياً:إن «الألف واللام» في مفردة (العُسر) عهديّة؛ فهو العُسر الذي كُشف بشرح الصدر، وأزيل برفع الذكر، وعُدم بوضع الوزر، وهذه أمور اختصّ بها النبي الأكرم|.
والخلاصة التي يريد أن يستخلصها هذا الاتجاه من الآية هي أنّه بعد كلّ المصاعب التي واجهتها يا محمد، حصل لك التيسير، أرأيت كيف حصل ذلك مع كلّ ذلك العُسر الذي مرّ بك، فلا تحمل الآية أي بُعد إطلاقيّ يمكن تسريته إلى كلّ مسارات الحياة، وإذا ما أردنا التسرية فلابد أن يكون المسرّى له شبيهاً بالتجربة النبويّة.
لكن هناك من يرى أنّ قاعدة اليُسر بعد العُسر هي قاعدة عامّة في التاريخ والاجتماع، وتمثّل سنّةً حياتيّة بالنسبة للإنسان، ومرجعاً تربويّاً ناهضاً به، وذلك:
أولاً:إنّ التجربة النبويّة التي ذكرتها الآية ما هي إلا تطبيق من تطبيقات هذه القاعدة العامّة البشريّة؛ وما الانفراجة التي حصلت للنبي الأكرم|إلا في سياق هذا القانون الحياتي العامّ وهو قانون اليُسر بعد العسر؛ وهو يُعدّ مصداقاً بارزاً لهذا القانون العام، فالقاعدة التي ذكرتها الآية تشمل جميع المستويات الفرديّة والاجتماعيّة؛ فوراء كلّ عسر فرديّ أو اجتماعيّ هناك يُسر، ولهذا جاء التفريع بالفاء، ليشير إلى إرجاع ما حصل مع النبيّ إلى القانون الحياتي العام، فقد حصل معك ذلك لأنّ مع العسر يسراً، فالفاء للتعليل لا للتفريع وهذا هو الظاهر منها، فأنت تقول لزيد: لقد وضعت الطعام بطريقة صحيحة فأحسنت طبخه، فإنّ الطهي بطريقة صحيحة يوجب حُسن الطعام.
ثانياً:إنّ التكرار الذي حملته الآية السادسة ربما يكون تأكيداً لفكرة عموميّة القاعدة لا شخصيّتها، فالتكرار بنفس الألفاظ يريد أن يؤسّس مطلباً مستقلاً، ولا يخفى أنّ هذا التأسيس لا يصبّ في صالح أن تكون الآية السابقة شخصيّة، بمعنى أنّ نتيجة ما حدث معك من عُسر هو الذي وّلد اليسر، بل هو مؤكّد لعموميّتها.
ثالثاً:إنّ «الألف واللّام» في مفردة «العُسر» ظاهرة في الجنس لا في العهد؛ أي أن جنس العسر يترافق معه اليُسر بغضّ النظر عن شخصنته.
والخلاصة وفقاً لهذا التأسيس:إنّ سياق هاتين الآيتين يقرّر اليُسر بعد العسر بوصفه قانوناً اجتماعيّاً تاريخيّاً في حياة الإنسان الذي يكابد الصعوبات ويواجهها، كما هو الأمر في النبي محمد|،والذي هو من أبرز مصاديق هذه القاعدة الإنسانيّة، وعلى الإنسان أن لا يستسلم للعُسر بل عليه مواجهته والوقوف أمامه.
3ـ ما هو سرّ التكرار الشديد الموجود في هاتين الآيتين؟ وما هو مبرّره؟!
بعد أن نصّ القرآن الكريم في الآية الخامسة قائلاً: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}نشاهده كرّرها مرّةً ثانية في الآية التي تليها مع حذف الفاء من الحرف «إِنَ»، تُرى ما هو السبب الذي يكمن وراء ذلك، أولم يمكن الاكتفاء بالمرّة الأولى؟
لقد حصل انقسام بين المفسّرين في فهم حقيقة هذا التكرار:
أ ـ فذهب اتجاه إلى عدم وجود تكرار مضموني في الآيتين، بل هو تكرارٌ في الألفاظ فقط؛ فإنّ الآية السادسة: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}ليست تأكيداً للآية الخامسة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، وإنما ترنو الثانية إلى إضافة موضوع جديد مختلف لم تفده الآية التي سبقتها، وهذا نظير البسملة في بدايات السور القرآنية؛ إذ يرى هذا الاتجاه أنّ ما تفيده البسملة من مضمون حال كونها في بداية سورة البقرة، غير ما تفيده من مضمون حال كونها في بداية بقيّة السور؛ لأنّ كلّ بسملة هي جزءٌ من تركيب السورة الخاصّة بها، وهذا خلاف ما هو راكز في الأذهان العامّة.
ولتوضيح التغاير المضموني بين الآيتين رغم التشابه اللفظي، قالوا بأنّ العسر في الآيتين مفردٌ ومعرفةٌ، أمّا اليُسر فهو مفردٌ ونكرةٌ فيهما، ومن هنا قالوا: إنّ من عادة العرب إذا ذكروا اسماً معرّفاً ثم كرّروه فهو عينه ولا يفيد التكرار إلا تأكيداً، وإذا نكّروه ثم كرّروه فهو غيره، ولابد أن يفيد التكرار مطلباً جديداً، فيكون التنوين في اليُسر الأوّل والثاني هو من نوع تنوين التنويع الذي يفيد اختلافهما، وهذا يكشف عن أنّ هذين اليُسرين مختلفان، ويقعان في قبال ذلك العسر الواحد المعَرّف.
وقد أقاموا الدليل الروائي على هذه الفكرة، مستندين إلى ما جاء في الأثر: «معَ كُلّ عُسْرٍ يُسْران»، والغلبة لليسرين على العسر الواحد.
لكن بقي الكلام عند أصحاب هذه الاتجاه في حقيقة هذين اليُسرين اللذين حملتهما هاتان الآيتان:
فذهب بعضهمإلى كونهما أمرين دنيويين في قبال العُسر الدنيوي.
ومال آخرونإلى أنّ واحداً منهما دنيويّ والآخر أخروي؛ فمع كلّ عُسر يواجهه الإنسان يجد أمامه انفراجة دنيويّة وأخرى أخرويّة، وهكذا استمر التحليل في تحديد مصداق هذين العُسرين بين أتباع هذا الاتجاه.
ب ـ وفي مقابل الاتجاه الأوّل، ذهب فريقٌ آخر إلى القول بعدم الحاجة إلى مثل هذه التكلّفات، بل التكرار عند العرب للتوكيد أمرٌ سائغ؛ فالآية الثانية أرادت أن تؤكّد قانون (مع كل عسر يسر)؛ فعندما تواجه أيها الإنسان عسراً فلابد أن لا يقف فكرك ويتكدّر خاطرك، ولا ينبغي للهمّ أن يستحوذ عليك، أو يسيطر الحزن والغمّ على خلجاتك؛ فإنّ ربك جعل مع هذا العسر يسراً، وبذلك يكون التنوين الذي لحق اليُسر في هاتين الآيتين هو للتفخيم، والذي بإضافته تُنكّر الكلمة، كي لا تحدّد في إطار معيّن، الأمر الذي يضطر الخيال والعقل لتصويرها بأحجام كبرى، كما لحظنا ذلك في الاتجاه الأوّل، وهو ما يكرّس التوكيد والتهويل وعظمة القانون وتكريسه.
والقرآن الكريم حافلٌ بنماذج عديدة من مثل هذه التوكيدات، خذ ـ مثلاً ـ الآية السادسة من سورة المائدة والتي تحدّثت عن التيمّم حيث تقول: {… وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}، فقد جاء عينها في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء سوى حذف مفردة: {مِنْهُ}،حيث قال تعالى:{… وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}، فلا يمكن أن نفسّر هذا التكرار على أنّه ناتج من نكتة خاصّة؛ إذ لا دليل على مثل هذا الموضوع.
وهناك توجّه بين المفسّرين يذهب إلى عبثيّة التكرار ولَغْوِيَّته، بل حكم بعضهم باللغويّة التي يستحيل صدورها من حكيم مثله جلّ اسمه حتى مع تشابه الألفاظ بالكامل؛ فما دام المضمون قد استُوفي طرحه في النصّ الأوّل فأيّ حاجة يريد النصّ الثاني إيفاءها. وهذا ما حدا ببعض الباحثين القرآنيين المعاصرين إلى رفض فكرة التكرار القائم على أساس التوكيد في هذه الآية ـ وفي غيرها من الآيات القرآنيّة أيضاً ـ ولابد من الذهاب إلى أنّ الآية السادسة التي نصّت على:{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}تفيد معنى آخر غير الذي أفادته الآية الخامسة:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، حتى نضع القرآن ـ من وجهة نظرهم ـ في موضعه الرفيع وننزّه الباري تعالى عن مثل هذه التكرارات العبثية.
