حيدر حبّ الله([1])
يبدو لنا أنّ العلامة محمد حسين الطباطبائي من أكثر الشخصيّات المتأخّرة تشدّداً في أمر الآحاد والظنون في المجال التفسيري والعقدي معاً، وثمّة نصوص بالغة الأهمية له تكشف عن تحفّظه الشديد هذا.
يرفض الطباطبائي أيّ شيء اسمه خبر الواحد الظنّي في العقائد والتفسير، وفي كلّ ما كان من غير الفقه وما يتصل به، سواء كان تامّ السند أم ضعيفه، ولهذا وجدناه في تفسير الميزان، يؤخّر البحث الروائي عن البحث التفسيري، لا أقلّ من ناحية العرض والإثبات والبيان، على خلاف نسق كبير متعارف في التفسير الشيعي، وهو نسق يستحضر على الدوام النصّ الروائي في عمليّة التفسير.
ولكي نفهم نظريّة الطباطبائي نستعرض مواقفه في كتبه، فهو يقول: mلا نعوّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعيّة على طبق الميزان العام العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياتهn([2]). ويرفض التعويل على الآحاد في فهم حقيقة إبليس والجنّ وتناسلهم، بل لا بد ـ عنده ـ في هذه الموضوعات من آية محكمة أو حديث متواتر أو محفوف بالقطع([3])، ومعنى كون الآحاد محفوفة بما يفيد العلم والقطع هو: الوثوق التام الشخصي، سواء في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها، إلا في الفقه، فإنّ الوثوقَ النوعي كافٍ([4]).
ويؤكّد الطباطبائي في حاشيته على بحار الأنوار أن لا حجيّة للآحاد أبداً ـ لا من طريق الشرع ولا من طريق العقلاء ـ في غير الفقه([5]).
وفي نصّ حاسمٍ بالغ الأهمية يقول الطباطبائي: mإنّ روايات التفسير إذا كانت آحاداً فلا حجيّة لها، إلا ما وافق مضامين الآيات، والحجيّة محصورة في الشرعيّات، فروايات القصص والتفسير الآحاديّة غير حجّة شرعاً، أما الحجيّة العقلائيّة فلا مسرح لها بعد توافر الدسّ والجعل في أخبار التفسير والقصص، إلا ما تقوم القرائن القطعية.. على صحّة متنهn([6]).
ويمنح الطباطبائي الموقف وضوحاً وقاطعيةً عندما يقول: mاتضح في علم الأصول اتضاحاً يتلو البداهة أن لا معنى لحجيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقاديّة والموضوعات الخارجيّةn([7]).
وفي سياق حديثه عن الآية الرابعة والأربعين من سورة النحل، والتي تدلّ على أنّ النبي يبيّن للناس ما نزّل إليهم، قال الطباطبائي ـ بعد إقراره بدلالتها على حجيّة واقع سنّة النبي وأهل البيت ـ: mهذا كلّه في نفس بيانهم المتلقّى بالمشافهة، وأمّا الخبر الحاكي له، فما كان منه بياناً متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعيّة وما يلحق به فهو حجّة؛ لكونه بيانهم، وأمّا ما كان مخالفاً للكتاب أو غير مخالفٍ لكنّه ليس بمتواترٍ ولا محفوفاً بالقرينة، فلا حجيّة فيه؛ لعدم كونه بياناً في الأوّل، وعدم إحراز البيانيّة في الثاني، وللتفصيل محلٌّ آخرn([8]).
ويختلف الطباطبائي مع الخوئي، فإذا ذهب الأخير إلى وجود معنى للحجيّة في الأخبار الآحادية العقائديّة بلحاظ بعض الآثار على مسلك العلميّة والطريقية كما أسلفنا، فإنّ الطباطبائي لا يرى أيّ معنى لجعل غير العلم علماً في غير الفروع العمليّة، ولا أثر كذلك لهذه المقولة، وإذا كان هذا الأثر موجوداً في الموضوعات الخارجيّة فهو جزئيٌّ ومحدود، والحال أنّ الشارع سبحانه يقوم بناؤه على الكلّيات([9]).
لكن كيف هو المنهج للتعامل مع أخبار الآحاد غير الشرعيّة، وهي كثيرة جداً في التفسير وغيره؟!
الجواب عند الطباطبائي جاهزٌ كذلك، فالقاعدة عنده على الشكل الآتي: أما الكتاب والسنّة القطعية فنأخذ بهما لزاماً، وأما الخبر المخالف لهما فنطرحه لزوماً، أما غير ذلك فلا دليل على قبوله أو ردّه، لكن ذلك لا يوجب طرحه حتى لو كان فاسد السند، ما لم يخالف العقل أو النقل الصريح([10]). ومن هنا، تظهر مسألة معيار حجيّة الحديث التفسيري عنده أو فقل: غير الفقهي، فالمهم في غير الفقه موافقة الكتاب لا صحّة السند([11])، فلا حجية للخبر التفسيري بل مطلق الخبر غير الأحكامي إلا مع هذه الموافقة([12]).
ويذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أنّ نظريّة تفسير القرآن بالقرآن ونظريّة استقلال القرآن بالتفسير نفسه، تمثل الأساس الذي ينبني عليه موقف العلامة الطباطبائي من الرواية التفسيريّة الآحاديّة؛ فالطباطبائي بذهابه إلى أنّ القرآن نورٌ وبيان ومبين وتبيان، يدلّ على أنّ فهمه يكون من داخله لا من خارجه، ومن ثمّ فلا موجب للذهاب خلف مرجعيّة خارجيّة لفهم الكتاب الكريم، ومن هذا النوع من المرجعيّات السنّةُ الظنيّة (الرواية الآحادية التفسيريّة)([13]).
حتى أنّ العلامة الطباطبائي يرفض تخصيص القرآن بمعنى معيّن، ففي نصّ شديد الخطورة يقول الطباطبائي في حاشيته على الكفاية: mالحقّ أنّ في المقام تفصيلاً، وبين الكتاب والسنّة فرقاً. توضيح ذلك أنّ قوله تعالى: أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً (الآية)، كما يدلّ على حجيّة ظهور الكتاب، كما سيجيء، كذلك يدلّ على عدم حاجة الكتاب في انكشاف مراداته إلى الخارج عنه، ولازمه إيجاب الفحص عن المخصّص في عمومات الكتاب، لكن لا كلّ مخصّص، بل المخصّص الواقع في نفس الكتاب. وأمّا نحو قوله تعالى: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه.. الآية، مما يجعل بيان الرسول ـ وهو السنّة ـ حجّة، فهو وإن كان مقتضاه حجيّة المخصّص الواقع في السنّة، ولزوم التخصيص به، لكنّ الآيات النازلة في غير الأحكام الفرعيّة كما أحيلت إلى البيان النبوي فيها، كذلك أحيلت إلى العقول، ولازم ذلك كفاية البيان الكتابي في كشف المراد عنها، على أنّ سياق الآية السابقة ـ أعني قوله تعالى: أفلا يتدبّرون إلخ ـ كافٍ في ذلك؛ حيث إنّ لازمها أنّ الكتاب نفسه رافعٌ للاختلاف، حتى عند من لا يصغى إلى قول الرسول صلى الله عليه وآله، كما أنّ لازم سياقه عدم كفاية البيان العقلي في كشف المراد ورفع الاختلاف؛ لإثباته الاختلاف في إدراكات العقول ونفيه الاختلاف في القرآن، ومعناه نفي اعتبار البيان العقلي في كشف مراداته ـ أعني التفسير بالرأي ـ فافهم ذلك، فظهر بما ذكرنا: أوّلاً: إنّ عمومات الكتاب في غير الأحكام الفرعيّة يقتصر في الفحص عن مخصّصها بما في الكتاب، من غير لزوم التعدّي إلى السنّة، ومن غير جواز التعدّي إلى العقل والرّأي في التفسير. وثانياً: إنّ عموماته في الأحكام الفرعيّة وعمومات السنّة يجب الفحص فيها مطلقاً. وثالثاً: أيضاً تبيّن أنّ التفسير بالبيان العقلي غير جائزn([14]).
معنى هذا الكلام أنّ الطباطبائي يحصر العمليّة التفسيرية بإطار داخل ـ قرآني، حتى أنّه لا يقبل التخصيص من الخارج في غير الأحكام الفرعيّة.
ويتكرّس توطيد هذه العلاقة بين تفسير القرآن بالقرآن وموقف الطباطبائي من الرواية التفسيريّة، عندما ننظر في نصّه الآتي حيث يقول: mوالمحصّل أنّ المنهيّ عنه (يقصد التفسير بالرأي) إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسّر على نفسه من غير رجوعٍ إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنّة، وكونه هي السنّة ينافي القرآن ونفس السنّة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآنn([15]).
كانت هذه عصارة النظريّة والمنهج اللذين يختارهما الطباطبائي في موضوع بحثنا، وبهذا يبدو على النقيض من المسلك القائل بحجيّة الحديث الآحادي في التفسير القرآني.
وخلاصة أفكاره:
1 ـ لا معنى لحجيّة الحديث الظنّي في التفسير؛ ولا وجود لأثر عمليّ لها، ولو كان فهو جزئي محدود لا اعتبار به.
2 ـ إنّ فهم القرآن لابدّ أن يكون من داخله، بل حتى تخصيصه في غير الفرعيّات غير ممكن من غير داخله.
3 ـ إنّ معيار اعتبار أيّ حديث ـ غير الفقه ـ إنّما تكون بموافقة الكتاب لا بالصحّة السنديّة.
4 ـ إنّ حجيّة السنّة ـ في غير الفقه ـ منحصرة بما يُحرز أنّه بيانٌ نبويّ، وهو غير متحقّق في السنّة المحكيّة غير اليقينيّة.
5 ـ إنّ الميزان العقلائي العام لا يعوّل على الآحاد في غير الفروع الأحكاميّة، بل العبرة بالوثوق الشخصي التامّ، أمّا في الأحكام فيكفي الوثوق النوعي الذي يقبل مجامعة الظنّ. وهذا الميزان العقلائي هو المستفاد شرعاً من النصوص أيضاً.
