حيدر حب الله
تمهيد
يعد علم التاريخ اليوم من أهم فروع شجرة المعرفة البشرية، وقد شهد هذا العلم تطوّرات كبيرة وهامّة في الفترة الأخيرة، واتسع نطاقه ليتجاوز التاريخ السياسي وتاريخ السلاطين، وليصل إلى المعرفة والعلم نفسه.
لقد شعر البناء المعرفي الإنساني ــ ومن خلال التطورات العلمية ــ بأهمية الظاهرة التأريخية معرفياً، وصار هناك إحساس بأن التأريخ يمكنه أن يمد فروع المعرفة الأخرى بالكثير من المواد المعرفية التي من شأنها إنضاج العلم كلـه؛ فالوثائق التاريخية والتدوين التاريخي ساهما وما يزالان في حفظ الحضارات واستمرار كينونتها، وارتكز الدين نفسه على التاريخ بحيث شكل العقل التاريخي جزءاً لا يتجزأ من العقل الديني عموماً، حتى وصل الحال إلى أن ذهبت بعض الاتجاهات الدينية إلى عدم الاعتراف بأي شرعية علمية سوى للتاريخ الديني، ومن هنا، يلاحظ أنه بقدر ما أصيب البحث التاريخي ومعطياته بأزماتٍ ومشكلات ونواقص بقدر ما انعكس ذلك ضرراً وتأزيماً للمعرفة الدينية نفسها.. بل تعدّى الأمر الساحة الدينية إلى الأدب والفن، فاتكأ الأدب والفن على التاريخ، بحيث شكّلت العديد من النتاجات الأدبية المكتوبة والمقروءة ــــ شعراً ونثراً، قصةً ورواية ــــ وكذلك النتاجات المسرحية والسينمائية.. التي استقت من التاريخ مادةً لـها.. شكّلت هذه النتاجات شاهداً بارزاً على مدى التأثير الذي لعبه التاريخ في المجالين: الأدبي والفني.. فقد أمدّ هذا التاريخ ــــ بما يحملـه من قداسةٍ وعمق ــــ هذه الجهود بالكثير من فرص النجاح والجذابية، ومنحها بتأثيراته المتوغّلة في النفوس مجالات كبيرة للتأثير والصنع.
وتسارعت وتائر الحضور التاريخي في الحياة العلمية والعملية إلى أن وصل الحال إلى تشكيل تاريخ العلوم الذي تمخّض عنه ـــ بعد سلسلة تطورات ــــ ما يسمّى اليوم بالقراءة التاريخية للفكر، وما تحملـه هذه القراءة من ميزات، وما تقدّمه من معطيات ربما قلبت الكثير من الموروث في بعض المجالات، كما تحدّثنا عن ذلك سابقاً.
نستهدف هنا إثارة جملة من الأفكار المتصلة بدراسة التاريخ الإسلامي، والتعرّض لجملة إشكاليات معاصرة في الوسط الديني، كان لـها أكثر من تأثير على الوضع الفكري الإسلامي عموماً، وسوف نحاول تقديم هذه الإشكاليات على شكل عناوين فرعية يعالج كل منها إشكاليةً منها باختصار، كما سوف نسعى في آخر هذا البحث لإثارة دعوة لتأريخ واقعنا المعاصر بصورة سليمة، وعدم ترك الأمر للدول والحكومات أو التكتّلات العالمية.
هل هناك حاجة للدعوة لإعادة النظر في التاريخ الديني كلّه؟
ثمة دعوة لإعادة النظر في كلّ منظومة التصوّرات التاريخية التي تمسّ الإسلام وتلتقي به، يقابلـها تحفّظ شديد يميل إلى الإبقاء على كلّ التصوّرات الموروثة، بل ويميل ــــ أحياناً أيضاً ــــ إلى إقفال ملفّ الجدل حولـها.
يجب تقديم جواب معقول عن التساؤل التالي: ما هو مدى صحة الدعوة هذه؟ وإلى أي حدٍّ من التفاؤل والتشاؤم يمكن التعاطي مع الموروث التاريخي اليوم؟
بدايةً، لا بد من معرفة الأسباب التي أدت إلى اجتياح موجات الشك حول التاريخ الأوساطَ الدينية، وعن طريق ذلك تفهّم هذه الظاهرة بشكل هادئ وموضوعي وعقلاني، فبعيداً عن السياق العام الذي يثيره موضوع الغرب في فكرنا وثقافتنا، يمكن الإشارة سريعاً إلى جملة أسباب أبرزها:
أ ـ إشكالية الخطاب الدوغمائي:فقد قدّم التيار المدرسي خطاباً جزمياً قطعياً حول طائفة كبيرة من أحداث التاريخ، وسيق هذا الخطاب ضمن أطر نهائية ناجزة، فقد شعرت القاعدة بأن موضوعات كثيرة محكومة بالبداهة؛ لأن الخطاب النمطي الدوغمائي قدّم تصوّرات كثيرة عن التاريخ بهذه الصورة، وعندما جرت مناقشة بعض هذه التصوّرات، وتمّ تفنيد جملةٍ منها، ارتد ذلك ارتكاساً في كل الثقة المحمولة عن التاريخ، وشاعت نتيجة ذلك موجات الشك؛ لأن العقل الإنساني ــ كما حصل غربياً في عصر النهضة وما بعده ــ فقد ثقته بالتصوّرات الموروثة عندما انكشف لـه زيف قضايا قدّمت لـه بوصفها قطعيات جازمة لا مجال للشك فيها، ولمّا وجدها هزيلةً فَقَدَ اعتماده بما تبقّى.
هذا الخطاب المليء بالدوغمة، كان سبباً في ردّة الفعل السلبية هذه، ونحن وإن كنّا لا نحصر هذه العاهة بالمجال التاريخي، لكننا نرى التاريخ ــــ علمياً ـــ أبعد من غيره كالفلسفة والكلام والأصول، عن هذا النوع من الخطاب.
المطلوب اليوم عموماً، وفي النطاق التاريخي خصوصاً، خطاب علمي منفتح يثبت أمراً دون أن يُشبع إثباتاته بجزم تعسّفي أو يسدّ الباب على إثارة احتمالات أو تصوّرات متعدّدة، وعبر هذه الطريقة يمكن تخفيف ردّات الفعل السلبية إلى حدٍّ ما.
ب ـ إشكالية العقل المستقيل: فقد سيطرت إلى حدّ معين، ظاهرة العقل المستريح المتكل على جهود من سلف، مضفيةً طابعاً أسطورياً أحياناً على الشخصيات والتجارب السالفة، فالتساهل في معالجة الكثير جداً من الموضوعات اتكالاً على وضوحها والفراغ منها، وتغاضياً عن التحوّلات المنهجية والانقلابات الكيفية في آليات البحث التاريخي المعاصر.. ذلك كلّه راكم من حجم الموضوعات التاريخية المغفلة على صعيد البحث الجاد، وعندما أريد من جديد تجديد النظر في هذه الموضوعات تبدّت العيوب الطبيعية؛ لأن بعض هذه الموضوعات يعود آخر بحثٍ جادّ فيه إلى عدة قرون، وهذا معناه أن قوّة البرهنة الموجودة فيه قد خمدت؛ لأن القارئ الجديد للتاريخ محمّل بكمّ كبير من تطوّرات البحث التاريخي المعاصر، فعندما يرجع قروناً إلى الوراء نتيجة عدم تواصل البحث واستمراره اتكالاً على جهود من سلف، فسوف يشعر ـــ طبيعةً ـــ بالفارق الكبير وستبدو أمامه العديد من الجهود هزيلة أمام تراكمات التطوّرات المعرفية، الأمر الذي سيجعل هدم بعض الأفكار سهلاً عنده، وسيبعث عنده الشك في الباقي.
المطلوب استبعاد هذا العقل المستقيل، والإحساس العميق بأن حركة العلم والبحث لا تتوقف أبداً، والأهم الإقرار بأن التحوّلات المنهجية والانقلابات الكيفية والقفزات النوعيّة في العلوم تستدعي معها إعادة قراءة الموضوعات السالفة، وفق المنهجية الجديدة، وأن الاتكال على جهود من سبق، أمر قد تتمّ الموافقة عليه في غير حالة التحوّل المنهجي العام.
