حيدر حب الله([1])
المباحث التمهيدية
مطالعات عامّة حول الاستشراق
1 ـ تعريف الاستشراق
الاستشراق ـ على وزن استفعال ـ كلمة تعني غالباً طلب شيء ما، فكأنه طلبٌ للشرق وقصد له كي يحصل عليه وعلى حضارته وعلومه، وربما يكون بمعنى الدخول في الشرق، فالمستشرق هو من يسافر إلى مشرق الشمس.
ويقصد بالاستشراق اصطلاحاً التخصّص الذي يمارسه الغربيّ في مجال دراسة الشرق على مستوى لغاته وتاريخه ودياناته وثقافته وحضارته، انطلاقاً من زوايا علمية متعدّدة.
وانطلاقاً من ذلك نجد:
أ ـإنّ الاستشراق لا يختصّ بدراسة الغربي للعالم العربي أو الإسلامي، بل يمتدّ ليشمل الحضارة الهندية والصينية واليابانية وغيرها من الحضارات الشرقيّة أيضاً.
نعم، نتيجة غلبة الاهتمام بالبلاد الإسلامية صار هنا ما يشبه الانصراف إلى هذه المساحة الجغرافية من بلاد الشرق، ونحن نعرف أنّ بعض المستشرقين كانوا يتخصّصون ببعض البلدان أو بعض الحضارات، ولهذا أطلق على بعضهم المستعربين، وكان الاستعراب فرعاً من فروع الاستشراق؛ لأنه دراسة في الشرق العربي خاصّة.
ب ـقد يطلق الاستشراق على ممارسة باحث شرقي لدراسة حول الشرق، فقد يسمّون الياباني الباحث في قضايا الإسلام مستشرقاً، وهذا إطلاق تسامحي يبرّره انطلاقه من خارج المناخ الإسلامي مستخدماً مناهج الدراسات الغربية.
ج ـلا يختصّ الاستشراق بدراسة الظاهرة الدينية، بل يستوعب دراسة التاريخ والأدب والعادات والتقاليد والحياة السياسية والاجتماعية وغير ذلك. من هنا فتصوّر الاستشراق اختصاصاً منحصراً بالإسلام أو الدين غير صحيح إطلاقاً.
د ـليس نقد الشرق جزءاً من هويّة المستشرق، بل دراسة الشرق هي مقوّم الهوية، ومجرّد أن عدداً كبيراً من المستشرقين كان ناقداً للشرق وتاريخه وحضارته لا يجعل النقد عنصراً مقوّماً للعمل الاستشراقي؛ فهناك العديد من المستشرقين لم يكونوا ناقدين، بل بعضهم كان معجباً بالشرق ومدافعاً عن قضاياه.
2 ـ الاستشراق، مطالعة تاريخية
تختلف الدراسات في تحديد البدايات التي نشأ فيها الاستشراق، وفي هذا الإطار ظهرت عدة نظريات أو آراء، أهمّها:
1 ـ العود ببدايات الاستشراق إلى القرن الميلادي الأوّل، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بالعثور على كتاب لمؤلّف غربي مجهول الهوية تحت عنوان (الطواف حول البحر الاريتيري)، وقد ذهب هؤلاء إلى تأكيد أنّ هذا الكتاب يعود إلى القرن الميلادي الأول، معتمدين على رأي الباحث الدكتور جواد علي.
ويبدو أنّ الأخذ بهذا الرأي يواجه مشاكل من ناحية الإثبات التاريخي تارةً، وتجنّب النقض تارة أخرى، فالمؤرّخ اليوناني هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وأرّخ للحروب اليونانية ـ الفارسية.. قام برحلات كثيرة طالت مصر جنوباً وبابل شرقاً والبحر الأسود شمالاً، وقد كتب ما شاهده في تلك البلدان حتى عُدّ كتابه المؤلّف من تسعة أجزاء موسوعةً كبيرة في تاريخ الحضارات الشرقية، وهذا معناه أنّ الاستشراق لابدّ أن يكون قبل الميلاد أيضاً، وفقاً لطريقة الاستدلال التاريخي التي اعتمدها هذا الرأي.
2 ـ إنّ بدايات الاستشراق تعود إلى أواخر القرن السابع الميلادي، ويرى هؤلاء أنّ مساهمات بعض العرب المسيحيين في دراسة الإسلام تشكّل بدايات الاستشراق، ويمثلون لذلك بيوحنا الدمشقي (749م) الذي ترك الكثير من المصنّفات التي يحمل بعضها طابعاً نقديّاً ضدّ الإسلام، كان من أشهرها كتابه (منهل المعرفة)، وكان الدمشقي من آباء الكنيسة الشرقية.