وقفات تحليليّة ونقديّة ودفاعيّة مع اُطروحة الطباطبائي
إلا أنّه لابدّ هنا من بعض الوقفات التحليليّة والتفكيكيّة والنقديّة مع العلامة الطباطبائي، وذلك على الشكل الآتي:
3 ـ 1 ـ بطلان نظريّة بيانيّة القرآن في نفسها، تعليق نقدي
الوقفة الأولى: إنّ نقطة الارتكاز عند الطباطبائي أنّ القرآن بيان ونور، وقد وجدناه يكرّس ذلك لتحييد أيّ مرجعيّة تفسيريّة خارج النصّ القرآني، والسؤال الذي يُطرح هنا هو: إذا كان القرآن بياناً ونوراً وهدى ومبيناً، فلماذا حار الطباطبائي نفسه ومعه العشرات من علماء التفسير عبر التاريخ في تفسير الكثير من نصوصه؟ حتى أنّه في تفسير الآية 102 من سورة البقرة تحدّث الطباطبائي نفسه عن وجود أكثر من مليون احتمال تفسيري تتحمّله هذه الآية، وأنهى التفاسير في معنى الكوثر في تفسير سورة الكوثر إلى ما يزيد عن ستة وعشرين تفسيراً، وذكر بنفسه حوالي عشرة تفاسير لمعنى التأويل في القرآن الكريم، عند حديثه عن الآية السابعة من سورة آل عمران.
ومن حقّنا أن نسأل الطباطبائي: كيف كان القرآن هدى ونوراً وبياناً لا يحتاج لمن يبيّنه، في الوقت الذي حارت العقول في تفسير الكثير من نصوصه؟ هذا يعني أنّ بعض نصوصه على الأقلّ تحتاج لتفسيرٍ من الخارج، الأمر الذي يفتح على مرجعيّة السنّة والحديث في تفسير الكتاب الكريم([16]).
هذه الإشكاليّة تارةً ندرسها في نفسها، وأخرى نعالجها من حيث علاقتها بحجيّة الرواية التفسيريّة:
أ ـ أمّا معالجتها في نفسها، فهذا بحث لا يدخل ضمن نطاق دراستنا هنا، ويحتاج لدراسة مستقلّة في وضوح النصوص الدينية عموماً، ومعنى هذا الوضوح. لكن من باب النقض على المستشكل هنا يمكن أن نربكه من خلال أنّ النص المفسِّر من خارج الكتاب الكريم هل هو واضح المعنى أو أنّه يحتمل تفاسير عديدة أيضاً؟ فهل النصوص الحديثية واضحة المعنى في تفسير القرآن أو أنّه قد وقعت خلافات كبيرة في فهم هذه النصوص أيضاً ـ فضلاً عن إثبات صدورها ـ ليس آخرها الحيرة بين كون هذه النصوص تطبيقيّة أو تفسيريّة، وهي حيرة تكمن تماماً في هويّة النصوص التفسيرية السائدة؟
وإذا قلنا بأنّ بعض هذه النصوص يوجد قدر دلالي متيقّن منها والخلافات وقعت في بعض التفاصيل الدلاليّة، فإنّ هذا الأمر بعينه صادقٌ تماماً في الكتاب الكريم. ألم يختلف العلماء في فهم روايات الاستصحاب اختلافاً عظيماً في مئات الصفحات؟ وكذلك في حديث الرفع ودلالاته، وفي مئات من الروايات والأحاديث؟
وهذا يعني أنّ النقد على الطباطبائي في بيانيّة القرآن لإثبات الحاجة إلى النصّ الحديثي ليكون القرآن واضحاً ومبيناً من خلاله، لا يُنهي المشكلة، بل يبقى التساؤل حول بيانيّة النصّ الديني كلّه قائماً يُطالِب الفرقاء جميعاً بتقديم جوابٍ عليه.
ب ـ وأمّا معالجتها في موضوع بحثنا، فأعتقد بأنّ العلامة الطباطبائي لم يُفهم جيّداً هنا، فهو لا يريد أن يقول بأنّ النصّ القرآني واضح لكلّ إنسان بتمام تفاصيله وبشكل قهري بمجرّد قراءته بحيث تنسبق المعاني منه إلى الذهن للجميع بدرجة واحدة وفوراً، بل يريد أن يقول بأنّ أدوات فهم هذا النص موجودة في داخله، بصرف النظر عن أنّ المفسّر قد اكتشف ذلك أو لا، لسببٍ أو آخر، حيث العوائق الفهميّة متعدّدة المناشئ. وهذا يعني عنده أنّ الرواية التفسيريّة لا يمكن أن تلعب غير دور واحد، وهو إرشادنا إلى العناصر الدلاليّة الموجودة في النصّ القرآني لكي نفسّره بالقرآن نفسه بمعونة السنّة، وهذا ما سيصبح واضحاً عندما ننظر في الوقفة الثانية الآتية لفهم كلام الطباطبائي أكثر.