من هنا؛ نتوقّف قليلاً عند مقولة «الثوابت»التي يفترض إنشاء البحث عليها، ولا بد من الانتباه إلى أن هذه المقولة التي تحيل إعادة النظر في الثوابت نفسها، لا تجدي في حالات التحوّل المنهجي؛ لأن حدوث نقلات منهجية كبيرة وقفزات كيفية حادّة يلغي ــــ منهجياً ــــ ما نسميّه نحن «ثوابت»، لأن الثابت ليس سوى معطيات قريبة جداً للمنهج، بمعنى أنها لا تفترض امتداداً استدلالياً يبعث على الشك في إحدى فقرات الدليل، فكلّما كانت الفكرة أقرب إلى اختـزال الاستدلال في المنهج كانت أقرب إلى أن تتحوّل إلى ثابت، كما أن تراكم الاعتراف بقضية ما تراكماً زمنياً يفضي هو الآخر إلى تحوّل موضوعةٍ ما إلى ثابت، وعندما يحصل الانقلاب المنهجي يختل كلا هذين الميزانين؛ ذلك أنّ المنهج نفسه قد خضع لتحوّل ومن ثم لم يعد يمثّل في صورته القديمة أي معيار ليكون الاختـزال والوضوح في المقدمات والتركيب عاملاً مساعداً على دخول القضية مجال الثابت، فعندما يتحوّل المنهج تفقد آليات الاستدلال السابقة هيبتها أو تخسر قسماً كبيراً منها، وعندما يكون الوضوح في النتيجة متفرّعاً على شكل الاستدلال، كما على مادّته، فسيغدو هذا الوضوح مبدّداً عندما يفقد شكل الاستدلال تلك المكانة.
وهكذا الحال في موضوع التراكم الزمني؛ ذلك أن هذا التراكم لم يكن ليتحقق لولا حدوث ستاتيكيةٍ في المنهج، ومع تبدّل المنهج أو خضوعه لتحوّلات حادّة يفقد هذا التراكم قيمته؛ لأنه يرتكز على عنصر جرى استبدالـه سلفاً.
من هنا، نجد أن الكثير من الخلافات الفكرية المعاصرة تعود إلى هذه النقطة بالذات، وتشكّل أزمة تخاطب بين أطراف الحوار، وفي الحقيقة إذا كانت أشكال الخلاف الفكري المعاصر في الساحة الإسلامية والعربية باديةً على شكل موضوعات معينة، فإنها في روحها خلافات عميقة في المنهج، وإن الحاجة اليوم لنقاش في المنهج ـــ وهو نقاش مهمل في بعض الأوساط ــــ أهمّ من الحاجة إلى أي نقاش آخر وأولى.
وعلى هذا الأساس، نلاحظ أن دعوتنا إلى استمرارية البحث في كافة الموضوعات دعوة تختـزن إقراراً بمنهج جديد، وإلا لو وافقنا على المنهج السالف فلربما فقدت الكثير من الموضوعات حاجة البحث فيها اليوم، اللهم إلا لحاجات دفاعية.
ج ـ إشكالية القراءات المجتـزءة والمسقطة: وهي إشكالية عانت منها بالخصوص التيارات الدينية والدارسون الدينيون، وأثرت فيها بشكل أبرز المذهبياتُ الدينية.
لقد جرت أحياناً كثيرة قراءة الحدث التاريخي من زاوية محدودة، غلب عليها السجال المذهبي، فعلى سبيل المثال، سيرة أئمة أهل البيت (، جرت قراءتها بطريقة مجتـزءة في بعض الأحيان هدفت ــــ فقط وفقط ــــ إلى إبراز الجوانب الشخصية، ودراسة الإمام %بوصفه ظاهرةً مستقلّة عن المحيط، وقد أدّى هذا التغييب لوقائع تاريخية محيطة، وكذلك التغييب لبعض المصادر التاريخية تحت مسوّغات هي في العمق مذهبية.. أدى إلى صور منقوصة غلب عليها طابع الإسقاط.
المطلوب قراءة شمولية للتاريخ ــ كما التراث كلـه ــ من جهة، ومعالجات محايدة من جهة أخرى، لم يعد يجذب ذاك المؤرّخ الذي يرسم تأريخه على صفحات كتابه الأولى، ليرى القارئ أنه حدّد مسار تأريخه أو دراسته سلفاً، الأمر الذي بات يفقد العقليات الجديدة ثقتها بالنتائج.
وانطلاقاً من هذه الأسباب وغيرها، يجدر بنا تفهّم ظاهرة الشك المعاصرة، والتعامل معها بروح أبوية، كما واعترافاً بما تقدّم، يتم الميل أكثر فأكثر إلى الإقرار بضرورة إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، لكن مع حذر هذه المرّة من الانطلاق من عُقد أو تصفية حساب.
إن موجة الإطاحة بالتاريخيات الدينية، تحت ستار التجديد والقراءة الجديدة، وبطريقة عسفية أحياناً، لا تصلح الأمور بقدر ما تـزيد في تعقيدها، من هنا؛ كان المطلوب إحلال الاستقرار النفسي للباحثين، وإزالة أسباب التوتّر المضرّ بموضوعية البحث التاريخي، مع الإقرار بأن حالةً كهذه، على رفضها من الزاوية المنهجية والقيمية معاً، مترقّبة من الزاوية السيسيولوجية بشكل لا يجدر بنا استغرابه واستهجانه.
مشكلة التأريخ، المعاصرة أو المنهج؟
يقف التاريخ ـــ بوصفه واقعاً علمياً ــــ دائماً بين مطرقة دارسيه وسندان المدوّنين والمؤرخين، ويبدو أن قدر هذا العلم سيبقى كذلك؛ فالدارسون للتاريخ والباحثون حولـه مهما أصابوا في تقييمهم لكنهم على أيّ تقدير لا يمكنهم معايشته، فالحياة التاريخية ليست أمراً سهلاً لمن ماتت في زمنه تلك الحياة، وهو مجبور اليوم على التعامل بمنطق «هذا ما وصلني»أكثر من منطق «هذا ما كان»، إذا أراد أن يتحدّث عن التاريخ برؤيةٍ مشرفة ومتـزنة، وأما المدوّنون والمؤرّخون المعاصرون لـهذا التاريخ فإنهم مشمولون للطبيعة الإنسانية القائمة على النقص، لا أقل أنهم لا يدركون دائماً أهمية الوقائع التي يعيشونها بالنسبة للأجيال اللاحقة فيغفلون عن كمياتٍ من المعلومات ضخمة، لأنهم لا يشعرون بها في تعقّلـهم وإنما في لا وعيهم فحسب.
إن تعقّد الحياة الإنسانية تعقداً مذهلاً على جميع الصعد، وتداخل المجالات البشرية تداخلاً واسعاً على الميادين كافّة يجعل من العسير جداً على إنسان واحدٍ أن يكون قادراً على نقل الحقائق الواقعة إلا بمظهرها الخارجي السطحي غالباً؛ لأنه غير قادر على استيعاب الظاهرة الإنسانية من تمام زواياها، بل غير قادر على تفسير وشرح حتى ظاهرة واحدة شرحاً متكاملاً ما دام غير مطلعٍ على الخيوط التي تلتقي بتلك الظاهرة وتؤثر فيها اطلاعاً كاملاً، الأمر الذي يجعل المعرفة المعاصرة بهذه الظاهرة معرفةً منقوصة، وليست بالضرورة خاطئة.
وهذا معناه أن تكشّف التاريخ عبر قنوات المؤرخين مرهون دائماً لا فقط بعنصر المعاصرة والقرب الزمني من الواقعة التاريخية ــ كما قد يجري تصوّر هذا العنصر على أنه العامل الوحيد الذي يقوم بتقييم المعطيات التي يقدّمها مؤرخ ما ــ بل يضاف إليه عنصر الوعي العام والبعد المنهجي لدى المؤرخ نفسه، وأمورٌ أخرى أيضاً([1]).
إن اقتراب المؤرخ من عصر الواقعة من دون امتلاكه أفقاً واسعاً ومنهجاً توثيقياً سليماً و.. لا يحسم الموقف أمام مؤرّخٍ أبعد زمناً بيد أنه أدق فهماً وأوسع أفقاً، وهذا يدلّل على أن العلوم البشرية الأخرى، سيما المرتبطة بالنفس
والاجتماع، قادرة على ترشيد العمل التأريخي ودفعه نحو نقطةٍ أكثر قرباً من الواقع الذي حصل.
وبعبارةٍ أخرى: يرشد ما تقدم إلى ضرورة دمج المؤرّخ والدارس في شخصية علمية واحدة؛ لأن الحديث عن مؤرخٍ غير دارس وعن دارسٍ غير مؤرخٍ يمكنه ــ إذا استمر ــ أن يخلق مشكلات عديدة تقدّم بعضها، لكن هذا الدمج لا يعني تحويل النقل التاريخي إلى جهد مزدوج من النقل المجرّد والتحليل المعمّق؛ لأن هذا من شأنه أن يحدث اختلاطاً بين ما يمارسه المؤرّخ بوصفه مخبراً وبين ما يمارسه باعتباره محلّلاً، فتمتـزج النقولات بالتصوّرات، وفي هذا ما فيه من أضرارٍ على الحقيقة التاريخية.