ولكي نجيب عن هذه المحاولة في قراءة الموضوع، يجب أن نشير إلى نقطة مهمّة، وهي تشكّل أصلاً أساسياً في فهم كتاب الله تعالى، ألا وهي ثنائية التربية والتعليم في النصّ الديني عموماً ومنه النصّ القرآني، أو ثنائية العقل والروح، والمعرفة والسلوك.
أصلٌ تفسيري: هل القرآن الكريم كتاب معلومات فقط أم له في هويّته الذاتية غاية أخرى؟ (ثنائية التربية والتعليم)
هناك إثارة تُطرح في كثير من البحوث القرآنيّة، وتُعدّ الإجابة عليها منطلقاً يميّز المنهج التفسيريّ الذي يختاره الباحث، وتلقي بظلالها على النتيجة المختارة للاستفهام المتقدّم، فهل القرآن الكريم كتابُ معلومات فقط، أم هو ـ بالإضافة إلى ذلك ـ كتاب تربية وهداية أيضاً؟
وإيضاحاً للشقّ الأوّل من هذا التساؤل نضرب المثال التالي:هبْ أنك ذهبت إلى فقيهٍ من الفقهاء تستفتيه حول مسألة فقهيّة شغلت بالك، وتردّدت في جوازها أو حرمتها، فالفقيه في مثل هذه الحال لا يتحمّل عادةً ـ بما هو فقيه ومفتٍ ـ مسؤوليّة أكثر من إجابتك بـ (نعم) أو (لا) وفقاً لاجتهاده واستنباطه من الدين، ولا يتدّخل عادةً في صقل الشخصيّة وبنائها تربويّاً كي تبتعد عن مواطن الشبهة والمحرّمات.
كذلك الحال في من يطرح نظريّةً في الرياضيات، فإنّه يطرح المعادلات ويشرحها للآخرين بغية أن يفهموها، ولا شأن له بأكثر من ذلك غالباً.
أمّا الشق الثاني من السؤال فيمكن أن نطرح له المثال التالي:إذا ذهبت إلى الطبيب النفسي، واشتكيت له علّةً تعتريك في نفسك وروحك، فإنّه لا يكتفي حينها بوصف العقار المناسب الذي يساعدك على الشفاء من علّتك، بل يقوم بوضعك على السرير الطبّي ليخوض معك حواراً ليس الهدف منه إعطاءك معلومات، بل ليكون الحوار في نفسه موجباً للتأثير عليك بما يحسّن من حالتك النفسيّة.
وبعد هذين المثالين نسأل: هل القرآن الكريم يمارس نفس الدور الذي يمارسه الفقهاء أو الفلاسفة أو علماء الفيزياء أو الكيمياء في تقديم أفكارٍ خالصةٍ من غير أن يفكّر في آليّة أدلجتها في ذهنيّة الفرد ونفسيّته، ليكون مجرّد قناة معرفيّة لا تتحمّل أكثر من مسؤوليّة إيصال المعلومة للطرف المقابل، أم أنّ القرآن ـ بالإضافة إلى كونه قناةً معرفيّة ـ كتاب تربية روحيّة يُسهم في إقناع مستمعيه بالأفكار التي يطرحها، بل ويسعى من خلال آليات متعدّدة إلى بناء شخصيّاتهم وتعميق أفكارهم وإبعاد الغموض والضبابيّة عنها، ليكون صوته في حدّ نفسه موجباً لصلاح نفوسهم ومؤثراً في ترسيخ المفاهيم المعلومة لهم من قبل مثلاً؟
لا شكّ أنّ الخيار الثاني هو الخيار السليم؛ إذ لو كان القرآن الكريم كتاب معلومات فقط، فما الحاجة إلى الطريقةٍ النجوميّةٍ المتفرّقةٍ في إنزاله؟! إذ كان يمكن للخالق تعالى أن يقدّمه للرسول في مجموعةٍ من الصحف ويتولّى رسوله الأكرم|عمليّة شرحه وتفسيره كمعلومات سماويّة، ويمارس لهم في نفس الوقت مقاربات ومقارنات بين آياته الكريمة، من دون حاجة إلى مثل هذه الطريقة المتفرّقة في التنزيل.
لكنّ القرآن حمل دوراً مهماً في صقل المجتمع الإسلاميّ وبنائه، ويُخطئ من يتوقّع منه إجاباتٍ على طريقة الفقهاء أو علماء الكيمياء أو الفيزياء، أو يحسبه كتاباً لتقديم النظريات العلميّة بطريقة سرديّة أشبه بالماكينة الآليّة، وإنما هو ـ إلى جانب كونه كتاباً يحتوي على المعلومات ـ كتابُ تربيةٍ وتهذيب للروح بأسلوبه وبيانه وباستخداماته وتوظيفاته وبطريقة عرضه وأسلوب الفني والتأثيري، فهو كالقصّة الحزينة ـ ولو الخياليّة ـ التي عندما تقرأها أو تشاهدها منتجَةً كفيلم سينمائي تضطرّ للبكاء والتأثّر، فالقرآن يهدف من خلال بلاغته ونظم مفرداته وإيقاعه الموسيقي والنفسي أن يؤثّر في مستمعيه، ويدخل إلى عمق وجدانهم، دون الاكتفاء بإيصال المعلومة لهم فقط، فهو أشبه بنشاط عالم الأخلاق الذي لا يقتصر عمله على زرق المعلومات في أذهان طلابه، بل يمارس معهم دور المربّي والمعلّم للتجسيد العملي للمفاهيم التي نقلها إليهم، وإذا حصرنا مهمة عالم الأخلاق بتقديم معلوماتٍ أخلاقيّة فقط، فسوف يفقد درسه محتواه وقيمته.
وعلى هذا الأساس، ما المانع من التكرار في القصص القرآنيّ([17])وغيرها من المفاهيم التي تحملها الآيات والسور، ما دام التكرار يمثّل تكريساً تربويّاً صالحاً للمفاهيم التي حملها هذا الكتاب، ويصلح لجعل المفهوم المتكرّر صورةً تحظى بأولويّة وعمق في ذهن المستمع ووجدانه؟ تماماً كما تقوم أنت بتكرار مفهوم واحد عشرات المرات أمام أطفالك؛ لأنّ الهدف ليس معرفتهم بهذا المفهوم، إذ المعرفة تتحقّق بمرّة واحدة، وإنّما ترسيخ هذا المفهوم في الذهن والوجدان ليحظى بأولويّة قصوى، وصقل نفوسهم وفقاً له، وهذا هو أحد الفوارق بين الكتب العلمية والكتب التربوية، لاسيما التي تستخدم أساليب البلاغة وألوان التأثير الفنّي كالقرآن الكريم.
وربما لهذا وغيره نصّت الكثير من النصوص على أنّ القرآن عندما يقرؤه المؤمن فهو يحزّن به نفسه ويعيش حالة الرهبة والرغبة والتفاعل الروحي والعاطفي والوجداني معه؛ لأنّ الكتاب ليس معلومات محضة بعيدة عن قوّة التأثير في المضمون والأسلوب، فهو كتاب معرفة يستخدم كلّ عناصر التأثير التي يقوم بها الإعلام الهادف والملتزم.
وعلى هذا، فما هي المشكلة في افتراض أنّ الآية السادسة التي قالت: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}تريد أن تكرّر نفس المضمون الذي أفادته الآية التي قبلها؛ بغية التأثير في النفوس المستمعة لذلك لجعل هذا المبدأ أكثر حفراً في الوجدان؛ انطلاقاً من كون القرآن ليس كتاب معلومات فقط، بل يحمل بُعداً تربويّاً أنموذجيّاً في طريقة عرضه وبلاغته ونمطه وإيقاعه وتكراراته، وهذا ما نصطلح عليه بـ «مبدأ الجمع بين المعرفة والتربية في القرآن الكريم»، وفي ضوء ذلك لن يكون التكرار عبثاً أو لغواً يتنزّه عنه الحكيم، بل التكرار فعلٌ حكيم جدّاً عند المربّي والداعية والمبلّغ والمصلح للنفوس والأرواح.