3 ـ 2 ـ مآل نظريّة الطباطبائي إلى (حسبنا كتاب الله)! تفنيد التهمة
الوقفة الثانية: يذهب بعض المعاصرين، إلى أنّ نظريّة العلامة الطباطبائي تفضي مآلاً إلى منهج (حسبنا كتاب الله)، الذي يستبطن رفض السنّة الشريفة وترك الأخذ بقول النبيّ والعترة، وهو مرفوض تماماً، فأيّ دور للسنّة بعد نظريّة تفسير القرآن بالقرآن وإسقاط حجيّة الرواية التفسيريّة؟
يقول الشيخ محمّد سند ـ أحد هؤلاء المعاصرين ـ بعد حديثه عن نظريّة (حسبنا السنّة) التي ذهب إليها الإخباريّون بإنكارهم حجيّة ظهورات الكتاب، ما نصّه: mالنظريّة الثانية لصاحب تفسير الميزان وأتباعه، وهي معاكسة للأولى تماماً، ويمكن التعبير عنها بنظريّة حسبنا كتاب الله، في فهمه مآلاً لا ابتداءًn([17]). وفي كتابه (إسلام معيّة الثقلين) يقول السند: mومن ثم كان شعار حسبنا كتاب الله شعار خداع وشعار تلبيس وتدليس وتحايل، فهل ينفكّ الكتاب عن أهل الكتاب المطهّرين الذين يمسّونه..؟ وهذا هو نظير دعوى تفسير القرآن بالقرآن، فإنّه كما ترى ليس إلا تفسير القرآن بجهد بشري ظنّي قد يخطأ وقد يصيب، استعانة بالقرآن التي يقف عليها المجتهد بحدود فهمه البشري من القرآن، لا أنّ القرآن الوحي ينطق ويفسّر المصحف الصامت بنفسهn([18]).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الطباطبائي يمكن أن يكون من القائلين بنظريّة حسبنا كتاب الله؟ وما معنى ذلك؟ وهل (حسبنا كتاب الله مآلاً) فيه مشكلة أصلاً؟
يمكن الجواب عن هذه القضيّة والردّ على هذه الإشكاليّة التي تثار ضدّ الطباطبائي من خلال مجموعة نقاط:
1 ـ إنّ النصوص التي عند الطباطبائي والتي تؤكّد أصل إيمانه بالسنّة الشريفة أكثر من أن تُحصى، بل لا يعقل أن يكون الطباطبائي منكراً لحجيّة السنّة حتى ندرجه في مدرسة (حسبنا كتاب الله)، بما تحمله هذه الكلمة من مدلول سلبي في الثقافة العامّة، فحجم استشهاده بنصوص السنّة أكبر من أن تحصيه دراسة. بل إنّ نفس نصوص الطباطبائي المتصلة بنظريّة تفسير القرآن بالقرآن وموضوع الرواية التفسيريّة شاهد على أصل إيمانه بحجيّة السنّة، فقد قبل الطباطبائي حجيّة الآحاد في الفقه، وهذا يعني أنّه لا يجد حرجاً في الأخذ بالسنّة في الفقه ولو لم يكن لها وجود في القرآن الكريم، وإلا لما كان هناك معنى ـ من هذه الزاوية ـ لتمييزه بين الرواية الآحادية الفقهيّة وغير الفقهيّة.
2 ـ إنّ نصوص العلامة الطباطبائي في مرجعيّة الحديث في فهم القرآن الكريم واضحة، وسوف نشير إلى بعضها، ثم نحاول تحليل الموقف في كلّ نص، وشرح ماذا يعني الطباطبائي من مرجعيّة الحديث في فهم القرآن الكريم.
أ ـ يقول الطباطبائي في سياق تأكيده لنظريّته هنا: mتفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقّيه من غير بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الحشر: 7)، وما في معناه من الآيات، وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلاً. ومن هنا يظهر أنّ شأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام هو التعليم فحسب، والتعليم إنّما هو هداية المعلّم الخبير ذهن المتعلّم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به والحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم، فإنّما التعليم تسهيلٌ للطريق وتقريب للمقصد لا إيجاد للطريق وخلق للمقصد، والمعلّم في تعليمه إنّما يروم ترتيب المطالب العلميّة ونضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلّم ويأنس به، فلا يقع في جهد الترتيب وكدّ التنظيم فيتلف العمر وموهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة. وهذا هو الذي يدلّ عليه أمثال قوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم الآية (النحل: 44)، وقوله تعالى: ويعلّمهم الكتاب والحكمة (الجمعة: 2)، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم إنّما يعلّم الناس ويبيّن لهم ما يدلّ عليه القرآن بنفسه ويبينه الله سبحانه بكلامه، ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة؛ لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم (لا) يبيّن لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى، فإنّ ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى: كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون (حم السجدة: 3)، وقوله تعالى: وهذا لسان عربيّ مبين (النحل: 103)، على أنّ الأخبار المتواترة عنه صلى الله عليه وآله وسلم المتضمّنة لوصيته بالتمسّك بالقرآن والأخذ به، وعرض الروايات المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وسلم على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يمكن استفادته من الكتاب، ولو توقّف ذلك على بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من الدور الباطل، وهو ظاهرn([19]).
ب ـ وفي سياق دفاعه أيضاً عن منهجه التفسيري وأصول هذا المنهج يقول: mوليس هناك مجال للظنّ أنّ هذا الموضوع (القرآن يفهمه عامّة الناس) يتنافى مع الموضوع السابق (إنّ النبي الأكرم (ص) وأهل بيته، هم مراجع علميّة للمعارف الإسلاميّة، والتي هي حقيقة يدلّ عليها القرآن الكريم). إنّ بعضاً من المعارف الإسلاميّة، وهي الأحكام والقوانين التشريعيّة، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى الكليّات منها، ويتوقّف تفصيلها بالرجوع إلى السنّة (حديث أهل البيت) مثل أحكام الصلاة والصوم والمعاملات وسائر العبادات. والبعض الآخر كالاعتقادات والأخلاق، وإن كانت مضامينها وتفاصيلها يفهمها العامّة، لكنّ إدراك وفهم معانيها، يستلزم اتخاذ نهج أهل البيت، مع الاستعانة بالآيات، فإنّها تفسّر بعضها بعضاً، ولا يمكن الاستعانة برأي خاصّ، والذي أصبح من العادات والتقاليد، وباتت النفس تستأنس بهn([20]).
