حيدر حبّ الله([1])
كثيراً ما شابت العلاقة بين النقد الحديثي ومرجعيّة السنّة الشريفة توتّرات، فالنقد الحديثي قد يثير القلق من إفضائه إلى اهتزاز مرجعيّة السنّة المحكيّة ودورها في تكوين منظومة الفهم الديني، فيما تأكيد مرجعيّة السنّة المنقولة، خاصّة عند اعتماد قانون التساهل فيها، يضع النقد الحديثي أمام تهديد وجوديّ حقيقي.
هذه الثنائيّة يمكنها أن تتراجع عندما تتقدّم تجربة نقديّة بمنجزاتها، وفي الوقت عينه تنجح في تكريس مرجعيّة الحديث، بمعنى أنّ التجربة النقديّة تواصل نشاطها بحريّة عالية، وفي الوقت عينه تكون مخرَجاتها على عكس ما كنّا نتصوّر من تشكيل النقد الحديثي لتهديد كياني للسنّة المنقولة. في حالةٍ من هذا النوع تظهر مشاعر الطمأنينة في الوسط الديني، وفي الوقت عينه تحظى التجربة النقديّة بشرعيّة ووثوق.
لكن في العقود الأخيرة تعرّضت بعض أشكال حركة النقد الحديثي لانتقادات تطالها في عقيدتها وخلفيّاتها والثقة بها، وفي مآلاتها المفضية إلى زوال مرجعية السنّة المنقولة من جهة، وضعضعة البنيان العقائدي من جهة ثانية، وما يبدو لي أنّ تجربة الإمام الخوئي (1413هـ) طالتها بعض هذه المشاكل. ولكي نكون أكثر صراحةً فإنّ شخصيّة الإمام الخوئي النافذة والمهيمنة ـ إلى جانب سياقات تاريخيّة ـ تمكّنت من تخطّي النقد المباشر؛ لكن أجيالاً لاحقة شعرت بأنّ الاستمرار بطريقة الخوئي ربما يفضي إلى مزيد من الانتكاسات، خاصّة على الصعيد العقدي والمذهبي.
كانت مواجهة مدرسة الخوئي قائمة عبر خطوات:
1 ـ نقد المناهج الحديثيّة والرجاليّة للخوئي، واعتبارها مفرطةً في النقد.
2 ـ السعي للتمييز بين البحوث الفقهيّة من جهة، والبحوث التاريخية والعقديّة من جهة ثانية؛ وذلك بهدف تكريس الفكرة القائلة بأنّ النقد الحديثي الصارم يمكن لنا أن نستخدمه في الفقه، غير أنّه لا ضرورة له في العقيدة والتاريخ، فمناهج البحث هناك مختلفة، على أساس أنّ اختلاف مناهج البحث هناك سوف يجعل الأمر أكثر يُسراً في قبول الحديث والموروث التاريخي.
على خطٍّ آخر، سعى فريق للاعتماد على نتاجات مدرسة الخوئي كي يؤكّد أنّ النقد الحديثي الجادّ سوف يهدم الكثير من الأفكار العقديّة والتاريخية الموروثة، هذا الفريق هذه المرّة كان متحمّساً للاستناد للخوئي في طريقته، وإكمال مسيرته.
وبهذا بتنا أمام خطّين اثنين:
خطّ قلق من إكمال تجربة الخوئي، بوصف ذلك تهديداً، فسعى لنقد التجربة من جهة، وسحبها ـ من جهة ثانية ـ من حقول المعرفة العقديّة والتاريخيّة.
وخطّ آخر أبدى إعجاباً بعمل الخوئي، وأراد أن يبني عليه إجراء مجموعة تعديلات في المنظومة العقديّة والتاريخيّة.
في تقديري المتواضع، فإنّ الفريقين كانا على حقّ مشوب بخطأ؛ بمعنى أنّ الفريق الأوّل كان دقيقاً في شعوره أنّ مدرسة الخوئي بإمكانها إجراء تعديل، لكنّ قلقه الزائد دفعه للمبالغة بذلك. وأمّا الفريق الثاني فقد أدرك بجدّ أنّ المنهج النقدي للخوئي يتطلّب منّا عدم الاستعجال في بناء أفكار عقديّة أو تاريخيّة قبل ممارسة نقد حديثي وتاريخي، لكنّه غفل عن عناصر في المناهج البحثيّة للخوئي نفسه، فتصوّر أنّ النقد الحديثي لن يُبقي شيئاً عنده، وأنّ هذا النقد السندي بالخصوص لن يقوم الخوئي في البحوث التاريخيّة والعقدية بتأييده بقرائن إضافيّة، فأخذ من الخوئي جزءاً من منهجه، ونسي أنّ عناصر الإثبات الصدوري والتاريخي عند الخوئي نفسه متنوّعة.
العنصر الإيجابي في الفريق الأوّل هو تفكيره النقدي الحرّ في تجربة الخوئي، فهو قد نجح في تخطّي هيبة الخوئي واعتباره فوق النقد، فهذا التفكير النقدي ضروريٌّ ويدفع لتكوين حوارِ أجيالٍ منتج، فيما العنصر الإيجابي في الفريق الثاني هو إخلاصه للمنهج النقدي، واعتباره أنّ العقيدة والتاريخ يتفرّعان على منهج دراسة السنّة المنقولة والموروث التاريخي وليس العكس، فلا أبني عقيدةً منشؤها التاريخ أو الحديث، ثمّ أفرض على الحديث منهجاً يؤمّن لي تكوين تلك العقيدة، بل إذا كانت العقيدة ذات مرجعيّة حديثيّة أو تاريخيّة، فإنّها تكون تاليةً للمنهج البحثي، وليست سابقةً عليه.