وكأنموذج حاصل في أوساط البحث الديني المدرسي، الاختلاف الموجود ما بين الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (460هـ) والشيخ أبي العباس النجاشي (450هـ)، وهما من أكبر علماء الرجال عند الشيعة، فقد بذلت جهود بحثيّة واضحة من الطبقات اللاحقة من العلماء لحلّ ما يمكن تسميته: عقدة التضارب الموجودة أحياناً بينهما في توثيق الرجال أو تسجيل أية معلومات أخرى عن الرواة، وقد اعتُبرت الدقة والمنهج والاطلاع الواسع ــ وهي سمات حظي بها النجاشي في دراساته الرجالية ــ اعتبرت عناصر قوّة، دفعت جملة من العلماء لتقديم كلام النجاشي على الطوسي عند التعارض، وهكذا الحال مع تحفّظ بعض العلماء من المواقف الرجالية التي كان يتخذها الشيخ الصدوق (381هـ)، وهو أحد أهم رجال الحديث عند الشيعة، حيث سجّلت ملاحظة منهجية تتصل بعدم وجود منهج علمي خاصّ بالشيخ الصدوق، وأن هذا العالم كان مجرّد مقلّد في الشؤون الرجالية لشيخه ابن الوليد.. إلى غير ذلك من نماذج كثيرة حتى في الوسط المدرسي تؤكد أن عنصر المنهج ذو دور فعّال في التقييم التاريخي.
ما نريد الخروج به هنا هو:
أولاً: يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار العنصر المنهجي لدى المؤرخ الذي نستقي منه مصادر دراستنا، فمجرّد أنه قريب من عصر الحدث، ينقل لنا أخباراً عنه لا يعني أن لـه الأولوية، وأن الموقف أصبح محسوماً لصالح ما يقول، مهما اشتركنا معه في الدين أو العقيدة أو الميول، ونتيجة ذلك تبدو أيضاً عند تعارض النقولات التاريخية، ذلك أن المنهج عند المؤرّخ لـه دور بارز في حسم الموقف في هذه الحالة أيضاً.
وعليه، فما يجري تصوّره في الأوساط الدينية أحياناً من حصر العنصر المؤثّر بمجرّد الاقتراب الزمني من عصر النص أو الحدث، إنما هو صورة مبسّطة لآليات النقل التاريخي؛ إذ مع الإقرار بدور هذا العنصر الـهام، بيد أنه لا يحسم الموقف لصالحه دائماً، وقد تطوّر الأخذ بهذا العنصر إلى حدّ شلّ جملة نشاطات فكرية، إذعاناً لتبنّي السالفين لـها بحجّة أنهم أقرب إلى عصر النصّ والحدث.
ثانياً:إن القارئ للتاريخ اليوم يفترض تحلّيه بمنهج واضح ومحدّد، أما ما نجده أحياناً من تبعية بعض المؤرّخين المعاصرين للنتيجة المقرّرة عنده سلفاً وصيرورة المنهج خادماً للنتيجة دون العكس، فهو ينمّ ــــ في أكثر الأحيان ــــ عن عدم وجود منهج أساساً، وهذه نقطة بالغة الحساسية، وكثيرة الحضور في الأوساط التاريخية المذهبية، فلا يكاد نصّ تاريخي يحضر لصالح الطرف الآخر، إلا ويصار إلى التشكيك فيه، كما لا يكاد نص آخر يطرق الأسماع مؤيّداً التوجّهات المذهبية إلا ويجري قبولـه والترحاب به، وهو أمرٌ سنشير إليه فيما بعد.
التاريخ وظاهرة الإسقاط
وتبقى هناك مشكلة أخرى أمام المؤرّخ، ألا وهي مشكلة الحمولات التي تلقى عليه نتيجة تأثره بالظرف الراهن، وهذه المشكلة يتمكّن الدارس للتاريخ عن بُعد من التفلّت منها على نطاق أكبر وان لم ينج منها كلياً، لأنه لا يعيش تلك الضغوطات النفسية والاجتماعية المحسوسة وغير المحسوسة للحدث، كما ألمحنا سابقاً عند الحديث عن الدرس التاريخي للمعرفة الدينية، ومن ثم لا تثقل كاهلـه تأثيراته النفسية والباطنية، وهو أمر أكثر ما يظهر في الدين والسياسة، وهذا يعني أيضاً أن المعاصرة للحدث ليست دائماً عنصراً إيجابياً لا سلبية فيه، كما أنها ليست سلباً لا إيجاب فيه إطلاقاً.
ويمكن أن نذكر هنا مثالين بسيطين؛ لتأكيد هذه النقطة، ألا وهما:
المثال الأول:لقد جرى تقديم صورة تاريخية مذهلة لـهتلر سيما فيما يتعلّق بتعذيب اليهود، وهي صورة تاريخية تمّ تدوينها على يد المنتصر تحت الضغط النفسي في الغرب المنفعل والمرعوب من الأداء الـهتلري، وهو أمرٌ ــ شئنا لم أبينا ــ يترك بصماته على المؤرخ نفسه بدرجة من الدرجات؛ لأن هذا المؤرخ إنسان من البشر يعيش في البقعة التي يريد أن يؤرّخ لأحداثها، ومن الطبيعي أن تكون لـه مواقفه إزاء هذه الأحداث، إنتماءاته وولاءاته الخاصة، ميولـه وطبعه النفسي الذي يتفاعل مع هذا الأداء أو لا يتفاعل.. وهذا يعني أنه ــ غالباً ــ مبتلى بالأثقال النفسية والمواقف الشخصية التي يتخذها أو يؤمن بها أمام ما يؤرّخ لـه.. وهو أمرٌ لا علاقة لـه بالأمانة أو الخيانة العلمية دائماً بقدر ما يرتبط بنظم طبيعي للنفس البشرية يصعب تجاوزه بالمطلق، وقد لاحظنا أنه وبمرور الزمن وزوال ذاك الإسقاط على الظاهرة التاريخية وهدوء التوترات النفسية والاجتماعية وتداعياتها القريبة والبعيدة إلى حدٍّ ما.. لاحظنا أنه قد جرت إعادة قراءة للحدث، فظهرت من جديد الشكوك بالكثير مما سجّلته اليد المؤرّخة عن تلك الحقبة الزمنية المرّة من تاريخ الإنسانية([2]).
المثال الثاني:لقد قام المؤرّخ الغربي ــ محملاً بتصوراته المسبقة ــ بتأريخ ودراسة العالم الإسلامي سيما في القرون الأخيرة، وهو تأريخ مصطبغ أحياناً بالمواقف التي يحملـها الإنسان الغربي من العالم الإسلامي، سواء على الصعيد الحضاري والديني أو على الصعيد السياسي، مما يولّد قراءة متحيّزة تمليها قرونٌ من الصراع. ولا يعني ذلك تجاهلاً للتاريخ الإسلامي المدوّن أو المدروس غربياً أو إنقاصاً من شأنه العلمي، بقدر ما يعني أن هذا المؤرخ ــ وبحكم الأجواء المحيطة ــ مضطرٌ من حيث لا يشعر لاصطحاب بعضٍ من هذه الحمولات في مسيرته التأريخية وجهده التدويني.
وهكذا ــ كما أشرنا ــ على خطّ دراسة التاريخ الإسلامي، فقد مورست ــ وتمارس ــ عمليات إسقاط مكثّفة على المادّة التاريخية؛ استنصاراً لاتجاه ما أو مذهب معين، وربما يلاحظ المطالع للنشاط البحثي التاريخي في الأوساط الدينية أن هذه الأوساط لم تنفلت من أسر هذه النـزعة، حتى بالنسبة لباحثين حصيفين كبار.
وقد تجلّت ظواهر الإسقاط على التاريخ وتطويعه في ميادين عدّة، كان أبرزها:
1 ـ الميدان المذهبي:ثمة صيغ ناجزة وضعت لاستبعاد أيّ نصٍّ تاريخي لا يقف لصالح هذا المذهب أو ذاك، ولم يتمّ التعاطي مع بعض المواد التاريخية بشكل أمين، وقد تجلّت هذه الظاهرة في عمليات التصنيف المذهبي للمؤرخين بدلاً عن التصنيف العلمي والمنهجي الذي تساهم المعتقدات المذهبية فيه بلا شك، دون أن تحتل الصدارة فيه، فمن مؤرّخ شيعي إلى آخر سنّي إلى ثالث سلفي إلى.. بدى الجهد التاريخي مذهبياً، فيما لا معنى لكلمة مؤرخ سنّي ــ بالمعنى الدقيق للكلمة ــ إذا أردنا أن نتعامل مع مادّة علمية، كما سنلاحظ عند الحديث عن العقدي والتاريخي، فإذا أريد من كلمة مؤرّخ سنّي أو باحث سنّي في التاريخ ـــ مثلاً ــــ أن نشرح سمةً شخصية فيه، وهي انتماؤه إلى مذهب معين فلا ضير في ذلك، وأما إذا أريد الحديث عن منهج وأن التسنّن أو التشيّع أو الاعتـزال أو السلفية منهج تاريخي، فهذا خلط جلي بين أوليات البحث وآلياته، وهو خطأ فادح علمياً حينما يراد توسعة مجال إسهام المعتقدات الشخصية للباحث في دائرة بحثه بحيث يتجاوز الأمر الحدّ المعقول كما سنشير.
