حيدر حبّ الله^([1])

يلاحظ المتابع لأعمال علماء الشريعة من فقهاء وأصوليّين بمدارسهم المتنوّعة، أنّ القواعد التي يبنون عليها نشاطهم الاجتهادي يختلف بعضها عن بعض في قوّة الظهور في سياق التنظيرات العامّة، بمعنى أنّ بعض الأصول الاجتهادية يحظى بدراسات مستقلّة مركّزة فيما بعضها الآخر يكون أقلّ من ذلك عادةً، فالفقيه كأنّه يشعر بالقاعدة ويُدركها لكنّ التصنيف المركّز فيها يبدو أقلّ من غيره، من هنا صحّ ـ كما قلنا مراراً ـ القول بأنّ أصول الفقه الإسلامي ينقسم إلى أصول فقه مدوّن وأصول فقه غير مدوّن، وأنّ من يريد فهم الحركة التاريخيّة للفقه الإسلامي عليه أن يرصد كلا هذين النوعين؛ ليفهم الأصول والقواعد والمعايير التي بنى عليها الفقهاء عبر القرون.

واحدة من هذه القواعد والمعايير الهرمنوطيقية الفهميّة هو ما يسمّى بتنقيح المناط، إنّها تبدو ممارسة ذوقيّة أحياناً، لكن خلف هذا المشهد يجب البحث عن معايير كامنة، وهذا الأمر هو الذي سبّب عند بعض العلماء والباحثين نقاشاً في جدوائيّة هذه القاعدة/المنهج، بل وفي إمكانات فصلها عن القياس المرفوض عند الإماميّة والمقبول عند جمهور أهل السنّة.

هذه الالتباسات في تفسير المفهوم، وفي فصله عن غيره، وكذلك في تكييفه وتقديم تبرير له، وتقعيد وضبط، هو ما بات اليوم ضرورة كبيرة بهدف الخروج من حالة الاستذواق التي قد يقع فيها بعضٌ هنا أو هناك، إلى حالة أكثر منهجيّة وانضباطاً بعيداً عن الاعتباطيات والعشوائيات التفسيريّة.

الأمر الآخر بالغ الأهمية، والذي يتصل بقضيّة تنقيح المناط وأخواته، هو الرصد التاريخي للتحوّلات والصيرورات، فمتى نشأ هذا المفهوم؟ وأين ولد؟ وما هي الحاضنة التاريخيّة له؟ وكيف انتقل من سياق إلى سياق آخر؟ وعندما أخذته الإماميّة كيف فهمته؟ وكيف تطوّر فهمها له؟.. إنّ هذا الدرس التاريخي بالغ الأهمية لوعي المسارات التي طواها هذا المفهوم، والهفوات التي سقط فيها، والإنجازات التي حقّقها، إذ لم يعد ممكناً اليوم دراسة مفاهيم أصوليّة بعيداً عن المراقبة التاريخية الدقيقة والحذرة في الوقت عينه، سواء داخل المذهب الواحد، أو في شبكة العلاقات المنهجيّة بين المذاهب الإسلاميّة.

الأمر الذي أودّ إضافته هنا في سلسلة الأسئلة المتواضعة هذه، يكمن في شبكة العلاقة بين مثل تنقيح المناط وسلسلة أخرى كبيرة من القواعد، من نوع: إلغاء الخصوصيّة، والسبر والتقسيم، ونفي الفارق، وتحقيق المناط، وتخريج المناط، والعلّة المستنبَطة، والقياس، ومناسبات الحكم والموضوع، وكشف الملاكات، والتمييز بين العلّة والملاك في الثبوت والإثبات، وبين المناط والملاك، إلى غير ذلك من عُدد وأدوات يستخدمها الاجتهاد الإسلامي على اختلاف في حجيّة بعضها..

إنّ مهمّة الباحث الدقيق هنا ليست سهلة، وهو يسبر أغوار الموروث الاجتهادي الإسلامي؛ لأنّ المصطلحات متداخلة ومتشابكة، ويحتاج الأمر لجهد كي يقوم بتفكيكيها، خاصّة على مستوى المشهد الإسلامي العام.

من هذا كلّه أودّ أن أتقدّم بشكري الكبير لأخينا العزيز صاحب الفضيلة سماحة الشيخ نور الساعدي حفظه الله تعالى على هذا الجهد الطيّب الذي بذله في دراسة هذه القاعدة وتحليلها وتبيين خطوطها ومديات حجيّتها، ورصد تطبيقاتها، وغير ذلك، راجياً من سائر العلماء والباحثين أخذ مثل هذه الدراسات بعين الاعتبار وإخضاعها للبحث والتقويم كي تكون بذلك استمراريّةُ نهضة العلوم الإسلاميّة إن شاء الله تعالى.

إنّنا اليوم بحاجة ماسّة لهذا النوع من الدراسات كي تعمّق فهم ما خفي من قواعد مهمّة على الكثير من طلاب العلم، بل وعلى بعض الباحثين والمختصّين أيضاً، فجزى الله المؤلّف خير جزاء المحسنين، وأجزل له العطاء، وبارك به ونفع، إنّه ولي قدير.

حيدر محمّد كامل حبّ الله

25 ـ 6 ـ 1442هـ

8 ـ 2 ـ 2021م

([1]) هذا المقال عبارة عن تقديم وتقريظ لكتاب (قاعدة تنقيح المناط واثارها على الفقه الإمامي الاثني عشري(، لمؤلفه الشيخ نور الساعدي. وقد نشر الكتاب عام ٢٠٢١م.