بل ربما يذهب باحث ويتطرّف إلى ما هو أكثر من ذلك، فيدّعي أنّ التربيّة هي الهدف الأوليّ للقرآن الكريم، وما نقل المعلومات إلا هدفاً ثانويّاً بالنسبة إليه، على أساس أنّ أغلب القضايا التي جاء بها القرآن الكريم موجودةٌ في قلوبنا ونفوسنا وعقولنا، نظير التوحيد، وما دور القرآن إلا التنبيه والتذكير والإشارة فقط، فحذار أن نتعامل معه بوصفه أشبه بكتاب العلم، وإنما هو مزيج من المعلومات التي تقدّم للبشر، كما هو فعل وتغيير وتربيّة لهم أيضاً، فلا مانع من التوكيد ما دمنا اعتبرناه نشاطاً تربويّاً مفيداً.
هذا كلّه، بالإضافة إلى أنّ اللغة العربية ـ وغيرها من اللغات أيضاً ـ لا ترى لغويّة التوكيد وعبثيّته، بل العكس تماماً هو الصحيح، والحكماء العقلاء إذا ما أرادوا تكريس فكرةٍ كي تكون لها تأثير في حياة الآخرين مارسوا توكيدها ولو بنفس اللفظ والصورة.
4 ـ قانون اليُسر بعد العسر واستثناءاته التطبيقيّة (إشكاليّة مناقضة القرآن للواقع)
أشرنا فيما تقدّم إلى كون اليُسر بعد العسر سنّةً حياتيّة عامّة سيّالة في عموم الأحوال والأزمان، ومع كون الأمر كذلك، فسوف نتفاجأ بالإشكاليّة التالية: ما بالنا نشاهد الكثير من النقوض لهذه القاعدة؛ فكم من عُسر لم نجد يسراً يتعاقبه، وكم من مجتمعات وحركات وتيارات وجماعات وأمم وشعوب ختمت حياتها بالعسر الذي ليس وراءه يُسر، وهذا الإشكال يسجّل على الآية الكريمة من حيث إنّ النصّ القرآني سوف يعاني من ضعف في كليّته وعمومه، مع أنّ ظاهر الآية الكريمة هو الصدق المطلق في كلّ الأحوال والأزمان، خصوصاً إذا ذهبنا ـ كما هو خيار كثيرٌ من الباحثين ـ إلى أنّ الألف واللام في مفردة «العسر» للجنس.
وتعميقاً لهذا اللون من الإشكال، يوسّع بعضهم ذلك إلى عموم الإطلاقات القرآنيّة التي تشكّل مساحةً واسعة من الكتاب الكريم، فهذه الآية الكريمة الرابعة والثلاثون من سورة لقمان تنصّ قائلةً: {..وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}،الأمر الذي يقتضي عدم علم أيّ إنسان بطبيعة كسبه في الغد، ولا بتاريخ حتفه أيضاً، مع أنّ الكثير من التجّار وغيرهم أيضاً يعلمون علماً يقينيّاً بمقدار المكاسب التي سيحصلون عليها؛ كما يعلم الانتحاريُّ الذي أمسك على مقبض التفجير بيديه بساعة موته أيضاً، وفي سياق هذه النقوض كيف يمكن الحفاظ على إطلاقيّة الآية وشمولها؟ ألا يناقض النصُّ الواقعَ ويتصادم معه؟!
من الواضح أنّ الحديث حول هذا الموضوع يمكن أن يقارب من أكثر من زاوية، لكنّنا نكتفي بالتركيز الإجمالي على زاوية واحدة، يمكن أن تكون أصلاً سيّالاً ينفعنا كثيراً في حلحلة المزيد من هذه الإشكاليّات التي تُثار على النصوص الدينيّة.
إنّ التعامل مع النصوص الدينية الأولى بذهنيّة النسب الأربع المنطقية «التساوي والتباين والعموم والخصوص من وجه والعموم والخصوص المطلق» وجعلها معياراً نهائيّاً في فهمها يوقع الباحث في مشاكل كثيرة من هذا القبيل؛ فالنافذة التي نطلّ من خلالها على النصوص لا ينبغي أن تكون فقط تلك النافذة اليونانيّة الرياضيّة التي تحوّل النصّ الديني إلى مربعات ومستطيلات ومجسّمات هندسيّة، وما أن نفقد سُورَ القضية (الكلية والجزئيّة) من خلال عدم انطباق مؤدّى هذه النصوص على فردٍ واحد، فسوف نذهب إلى بطلانها جميعاً؛ لأنّ هذه النافذة ربطت الصحّة والسقم بتوفّر المحمول للموضوع بشكل دائميّ وضروري، وحينما نلاحظ عدم وجود هذه العلاقة في آنٍ ما فهذا يعني بطلانها.
والنظرة أعلاه لا تقتصر على العلوم البرهانيّة والفلسفيّة، بل تشمل البيان العلمي في العلوم الطبيعيّة أيضاً، فإنّ الزوايا فيها محدّدة غالباً، وفي ضوء هذا التأسيس لا ينبغي التعامل مع القرآن الكريم بطريقة الأسوار المنطقيّة، بحيث إنّ عدم توفّر الوصف الذي ذكره لإحدى القضايا في فردٍ واحد سوف يبطل عموميّة هذا الوصف، حتى وإن توفّر في أغلب أفرادها.
فحينما ينصّ القرآن على أنّ اليسر يتعاقب مع العسر بنحو دائم، فلا يفضي ذلك إلى بطلان هذه القاعدة الحياتيّة حين مشاهدة اختراقٍ واحدٍ لها، ولا ينبغي أن يصار إلى توحيد طريقة البيان اللغوي القرآني مع الطريقة التي يطلبها المنطق الأرسطي في القضايا البرهانيّة، بحيث إنّ اختراقاً واحداً يكفي لإبطال عموميّة القاعدة؛ فإنّ اللغة العربيّة تسوّر الكلام في كثير من الأحيان بسورٍ كليّ وعموم مطلق وتقصد الأعمّ الأغلب من ذلك من دون أن ترى ضيراً في اختراق الكلام بموردٍ أو موردين؛ لأنّها كانت من البداية واعيةً لهذه الاستثناءات، وواعيةً أيضاً لعدم تأثيرها السلبي.
ولكي نقرّب الفكرة بمثالٍ عمليّ، نستعين بالأمثال الشعبيّة المتداولة بين الشعوب، والتي قد نسمّيها «قرآن البشر»([18])؛ فإنّ نسبة الانطباق والحقيقة في هذه الأمثال تصل إلى درجةٍ مئويّةٍ عاليةٍ لا يمكن افتراض بطلانها بمجرّد ملاحظة اختراق واحد أو اختراقين؛ فإنّ مثل هذه الأمثال لم تبتنِ من البداية على طريقة التسوير الأرسطيّة، بحيث إنّ عدم انطباقها على بعض الأفراد أو عدم صحّتها في بعض الأزمنة يفضي إلى إهمال هذه الأمثال أو وضعها في خانة الباطل أو اللامعقول؛ فإنّ الأمم التي قدّمت هذه الأمثال لم تقصد ـ دون شكٍ ـ الكليّة بالمعنى المنطقي، وإنما قصدت الأعمّ الأغلب من الحالات، دون أن تشعر بتناقضٍ حينما تشاهد بعض الاستثناءات، وهذه طريقة عرفيّة في المحاورات بغضّ النظر عن شخص اللغة المستخدمة، سواء أكانت عربيّةً أم فرنسيّةً أم تركيّة أم إنجليزيّة.
وفي محل كلامنا الأمر من هذا القبيل؛ فإنّ القرآن الكريم حينما ينصّ على ضرورة الاستبشار والتفاؤل حين مواجهة العسر، لكون ضدّه وهو اليسر سيأتي لا محالة، فإنّه لا يريد من ذلك تسوير القضية بشكلٍ منطقيٍّ دائميٍّ في كلّ الأحوال والأزمان، بل هو واعٍ كلّ الوعيّ لمثل هذه الاستثناءات الطفيفة التي لا تضرّ بعموميّة القواعد التي يذكرها، ولكن حيث إنّا مسكونون بالمحدّدات المنطقيّة والعلميّة وبعيدون عن اللغة وقوانينها المحاوراتيّة اضطرّنا هذا الأمر إلى التعامل مع النصوص الدينيّة بزوايا بعيدة كل البُعد عن واقع الأمر وحاقّه.