2 ـ الميدان القومي:فبعد تنامي النـزعات القومية في العالم الإسلامي، ظهرت إلى السطح تحيزات قومية واضحة: تركية، فارسية، عربية، فأخضعت التاريخ لتلاعب حاول كل طرفٍ فيه كسب كل امتيازات الأمة لنفسه، وكأن الآخرين لم يجرّو على هذه الأمة سوى الويلات.
ومع انحسار التصادم هذا بين التركي وغيره، بقي الثنائي العربي ــ الفارسي على حالـه، وهو ما نلاحظ تنامياً سلبياً فيه في الفترة الأخيرة، الأمر الذي يجرّ على المسيرة كلـّها وعلى المسيرة التاريخية بالأخص مشكلات عويصة وجذرية، ومع ذهاب تيّار ــ داخل الوسط الشيعي ــ إلى القول بأن كل ما عند الشيعة إنما هو نتاج جهود العلماء الإيرانيين، وأن الإيرانيين هم الذين صنعوا التاريخ الإسلامي والحاضر كذلك، أفرط طرف آخر إلى حدّ القول ــ مستعينين بأطروحة التشيع العلوي والتشيع الصفوي التي أطلقها الدكتور علي شريعتي ــ بأنّ كل العاهات الفكرية والشعائرية والسلوكية إنما جاءت من الجانب الإيراني، وأن الخليط الباطني العرفاني الصوفي الذي مسخ الوضوح الإسلامي انما أتى من تلك الجهة الشرقية.
إن هذه العقليات الإفراطية التي تنطلق من عقد الواقع المرحلية لا تخدم الأهداف العلمية الكبيرة سيما منها التاريخ، لأن هذه الصور الإطلاقية هي ــــ بالتأكيد ــــ صور خاطئة، ولا تتعامل مع أحداث التاريخ بصورة متوازنة وأمينة.
3 ـ الميدان الحضاري:وقد أشرنا إلى أنموذجه في المثال الثاني السالف، حيث مورست إسقاطات ــ بدت أحياناً فاضحة ــ على قراءة التاريخ الإسلامي من الطرف الغربي، وفي المقابل أبدى تيّار كبير من الدارسين الشرقيين تطرّفاً وتطويعاً للتاريخ لدى دراسته إيّاه غربياً، محكوماً لصراعات سياسية معاصرة.
المطلوب على الصعيد العلمي ــ وعلى مستوى البحث التاريخي بالخصوص ــ تجاوزٌ للأطر المذهبية والقومية والحضارية، ودراسة تتعالى عن إسقاط الأفكار الشخصية على المادة التاريخية، لتقديم قراءات تاريخية لا تحكمها إلا المعطيات الممنهجة والمنضبطة.
خبر الواحد وقراءة التاريخ الإسلامي، إشكاليّة المنهج بين التشريع والتكوين
أثيرت في علم أصول الفقه الشيعي ــ وتثار اليوم على أكثر من صعيد ــ مسألة خبر الواحد، وقيمته في إثبات المسائل التشريعية، وكذلك التاريخية والعقائدية والتفسيرية و..
ففي علم أصول الفقه، ثمة فصل مستقل وموسّع تعالج فيه قيمة هذه الوسيلة الإثباتية، وقد تضخّم هذا البحث وأخذ أبعاداً متنوعة، ودخل في الإطار الفلسفي ــــ إمكان التعبد بالظن، الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ــــ في القرون الأخيرة.
ورغم أن الجهود الأصولية، كانت تهدف ــــ بالدرجة الأولى ــــ إلى التوصّل لمعرفة قيمة هذا الدليل على الصعيد التشريعي، غير أن الاستطراد دفع علماء الأصول لمعالجة قيمة هذا الدليل ــ ومطلق الظن أيضاً ــ في دائرة المسائل العقائدية، ومن ثم الحديث ــــ ولو بشكل أكثر إيجازاً ـــــ عن القضايا التاريخية وغيرها، بمعنى أن الخروج الذي حصل عن دائرة البحث الأصولي كان كلامياً، ومنه أثير البحث حول التاريخي وغيره بصورة أكثر سِعةً، وأحياناً تحت إطار ثنائية: التكويني والتشريعي.
أما على خطّ علم التاريخ، فقد تأثر المؤرخون القدامى، بالمنهج الحديثي الذي كان يعتمد النقل المسند أو المعنعن.. فجرت مدوّنات تاريخية على هذا المنوال كتاريخ الطبري وغيره، وظهرت إلى جانب هذه الطريقة طرق أخرى، احتوت ميزات عديدة، فيما افتقدت ميزات أخرى احتوتها طريقة العرض المسند([3]).
وفي الفترة الأخيرة، برز إلى السطح في الأوساط العلمية الدينية جدالٌ حول منهج قراءة التاريخ الإسلامي، فهل نبقى نعتمد منهج الحديث المسند فنقول بأن الحدث التاريخي هل يكفي فيه مجيء حديث مسند بإسناد صحيح أم نتجاوز هذه الطريقة إلى منهج آخر نستقي بعض آلياته وأدواته على الأقلّ من آخر منجزات البحث التاريخي المعاصر؟
وإذا أخذنا بالمنهج الأول، فلن يقف الأمر عند حدّ الأخذ بالحدث نتيجة رواية مسندة، بل ستلاحقنا منظومة كاملة من منهج الإثبات تستطيل لتصل إلى معادلات إضافية من نوع الأخذ بالخبر التاريخي حتى لو لم يكن مسنداً أو كان مسنداً بطريق غير معتبر، وذلك نتيجة انجبار هذا الضعف الذي يعانيه بأخذ العلماء والمؤرخين والباحثين عبر أجيال به، أو العكس وفق نظرية تسمّى بنظرية الوهن والانجبار.
إن الأخذ بمنهج الإثبات الصدوري القائم على نظرية حجية خبر الواحد في علم أصول الفقه، يصعب ممارسة عملية اجتـزاء فيه، أي أن كل المنظومة الإثباتية ــ أو فلنقل: مجمل نسيجها العام ــ سوف يتم نقلـه تطبيقاً إلى المجال التاريخي، وربما يتمّ التعامل مع النص التاريخي شبهَ التعامل مع النص القانوني الديني أو الأخلاقي.
وهكذا إذا أخذنا بنظرية أخرى في هذا المجال، ذلك أن التجزءة في المجال المنهجي أمر خاطئ عادةً من جهة، وذو تأثيرات سلبية على الأداء العلمي من جهة أخرى.
وحيث لا يتسنّى هنا معالجة بحث كهذا، نتركه لدراستنا في حجيّة السنّة، يكتفى بالإشارة إلى أنّ الاعتماد الرئيسي عند العلماء المتأخرين في إثبات حجية خبر الواحد هو السيرة العقلائية، وعندما ندخل مجال السير العقلائية، يجب أن تكون رؤيتنا شاملة وبعيدة قدر الإمكان عن الظروف والبيئة؛ لأن مقررات علم الأصول تقضي بضرورة الابتعاد عن المتحركات المحيطة لاكتشاف العنصر المركزي المعتمد على عقلائية العقلاء، ومعنى ذلك أن الترجمة العملية للمرتكز العقلائي في عصر من العصور ــ حتى لو كان عصر النص ــ لا تمثل معياراً لتسنين القانون على أساسه، وإنما المعيار هو العنصر المختفي والمرتكز في الذهن العقلائي الذي دفع إلى ممارسة هذا التطبيق انطلاقاً من إمكاناته المتوفّرة([4]).
وتأسيساً على هذه المعادلة التي أخذ بها السيد محسن الحكيم وعمّقها الشهيد السيد محمد باقر الصدر، يصبح التعامل مع موضوع الإثبات التاريخي أكثر عمقاً وحيويّة، فمجرّد أن العقلاء جروا في أزمنة سالفة على العمل بأخبار الآحاد ضمن نطاق عنصر الوثاقة والأمانة، لا يعني ــــ عقلائياً ــــ بالضرورة أن المرتكز العقلائي في الإثبات التاريخي هو هذا العنصر.
وعليه، فإذا أردنا التماس العنصر العمدة الذي قامت وتقوم على أساسه اتكاءات العقلاء على مصادرهم في النقل، فسوف نجده ــ وفق التسمية القديمة ــ عنصر «الوثوق»، وهو عنصر ذاتي إذا أبقيناه على هذه التسمية، وموضوعي إلى حدّ كبير، إذا أدخلناه في السياق الرياضي أو غيره، كما فعلـه الشهيد محمد باقر الصدر.
