حيدر حب الله([1])
يُقصد بهذا السبيل التوثيقي أنّه لو كان الراوي من المعاريف المشاهير في عالم الرواية والحديث وأمثالها، يطلبه المحدّثون ويقع في أسانيدهم كثيراً، ثم لم نجد فيه أيّ طعن من قبل أحدٍ من العلماء عبر القرون، فهذا كاشف عن كونه ثقةً، وإلا فلا يعقل أن يكون الشخص بهذه المثابة والشهرة في عالم الحديث والرواية وترد رواياته في عشرات المواضع والكتب، ثم لا يتمّ التعليق عليه بنقطة سلبية هنا أو هناك، فاتفاق هذا العدم في السلب كاشف نوعي عقلائي عن توثيقهم له واعتمادهم عليه.
وقد اختار هذه القرينة بعض المعاصرين، وهو الشيخ جواد التبريزي رحمه الله، حيث قال لدى حديثه عن الحكم بن مسكين ما نصّه: «وهو على ما ذكرنا من المعاريف الذين لم يرد فيهم قدح، وهذا المقدار يكفي في اعتبار خبره؛ لأنّ تصدّي جماعة من الرواة، وبينهم الأجلاء، لأخذ الروايات عن شخص، يوجب كونه محطّ الأنظار، وإذا لم يرد فيه قدحٌ ولو بطريقٍ غير معتبر، يكشف ذلك عن حُسن ظاهره في عصره». وقد بنى الشيخ التبريزي على هذا الرأي توثيقَ جماعة من الرواة، مثل إسماعيل بن مرار، والنوفلي، وعمر بن حنظلة، وصالح بن عقبة، وموسى بن بكر، وأبي بكر الحضرمي، والقاسم بن عروة، ومسعدة بن صدقة، وغيرهم([2]).
ولعلّه يمكن فهم هذا التوجّه التوثيقي من القائلين بوثاقة مشايخ الإجازة المشهورين، وفقاً للتفصيل الذي مرّ في بحث مشايخ الإجازة.
إلا أنّ الصحيح أنّ كون الشخص من المعاريف دون أن يُطعن عليه لا يُثبت توثيقاً؛ وذلك:
أوّلاً: إنّ هذه الفكرة تتجاهل واقع المصنّفات الرجاليّة والبحوث الفقهيّة الاستدلاليّة عند الإماميّة في القرون الخمسة الهجريّة الأولى، فإنّ المصنّفات الرجاليّة الواصلة إلينا محدودة جداً، وهي تدور في فلك:
أ ـ المشيخات، كمشيختي الطوسي والصدوق، وليست سوى بياناً للطرق إلى الرواية أو الشخص أو الكتاب، دون أن يتصدّى صاحب المشيخة للتوثيق والتضعيف، ودون أن يتعهّد بذلك، ولهذا نجده يذكر توثيقاً أو تضعيفاً هنا أو هناك بشكلٍ عابر ونادر.
ب ـ الفهارس، كفهرستي النجاشي والطوسي، ومن الواضح أنّه ليس الغرض منها التوثيق والتضعيف، وإنّما ذكر الكتب والمصنّفات والطرق إليها، وهذا هو السبب في أنّ أغلب من ترجموهم لم يذكروا فيهم توثيقاً ولا تضعيفاً.
ج ـ الطبقات، كرجال البرقي ورجال الطوسي، وهذه هدفها جمع أسماء الرواة على ترتيب الطبقات، ولهذا في أغلب الموارد لا يتعرّضون لأكثر من ذكر اسم الراوي في الطبقة دون أيّ تعليق يُذكر.
د ـ الرواية الرجاليّة، مثل رجال الكشي، وهذا خاصّ بمن وردت فيه روايات عن النبي والأئمّة، لا مطلق الرواة ولو كان من المعاريف كما هو واضح.
فإذا أضفنا إلى ذلك ندرة التعليقات الرجاليّة على الرواة في سياق سائر المصنّفات، وأنّ أغلب الكتب لم يكن استدلاليّاً وتحقيقياً مفصّلاً، مضافاً إلى عدم وصول الكثير من كتب المتقدّمين إلينا في الفقه والرجال وغيرها، ككتب ابن الجنيد والعماني والغضائري وغيرهم، فلا نستطيع الجزم بأنّ كلّ واحد من المشاهير لم يُذكر بقدحٍ فهو ثقة عندهم.