والسؤال الآن: هل كانت تجربة الخوئي كارثيّة على علم الكلام النقلي، وعلى علم التاريخ والسيرة؟
الجواب عن هذا السؤال يحتاج للكثير من الدراسة والرصد، لكنّني أعتقد بأنّه من المبالغة والإجحاف توصيف تجربة الخوئي بذلك. إنّ تجربته تفتح الطريق بالتأكيد على التخلّي عن السذاجة والتساهل في تناول الحديث في علمَي: الكلام والتاريخ، وتعتبر أنّ مجرّد الحشد الروائي والمراكمة العشوائيّة للنصوص لا يكفي دون ممارسة مقاربة تحليليّة لمصادر النصوص وأسانيدها ومعارضاتها ومديات الأخذ بها، وهذا بالتأكيد سوف يُحدث ما يشبه الثورة، خاصّة وأنّ علم الكلام النقلي ظلّ حضوره ضعيفاً، قياساً بعلم الكلام العقلي الذي بلغ ذروته الأولى في القرنين الرابع والخامس الهجريّين.
هذا الأمر سوف يطلّ بنا على إشكاليّة كبيرة تواجه اللاهوت النقلي في التراث الشيعي بالخصوص، فهذا اللاهوت ظلّ عالةً في كثير من الأحيان على اللاهوت العقلي الكلامي في القرون الأولى، ثمّ صار عالةً على اللاهوت العقلي الفلسفي في القرون الأخيرة، هذا الأمر أضعَفَ من مكانة علم الكلام النقلي، مما عزّز أن يصبح التعامل مع المرويّات العقديّة بمثابة خطوة ثانويّة تأتي لمجرّد تأييد البحث العقلي الكلامي، أو تعزيزه بنصّ ديني، وهذا ما أثار نقد بعض التيارات المعاصرة، مثل المدرسة التفكيكيّة الخراسانيّة.
لست أُريد أن أجعل علم الكلام النقلي هو الأساس، بل أعتقد بأنّ علم الكلام النقلي يجب أن تكون له مقاربته المستقلّة أيضاً، والقائمة على دراسةٍ ممنهجة للنصوص الدينيّة، وبهذا نجد أنّ تراجع علم الكلام النقلي بوصفه دراسة لاهوتيّة جادّة، هو الذي أدّى إلى قلّة الاهتمام بالنقد الحديثي المتصل بالقضايا الكلاميّة، الأمر الذي يعني أنّ أيّ مطالبة بإحياء علم الكلام النقلي تعني المطالبة بأخذ منهج التعامل مع النصوص الدينية في صدورها ودلالاتها على محمل الجدّ، وهنا يأتي دور النقد الحديثي ويصبح رصيد تجربة الخوئي عالياً.
في هذا السياق، جاءت هذه المحاولة الرائعة في هذا الكتاب لدراسة تأثيرات منهج السيد الخوئي على مرجعٍ حديثيّ كلاميّ من الطراز الأوّل عند الشيعة الإماميّة، عنيتُ أصولَ الكافي لمؤلّفه الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني (328 أو 329هـ)، لقد حاول هذا الكتاب أن يطبّق مناهج البحث الحديثي التي اعتمدها الخوئي، على أصول الكافي، ليمارس مراقبةً عن كَثَب في نتائج عمليّةِ التطبيق هذه، هل ستكون إطاحةً بالمرويّات الكلاميّة، كما يقول بعضٌ، فلن تبقى روايةٌ صحيحة، أو أنّ الصورة لن تكون على هذا الشكل؟
الشيء اللافت أنّ عملية التنزيل هذه، تكشف أنّ نقديّات الخوئي على الحديث رغم أنّها أطاحت بالكثير من النصوص الحديثيّة بل بأكثرها، لكنّ أكثر الأبواب العقائديّة التي اشتملها كتاب “أصول الكافي” ظلّت تحظى بنصوص صحيحة الإسناد، تؤيّدها نصوص ضعيفة في الباب نفسه. بهذا كشف لنا هذا الكتاب أنّ التجربة النقديّة الحديثيّة لا يصحّ إطلاق الكلام على عواهنه تجاهها، وتقديمها كفزّاعة، قبل التأكّد من النتائج التي سوف توصل إليها، علماً ـ كما قلنا آنفاً ـ أنّ المنهج يسبق النتائج، وليس العكس.
إنّني أتوجّه إلى أخينا الفاضل العزيز الشيخ أحمد بن عبد الجبّار السميّن حفظه الله تعالى ـ وهو من عرفناه مجِدّاً في مجال البحث العلمي ـ بخالص الشكر والتقدير، على هذا العمل المجهد والرائع، والذي تطلّب منه بذلَ الكثير من الوقت والطاقة؛ لأنّ عمليّة تطبيق منهجٍ حديثي على كتاب لم يقم صاحب المنهج مباشرةً بتطبيقه عليه، هي عمليّة تشوبها الكثير من الصعوبات والمخاطر والتحدّيات، وتحتاج بالفعل إلى دقّة عالية ومراجعة متكرّرة، فجزى الله أخانا السميّن على هذا الجهد الطيّب، وجعله في ميزان حسناته، ووفّقه للمزيد من الأعمال النافعة والمباركة، إنّه وليّ قريب وبالإجابة جدير.
حيدر محمّد كامل حبّ الله
18 ـ شهر رمضان المبارك ـ 1442هـ
30 ـ 4 ـ 2021م
([1]) هذا المقال عبارة عن تقديم لكتاب “الأحاديث المعتبرة من أصول الكافي، بمحوريّة المباني الرجاليّة للإمام السيّد أبي القاسم الخوئي”، وهو من تأليف الشيخ أحمد بن عبد الجبّار السميّن، وقد صدر في طبعته الأولى عام 2022م.