وإذا أردنا أن نستبعد عملية ضبط هذا العنصر موضوعياً وقوننته علمياً، فإننا نجده المحور الذي تقوم عليه نشاطات العقلاء في هذا المجال، والاعتماد على خبر الثقة فيما سبق، كان ناجماً عن اشتمالـه بقوّة على إحياء عنصر الوثوق في النفس، ولـهذا وجدنا أن أكثر من عالم وباحث ومؤرخ خرج عن دائرة هذا الحصار عندما وجد وثوقيات أخرى كالإجماع والشهرة واندراج النصّ في مصادر متعددة و..
وانطلاقاً من هذه التغطية المشرعنة، واعتماداً على مبدأ الوثوق، نجد المجال مفتوحاً لعلاقات إيجابية مع منجزات البحث التاريخي الحديث؛ لأن المنهجيات التاريخية تعتمد ــــ هي الأخرى ــــ العنصر نفسه، بعد التنازل عن وضعه في مصاف اليقين والقطع بالمعنى الذي يمنحه إياه المنطق الأرسطي، وهذا معناه أنّ كل المعطيات مفتوحة عندما نخضعها لقوننة محكمة تضع الوثوق أساساً.
لكن هذا المعطى الجديد ــ كما أشرنا ــ يجب معرفياً ومنهجياً، أن يُستلّ من براثن النـزعات الذاتية قدر الإمكان؛ لأن وضع مفهوم الوثوق أو الاطمئنان أو.. يؤدي عادةً إلى حالةٍ من الغموض والالتباس؛ ذلك أنّ هذه المصطلحات المتداولة ليست محدّدات علمية، مما يضطرّ المنهجيين للقيام بتقنين صارم ومحدّد لإنتاج هذا الوثوق موضوعياً، الأمر الحاصل ــــ إلى حدّ جيد ــــ في الدراسات الدينية، وكذلك في الدراسات التاريخية الحديثة.
وطبقاً لما تقدّم، يمكن القول بأن منهجية التعاطي مع الحدث التاريخي، يفترض أن لا تكون على غرار آليات التعامل الفقهي ــــ بقطع النظر عن الموقف هناك أيضاً ــــ سيما عند أمثال مدرسة الرجال المتأخرة التي برز فيها السيدان: أبو القاسم الخوئي (1413هـ) وحسين البروجردي (1380هـ)، وهذا التحرّر من قيود تلك الآليات يفسح المجال للباحث لنشاط أكثر شمولية واستيعاباً، ليغدو الباحث ناقداً مضمونياً وسندياً، يتعامل مع متن النص كتعاملـه مع إثباته التاريخي.
واستنتاجاً من ذلك كلـّه، نسجّل ملاحظتنا على الطريقة التي ما تـزال مرعية الإجراء في البحث التاريخي في بعض الأوساط الدينية، وهي الطريقة التي تحاول أن تحسم الموقف لمجرّد وجود رواية أو خبر مسند أو مرسل أحياناً، وكأن هذا العنصر لوحده هو كل ما بأيدينا من أدوات إثبات للتاريخ؛ مع أنّ عناصر النقد المضموني متوفرة في كثير من الأحيان، حتى ولو بشكل أقلّ نسبياً في المجال التشريعي.
المنهج، وجدليّة العقدي والتاريخي
ثمة إشكالية بالغة اليوم، تؤرّق بتداعياتها الأوساط الدينية العلمية، وهي إشكالية العقدي والتاريخي، وتأخذ هذه الإشكالية في مدياتها أكثر من بُعد مثيرة أكثر من سؤال وخالقةً أكثر من عقبة.
أوّل سؤال تثيره هذه الجدلية سؤال موضوعي، أي أنه يعالج الموضوع المدروس، هل يمكن أن يكون موضوع واحد تاريخياً وعقائدياً، هل أن النتيجة التاريخية سوف تـزوّدنا بمعطى عقائدي أو هل ستكون بنفسها موضوعةً عقائدية؟
يبدو أن مجال الترديد محدود، فبالتأكيد هناك امتـزاج كبير في الفكر الديني بين العقديات والتاريخ، فالاعتقاد بالأنبياء السابقين (إنما هو نتاج تاريخي أحياناً كثيرة ـــ بقطع النظر عن القرآن ـــ والاعتقاد ببعض الموضوعات العقائدية الفرعية عندما يقرّر أن أساس الاعتقاد بها هو النصّ سيكون بالتأكيد متـزاوجاً والإثبات التاريخي.
لكنّ هذا لا يعني إقحام الموضوعات التاريخية كلّـها في العقديات حتى لو كانت نتائج البحث التاريخي تصبّ لصالح معتقدٍ ما أو مذهب معين؛ لأن مجرّد إمكانية توظيف معطى تاريخي في مجال عقائدي لا يعني أن هذا المعطى تحوّل بنفسه إلى قضية عقائدية، ليستتبع ذلك التعامل معه بوصفه أمراً اعتقادياً لـه آثاره ومستلزماته؛ والدليل على هذا الأمر هو القراءة المنطقية لتقسيمات العلوم، فمنذ قديم الأيام وضع علماء المنطق والفلسفة قانوناً لاحظوه لدى قراءتهم الواقع العلمي البشري، ويقضي هذا القانون بوجود علاقة تقدّم وتأخّر بين العلوم البشرية، وقد دفعهم هذا الاعتقاد إلى اعتبار بعض العلوم ما أسموه مبادئ تصوّرية أو تصديقية لعلوم أخرى، أو على الأقل كانت جملةٌ من مسائل هذا العلم بمثابة مبادئ تصوّرية أو تصديقية في العلم الآخر، وقد استفادوا من هذا التفريع أن هذه المبادئ تعبّر عن أصول موضوعة ــــ بحسب الاصطلاح المنطقي ــــ لقضايا العلم الآخر، وفائدة ذلك عندهم أن توكل مهمة البحث عن الأصول الموضوعة إلى العلم الأسبق، من هنا اعتبروا علم الفلسفة أسبق العلوم.
وهذه المعادلة التي تحكم علاقة العلوم والمعارف ببعضها، تؤكّد أن العلماء الذين نظروا في فلسفة العلم ــــ ولو قبل ظهور هذا المصطلح ـــ نجحوا في المحافظة على فرز العلوم عن بعضها، دون أن يحدثوا قطيعة، واستطاعوا في النهاية أن يجمعوا بين فكرة أو قضية تنتمي إلى علم ما، واستحضار القضية نفسها في علمٍ آخر بغرض توظيفها.
هذا هو بالضبط ما نلاحظه في قضية العقدي والتاريخي، فوفقاً للمحدِّد الموضوعي المجعول في علم العقيدة، يصار إلى إدراج كل مسألة في هذا العلم فقط عندما تدخل دائرة الاعتقاد، وتنتمي إلى مجال «عقد القلب»، بعيداً عن الدخول في جدلٍ حول هذا الأمر فعلاً، فالتوحيد قضية عقدية، بمعنى أنها قضية تدخل مجال عقد القلب عليها إذا ما ثبتت، فيصبح الآخذ بنظرية التوحيد ـــ في الرؤية الإسلامية للموضوع ــــ ملزماً بالاعتقاد بهذه النظرية ودمج نفسه في سياقها، وهذا معناه أن أي قضية لا دليل ــــ يكفي عدم الدليل ــــ على اندراجها ضمن محور عقد القلب وتحصيل المعرفة، طبعاً بالمعنى الديني لعقد القلب، فإن ذلك سوف يخرجها عن الدائرة العقائدية، حتى لو بحثها علماء الكلام في دراساتهم.
وهذا معناه الخروج بنتيجتين:
الأولى: إن المجال العقدي لا تحدّده المسيرة التاريخية لعلم الكلام، بقدر ما تحدّده نظرية كل متكلّم في تحديد موضوعة العقيدة.
وتأكيداً على ذلك، لا يمثل الوجود التاريخي الممتدّ لعلم الكلام المدوّن أية حجة ملزمة للمتكلّم الذي قدّم نظريته الخاصة بالموضوع العقدي، ويشهد على ذلك، مسيرة العلوم الإسلامية بأغلبها، حيث وقع التمازج تاريخياً بين هذه العلوم، سيما علم الكلام الذي شهد تطوّرات بارزة قبل وبعد القرن الخامس الـهجري، فقد اختلطت موضوعات تنتمي إلى علم الفلسفة بعلم الكلام، وكانت موضوعات فقهية جزءاً من الكلام في بعض الحقب الزمنية، وهكذا اختلط علم أصول الفقه بعلم الكلام وكذلك بالفلسفة والمنطق، كما عالج علم الفقه في بعض الأحايين أيضاً موضوعات لغوية ونحوية بحتة.
الثانية:إن علم العقيدة المدوّن ليس ذا قيمة معرفية على هذا الصعيد، فإذا استخدم المتكلّم موضوعاً تاريخياً لإدراجه في بحثه الكلامي لتحصيل نتيجة كلامية، فلا يعني ذلك أن هذا الموضوع أصبح بالفعل عقائدياً، وإلا لم يبق حجرٌ على حجر في مختلف العلوم.