بل إنّ مساهمات النصارى في العصر العباسي في ترجمة الفكر اليوناني يمكن أن تدخل ضمن هذا السياق أيضاً.
لكن يبدو أنّ هذا الرأي غير دقيق؛ لأنه تصوّر أن نقد الإسلام من جهة ومسيحية الباحث من جهة أخرى عناوين مقوّمة للاستشراق، مع أننا قلنا بأنّ النقد ليس العنصر المقوّم للاستشراق، والمسيحية ليست ظاهرة محض غربية حتى نحسب كلّ مساهمة مسيحية في دراسة الإسلام استشراقاً.
3 ـ تعود بدايات الاستشراق إلى الفترة التي قام فيها المسيحيون بنقل الفكر اليوناني والغربي إلى بلاد الغرب من الحواضر العلمية الإسلامية، أي إلى تلك الفترة التي أعاد فيها الغرب اطّلاعه على حضارته عبر المسلمين الذين كانوا قد ترجموا هذه الحضارة واستوعبوها وعمّقوها.
وقد كانت مقدّمة ذلك أن تعلّم الكثير من مسيحي الغرب اللغة العربية وعاشوا في بلاد المسلمين أو زاروها، كي يتمكّنوا من التعرّف على حضارة المسلمين، وعبر ذلك إعادة نتاجهم الفكري ـ المطوّر هذه المرة ـ إلى بلادهم، ويبدو أنه قبل القرن العاشر الميلادي كانت هناك بعض الجهود البسيطة في هذا المجال، لكنّها لم تكن لتشكّل تياراً أو ظاهرة يمكن الحديث عنها.
4 ـ يعود الاستشراق إلى القرن العاشر الميلادي مع انطلاقة مشروع الراهب المسيحي الفرنسي جربير سلفستر الثاني (1003م) الذي أطلق عملية دراسة الشرق، حيث كان قد تعلّم العربية في قرطبة، ثم رجع إلى بلاده ليصبح (البابا سلفستر الثاني)، ويطلق مشروع البحث في الشرق بحكم موقعه ومنصبه.
5 ـ تعود البدايات الحقيقية للاستشراق إلى فترة الحروب الصليبية، ففي هذه الفترة وقع صدام الحضارات بين الشرق والغرب، وكان من الطبيعي أن يولّد هذا الصدام اطّلاعاً متبادلاً على الطرف الآخر؛ لأنه يزيد في العادة من الاحتكاك الحضاري، لاسيّما وأنّ الحروب الصليبية كانت طويلة المدّة، حيث استطالت لقرابة القرنين من الزمان.
ويمكن التكهّن بهذا الرأي من خلال تحليل ما يسمّى في الدراسات التاريخية ببرهان طبيعة الأشياء، وهناك ما يشهد عليه، حيث ظهر ما يعدّ عند بعضهم أول نتاج استشراقي في القرن الثاني عشر الميلادي من خلال ظهور أوّل ترجمة للقرآن الكريم، وأول قاموس عربي ـ لاتيني.
6 ـ إنّ الاستشراق يرجع تحديداً إلى حملة نابليون بونابرت (1821م) التي طالت مصر عام 1798 ـ 1799م، فقد شكّلت هذه الحملة انطلاقة تواصل ثقافي وفكري بين الغرب والشرق، حيث رافق نابليون في حملته على مصر عددٌ من العلماء والباحثين الغربيين، كما أخذ معه مطبعة لطباعة الكتب.
من خلال هذه الآراء الستة يتبيّن أن الباحثين في تاريخ الاستشراق أرادوا أن يرجعوا بالمعطيات التاريخية المتوفرة إلى أقدم تجربة غربية للتعرّف على الشرق، وإذا تأمّلنا قليلاً سنجد أن تعرّف الغرب على الشرق فيما نسمّيه بالاستشراق، وتعرّف الشرق على الغرب فيما نسمّيه بالاستغراب ظاهرة قديمة على المستوى الفردي والمحدود، تعود إلى الرحلات المتبادلة والعلاقات السياسية بين الامبراطوريات القديمة من خلال السفراء وغيرهم، إلا أننا عندما نريد أن نتحدّث عن الاستشراق بوصفه ظاهرة أو مشروعاً فمن الطبيعي أن نتأخّر زمنياً إلى الحروب الصليبية بوصفها مرحلة أولى، وإلى القرن الثامن عشر بوصفه مرحلة ثانية.
3 ـ مدارس الاستشراق
يطول الحديث عن مدارس الاستشراق كثيراً؛ لأنّ تقسيم الاستشراق إلى مدارس واتجاهات كانت له عند الباحثين أشكاله وأساليبه.