ج ـ ويجلي الطباطبائي القضيّة في موضع ثالث وهو يتحدّث عن تفسير القرآن بالرأي وبيان المنهج الصحيح في التفسير، حيث يقول ـ وكأنّه بصدد الجواب عن السؤال المركزي الذي يقف هنا وهو: ما قيمة كلّ الجهود التفسيريّة التي قدّمها النبيّ وأهل البيت؟ وما الذي يمكننا أن ننتفع به منها؟ ـ يقول: mفللقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهيّة، ولأهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده.. على أنّ جمّاً غفيراً من الروايات التفسيريّة الواردة عنهم عليهم السلام مشتملة على الاستدلال بآية على آية والاستشهاد بمعنى على معنى، ولا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب ويستقلّ به ذهنه؛ لوروده من طريقه المتعيّن له.. وقد تبيّن أنّ المتعيّن في التفسير الاستمدادُ بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية، وذلك بالتدرّب بالآثار المنقولة عن النبيّ وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم وتهيئة ذوق مكتسَب منها، ثم الورود والله الهاديn([21]).
د ـ بل الطباطبائي يعلن من مقدّمة تفسيره علاقة تفسيره بالنصوص الحديثيّة، حيث يقول في نصّ مهم: mثم وضعنا في ذيل البيانات متفرّقات من أبحاث روائيّة نورد ما تيسّر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامّة والخاصّة، وأمّا الروايات الواردة عن مفسّري الصحابة والتابعين، فإنّها على ما فيها من الخطأ والتناقض لا حجّة فيها على مسلم. وسيطّلع الباحث المتدبّر في الروايات المنقولة عنهم عليهم السلام، أنّ هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلّموه سلام الله عليهمn([22]).
هـ ـ وهكذا يشرح الطباطبائي رؤيته قائلاً: mوأمّا ما ذكرنا من أنّه لا دليل خارجي على نفي حجية ظواهر القرآن، فلأننا لم نجد هكذا دليل لذلك إلا ما ادّعاه بعض من أنّنا في فهم مرادات القرآن يجب أن نرجع إلى ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ما أثر عنه وعن أهل بيته المعصومين عليهم السلام. ولكنّ هذا ادّعاء لا يمكن قبوله؛ لأنّ حجيّة قول الرسول والأئمّة عليهم السلام يجب أن تُفهم من القرآن الكريم، فكيف يتصوّر توقّف حجيّة ظواهره على أقوالهم عليهم السلام. بل نزيد على هذا ونقول: إنّ إثبات أصل النبوّة يجب أن نتشبّث فيه بذيل القرآن الذي هو سند النبوة كما ذكرنا سابقاً. وهذا الذي ذكرناه لا ينافي كون الرسول والأئمة عليهم السلام، عليهم بيان جزئيّات القوانين وتفاصيل أحكام الشريعة التي لم نجدها في ظواهر القرآن، وأن يكونوا مرشدين إلى معارف الكتاب الكريم، كما يظهر من الآيات التالية: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم)، (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). (هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة). يفهم من هذه الآيات أنّ النبي صلى الله عليه وآله هو الذي يبيّن جزئيات وتفاصيل الشريعة، وهو المعلّم الإلهي للقرآن المجيد، وحسب ما جاء في حديث الثقلين الأئمّة عليهم السلام هم خلفاء الرسول في ذلك. وهذا لا ينافي أن يدرك مراد القرآن من ظواهر آياته بعض من تتلمذ على المعلّمين الحقيقيّين وكان له ذوقٌ في فهمهn([23]).
يُفهم من هذه النصوص أنّ الطباطبائي لا يُنكر مرجعيّة السنّة ولا مرجعيّة التفسير الآتي من قبل النبيّ، بل هو ينكر استقلال السنّة ـ في غير تفاصيل الأحكام ـ بأمرٍ ليس في القرآن الكريم، ومن ثم فوظيفة النبيّ هي تعليم الناس كيف يفهمون كتاب الله، وهذا يعني أنّ ما يقوله النبي هو في كتاب الله، غاية الأمر أنّنا إذا لم نستطع تعقّله للوهلة الأولى، فإنّ علينا التعلّم من النبيّ كيفيّة فهم هذا الاستنتاج من الآية؛ لأنّ الآية تتضمّنه وإن لم نلتفت إليه للوهلة الأولى، فالدور النبويّ هو دور تعليمي هنا، وهذا لا يلغي مرجعيّته.
وكأنّ المستشكل هنا ظنّ أنّ مرجعيّة السنّة مشروطة بالتعبيد، بحيث لا تكون السنّة مرجعاً إلا إذا قال النبيّ شيئاً، ولم نتمكّن ـ بل لن نتمكّن ـ من إدراكه إطلاقاً، مع أنّ مرجعيّة السنّة أعمّ من المرجعيّة التعبيديّة والمرجعيّة التعليميّة، فإنّ تعليمَه معصوم، والأخذ بمنهجه في التفسير نوعٌ من الاتّباع له والإقرار بمرجعيّة سنّته لإيصالنا إلى حقيقة الأمر.