وفي محلّ كلامنا، يكفي في تبرير تلك القاعدة القرآنيّة التي حملتها هذه الآية من سورة الانشراح أنّ الحالة العامّة لكلّ عسرٍ تعاقب اليسر له بعد ذلك، والأمر كذلك في قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}(لقمان: 34)؛ حيث إنّ الآية ليست بصدد بيان قواعد فيزياويّة أو كيمياويّة أو رياضيّة كي نذهب إلى بطلان هذه القواعد بمجرد ملاحظة استثناءٍ واحد لها، بل تريد بيان مبدأ الضعف العلمي الإنساني في قبال العلم الإلهي؛ فهي بصدد بيان المفاضلة بين إطلاقيّة العلم والقدرة الإلهيّة وبين ضعف ووهن العلم والقدرة البشريّة، ولا يضرّ وجود استثناء أو استثناءين حكمتهما ظروف خاصّة في الفكرة الأصليّة التي حملتها هذه الآيات؛ لأنّ لغة النصوص الدينيّة ـ والقرآن أبرزها ـ هي لغة عرفيّة، لا سيما اللغة العربيّة، التي قد تعتمد الاطلاقات كثيراً في إفادة الأعمّ الأغلب بهدف تحقيق الغرض والمقصد، وإن كانت تعتمد التعميم أيضاً لإفادة الموجبة الكلية أو السالبة الكليّة المنطقيّة، حيث تعزّز الشواهد ذلك.
ويتلخّص ممّا تقدّم أنّ الإطلاق في هذه الآية تامّ، دون حاجة إلى تأويل اليُسر بالأخروي، وأنّها تريد إيضاح حالة عامة غالبة تحكم حياة البشر، وتفيد أنّ مع كلّ عسرٍ يمرّ به الإنسان ـ فرداً أو مجتمعاً ـ فإن هناك عادةً يُسرٌ وانفراج، وعلى الإنسان أن يستبشر بهذه القانون الذي يمتلك استثناءات كغيره من القوانين الحياتيّة الأخرى.
إنّ رسالة هذه الآية الكريمة هي رسالة الأمل والاستبشار، وهدفها إعطاء الأمل والهمم للعاملين في سبيل الله تعالى، ليتحمّلوا الصعاب في هذا الطريق الشائك فيصلوا بعد ذلك إلى اليُسر المترقّب، وعلينا التمييز بين لغة القرآن التي ينبغي إعادتها إلى الحضن العربي والعرفي، وبين لغة العلم وتطوّراته ولغة المحدّدات البيانيّة التي ألفها المسلمون بعد ذلك، سواء في الفلسفة أم في الفقه وأصوله أم في غير ذلك من العلوم.
أجل، إنّ قراءة القرآن بهذه النافذة العرفيّة العربيّة سيفتح المجال بشكل واسع لحلحلة عموم هذه الإشكالات التي تُطرح على النصّ القرآني، والتي هي نتاج تلك النافذة اليونانيّة الأرسطيّة في الفهم، وهي نافذة نافعة في وعي النصّ، لكنّها لا تشكّل المفتاح الوحيد لفهمه.
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْوَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
1 ـ دور الفاء في مطلع الآية، وعمليّة الترابط بين أجزاء السورة
وقع الكلام بين المفسّرين في حقيقة «الفاء» التي وقعت في مطلع هذه الآية الكريمة؛ فهل هي «استئنافيّة» أم «عاطفة»، ومن المستبعد ـ من ناحية الذوق اللغوي العربيّ ـ أن تكون استئنافيّةً؛ لأنّ السورة وقعت في سياق ترابطي يحكي أوّلها عن آخرها وآخرها ينبي عن أوّلها، فالأرجح أن تكون عاطفةً بمعنى: حيث إنّ هناك تكراراً توكيديّاً على معاقبة اليسر للعسر، فعليك يا رسول الله|أن لا تتوقّف في المسيرة وتجديد النشاط، والمطلوب منك أن تقوم بتنفيذ مهمّة أخرى عقب المهمّة التي فرغت منها؛ فإنّ الإرهاق والتعب الجديد سيولّد يُسراً وراحة جديدة أيضاً، وفقاً لقانون معيّة اليسر للعسر، وحينها تتلاءم نهاية السورة مع بدايتها، دون حاجة لطرح موضوع الاستئناف الذي لا يمكن لسورة قصيرة أن تتحمّله وفقاً للسياقات العربيّة، بل قد يكون الأنسب والأليق هو ما ذكرناه.
2 ـ حقيقة الفراغ والنصب ومتعلّقهما
ما معنى {فَرَغْتَ} و{فَانصَبْ}في هاتين الآيتين؟
يمكن أن يقال: إنّ هذه الآيات تكاد أن تكون من جوامع الكلم، وهي أشبه بالحكم التي تضرب عند الشعوب والأمم؛ فهي مقطعٌ قصيرٌ للغاية ويحمل معانٍ جمّةٍ وكبيرة،ٍ وهذا هو سرّ الدهشة التي انتابت وتنتاب ـ أيضاً ـ مستمعي القرآن الكريم، وكأنّ الآية تريد أن تتكلّم عن معطى عامٍ.
لكن علينا بدايةً أن نتوقّف قليلاً عند كلمات المفسّرين في معنى هاتين المفردتين، لنرجّح بعد ذلك ما نجده يستحقّ الترجيح من وجهة نظرنا، فقد ذكر المفسّرون ما يقارب من عشر صيغ تفسيرية هنا، وذلك على طريقتهم في تحديد المصداق دون اللجوء إلى تحديد المفهوم وتقعيده، كما ألمحنا سابقاً، وهي كالتالي:
1 ـ 2 ـ التفرّغ من الفروض الإلهيّة والانتصاب للعبادة
ذهب بعض العلماء إلى أنّ متعلّق الفراغ هنا هو الفروض الإلهيّة التي هي مسؤوليات ووظائف كبرى تحمّلها النبي|طيلة الفترة الماضية، وها هو قد أنجزها على خير وجه، فنشر الإسلام وفتح مكّة والبلدان؛ فعليه الانتصاب للعبادة والدعاء والتضرّع والشكر والامتنان.
وهذا الكلام قد يفتح علينا ثغرةًلا يمكن أن تستقيم مع خاتميّة الرسالة وعالميّتها، وهي انتهاء دور النبي|وتضييق دائرة عمله في الجزيرة العربية، وأنّه بمجرّد انتهاء هذه المهام التي أوكلت له كان عليه التفرّغ للعبادة والأوبة إلى الله، وكأنّ هذا الكلام يوحي بأنّ مهماته الرسالية لم تكن قد حدّدت له خارج الجزيرة العربيّة. وهذا الكلام لا يمكن القبول به وفق المعتقدات العامة في الفكر الإسلامي.
2 ـ 2 ـ التفرّغ من الرسالة، والانتصاب لطلب الشفاعة
ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآية تطلب من النبي الأكرمحين الفراغ من أداء الرسالة ومهمّاتها أن يَنْصَب إلى طلب الشفاعة.
ولا ندري ما هي القرينة التي استند إليها هؤلاء المفسّرون في تحديد أنّ الشفاعة هي المطلوبة من النبيّ صلوات الله عليه وعلى آله وسلّم حين التفرّغ من أداء مهامّ رسالته، وما هذا إلا من التباس المفاهيم بالمصاديق على ما يبدو، مضافاً إلى إشكاليّة فراغ النبيّ من الرسالة وفقاً للسائد والمألوف عقديّاً كما قلنا في مناقشة التفسير الأوّل المتقدّم.
3 ـ 2 ـ الفراغ من الفرائض، والانتصاب لأداء النوافل
يميل أنصار هذا الرأي من المفسّرين إلى الدخول أكثر في تحديد المصاديق، وهذه المرّة الفقهية منها، لهذا قالوا بأنّ المقصود من الفراغ في هذه الآية هو الفراغ من أداء الفرائض، أما الانتصاب المطلوب فهو لأداء النوافل عقب الفرائض، فعلى النبيّ أن يجدّ ويجتهد في طلبها.
وقد أكّدنا في مطلع تفسير هذه السورة على أننا سنصرف النظر عن ذكر بعض الملاحظات، حتى نعتاد على نمط معيّن في فهم القرآن، تكون أدواته وآلياته من داخل النصّ القرآني نفسه، وعلى هذا فربما تكون بعض هذه الأوجه المتقدّمة أو اللاحقة مستندةً في تحليلها إلى نصّ روائي مثلاً، لكنّا سنتعامل مع أمثال هذه الروايات على أنّها انسياقٌ لقاعدة الجري والتطبيق، وأنّها ليست بصدد تفسير الآية بقدر ما هي بصدد بيان بعض مصاديق هذا المفهوم العام الذي قدّمته الآية الكريمة، ومناقشاتنا هنا تنصبّ على افتراض أنّ التفرّغ من الفرائض هو معطى تفسيري، وإلا فنحن نقبل أن يكون معطى تطبيقيّاً مصداقيّاً نصّت عليه بعض الروايات المعتبرة، وأمّا كونه معطى تفسيريّاً فهذا ما لا ترجّحه أجزاء السورة وآياتها كما سوف نرى إن شاء الله.