وأبرز التقسيمات التي اتبعت كانت كالتالي:
1 ـ 3 ـ المنهج الموضوعي في تقسيم مدارس الاستشراق
نقصد بهذا المنهج فرز المستشرقين وجهودهم من حيث نوعية الموضوعات التي اشتغلوا عليها، وقد استخدم العديد من دارسي الاستشراق هذا النوع من تقسيم المستشرقين، ومن باب المثال نذكر بعض التقسيمات التي طرحت وفقاً لهذا الأساس.
أ ـ تقسيم الدكتور نجيب العقيقيـ وهو باحث متخصّص في الاستشراق وشخصيّاته ـ حيث قسّم الاستشراق إلى مدرستين كبيرتين هما:
1 ًـ المدرسة السياسية،وهي ـ عنده ـ المدرسة التي ركّزت جهودها على الأدب بشكل عام، بما للأدب من مفهوم واسع يطال الفكر الإنساني والإنسانيات، وفي هذه المدرسة تندرج دراسات المستشرقين حول الدين والتاريخ واللغة والأعراف و..
2 ًـ المدرسة الأثرية،وهي المدرسة التي عنت بالآثار.
وكما نرى، فإنّ تقسيم العقيقي واسع سعةً كبيرة، ولا يعطينا الكثير من الإضاءات على خصائص كلّ مدرسة؛ لأن العنصر الجامع لكلّ من المدرستين ليس عنصراً رئيسياً في تكوين هذه المدرسة أو تلك، وإنما هو أشبه بالوصف العرضي الذي يطال ذوات متباينة.
ب ـ تقسيم الدكتور حسين الهراوي، الذي قسّم الاستشراق إلى مدارس ثلاث هي:
1 ًـ مدرسة القرآن الكريم:وهي المدرسة المختصّة بدراسة القرآن الكريم وتاريخه وجمعه وما يتصل بقضايا الوحي ونحو ذلك.
2 ًـ مدرسة التاريخ النبوي:وهي المدرسة المختصّة بحياة النبي محمد $وما جرى معه في سيرته، وأعماله، وحروبه وسياسته و…
3 ًـ مدرسة التاريخ العربي:وهي المدرسة التي تعنى بتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وباللغة العربية، وبتاريخ الإسلام في عصر الصحابة، والعصر الأموي والعباسي إلى يومنا هذا.
هذا التقسيم يعاني من مشكلة رئيسة، وهي أنه يضع الاستشراق في مواجهة حصرية مع الإسلام وقضاياه، مع أنّ الاستشراق لا يختصّ بالإسلام وإنما يستوعب ـ كما أشرنا سابقاً ـ الشرق على امتداده الحضاري بما فيه من حضارة هندية ويابانية وفارسية ومصرية قديمة وفينيقية وسومرية وغير ذلك.
يضاف إلى ذلك أننا لا نجد هذا التقسيم واقعيّاً، فمثلاً لا نلاحظ اتجاهاً متخصّصاً بالسيرة النبوية لا يعنيه البحث القرآني، كما نجد الكثير من المستشرقين درسوا أكثر من موضوع، فجولدتسيهر (1921م) درس التاريخ النبوي والقرآن وتاريخ العرب بعد الإسلام، وثيودور نولدكه (1930م) درس القرآن في كتابه (تاريخ القرآن)، كما درس السيرة في كتابه (حياة محمد)، ودرس التاريخ العام فيما كتبه تحت عنوان (تاريخ الفرس والعرب في عصر الساسانيين). وكثير من المستشرقين درسوا القرآن ودرسوا اللغة العربية وتاريخ العرب معاً؛ لأنّ هناك ترابطاً عضوياً وثيقاً بين هذه الأمور.
2 ـ 3 ـ المنهج الجغرافي في تقسيم مدارس الاستشراق (مشروع العقيقي أنموذجاً)
وهو التقسيم الذي يعتمد على بلد المستشرق، فيقسّم الاستشراق وفق الجغرافيا، وهذا ما فعله الدكتور نجيب العقيقي عملياً في كتابه المشهور حول المستشرقين، حيث قسّم الاستشراق إلى انجليزي وفرنسي وإيطالي ومجري وألماني وأسباني و…
وكأنّ العقيقي نسي تقسيمه المتقدّم، واستبدله ميدانياً بالتقسيم الجغرافي، وربما يكون السبب في ذلك سهولة اعتماد المعيار الجغرافي في الفرز والقسمة، إضافة إلى تجنيب هذا التقسيم الباحث مهلكة التداخل في العادة.