يُضاف إلى ذلك، أنّ العلامة الطباطبائي عندما يطرح الحديث عن دور السنّة في التفسير وفي التعامل مع القرآن الكريم، فإنّه يقدّم سلسلة من الأدوار، تبتدئ بتعليم الأمّة كيفيّة فهم الكتاب وآليات التعامل معه وعدم الوقوع في فخّ التفسيرات الخاطئة له، وتمرّ بالنصوص التطبيقيّة القائمة على قاعدة الجري والتطبيق، وهي نصوص يمكن الأخذ بها عند الطباطبائي الذي يعدّ أحد منظّري نظريّة الجري والتطبيق، وهي تنظير يستبطن مرجعيّة السنّة من حيث المبدأ ويبتعد عن فكرة حسبنا كتاب الله. كما تمرّ بتعليم العلاقات بين النصوص القرآنيّة من حيث التقييد والتخصيص والنسخ وغير ذلك، ولهذا ورد عن أهل البيت أنّ العلم بالقرآن عندهم؛ لأنّهم يعلمون سياقات النزول والناسخ والمنسوخ وغير ذلك.
إلى جانب ذلك، فإنّ نفس تفصيل الطباطبائي في حجيّة الرواية التفسيريّة بين الخبر الظنّي الآحادي والخبر المتواتر المحفوف بالقرينة، دليلٌ على أنّه يقبل بمرجعيّة السنّة في فهم الكتاب، غاية الأمر أنّه لا يقبل بالسنن الظنيّة في تفسير الكتاب، فهل رفض أخبار الآحاد مصداقٌ لـ (حسبنا كتاب الله)؟! ولهذا نجده يتكلّم بصراحة قائلاً: mوقد عرفت مما تقدّم من أبحاثنا في المحكم والمتشابه أنّ تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب والسنّة القطعيّة، من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب والسنّةn([24]). فما معنى هذا الكلام غير قبوله بمرجعيّة السنّة اليقينيّة في فهم القرآن الكريم؟ وكيف ينسجم هذا مع دعوى كونه يفضي بنا إلى (حسبنا كتاب الله)؟
بل إنّ بعض الموارد الجزئيّة صريحة من الطباطبائي في اعتماده السنّة في أمرٍ غير واضح لديه من الكتاب العزيز، مثل حديثه عن الصلاة الوسطى، حيث يقول: mولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، وإنّما تفسيرُه السنّةُ، وسيجيء ما ورد من الروايات في تعيينهn([25]).
وفي كلامه عن مسح الرأس في الوضوء يقول: mوامسحوا برؤسكم، يدلّ على مسح بعض الرأس في الجملة، وأمّا أنّه أيّ بعض من الرأس، فمما هو خارج من مدلول الآية، والمتكفّل لبيانه السنّة، وقد صحّ أنّه جانب الناصية من الرأسn([26]).
وفي حديثه عن آية حدّ المحارب قال: mوأمّا الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد، فإنما يستفاد أحدهما من قرينة خارجيّة حالية أو مقاليّة، فالآية غير خالية عن الإجمال من هذه الجهة. وإنّما تبيّنها السنّة وسيجيء أنّ المرويَّ..n([27]).
ولعلّه يستفاد أيضاً من كلامه في تفسير السبع المثاني حيث يقول: mالسبع المثاني هي سورة الحمد، على ما فسّر في عدّة من الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، فلا يُصغى إلى ما ذكره بعضهم أنّها السبع الطوال، وما ذكره بعض آخر أنّها الحواميم السبع، وما قيل: إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء؛ فلا دليل على شيء منها من لفظ الكتاب ولا من جهة السنّةn([28]).
وبهذا نخلص إلى أنّ حجم الشواهد والمعطيات من كلام العلامة الطباطبائي يفضي إلى النتيجة التالية: إنّ الطباطبائي يؤمن بمرجعيّة السنّة، بل يكرّسها أساساً في تفاصيل الأمور العمليّة بصرف النظر عن الكتاب في غير موضع، أمّا في فهم القرآن ـ بعيداً عن الفقه مبدئيّاً ـ فإنّه يرى أنّ السنّة تلعب أدواراً عمدتها:
أ ـ تعليم منهج تفسير القرآن، ووضع المفسّر في فضاء معرفي قرآني يساعده على استيحاء المعنى واستجلائه من كتاب الله تعالى.
ب ـ تطبيق المفاهيم القرآنية على مصاديق قد لا يلتفت اليها المفسّر، وهي عمليّة لا ترتبط بالدلالة القرآنيّة بقدر ما ترتبط بالعلاقة بين القرآن والواقع الماضي والحاضر والمستقبل.