وهكذا الحال مع موضوعات فقهية تصوّر بعضهم أنها مسائل كلامية، فإذا كان الدليل على موضوع فقهي متّحداً مع الدليل على موضوع كلامي كالإمامة، فلا يعني ذلك ــ ومن زاوية منهجية ــ أن الموضوع الفقهي دخل النطاق العقائدي وإن حظي ببُنى كلامية؛ لأن الدليل ونوعه لا يحدّدان لوحدهما انتماء موضوع البحث، فقد استخدمت مناهج متّحدة في علوم مختلفة كالمنهج التجريبي ومنهج الإحصاء والمنهج النقلي دون أن تختلط هذه العلوم بعضها ببعض.
وحصيلة الكلام أن العنصر المحدّد لعقائدية موضوع ما أو تاريخيّته يعود بالدرجة الأولى إلى النقطة التي ترتكز عليها الأفكار العقائدية، وقد تتّحد مع المسار التاريخي للعلم وقد لا تتّحد.
أما ثاني الأسئلة المثارة على صعيد العقدي والتاريخي ــ ولعلـّه هو الأهم منهجياً وإيبستمياً ــ فهو إقحام المعطيات العقائدية في آليات البحث التاريخي، إننا نسأل: هل يفترض بالمؤرّخ أو الدارس للتاريخ أن يصطحب معه عقائده الدينية، ويرى فيها أصولاً موضوعة غير قابلة للتجاوز، تحاكم على أساسها النقولات التاريخية، أم أن البحث التاريخي لا يعرف ــــ في عالم حياديته وموضوعيته ــــ أمراً من هذا النوع؟
ثمة تياران ينتاب تفاعلـهما نوعٌ من التجاذب أحياناً:
1 ــ تيار يرى بأن العقدي يفترض أخذه في البحث التاريخي؛ لأن تجاهلـه يعدّ تجاهلاً لمعطيات علمية مؤثرة في مجال البحث، ووفقاً لذلك فإذا ما واجه المؤرّخ نقلاً تاريخياً يحكي عن تصرّف منافي للشريعة صدر عن أحد أئمة أهل البيت (، فإن انتماءه المذهبي ــــ ولنفرضه شيعياً ــــ يأبى عليه وفق النظرة المتداولة في علم الكلام الشيعي الأخذ بهذا النقل، أو لا أقل يستدعي ذلك منه التصرّف في مدلول النصّ بعملية تحليلية تأويليّة، وقد تبنّى هذا النهج تيار مدرسي كبير ما زال لـه أنصار كثر في الأوساط الإسلامية.
2 ــ أما التيار الآخر، فهو التيار الذي يرى في نفسه الانتماء إلى عالم الموضوعية العلمية، ويقول: المفترض بالمؤرخ أو الدارس للتاريخ أن يقصي أفكاره وعقائده قبل أن يلج البحث العلمي التاريخي، لأن استحضار هذه المعتقدات سوف يحرف البحث عن آلياته الموضوعية، ويخضع كلّ المادة التاريخية إلى عملية إسقاط منظّمة.
ويبدو أن بالإمكان ــ فيما نرى ــ التوفيق إلى حدّ ما بين هذين الاتجاهين المتباعدين، فعلى ما يبدو يهدف التيّار الثاني إلى آلية تعامل مع النقل التاريخي تحكمها قواعد البحث التاريخي الصارمة، وهذا أمرٌ صحيح، ومعنى ذلك أنّ المؤرّخ أو القارئ يتعامل تعاملاً أكاديمياً حيادياً مع ما بيده من معطيات، وحتى نحدّد مدى النتيجة التي يخرج بها، وهو أمرٌ هام هنا، يمكن القول بأنها نتيجة بحث تاريخي، أي بحث يعتمد جملة أصول أكاديمية محدّدة.
ومن هذه النقطة بالذات يمكن رفع الالتباس؛ وذلك بواسطة فك شخصيات الباحث المتعدّدة، هل هناك مانع من أن تكون نتيجة البحث التاريخي على خلاف المعطيات العقائدية للمؤرّخ؟ وأساساً هل أن نتيجة البحث التاريخي حاسمة دائماً؟ إن أبعد مدى يمكن تصوّره هو أن تكون نتائج البحث التاريخي مخالفة لمعطى عقدي، وحينئذ يفترض استئناف مرحلة جديدة تؤسّس لعلاقة في النتائج بين علم الكلام مثلاً والتاريخ؟ وهذا التأسيس متحرّك؛ ذلك أن القضية تابعة لنوعية الموضوعات وأشكال الأدلّة، فإذا تصادم معطى تاريخي جزئي مع فكرة عقائدية وكانت الفكرة العقائدية قطعية لا لبس فيها ولا مجال للتأويل مثلاً، فيما كان المعطى التاريخي محكوماً للضعف اليقيني الموجود عموماً في الدراسات التاريخية، ذلك أنّ المؤرخ يقول: هذا ما وصلني، لا هذا ما كان.. أمكن حينئذ الحديث عن علاقة معرفية بين هذين الموضوعين، وصار من المنطقي تحكيم العقدي في التاريخي عندما نريد الخروج بقناعة نهائية تخصّنا نحن كأشخاص، ولو لم تكن تعنينا كمؤرخين، وهذا هو الفصل الـهامّ بين الشخصيات العلمية للباحث، وعلى أساس هذا الفصل يمكن حل الإشكاليات المثارة هنا.
وهكذا على الخط الآخر، فإذا تراكمت معطيات تاريخية كثيرة جداً لصالح عكس النتيجة العقائدية، أدى ذلك ــــ علمياً ـــ إلى التأثير في النتيجة، لتدفع المتكلم إلى إعادة النظر فيما بيديه، أي أن التاريخيات جزءٌ من أدوات البحث عند المتكلم في بعض الموضوعات، وأيّ ضير في أن يتعامل الباحث مع دليل أو أداة بعيداً عن بقية الأدلة والأدوات، ويعمل في نهاية المطاف على التوفيق بين الأدلة محترماً إياها دون أن يسنّن لأولوية شاملة للعقدي على التاريخي أو العكس.
وهذه العملية، إنما تصل النوبة إليها لا انطلاقاً من البعد التاريخي أو العقائدي، بل هي عملية لاحقة يُعنى بها الباحث لنفسه، وبالتالي فمن الضروري أن نقدر على القول بأنني كمؤرخ أرى كذا وكذا، ولكنني كإنسان لـه آراؤه الشاملة المتصلة باكثر من بُعد فكري لي الرأي الآخر.
وأساس مقولتنا هذه يعتمد على التعامل مع العلوم، لا مع الواقع، والوصول إلى مرحلة الواقع إنما يكون في نهاية المطاف.
واستنتاجاً ممّا تقدم، يصح لنا القول بخطأ عمليات الإسقاط المنظّمة على التاريخ، حتى ليبدو البحث التاريخي بلا حرمة أو مكانة، كما أن عمليات الإقصاء المتعمّدة للعقديات عن مجال العلوم الإنسانية كلـّها بما فيها التاريخ، يمكن الموافقة عليها عندما يراد الخروج باستنتاج يخصّ تلك العلوم، دون ادعاء أنه النتيجة النهائية على صعيد الواقع؛ لأن نتيجةً كهذه تستدعي استحضار كلّ المعطيات العلميّة ــــ مهما كان انتماؤها ــــ في مادة البحث، وما دامت الأمور العقائدية مواداً علمية تخضع لأنظمة معرفية فلـها الحقّ في الحضور، وإبداء النظر لتشكيل مكوّن مفهومي نهائي حول الموضوع، حينما يعتقد بها صاحبها.
الحاجة إلى تأريخ علمي معاصر
ومما تقدّم كلـه، ومن قراءة تجارب التاريخ الذي حصل هنا وهناك، ومن استكشاف مشكلات المؤرخين الذين سبقونا، ومن الاعتراف بصعوبة اكتساب ميزات المؤرخ والدارس معاً.. يطرح السؤال التالي نفسه: إذا كان هناك من أرّخ في الماضي ما عاصره وعايشه، وإذا كان هناك من سدّ هذه الثغرة بحسب ما أوتي من قدرةٍ وإرادة، فأين هو الجهد التأريخي اليوم سيما على الساحة الإسلامية؟ وما هي الوسائل التي يمكن الأخذ بها لتفادي قدر أكبر من المشكلات والفجوات التي توّرط بها المؤرّخ السابق؟ وهل هناك مسؤولية ما أمام الأجيال اللاحقة حتى لا تتخبّط بتاريخٍ معقّد معتم لما نراه نحن اليوم واضحاً أو يمكن استيضاحه في كثير من الأحيان؟
قبل كلّ شيء لا بد من التأكيد على أنه ليس الـهدف هنا في هذا المقطع من البحث، استقصاء كل مشكلات التأريخ، ولا الحلول المستوعبة كافة ولو لبعض هذه المشكلات، كما أنه ليس الـهدف إعادة قراءة الماضي التاريخي الديني أو غير الديني ولا دراسة منهج البحث التاريخي أو ما شابه ذلك، وإنما هو إثارة الإحساس بأهمّية العمل التأريخي اليوم لما نعاصره أو نقرب منه؛ تفادياً لمشكلات ونواقص في تأريخ الأمس سبّبتها لنا ظروف وأنماط تفكير عديدة.