4 ـ 2 ـ الفراغ من الصلاة، والانتصاب للدعاء
اختار أصحاب هذا الاتجاه تفسيراً لهذه الآية يؤدّي إلى تشريع التعقيب الحاصل بعد الصلاة؛ وذلك بأن يكون مفادها أنّه حينما تفرغ من الصلاة فعليك الانتصاب إلى الدعاء بعد ذلك، فتكون شعاراً وعنواناً للتعقيبات التي تُذكر في كتب الفقه عادةً.
وإشكاليّة هذا التفسير أنّه لا يقدّم مبرّراً لترجيحه، وإذا دلّت عليه بعض الروايات فهي من باب المصداق لو ثبتت بصورة معتبرة.
5 ـ 2 ـ الفراغ من الجهاد، والانتصاب بعده للعبادة
يرى هذا التفسير أنّ المراد بالآيتين هو مخاطبة الرسول بأنّك بعد أن فرغت يا رسول الله من الجهاد والقتال مع الكفّار والمشركين، فعليك الانتصاب للعبادة والمجاهدة فيها.
وهذا التفسير يُشبه ما تمّ طرحه في المعنى الأوّل الذي افترض أنّ الحرب والجهاد من مهمات النبي الأكرم|في دائرة وحدود الجزيرة العربيّة ولا مسؤوليّة له فيما زاد على ذلك من بلاد فارس والروم وغيرها من البلدان الأخرى.
لكن لا يوجد مرجّح حاسم لهذا التفسير، وإن كان أفضل من غيره على مستوى الاقتراب من المفهوم العام.
6 ـ 2 ـ الفراغ من الجهاد الأصغر، والتفرّغ للجهاد الأكبر
مال بعض المفسّرين إلى الحديث بنزعة صوفيّة وأخلاقيّة في تفسير هذه الآية، فنصّ على أنّ المراد من الفراغ هو الحرب والغزو، والذي هو الجهاد الأصغر، وأنّ المراد من النَّصب هو جهاد النفس، والذي هو الجهاد الأكبر.
والملاحظة التي نسجّلها على هذا المعنى هي الملاحظة العامّة التي تقدّمت، وهي عدم انبغاء حصر دلالة هذه الآيات بمصاديق معيّنة، ما لم يساعد السياق على ذلك، وسننظر ماذا يعطي هذا السياق الداخلي والخارجي.
7 ـ 2 ـ التفرّغ من الأمور الدنيويّة، والانتصاب للأمور الأخرويّة
حاول بعض المفسّرين أن يقدّم لهذه الآية معنى يختلف عن المعاني السابقة، وذلك بالخروج من طائلة المصاديق التي استغرقت فيها عموم المعاني المتقدّمة؛ فسعى لتقديم قاعدة عامّة يكون مفاد الآية من خلالها هو أنّه إذا فرغت من أمور دنياك، فعليك الاستعداد لأمور آخرتك، دون أن نعرف طريقة ذلك.
ومن البيّن أنّ المنطق القرآني يخالف ظاهر مثل هذا اللون من التفسير، بل هو خلاف ما هو راكز في عرف المتديّنين والمتشّرعة من كون الأمور الأخرويّة مقدّمةً على الأمور الدنيويّة، حتى اشتهر بينهم: «لا تقل للصلاة عندي عمل، بل قل للعمل عندي صلاة»، بينما نجد أنّ هذا التفسير يُعطي للأمور الدنيويّة أولويّةً على الأمور الأخرويّة، ما لم نفترض أنّ لهذا المفسّر مراداً آخر غير الظاهر الأوليّ من كلامه، كأن يريد بعض المعاني المتقدّمة مثل الانتهاء من الجهاد مع الكافرين للتفرّغ لجهاد النفس وغير ذلك.
8 ـ 2 ـ إذا فرغت من مهماتك، فاجهد نفسك لتنصيب عليّ
جاء في بعض التفاسير أنّ معنى الآية هنا هو أنّه إذا فرغت يا رسول الله من مهامك ومسؤولياتك فتفرّغ لتنصيب علي بن أبي طالب للإمامة([19]).
وقد ولّد هذا التفسير مجموعة من الإشكاليّات اللغويّة التي جاءت من سياقات علم الكلام؛ فإذا ذهبنا إلى أن متعلّق (فانصب) هو تنصيب الإمام عليّ×واخترنا عدم الفرق بين «فانصب» بالفتح أو الكسر، فيمكن للناصبيّ ـ كما يقول الزمخشري ـ أن يتأوّل أيضاً ويقول: إذا فرغت من مهمّاتك ومسؤوليّاتك فانصِب العداء لأهل البيت.
وقد ذهب بعض علماء الشيعة إلى أنّ هذه المفردة «فانصب» سواء أكانت بالفتح أم بالكسر واحدة في لغة العرب، لكنّ هذا الرأي لم يرق لأغلب المفسّرين وعلماء اللغة، بل ذهبوا إلى أنّ «فانصَب» بالفتح تختلف عن «فانصِب» بالكسر؛ فالأولى تأتي من النَصَب وهو التعب، فيما ترجع الثانية إلى معنى التثبيت والوضع، ولعلّ الأصل اللغوي للكلمة هو الثاني([20]).
9 ـ 2 ـ الفراغ من التبليغ، يقتضي الانتصاب للعبادة شكراً لله
ذهب بعض العلماء إلى أنّ المقصود من الآية هو أنّ الفراغ من التبليغ يقتضي الانتصاب للعبادة شكراً لله تعالى وحمداً.
ربما تكون المعاني المتقدّمة ـ ومنها الأخير ـ حول مفردات هذه الآية هي أغلب ما تداول طرحه في التراث الإسلاميّ التفسيري مع تنوّع مدارسه ومذاهبه، والملاحظ أنّ عموم هذه المساعي انصبّ على الاكتفاء بوضع مرادف أمام كلمتي: «فَرَغْتَ» و «فَانصَبْ» فقط؛ فأراد المفسّر بذلك إكمال الجملة المختصرة في هذه الآية والتي تتطّلب تقديرات معيّنة، وفي هذا السياق جاءت محاولات المفسّرين لافتراض تقديرات ينشأ عمومها من المرجعيّات والأُطر الفكرية ـ وربما المذهبيّة ـ التي تحكمهم، فكانت المساعي كما رأينا، وهذا يعني أنّ المشكلة ليست في تقديم تفسيرٍ معقول لهاتين المفردتين فقط ـ أعني «فَرَغْتَ» و «فَانصَبْ» ـ وإنّما تتركّز المشكلة وتتعّقد أيضاً في تحديد ماهيّة متعلّقات هاتين المفردتين.
10 ـ 2 ـ الفراغ من المهمّات، والاستعداد لأخرى (الاتجاه المفهومي العام في دلالة الآيتين)
وإذا أردنا أن نقدّم محاولة تفسيريّة في هذا المجال فيمكننا أن نقول: إنّ عدم ذكر المتعلّق في المفردتين كاشفٌ عن عموميّة هذا الكلام، وأنّ أيّ محاولة لتخصيصه لا سبيل لها إلا السياق، فالفراغ خلوّ الشيء أو إخلاؤه وربما يكون أصله من الإناء عندما يقوم الرجل بإخلاء ما فيه، ويقال في اللغة: فرغ الرجل من شيء، فهو كالإناء يفرّغ ممّا فيه، فكأنّ الرسول كان عنده شيء ما قد فرغ منه، أي صار عنده فسحة من أمره، وحينما نضع هذه المفردة بهذا الفهم في سياقها الذي جاءت فيه يتجلّى لنا ما تريد تقريره؛ فكأنّ الرسول الأكرم|كانت لديه مسؤوليّات كبيرة وعظيمة ألقيت على عاتقه وشغلت باله، وقد حان الوقت لإسقاطها عنه، وهي مسؤوليّات مختلفة ومتنوّعة، وقد رهن بكمالها وتمامها كشف الصدر ورفع الذكر ووضع الوزر، ولا حاجة للمفسّر أن يُقحم نفسه في تحديد مصداق هذه المسؤوليات طالما لم تحمل الآية مشيراً إليه.
نعم، إذا فرغت يا محمد من مسؤولياتك العامّة ووظائفك التي أنيط إنجازها بك، والتي كانت تثقل كاهلك، ومننّا عليك بإنهائها لك، وتحقّقت لك غاياتك من ورائها، فعليك أن تنصب، بمعنى تضع نفسك في سياق مهمّات جديدة يلحقك منها النصب والتعب، لتكتمل مسيرة الحياة، بعُسر بعد يُسر، ثم بتحمّل مسؤولية تأتيك بعسر يعقبه يُسر آخر وهكذا، فلا بطالة في العمل الإسلامي بكلّ أبعاده ذات الطابع العام، وهكذا نجد أنّ حذف المتعلّق من مفردة «انصب» يعطي للآية عموميّتها، وربما تصدق على أكثر المعاني المتقدّمة، لاسيما منها: الأول والثاني والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع، بعد تجاوز الإشكاليات الخاصّة الموجودة فيها أحياناً.