وعبر هذا كلّه، نعرف أنّ كلمات العلامة الطباطبائي وإن أوحت في بعض مواردها بشيء من التضارب، وقد نشير لاحقاً إلى أنّ فيها بعض التناقضات المفاهيميّة أيضاً، إلا أنّ كلامه منسجم في أصل القضيّة وبعيدٌ تمام البعد عن تهمة (حسبنا كتاب الله)، وأنّ هذه التهمة إنّما جاءت من الخلط بين السنّة التأسيسيّة الواقعيّة والسنّة التأسيسيّة التفسيريّة مع وجود مفادها في الكتاب الكريم؛ ولهذا وجدنا المستشكل هنا يجعل الطباطبائي من القائلين بحسبنا كتاب الله مآلاً، ملتفتاً إلى عدم اختيار ولا تصريح الطباطبائي بمسلك حسبنا كتاب الله؛ لأنّه يريد أن يعتبر أنّ إنكار السنّة المؤسّسة في غير الفقه مآله إلى حصر المعرفة بالقرآن، مع أنّ هذا الإنكار لا يصنّف إنكاراً لمرجعيّة السنّة، ولا يصحّ منطقيّاً إقحامه تحت عنوان بالغ الحساسية مثل (حسبنا كتاب الله).
وبهذا نخلص إلى أنّ منظومة الطباطبائي لا تحمل في طياتها ـ لا ابتداءً ولا مآلاً ـ أيّ هدر لمرجعيّة السنّة، حتى لو ضيّقت من مرجعيّة السنّة لصالح مرجعيّة الكتاب، فالتضييق شيء و (حسبنا كتاب الله) شيء آخر، فإنّ كلّ نقاشنا هنا في مديات دقّة القول بأنّ نظريّة الطباطبائي تنتهي بنا إلى عدم مرجعيّة السنّة وعدم الرجوع إليهم في الدين.
3 ـ 3 ـ تهافت البيانيّة القرآنية بين الفقهيّات وغيرها!
الوقفة الثالثة: إنّ العلامة الطباطبائي يميّز في بيانيّة القرآن بين تفاصيل الأحكام والقصص والمعاد وبين غيرها، ففي التفاصيل يمكن الرجوع للسنّة، أمّا في غيرها فلا، وهذا التفصيل منه غير مفهوم، فهل قاعدة بيانيّة القرآن تخضع للاستثناء بحيث يكون القرآن نوراً وبياناً في شيء دون شيء؟! وهل هذا منسجمٌ مع أصالة التبيانيّة القرآنية التي يطرحها الطباطبائي؟! تبدو بُنيات التفسير عند الطباطبائي متهافتة([29]).
إلا أنّ هذا الإشكال يفرض تساؤلاً أسبق حول موضوعٍ مختلف عن موضوع البيانيّة، وهو موضوع كفاية القرآن، فهل في القرآن كلّ الدين أو لا؟ هذا الموضوع هو أحد مفاتيح موضوع البيانيّة، وذلك أنّ العلامة الطباطبائي لم يقل في أيّ نصّ من نصوصه بأنّ في القرآن كلّ الدين وكلّ الحقيقة، بل قال بأنّ ما في القرآن يكشف عنه القرآن بنفسه ضمن نظام دلالي خاصّ يجب تعلّمه من مصادر متعدّدة ومنها السنّة. وهذا يعني أنّ تفاصيل الأحكام أو غيرها لو أرجعها الطباطبائي للسنّة فيجب أن نحدّد: هل أرجعها للسنّة لعدم وجودها في القرآن أو لعدم ذكر القرآن لها إلا بشكلٍ طلسمي مثلاً؟ فعلى التقدير الثاني يحصل التفصيل في البيانيّة ويتمّ إشكال المستشكل، دون التقدير الأوّل، ولا يبدو لي أنّ الطباطبائي يدّعي التقدير الثاني في نصوصه، فهي لا تحكي عن ذلك.
وبعبارةٍ أخرى: لو قال الطباطبائي: القرآن بنى نظامه الدلالي على البيانيّة في غير الفقه، أمّا تفاصيل الفقه فقدّم دلالات مطلسمة فيها لا يفقهها الى النبيّ مثلاً، لصحّ ما قيل إشكالاً عليه، لكنّه يدّعي أنّ كلّ ما جاء به القرآن فهو بيّن، غايته أنّه لم يأتِ بكلّ ما في الدين، فخروج تفاصيل الفقه خروجٌ عن أصل تعرّض القرآن للتفاصيل الفقهيّة، وليس خروجاً عن مبدأ بيانيّة الأسلوب القرآني للتفاصيل الفقهية بعد تعرّضه لها، فانتبه.
ولعلّ المستشكل يقصد ما سنشير إليه في الوقفة الرابعة، فانتظر.
3 ـ 4 ـ إشكاليّة مستند اكتشاف التفصيل القرآني بين الفقه وغيره
الوقفة الرابعة: يخطر في البال مداخلة نقديّة، وهي أنّه كيف تسنّى للطباطبائي التفصيل بين الفقهيّات وغيرها؟ بمعنى آخر: كيف عرف الطباطبائي أنّ الفقه يمكن الرجوع إلى المخصّص السنّتي فيه، أمّا غير الفقه فلابدّ من رصد مخصّصه في الكتاب نفسه ـ على ما صرّح به في حاشية الكفاية وفق ما تقدّم ـ؟ فهذا التمييز لم يبيّن لنا الطباطبائي الدليل عليه. فلو كان المستند مثل آية أنّ في القرآن بيان كلّ شيء، فما هو الدليل على خروج تفاصيل الفقه عن ذلك؟ ولماذا؟
قد يُستوحى من كلام الطباطبائي في الحاشية على الكفاية أنّ النصوص غير الفقهيّة اُحيلت إلى العقول ـ ولازمه كفاية البيان الكتابي في كشف المراد منها ـ بينما غيرها لم تتمّ إحالته، وهذا منه غريب، فإذا كان مقتضى الأمر بالتدبّر أو نصوص البيانيّة هو إحالتها للعقول بمعنى كفاية البيان القرآني، فكيف عرفنا أنّ نصوص الفقه القرآنيّة لم تتمّ إحالتها للعقول أيضاً بمعنى كفاية البيان القرآني فيها؟
إنّ التخصيص إمّا أن يفهم على أنّه تهافت، فلا فرق فيه بين النصّ الفقهي وغيره، أو يفهم على أنّه لا يضرّ بـ (لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، فلا فرق فيه بين الفقه وغيره، أمّا التفصيل بجعل التخصيص مضرّاً في مكان دون آخر فهو غير واضح المستند، فنظريّة الطباطبائي تعاني من خلأ في بُنيتها التحتيّة.