الشيء الأساس ليس فقط ترشيد العمل التأريخي المعاصر بل وإنشاءه؛ لأن جولةً سريعة على النتاجات التأريخية يؤكد أن تأريخ الذات قد تمّ ويتمّ من قبل الآخر أكثر من الذات نفسها، فالغربي يؤرّخ للعالم الإسلامي ربما أكثر وأهمّ مما يؤرخه المسلم نفسه عن ذاته وكيانه وواقعه، وتأريخ الحركة الإسلامية اليوم يجري بصورة أكبر من قبل معارضيها ومخالفيها، فالكلام إنما هو في إحياء روح التأريخ في وسط الذات لتتكامل النتاجات مع تأريخ الآخر لـهذه الذات، والمستفيد الأول من هذه المراكمة هو الأجيال اللاحقة التي ستتوفر لـها بذلك مادةٌ أكبر للدراسة والاكتشاف([5]).
إن هناك نصاً للإمام الخميني يمكن أن يكون في غاية الأهمية من الناحيتين: العلمية والعملية؛ إذ يقول: «من الضروري أن يعمل الكتّاب الملتـزمون على دراسة تاريخ هذه النهضة الإسلامية دراسةً دقيقة، وذلك بهدف تنبيه الأجيال القادمة والحيلولة دون تـزويرات المغرضين.
من الواضح أن حركة الجهاد الإسلامي الأصيل في إيران ومن أوّل انعقاد نطفتها وحتى الآن، وكذلك الأحداث والمجريات التي ستقع في المستقبل، من الواضح أنها من الأمور المهمّة التي لابدّ أن يهتم بها الكتّاب والعلماء المفكّرون والملتـزمون.
نعم، إن الشيء الذي يبدو لنا اليوم واضحاً وجلياً، سوف يكون
بالنسبة للأجيال القادمة غامضاً ومبهماً، فيما سيكون التاريخ مشعل هذه الأجيال»([6]).
ويقول في كلام آخر: «لقد كُتب التاريخ في الماضي ــ ومع الأسف ــ بيد الأعداء غالباً، إنني آمل أن لا يُسمح لـهذا العدو بتدوين تاريخ هذه الثورة»([7]).
إن هذين النصين وإن كان موردهما الثورة الإسلامية في إيران إلاّ أنّهما ينمّان عن رؤية شاملة لمسألة التأريخ، أي لضرورة سعي الجماعة لتاريخ ذاتها فوراً، دون الاقتصار والاتكال على تأريخ الآخرين لسيرورة وصيرورة هذه الجماعة، سواء كانت جماعةً سياسية أو غير سياسية.
وكما تقدّم، يمكن التركيز على قضية الوضوح والغموض بالنسبة لجيلين، وهي نقطة في غاية الأهمية، لأنها تفرض على المعاصرين أن لا يقتصروا في تأريخهم على الأحداث الغامضة بالنسبة إليهم، بل أن يكون للأمور الواضحة حيز أساسي من عمليات التأريخ هذه([8]).
القضية الأساس هي أن المجتمع المتدّين ــ بالأخص ــ مجتمع تأريخي، أي أنه يرتبط ويقرأ ويتفاعل مع التاريخ، بيد أن ما يكمل تاريخيته هذه هو قيامه بتأريخ نفسه وشعوره بضرورة ذلك، لأن التاريخ ـــ بما يحملـه من قيمة ودور ــــ ليس محدوداً في دائرة التاريخ النبوي أو ما شابه، بل إنه يمتد للأجيال المتعاقبة بعد هذا التاريخ أيضاً، والتي منها جيلنا نحن بالنسبة للأجيال الآتية.
هذه هي الضرورة التي نحتاجها اليوم، أن نؤسّس لجهود تأريخية ــ كتّاباً ومؤسّسات ومراكز أبحاث.. ــ تستوعب مفاصل حياتنا، سواء منها الظاهرة والغامضة، وأن لا نكتفي فقط بدراسة التاريخ السالف.
غير أن هذه الضرورة إذا ما استُتبعت بعمل، فمن الممكن أن تواجه مشكلات وعقبات وثغرات، كتلك التي تحدثنا عنها آنفاً، ولذا تجدر الإشارة إلى مجموعة نقاط مساهمة يمكنها أن تحدّ بعض الشيء من حجم هذه المشكلات، ونظراً لضيق المجال نقتصر على أبرزها، وهو:
1 ــ ليس الـهدف من تأريخ الذات القيام بأرشفة صحفية للوقائع، وإنما تذهب القضية ــ وفق ما تقدّم ــ إلى ما هو أبعد من ذلك، أي إلى قراءة هذه المعلومات المتوفّرة قراءة موضوعية، وفرز الظواهر وبيان ارتباطاتها.. وليس الاقتصار على تقديم مسرد بالأحداث مهما كان مفصّلاً، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً عند الحديث عن المزاوجة بين الدارس والمؤرّخ، مع الانتباه إلى عدم حدوث خلط بين التحليل الشخصي والجهد التوثيقي المدروس.
2 ــ إن أبرز مشكلة تواجه هذا العمل الذي من الضروري أن يتحوّل إلى ثقافة معاشة وليس مجرّد هواية لأفراد يحبّون هذه المادة، هي مشكلة التحيّز، وهي مشكلة عامة خاصّة قديمة جديدة، فمن اللازم توخي جانب الحياد العلمي قدر الإمكان، وتقبل الحقيقة، والأهم الكشف عنها مهما كانت قاسيةً، وإلا فان كان هذا الجهد التأريخي سوف يفقد قيمته تحت تأثير تهمٍ من قبيل التحيز والحزبية والمذهبية والإنتماء و..
إن تأسيس مراكز بحث تأريخي واستقطاب المؤرّخين لا بد أن يصحبه منح هامشٍ ملحوظ من حرية التفكير والنقد والبحث والاستنتاج والكشف والإعلان للباحثين والكتّاب، واستبعاد النتائج المسبقة والأجوبة الجاهزة والصيغ الناجزة والتأريخ المعلّب من البين، وهو ما من شأنه أن يقدّم رؤية تاريخية أكثر نفوذاً على الساحة العلمية؛ لكونها أكثر موضوعية ومرونة، وهو ما يجعل من هذا التدوين صورة قادرة على الوقوف بوجه التصويرات الأخرى التي قد لا تجري الموافقة على بعضها إطلاقاً.
3 ــ ثمّة نقطة مهمة جداً تتصل بصورة قوية بالمسؤولية التاريخية، وهي أن التأريخ الذي نتحدّث عنه في هذه الدعوة، ليس عبارة عن إعادة إنتاج لتاريخنا الماضي وإعادة دراسة لـه، وإنما هو تأريخ المرحلة التي نعيش لنكون شهداء عليها أمام المستقبل، وهذا النوع من الجهود يصطدم عادةً بمديح وثناء وتأييد وتـزكية لأشخاص أو جماعات أو مذاهب، كما يواجه مواقف ونقاط سلبية في هؤلاء أيضاً الأمر الذي يجعل مسؤوليّة المؤرّخ صعبة جداً، تارة من حيث ما قد يواجهه من ردّة فعل من قبل الآخرين، أو ما قد يفعلـه ممّا يؤدي ــــ ربما ــــ إلى إزالة أقنعة وإسقاط رموز واتجاهات.. وهو أمرٌ يجعل المؤرّخ مضطراً ــ في كثير من الأحيان ــ إلى إبداء المجاملة أو المداراة أو تهدئة الوضع وإزالة مبرّرات التشنّج مما قد يعطيه أحياناً صبغة مصلحية عامّة، الأمر الذي يؤدي في المحصّلة إلى ضياع الحقائق وزوال الوثائق والمستندات.
وقد تتعقّد القضية حينما يحاول المؤرّخ جمع الوثائق ممّن قارب الحدث أو خاض فيه، وربما يكون من قاربه شخصيةً كبيرة أو جهة مهمّة قد يؤدي بَوحها بالحقيقة إلى تعقيدات مرحليّة، الأمر الذي يفقد المؤرخ مستندات غاية في الأهمية، ويجعلـه أمام معطيات منقوصة.