3 ـ النصب بين معنيي التثبيت والتعب
يمكن أن نذكر احتمالين في تفسير مفردة «النَصب» هما:
الاحتمال الأوّل:أن يكون المراد من «فَانصَبْ» التعب، كما هو الوضع الطبيعي لتركيبة المفردة؛ فيكون معناها على هذا: إذا فرغت من مسؤوليّاتك فأتعب نفسك وأجهدها.
وعدم الإفصاح عن متعلّق هذه الكلمة يشير بوضوح إلى عموميّة هذا المتعلّق، ومن ثمّ يكون مقصودها بطلان مبدأ البطالة والسكون في العمل الديني والرسالي؛ فلا يوجد سنّ تقاعديّ للعامل في سبيل الله ومبلّغ رسالاته، وإذا فرغ الرساليّون من مهماتهم التي في أيديهم، فعليهم الانشغال بمهمّات أخر في سياق عملهم؛ وإذا ما برزت لهم مشاقّ وصعوبات وعُسر في هذا الطريق الشائك والوعر فعليهم أن يعلموا أنّ القانون الحياتي العام وهو اليسر بعد العسر سيكون حليفاً لهم ومرافقاً يمنحهم الأمل بمستقبل أكثر إشراقاً كما أعطاهم ما وعدهم به من قبل.
إذن، فالآية مندمجة مع بعضها بعضاً، وتعطي معنى متلاصقاً متجانساً، خصوصاً إذا لحظنا أداة «فإِذَا» التي سبقت «فَرَغْتَ»، وحرفَ «الفاء» الذي سبق «فانصَبْ»، فإنّ تعليق النصب على الفراغ يشير إلى تعاقبهما، فكلّما فرغت فهناك عمل دون انقطاع، وهذه هي طبيعة العمل الرسالي.
وهذا الاحتمال متناسقٌ، يعطي معنى حسناً، ويؤسّس لقاعدة عامّة لا نحتاج فيها إلى الخوض في متعلّق الفراغ والنصب اللذين نصّت عليهما الآية؛ ومن الممكن أن يكون هذا الفراغ والنَصب من الحرب إلى العبادة أو من الجهاد الأصغر إلى الأكبر أو من الفرائض إلى النوافل.. إلى غير ذلك من الاحتمالات التي تقدّمت، فكلّ هذه المعاني تأتي في سياق هذا الاحتمال الذي طُرح دون أن ينحصر في واحدة منها تحديداً.
الاحتمال الثاني:أن يكون المقصود من مفردة «فانصب» هو النَصْب، بمعنى تثبيت الشيء ورفعه، كما في نصب الحجارة أو العَلَم مثلاً، وفي بعض كلمات اللغويين ما يشير إلى كون هذا المعنى هو الجذر الرئيس لهذه المفردةن كما تقدّم.
وبناءً على هذا الاحتمال يمكن تصوير المعنى ضمن صياغتين:
1ـ ما يكون متّحد المعنى مع الاحتمال الأوّل تقريباً، كأن يكون المراد: إذا فرغت مما أنت فيه، فانصب نفسك لمسؤوليّات جديدة، فضعها لها وثبّتها لتقوم بها.
2ـ ما يكون قريباً من المعنى التاسع المتقدّم الذي ذكرنا تعريض صاحب تفسير الكشّاف به، كأن يكون معناه: إذا فرغت من مسؤوليّاتك فثبّت غيرك لإكمال المسيرة.
والخلاصة:نحن أمام افتراضين في أصل هذه المفردة، ولا شكّ أن الافتراض الثاني يحتاج إلى مجموعة من العنايات اللغويّة التي لا يسع المجال لذكرها؛ فيبقى الافتراض الأوّل هو الأرجح في تفسيرها، فكأنّ الآية الكريمة تريد التركيز على مبدأ عامٍ رائعٍ وجميلٍ في العمل الإسلامي يشير إلى بطلان البطالة ولا نهائيّة الجهود الرساليّة، وعلى المجاهدين في سبيل الله أن لا يضعوا نقطة نهايةٍ لجهودهم مهما اختلفت طبيعة هذه الجهود وآلياتها ما دامت تخيّم عليها مظلّة المبادئ الرساليّة السامية، وعلى الدعاة إلى نهج الله وسبيله أن لا يعتاشوا في مرحلة الشيخوخة على منجزات مرحلة الشباب، والتمشدق بها مع إغماض النظرعن كونهم أفراداً أو أحزاباً أو دولاً أو مجتمعات؛ فهذه الآية الكريمة تقدّم صورةً عامة للمبدأ الإسلامي الذي ينبغي العمل عليه.
وربما احتمل بعض المفسّرين أن تكون الآية اللاحقة لمفردة {فَانصَبْ}هي المفسّرة؛ إذ قالت هذه الآية: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}،أي عليك الجدّ والاجتهاد في مرضاة الله والرغبة إليه بالشكر والدعاء والتوجّه، وهو معنى محتمل غير بعيد من الآية، لكن لا يوجد ما يشير إليه بشكل واضح وجليّ من نفس الآية الكريمة.
4 ـ القرآن وحصر الرغبة بالله تعالى والالتجاء إليه (التوحيد في مرحلة العمل والسلوك والممارسة)
عندما نلاحظ تركيب الآية القرآنية الأخيرة من هذه السورة، فسوف نجد تقديم الجار والمجرور على فعل الأمر بالرغبة، ومن المحتمل جدّاً أن يراد بذلك ـ أي بتأخير {فَارْغَبْ}على {وإِلَى رَبِّكَ}ـ أنّ الرغبة يجب أن تكون لله فقط، وعلى الإنسان أن يحصر توجّهه وأمله وإقباله به تعالى دون غيره، فعليك الرغبة عن ما سواه والابتعاد عنه، والرغبة إليه جلّ اسمه وتعالى ربّ العباد والبلاد، فليس من يتوجّه إليه ويرغب بما عنده إلا هو، وسائر ما عند غيره ليس سوى منه، فمن غير المناسب الرجوع إلى غيره دونه.
وما أجمل التعبير بالربّ في هذه الآية الكريمة، حيث الإشارة إلى ربوبيّة التدبير والرعاية التي يقدّمها جلّت قدرته؛ فسيرك في رغبة الله يعني اتجاهك في صراط مدبّر الأمور دون عبثيّة وفوضويّة وعدم اتزان، فوجهتك و (البوصلة) التي تحرّكك يجب أن تكون نحو الله سبحانه، وإذا كانت هناك فهي في الاتجاه الصحيح والمنطقي.
5 ـ الرغبة إلى الله بعد كل نصرٍ ونجاح، بين مفهومي: الشكر واللجوء
لكن ما هو وجه الربط الذي يمكن طرحه بين هذه الآية وبين مجموعة الآيات السابقة؟
والجواب:إنّه يمكن أن نطرح احتمالين هنا، هما:
1ـإذا فرغت يا رسول الله من مهمّاتك العظيمة التي أثقلت ظهرك ويسّر الله أمرها لك، فعليك أن تجهد نفسك وتتعبها بالجدّ والاجتهاد في مهمّات أخرى صعبة وعسيرة، وفي هذا الطريق لابد أن تجعل الله قبلتك التي تولّي وجهك إليها لرفع العسر في مهمّاتك الجديدة كما كان قبلتك في المهمّات السابقة التي زال العسر الذي كان فيها. وعليك أيضاً أن تجعله رغبةً عندك لرفع المشاكل التي تواجهها كما رفعها عنك سابقاً.
وهذا هو مفهوم الرجوع واللجوء الدائم إلى الله، حيث هو الأهل الحقيقي لذلك، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ..} (الزمر: 36)، فهو سبحانه وتعالى الذي يكفي رسوله وعباده وكلّ من حمل همّ الرسالة وجاهد في طريقه، نعم سيشرح له صدره ويرفع له ذكره ويضع عنه وزره وييسّر عسره، لكن عليه الجدّ والاجتهاد مرّة بعد مرّة، وجولة بعد جولة، والله المستعان والموفّق.