نعم، يمكننا الاطمئنان بذلك بنحو القضيّة المهملة، أي في بعضٍ منهم غير المعيّن، أمّا اعتبار ذلك بمثابة توثيق عامّ لهم فهو في غاية الصعوبة، خاصّة لو جعلنا ـ كما فعل الشيخ التبريزي ـ معيار المعروفيّة والشهرة أنّه يروي بضعة عشرات من الروايات.
هذا، وقد ألمح لشيءٍ مما قلناه بعض المعاصرين أيضاً([3]).
ثانياً: إنّ غاية ما تفيده هذه المحاولة أنّه لو علمنا باعتمادهم في ردّ فكرةٍ ما على نقد سند رواية ما، فهذا قد يكون صحيحاً؛ لكنّهم في الغالب إثباتاً ونفياً نجدهم يعتمدون على ضمّ الروايات إلى بعضها أو النظر في متنها من حيث مخالفته لأصول المذهب أو مهجوريّته أو نحو ذلك، فإذا كانت المرجّحات النقديّة عندهم تقع في الغالب في هذا السياق، ولهذا قلّما نجدهم يطرحون روايةً لاعتبارٍ سنديّ محض، ففي هذه الحال يمكن أن يكونوا يرون بعض الرواة ضعافاً أو مجاهيل؛ لكنّهم لا يطعنون في السند اعتماداً على معايير أرجح وأكثر توافقاً.
ويمكن صياغة الفكرة بطريقة أخرى وهي: إنّ الفقيه من المتقدّمين عندما ينظر في مجموعة روايات تدل على موضوع، ثم نجد أنّه لا يؤمن بهذا الموضوع، ففي الغالب نجد طريقتهم ليست تتبّع السند في كلّ رواية، بل إمّا الاكتفاء بصاحب الكتاب لو اُخذت منه كلّ هذه الروايات، وأنّه ضعيف، أو بمعارضة هذه الروايات لغيرها، أو بكونها مهجورة، أو نحو ذلك، ومن ثم لا نستطيع في مورد ردّهم للروايات أن نتأكّد أنّ الرواة لم يكونوا ضعفاء عندهم أيضاً. ودعوى أنّ الوثوق لا يعقل أن يكون بمعزل عن الوثاقة العامّة في الراوي، غير مقنعة أبداً، كيف وغير المتشدّدين في الرجال من المتأخّرين يعملون بعشرات النصوص بل وأكثر دون بحث أصلاً عن سندها، فلماذا لا يكون هذا حال كثير من علماء الطائفة في مواضع كثيرة من العلوم الدينيّة في تلك الأزمنة، وإنّما كان تحفّظهم عن الرجل الضعيف أو المجهول المنكر نكارة تامّة، خاصّة وأنّ الأغلبيّة الساحقة من النصوص المنقولة عبر هؤلاء المشاهير يمكن أن يكون لها شواهد أو متابعات، ولهذا نجدها غالباً منضمّة لروايات اُخَر معها في الباب الحديثي الواحد، فهذا كافٍ عندهم في الاعتبار الحديثي، وما النافي لهذا الاحتمال؟!
وعليه، فغاية ما يفيده السكوت عن المعاريف أنّهم لم يظهر فيهم طعن، وأنّ ذلك أمارة ناقصة على رضاهم عنه عندما تكثر رواياته في الأبواب المختلفة، أمّا جعل ذلك أمارة تامّة دائميّة أو دليلاً على التوثيق فهو في غاية الصعوبة.
___________________________
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (منطق النقد السندي، بحوث في قواعد الرجال والجرح والتعديل 2: 417 ـ 420)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 2017م.
([2]) التبريزي، التهذيب في مناسك العمرة والحج 3: 22، وانظر: المصدر نفسه 1: 134، 197، 267، و2: 47، و3: 68، 211؛ وانظر له أيضاً: أسس الحدود والتعزيرات: 99، 118، 206؛ وأسس القضاء والشهادة: 15، 29، 156، 352، 488، 550؛ وتنقيح مباني الأحكام (كتاب الديات): 31، 128، 239؛ وتنقيح مباني الأحكام (كتاب القصاص): 90، 236، 284، 287، 307؛ وتنقيح مباني العروة (كتاب الاجتهاد والتقليد): 66؛ وتنقيح مباني العروة (كتاب الصوم): 90، 160، 164، 213؛ وتنقيح مباني العروة (الطهارة) 1: 315، و3: 51، 292، 395، و4: 18، 255، 450، 465؛ والسيفي المازندراني، دليل تحرير الوسيلة (أحكام الأسرة): 360؛ ودليل تحرير الوسيلة (كتاب الخمس): 14.