إن الشيء الذي تحتاجه حركة التاريخ الإسلامي المعاصر ــ بالمعنى الذي ذكرناه ــ هو أن لا تكون الاعتبارات والأسماء والظروف مقيّداً للحقيقة التاريخية([9])، بل لا بد أن يكون لكشف هذه الحقيقة الأولوية في أكثر الأحيان مع الأخذ بعين الاعتبار ــ بدرجة معقولة غير مبالغ فيها ــ الظروف الأمنية أو العسكرية أو السياسية أو الاجتماعية الطارئة والحسّاسة جداً، وهو أمرٌ يمكن تفاديه بواسطة إعطاء الفترة الزمنية المعقولة للتدوين والذي تفصلـه عن الحدث نفسه.
إننا ندعو إلى منح المؤرّخ حصانةً واستقلالية، تماماً كالقاضي، فإذا لم يستقلّ القضاء، ابتلعته السياسة، وما لم يستقلّ التاريخ والمؤرّخ، لم نجن سوى صور مشوّهة عن الواقع، مع الاعتقاد بضرورة ضبط الأمور قدر الإمكان.
4 ــ ليس المقصود من الجهد التأريخي مجرّد التأريخ السياسي على أهميته، وإنما أيضاً ــ وربما أهمّ أحياناً ــ العمل على توثيق التاريخ الديني والمذهبي والجغرافي والسّكاني والشعبي والتقاليدي، وحتى تاريخ الشخصيات العلمية والدينية والسياسية والماليّة والاجتماعية والجهادية..
إن كتب تاريخ المذاهب والفرق، وكتب الرجال والتراجم، وقصص العلماء والزهّاد.. مما كان يدوّن في الماضي وما يزال تحتاج إلى تفعيل مستمر ومتواصل، ومن الخطأ افتراض أن هذه الجهود كانت أو هي الآن غير مهمة أو غير تاريخية.
إن أبسط المعلومات المتداولة يمكنه أن يشكّل مادةً دسمة للباحثين المستقبليين، فالأمثال الشعبية التي تتداولـها جماعة أو أمة يمكن أن تمنح الأجيال اللاحقة مادّة في غاية الأهمية قابلة لتكشّف الماضي على نطاق جيّد، فقراءة الأمثال والحكم الشعبية حينما تدوّن يمكنه أن يحدّد عقل أمّة ونمط عيشها وأساليب حياتها، وهكذا الكلمات المتداولة الخاصة بأهل منطقة أو بلد يمكن لتأريخها أن يحدّد العديد من المعطيات على ما هو المنهج المتبع اليوم في التحليل اللغوي، لا أقل في تحديد تفاعلات هذه الأمّة مع الأمم والحضارات الأخرى.. وهكذا الحال في النتاجات الأدبيّة والفنية التي يمكنها أن ترسم معالم التاريخ بشكل جيّد، فالتاريخ ليس ــ دوماً ــ هو النصّ الصريح الذي يحكي لنا عن حدثٍ وقع بقدر ما هو مجموعة كنايات ورموز قادرة على الإشارة المكثّفة لـهذا الواقع.
وهكذا الحال في التاريخ الديني، لقد ظهرت في القرن الأخير فرقٌ ومذاهب واتجاهات دينية عديدة، وكما أرّخ النوبختي والشهرستاني لمذاهب عصرهم هناك ضرورة للتاريخ لمذاهب عصرنا كذلك.. وأن لا تبقى دراساتنا حول الفرق والمذاهب مقتصرة على عين المذاهب التي تكرّر الحديث عنها مراراً، كما أشرنا لدى الحديث عن التعدّدية المذهبية.
5 ــ ليس من الضروري أن تكون هناك مفاضلة ما بين التاريخ الذي كتبه الصديق والذي كتبه العدو دائماً، سيما على مستوى التاريخ السياسي الديني الحضاري، بل ربما يكون تأريخ الصديق أضعف قيمةً من تأريخ الآخر حتى لو كان الصديق أكثر معاصرةً من ذاك؛ لأن القضية ــ كما تقدّم ــ ترتبط بالمعاصرة والمنهج معاً، وربما يكون العكس صحيحاً، ومن هنا لا يحكم على جهود الآخر بالسقوط المعرفي لمجرد أنه ليس من الذات كما العكس تماماً، وعليه فالاستفادة ممكنة مما كتبه الصديق والعدو ــ إن صح التعبير ــ وأحياناً بدرجة متساوية.
6 ــ انطلاقاً من تعقّد القراءة التاريخية والجهد التأريخي ومن تخطي التأريخ دائرة نقل الأخبار والأنباء كما تقدّم، صار هناك ضرورة جديدة استتبعتها الوشائج المحكمة بين العلوم، تفرض على المؤرّخ ــــ فرداً كان أم جهة ــــ أن يملك بصورة مسبقة أفقاً أوسع ونظرة أشمل ورؤية أبعد تنطلق من اشتمالـه على ثقافة حضارية دينية اجتماعية سياسية و.. تمنحه بالتالي قدرةً أكبر على تقديم عرض متكامل للظاهرة المؤرّخة؛ فيجد نفسه مجبراً على تقديم تصوّر للواقع الاقتصادي لدى عرضه ظاهرةً سياسية؛ إنطلاقاً من طبيعة التفاعل، وهذا الأمر يقودنا إلى الإحساس بأهمية ترشيد المؤرّخ حتى يكون أقدر على أداء وظيفته، متجاوزاً النظرة الضيّقة ومتخطياً المفردات المتحرّكة الصغيرة.
([1]) يرى بعض الباحثين المعاصرين أن مسلك الوثوق في حجية خبر الواحد يستدعي مجموعة مستتبعات، منها رفض المقولة القاضية بأوثقيّة المصادر الحديثية السنيّة على المصادر الحديثية الشيعية، نظراً لأقربيّتها لعصر الرسالة، واستبدال هذه المقولة بدراسة تاريخ تدوين الحديث عند أهل السنّة وطريقة تأليفهم الأمر الذي يؤدي عنده إلى الخروج بنتيجة معاكسة. راجع: السيستاني، الرافد في علم الأصول: 25.
([2]) ولعلّ من أهـم وأشهر هذه التشكيكات ما كتبه المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي، في كتابه «الأساطير المؤسّسة لدولة إسرائيل»، كما كانت هناك تشكيكات من بحّاثين تاريخيين آخرين، بعضهم من الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
([3]) انظر بهذا الصدد: مسائل المنهج في الكتابة التاريخية العربية، للدكتور إبراهيم بيضون، وكذلك علم التاريخ ومناهج المؤرّخين، صائب عبدالحميد.
([4]) انظر بهذا الصدد: السيد محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 234؛ وكذلك دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة: 268.
([5]) لا بأس بالإشارة إلى أن هناك جهداً واضحاً في هذا الإطار وعلى أكثر من مستوى، إلا أن ما يُطمح إليه في هذا المجال هو تشكيل مرجعيات تاريخية للمستقبل، فكتاب تاريخ الطبري، وفتوح البلاذري أو غير ذلك من الكتب شكلت مرجعيات محورية للتاريخ، ومن هنا فالحديث يتركز أكثر حول إعداد موسوعات على أكثر من صعيد سياسي، اجتماعي، ديني.. تعد بمثابة مرجع تاريخي موثّق ومقبول في الإطار العلمي العام، من دون أن نتورّط في شيء من التمركز واحتكار التاريخ.
والسبب الذي يدفع إلى الاهتمام بمثل ذلك هو أن الكتب والدراسات المتفرقة ستصبح عرضة للزوال عبر الأيام وفي معرض التجاهل أيضاً، والشيء الذي يمكنه أن يبقى ثابتاً هو الجهود الكبرى الموسوعية أو الكتابات التي يدوّنها أشخاص مرجعيّون موسوعيّون بارزون تحفظ كتبهم بأسمائهم.
([6]) حميد الروحاني، نهضت إمام خميني (نهضة الإمام الخميني)2: 7، من كلام للإمام الخميني Lفي 21 شعبان 1398هـ، المصادف يوم الأربعاء 26 / 7 / 1978م.
([8]) لقد طرح الأصوليون المسلمون مسألة تتعلّق بالحدّ الذي يطالب الراوي للحديث بنقله، وقد ذُكر في هذا الإطار أنّ الراوي غير مسؤول عن القرائن اللبيّة المتصلة المرتكزة في ذهنه وذهن السامع وذهن العرف العام المعاصر؛ لأن هذا الإرتكاز الذهني يمنح المتكلم والناقل حقّ تجاهل التصريح بالنقطة التي جرى حملها في ضمنه، ومن هنا ونظراً للبعد الزمني وتغيّر كثير من المرتكزات والتبانيات وقع المتأخرون في إشكالية فهم النص؛ تبعاً لافتقادهم الكثير من هذه المرتكزات الواضحة آنذاك والمبهمة حالياً، فما نتحدث عنه هنا ليس افتراضاً، وإنما هو واقع جرت ملاحظة آثاره الصعبة في أكثر من ميدان.