2ـربما يمكن أن يُطرح «الشكر» بوصفه وظيفةً تُطلب من الإنسان بعد المهمّات والانجازات والمسؤوليات التي قدّمها؛ إذ المؤسف أنّ السائد بين الطبيعة البشريّة هي نسيان هذا المفهوم وإهماله في لحظة تحقّق النجاحات والانتصارات؛ فكلّما زاد شعور الإنسان بالعظمة وانتفخت أوداجه نسى الله سبحانه وتعالى، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {إنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6 ـ 7)، وتحدّثت عنه الآيات النازلة في خصوص معركة حنين.
من هنا، دعت هذه الآية الكريمة في ختام هذه السورة إلى شكر الله سبحانه وتعالى بعد كلّ إنجاز جهادي أو عسكريّ أو سياسيّ أو فرديّ أو اجتماعيّ، وهذا معنى قوله: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، بعد الآيات التي بيّنت تحقّق المنجزات وحصول الراحة بعد الشدّة، فيصبح هذا المعنى الذي أفادته الآية هنا نظير ما أفادته سورة النصر بقولها: {إذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، فعلى الإنسان أن يتحلّى بالتواضع والأوبة إلى خالقه بعد الانتصارات والانجازات، شكرا وحمداً، فكلّ هذه الأشياء من نعمه تعالى وعطاياه.
فالآية الكريمة تريد من الإنسان التوجّه إلى الله تعالى في جميع لحظاته، من دون فرقٍ بين ساعة القوّة ولحظة الضعف، وعليه أن يتذكّر الباري سبحانه حينما يكون قويّاً كما يتذكّره حين الضعف والفقر والانهيار، وعلينا أن نتداعى إلى المساجد لشكر الله بعد كلّ نصر وغلبة وإنجاز، كما نتداعى له قبل ذلك، فإنّ هذا هو ما يشكّل مصداقاً لقوله تعالى: {ولَئن شَكَرتُم لأزِيدَنّكم}(إبراهيم: 7)، كي لا نقع في ما وقع فيه بعض المسلمين يوم حنين.
سورة الانشراح
مقاصد النصّ ونتائج البحث
بعد أن عرضنا صورةً إجماليّة مختصرة لمضامين هذه السورة، لا بأس أن نختم الحديث بنقطتين مهمّتين، تتعلّق الأولى بالرسائل الأساسيّة التي حملتها هذه السورة الكريمة للإنسان الرسالي والعامل في سبيل الله، وترتبط الثانية بأهمّ الإشارات والأصول التفسيرية التي حملها هذا البحث.
1 ـ سورة الانشراح، الرسائل والمقاصد والأغراض
استخلصنا ممّا تقدّم مجموعة من الرسائل والمقاصد التي تروم هذه السورة الكريمة أن تقدّمها لنا، وهي تشكّل عنواناً لها وشعاراً، وأبرزها ما يلي:
1 ـ 1 ـ مبدأ الأمل في الحياة، وحسن الظنّ بالله تعالى
إنّ أوّل مبدأ ينبغي على الإنسان العامل في سبيل الله تعالى أن يجعله نصب عينيه في كلّ حركاته وسكناته هو الأمل بالله وحسن الظنّ به سبحانه، والمؤسف أنّ الكثير من دعاة العقيدة والجهاد يفقدون الأمل حينما تشتدّ المصاعب وتنغلق النوافذ والأبواب، فترى الإحباط يقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يحرّكوا ساكناً بغية علاج الوضع السيء الذي تمرّ به الأمّة.
وهنا علينا التمييز جيداً بين نوعين من الإحباط الذي يمرّ به الإنسان:
النوع الأوّل: الإحباط العقلي،ويعني مشاهدة الثغرات في الواقع الخارجي ووعيها بحجمها الصحيح دون مواربة أو تعمية، فالوعي الموضوعيّ العقلي يرى صعوبة الظروف التي يمرّ بها، ولا يسفّه أو يستخفّ أو يقلّل من حجم الأخطاء أو المشكلات أو المصاعب.
النوع الثاني: الإحباط النفسي،وهو انهيار داخليّ يشلّ كلّ طاقات الإنسان عن العمل، بحيث يصبح الإنسان عاجزاً عن تغيير وإصلاح الثغرات والمشاكل التي يلاحظها الوعي العقلي، فالإحباط العقلي هو وعيٌ بالمشكلة، فيما الإحباط النفسي هو الاستسلام لها.
وفي محيط هذه الظروف والعوائق جاءت هذه السورة لتذكّرنا بالتجربة النبويّة وقساوتها، وكيف كان صاحب الرسالة المحمديّة يعاني الأمرّين من عموم الظروف المحيطة به، بحيث إنّ أيّ إنسان يحلّ مكانه سوف يصاب بالإحباط النفسي، لكنّه تجرأ على المستحيل وكافح ونافح من أجل تجسيد مبادئ رسالته في كل المحطّات التي مرّت به، من التجربة المكيّة وحتى التجربة المدنيّة، ومن الخيانات والهزائم إلى الصعوبات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعية، وما ولّده الضغط الاقليمي وحتى الدولي في تلك الفترة، ومع كلّ هذا نجد أنّ التربية الإلهية القرآنية له سعت كي لا يجد اليأس منفذاً ليلج إلى نفسه الكريمة، وبقي الأمل يزرع نفسه في وجدانه ويمتدّ إلى أعماق قلبه يوماً بعد يوم.
أجل، هذا هو مبدأ اليسر بعد العسر، والذي قرّرته السورة مبدأ إنسانيّاً عامّاً، يتصل بوعي سنن الحياة، كما يرتبط بإعادة صياغة جهازنا النفسي والسيكولوجي بطريقة تنفتح على الأمل ولا تنغلق على الإحباط والاستسلام.
2 ـ 1 ـ مبدأ العودة إلى الله في لحظات القوّة قبل لحظات الضعف
لقد قرّرت هذه السورة المباركة أنّ العودة إلى الله سبحانه وتعالى مبدأ لابد أن يتحلّى به الإنسان، سواء في حالات العسر أم في حالات اليسر، فالخالق جلّت أسماؤه هو المرجعيّة الروحيّة الحصريّة للإنسان، ولا ينبغي له أن يجعل من المادّة مرجعيّةً روحيّة في كلّ الأحوال والأزمان.
نعم، للأسباب الماديّة دور، لكنّ هذا لا يلغي دور القضايا الروحيّة ومبدأ العودة إلى الله فيه، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم عندما أراد إجراء موازنة بين جيش الكافرين وجيش المسلمين لم يجعل المادة وحساباتها العدديّة ميزاناً حصريّاً في هذه المعادلة، بل ذهب صوب جوهر النفوس الإيمانيّة ليقارن بينها؛ فكلّما ضعفت قوّة الإيمان ومرجعيّة الله في أرواحنا ونفوسنا كلّما تراجع الانفراج أمامنا بوصفنا حركةً إيمانيّة.
3 ـ 1 ـ مبدأ المعاناة في طريق الأهداف السامية، ووهم التغييرات المخمليّة
ربما يحسب بعضنا؛ لقلّة تجربته، أنّ التغيير في المشاريع الرساليّة والاجتماعية سهل المنال بأصابع سحريّة، فما إن تواجهه المشاكل والصعوبات حتى يرجع القهقرى وينكفأ على نفسه محْبَطَاً.
من هنا تأتي هذه السورة وسياقاتها الخارجية لتُعلِم العامل في الحياة وأصحاب المشاريع الإصلاحيّة في الأمم والشعوب أنّ هذا الطريق مملوء بالمصاعب والوهدات والربوات في جميع المستويات، وأنّ عليهم أخذ الحيطة والحذر وترقّب هذه الأمور، وترتيب برنامج لمعالجتها، وهم في أوّل خطوات هذا الطريق، وما التجارب النبويّة التي نقلها القرآن الكريم لنا إلا شاهداً على هذه الحقيقة؛ فالتغيير ـ مهما قلّ حجمه أو كَبُر ـ لا يمكن له أن يستوي على سوقه دون تضحيةٍ وفداءٍ وتحمّلٍ وعناءٍ.
4 ـ 1 ـ مبدأ نفي البطالة في العمل الإسلامي (إلغاء سنّ التقاعد في الفرائض المجتمعيّة والرساليّة)
تقرّر هذه السورة ـ كما شرحنا من قبل ـ أنّ المشاريع الرساليّة لا تعرف نقطة نهايةٍ، يمكن أن نصفها بسنّ البطالة والتقاعد، فأصحاب المشاريع الرساليّة والتغيير المجتمعي يعون هذه الحقيقة جيداً، لهذا فهم يجدّون الجدّ بعد إتمام كلّ مرحلة من العمل في الشروع بمرحلة جديدة ومشروع جديد، يتناسب شخصيّاً مع إمكاناتهم وظروفهم وطاقاتهم، بما يسمح للمشروع أن يستمرّ ولا يتعطّل، فلا نهاية في الطموحات التغييريّة الدائمة نحو الأفضل.