وبهذا يظهر أنّ أغلب الملاحظات التي قيلت على الطباطبائي غير دقيقة، نعم تواجه أصل نظريّته في البيانيّة القرآنية تساؤلات خارجة عن موضوع بحثنا، فلا نتعرّض لها.
كما لا بأس بالإشارة إلى أنّ مشكلة الدسّ والجعل في الروايات التفسيريّة عند المسلمين، كما ألمح إليه الطباطبائي معتبراً أنّه سبب في فقدانها الحجيّة العقلائيّة، تقف هنا مصدراً أساسيّاً للتريّث؛ وذلك فيما لو أدّت بالباحث إلى فقدانه الظنّ بالأخبار بما فيها أخبار الثقات، ووجود الظنّ شرط الحجّية في خبر الثقة على التحقيق كما تقدّم في البحوث السابقة، وهذا يعني أنّ عليه التريّث لرفع المستوى إلى حالة الظنّ لمنحه الحجيّة، لو قيل بها، فتأمّل جيّداً.
ويبقى من كلام الطباطبائي حديثه عن عدم حجيّة الظنّ هنا؛ لعدم وجود أثر عملي، وعدم شمول الحجيّة العقلائية والشرعيّة، وهو ما سبق الحديث فيه عند التعرّض لنظريّتي الخوئي واللنكراني، وقبل ذلك، وسيأتي.
وما أبعد ما بين ما قاله الطباطبائي في هذه النقطة (شرط الأثر في الحجيّة)، وما أفاده السيد الخميني، حيث ذهب قائلاً في بحث حجيّة الخبر مع الواسطة: m.. إنّ الدليل الوحيد هو البناء القطعي من العقلاء على العمل بخبر الثقة، وأمّا أنّ عدم كون محكي قول الشيخ ذا أثر، فمدفوعٌ بأنّه لا يلزم في صحّة التعبّد أن يكون له أثر عملي، بل الملاك في صحّته عدم لزوم اللغويّة في إعمال التعبّد أو إمضاء بناء العقلاء، كما في المقام، فإنّ جعل الحجيّة لكلّ واحد من الوسائط أو إمضاء بناء العقلاء، ليس أمراً لغواًn([30]).
فالعبرة في تصحيح الحجيّة هو عدم اللغويّة، فإذا استطعنا فهم حجيّة الظنّ في التفسير أو العقائد في ضوء نظريّة البناء والإيمان والتسليم وعقد القلب، كفى ذلك في تصحيح حجيّة خبر الواحد فيهما، وسيأتي مزيد من البحث في ذلك.
ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن نظريّة الطباطبائي، وسيأتي المزيد حولها عند عرض نظريّة الشيخ محمّد هادي معرفت والتعليقات عليها.
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 2: 210 ـ 228)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 2017م.
([2]) الطباطبائي، الميزان 6: 57.
([5]) الطباطبائي، الحاشية على بحار الأنوار 6: 336، الهامش 2.
([7]) المصدر نفسه 14: 133. يشار إلى أنّ عرضه القضيّة بهذه الطريقة غير دقيق، فالأمر ليس بديهيّاً، بل لو قصد نسبة ذلك إلى جمهور الأصوليّين، فهو ليس محرزاً كذلك.
([9]) المصدر نفسه 10: 351، و14: 25، 27، 205 ـ 206.
([13]) انظر: كاظم قاضي زاده ومريم الجعفري، حجّية الحديث في تفسير القرآن، دراسة في نظريّة العلامة الطباطبائي، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 30 ـ 31: 379 ـ 383.
([14]) الطباطبائي، حاشية الكفاية 1: 162 ـ 163.
([16]) انظر: كاظم قاضي زاده ومريم الجعفري، حجّية الحديث في تفسير القرآن، دراسة في نظريّة العلامة الطباطبائي، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 30 ـ 31: 387 ـ 388.
([17]) محمد سند، سند الأصول 2: 195.
([18]) محمد سند، إسلام معيّة الثقلين: 35 ـ 36.
([20]) الطباطبائي، الشيعة في الإسلام: 70.
([22]) المصدر نفسه 1: 13 ـ 14.
([23]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 24 ـ 25.
([29]) انظر: كاظم قاضي زاده ومريم الجعفري، حجّية الحديث في تفسير القرآن، دراسة في نظريّة العلامة الطباطبائي، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 30 ـ 31: 384 ـ 385، 391.