هذا، إضافة إلى نقاط أخرى ورسائل عارضة متفرّقة أشرنا إليها فيما مضى مثل: مبدأ حيادية الشهرة والجاه، وإنّما الاعتبار بالغايات والممارسات فيهما.
2 ـ إشارات وأصول وقواعد تفسيريّة تدبّرية في كتاب الله
تعرّضنا باختصار شديد أثناء محاولة فهم هذه السورة القرآنية الكريمة لمجموعة من الأصول والإشارات والقواعد التفسيريّة التي تصلح أن تكون عناصر سيّالة في عموم البحث التفسيري، ولا بأس بعنونتها هنا في ختام هذا الكلام:
الأصل الأوّل: مبدأ الاجتهاد المضموني التحليلي المتني في تمييز المكّي من المدني، إلى جانب مبدأ الاجتهاد التوثيقي التاريخي.
الأصل الثاني: مبدأ بيانيّة القرآن الكريم، وتأثيرها على علاقته بالعلوم الخارج ـ نصيّة.
الأصل الثالث: مبدأ التفسير المفهومي العام، مقابل التفسير المصداقي الحصري الخاصّ.
الأصل الرابع: ثنائيّة التربية والتعليم في بُنية الخطاب القرآني.
الاصل الخامس: ضرورة فهم اللغة العربيّة بعيداً عن النوافذ اليونانيّة والمحدّدات المنطقيّة، لكن دون معاداة لها.
الأصل السادس:مرجعيّة اللغة والمصادر القديمة وعدم الاغترار بالأنس الذهني باللغة.
الأصل السابع: مبدأ التمييز في تحليل معاني المفردات بين مفهومها ومصداقها وموردها.
والحمد لله رب العالمين
المحتويات
1 ـ لماذ ا تفسير القرآن الكريم؟. 5
2 ـ منهجنا في هذه الدروس التفسيرية7
سورة الانشراح بين المكيّة والمدنية (معايير التمييز بين المكّي والمدني)11
معايير المكيّة والمدنيّة، وقفات تأمّل وتحليل. 12
لماذا البحث عن المكّي والمدني من سور القرآن وآياته؟ (الضرورة المعرفية والتفسيرية)18
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}
1 ـ الآية الكريمة ونوعية الاستفهام23
2 ـ شرح الصدر بين البعد المعرفي العلمي والبعد السلوكي الروحي. 24
3ـوقفات وتأملات في التجربةالنبوية مع ثنائي شرح الصدر وضيقه26
4 ـ الصدر بين ثنائية المادّة والروح، كيف يُشرح الصدر الجسماني؟!32
5 ـ شرح الصدر بين المفهوم المستقل وغير المستقلّ. 35
6 ـ ما هو السبب وراء إضافة كلمات (لك، عنك) في الآيات؟. 36
7ـالشرح بين الفاعل المفرد والفاعل الجمع (نشرح)، الدلالة والغاية38
{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك}
1 ـ المعطيات الأوليّة في دلالات الآية الكريمة41
2 ـ حقيقة الوزر، ومعركة الرأي والتأويل في قضيّة العصمةالنبويّة!41
1 ـ 2 ـ الوزر والعبادات الثقيلة42
2 ـ 2 ـ الوزر بمعنى الذنب.. 43
3 ـ 2 ـ الوزر بمعنى الذنوب الصغيرة غير المنافية للعصمة44
4 ـ 2 ـ الوزر بين الذنب الكبير وإقحام نظام المجاز اللغوي. 46
5 ـ 2 ـ رفع الوزر بمعنى إثبات العصمة47
6 ـ2ـ الوزر بمعنى مطلق الحمل(حيادية الآية مع موضوع العصمة)48
أصلان تفسيريّان: قاعدة مرجعيّة اللغة القديمة، وقاعدة التمييز بين المفهوم اللغوي والمصداق 48
أصل تفسيري: قاعدة بيانية القرآن وتأثيرها على علاقته بالعلوم العقليّة وغيرها52
3 ـ إنقاض الظهر وعظيم المسؤوليّات الدعوية والتبليغيّة54
1 ـ رفع الذكر بين المنهج التفسيري المصداقي الخاصّ والمنهج المفهومي. 57
أصل تفسيري: أصالة المفهوم في التفسير واستثنائية المصداق. 59
2 ـ آية رفع الذكر، والموقف من مسألة الشهرة والجاه59
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
1 ـ ماذا تعني المعيّة في الآيات؟ وما معنى: إنّ (مع) العسر يسراً؟. 63
2 ـ هل اليُسر بعد العُسر قانونٌ خاصّ أم قانونٌ عام؟. 66
3ـ ما هو سرّ التكرار الشديد الموجود في هاتين الآيتين؟ وما هو مبرّره؟!68
4 ـ قانون اليُسر بعد العسر واستثناءاته التطبيقيّة77
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
1 ـ دور الفاء في مطلع الآية، وعمليّة الترابط بين أجزاء السورة83
2 ـ حقيقة الفراغ والنصب ومتعلّقهما83
1 ـ 2 ـ التفرّغ من الفروض الإلهيّة والانتصاب للعبادة84
2 ـ 2 ـ التفرّغ من الرسالة، والانتصاب لطلب الشفاعة85
3 ـ 2 ـ الفراغ من الفرائض، والانتصاب لأداء النوافل. 85
4 ـ 2 ـ الفراغ من الصلاة، والانتصاب للدعاء86
5 ـ 2 ـ الفراغ من الجهاد، والانتصاب بعده للعبادة87
6 ـ 2 ـ الفراغ من الجهاد الأصغر، والتفرّغ للجهاد الأكبر. 87
7 ـ 2 ـ التفرّغ من الأمور الدنيويّة، والانتصاب للأمورالأخرويّة88
8 ـ 2 ـ إذا فرغت من مهماتك، فاجهد نفسك لتنصيب عليّ. 88
9 ـ 2 ـ الفراغ من التبليغ، يقتضي الانتصاب للعبادة شكراً لله. 89
10 ـ 2 ـ الفراغ من المهمّات، والاستعداد لأخرى (الاتجاه المفهومي العام في دلالة الآيتين)90
3 ـ النصب بين معنيي التثبيت والتعب.. 91
4 ـ القرآن وحصر الرغبة بالله تعالى والالتجاء إليه (التوحيد في مرحلة العمل والسلوك والممارسة)94
5 ـ الرغبة إلى الله بعد كل نصرٍونجاح، بين مفهومي:الشكر واللجوء95
1 ـ سورة الانشراح، الرسائل والمقاصد والأغراض… 99
1 ـ 1 ـ مبدأ الأمل في الحياة، وحسن الظنّ بالله تعالى. 99
2ـ1ـ مبدأ العودة إلى الله في لحظات القوّة قبل لحظات الضعف.. 101
3ـ1ـمبدأ المعاناة في طريق الأهداف السامية، ووهم التغييرات المخمليّة102
4 ـ 1 ـ مبدأ نفي البطالة في العمل الإسلامي (إلغاء سنّ التقاعد في الفرائض المجتمعيّة والرساليّة)102
2 ـ إشارات وأصول وقواعد تفسيريّة تدبّرية في كتاب الله. 103
([1])هذه البحوث عبارة عن دروس أسبوعيّة تمّ إلقاؤها على ثلّة من طلاب العلوم الدينيّة في حوزة الثقلين، في مدينة قم، في العام الدراسي 2013 ـ 2014م.
([7])انظر ـ على سبيل المثال ـ: الرازي، زين الدين محمد بن أبي بكر، غرائب آي التنزيل: 578، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، ط1، 1991م، دار عالم الكتب، المملكة العربيّة السعوديّة.
([12])الأندلسي، أبو حيان، البحر المحيط في التفسير 10: 500، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، لم تذكر الطبعة، 1420هـ ق، بيروت.
([15])كتاب العين5: 50؛ والأزهري، أبو منصور أحمد بن محمد، تهذيب اللغة 8: 344 ـ 345، تحقيق: الأستاذ عبد العظيم محمود ومراجعة: الأستاذ محمد علي النجّار، الدار المصريّة للتأليف والترجمة، مطابع سجل العرب، لم تذكر الطبعة ولا سنة الطبع.
([17])والمنهج المذكور في وصف القرآن بكونه كتاب معلومات أدّى ببعض الباحثين المعاصرين ـ بعدما لاحظ تكرار قصّة موسى× مرّات عديدة ـ إلى القول: إنّ موسى القرآني ليس واحداً!