ومن الطبيعي أن نلاحظ على هذا التقسيم أنه غير وافٍ بتكوين مدرسة، فأهميّة تقسيم المدارس تكمن في الجانب الموضوعي الدقيق تارةً، وفي الجانب المنهجي تارةً أخرى، فنحن قادرون على أن نقول: هناك مدرسة فقهية في الفكر الإسلامي، ومدرسة فلسفية، ومدرسة قرآنية، وفقاً لفرز موضوعي، أو هناك مدرسة إخبارية ومدرسة أصولية وفقاً لفرز منهجي. أما المدرسة الجغرافية فتحتاج إلى الكثير من العناصر الحافّة حتى تكون مدرسةً لها استقلالها وامتيازها عن غيرها.
3 ـ 3 ـ المنهج الغائي في تقسيم مدارس الاستشراق
وهو التقسيم الذي يعتمد غايات المستشرقين أساساً، وفي هذا السياق يمكن تقسيم مدارس الاستشراق وتياراته إلى ما يلي:
أ ـ الاستشراق الديني الأيديولوجي:وهو الاستشراق الذي كانت دوافعه دينيةً، وهو ذاك الاستشراق الذي قادته المؤسّسات الدينية المسيحية خلال الحروب الصليبية وما تلاها، وقد كانت أهداف الكنيسة في تلك الفترة الدفاع عن العقائد المسيحية ومواجهة التوسّع الثقافي الذي كان يقوم به العالم الإسلامي نحو الغرب، لاسيما بعد سقوط الأندلس في يد المسلمين، أو الهجوم على الثقافة الإسلامية من جهة ثانية وممارسة عمليات التنصير والتبشير.
ب ـ الاستشراق الاستعماري:وهو الاستشراق الذي كان ينطلق بدافع سياسي ـ عسكري ـ توسّعي، وقد كان الهدف منه التعرّف على ثقافة بلدان الشرق وأحوالها وأوضاعها وعاداتها وتقاليدها وحضارتها بهدف التمكّن من وضع الخطط الكفيلة بتحقيق الغزو العسكري والثقافي والإبقاء على القوات العسكرية الأجنبية في بلاد الشرق فترةً أطول.
وفيما كان الدعم الكنسي هو المرجع المموّل للاستشراق بمدرسته الدينية ـ الأيديولوجية، كانت وزارات المستعمرات في الدول المستعمرة كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها تقوم بتمويل الحركة الاستشراقية، ولهذا كان الكثير من المستشرقين حتى النصف الأول من القرن العشرين موظّفين أو تابعين لوزارة المستعمرات أو وزارة الخارجية في حكومات بلدانهم.
ج ـ الاستشراق العلمي:وهو الاستشراق الذي لم يرَ في دراسة الشرق سوى مادّة علمية، وقد بدأ شيوع هذا النوع من الاستشراق وهذا الجيل من المستشرقين بالأخصّ بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار كلّ من الاستعمار الأجنبي المباشر وسلطة الكنيسة المطلقة.
والذي يلاحظ في هذا النوع من الاستشراق أنه صار مدعوماً من الجامعات ووزارات العلوم والأبحاث في البلدان الغربية أكثر من كونه تابعاً لوزارة الدفاع أو الخارجية، ولهذا ظهر جيل من المستشرقين يختلف من حيث أسلوبه وعمقه وأدب حديثه حول الشرق عن الأجيال السابقة.
4 ـ مجالات العمل الاستشراقي
تنوّعت وتعدّدت الجهود والأعمال التي قام بها المستشرقون في دراساتهم للإسلام، كما كثر عددهم حتى ألّفت حولهم كتب تحصيهم مثل كتاب (طبقات المستشرقين) للدكتور عبد الحميد صالح حمدان، وكتاب (المستشرقون) لنجيب العقيقي، وألّفت أيضاً أعمال تحصي نتاجاتهم وكتبهم ومقالاتهم مثل كتاب (كتابشناسي خاورشناسان) الذي دوّنته مجموعة من الباحثين والمترجمين، وصدر عن (انتشارات بين المللي الهدى) في طهران عام 1993م. بل لقد ألّفت العديد من المعاجم والموسوعات المعنية بدراسة المستشرقين وحالهم وأعمالهم مثل (موسوعة المستشرقين) لعبد الرحمن بدوي.
ونظراً لكثرة عدد المستشرقين وأعمالهم، نجد أنّه لم يخلُ مجال في التراث والفكر الإسلاميَّين إلا وطرقه المستشرقون إلى يومنا هذا، حتى كان لهم فضل كبير في إخراج أمهات الكتب الإسلامية من رفوف المكتبات المخطوطة إلى عالم التصحيح والإخراج والتعليق والطباعة الجديدة.
إلى جانب ذلك، كانت للمستشرقين دراسات هامة في مجال الأدب واللغة العربيّين، وحول الشعر الجاهلي، وقد استخدموا في ذلك مناهج البحث التاريخي والألسنيات وعلوم اللغة الجديدة، كما درسوا التاريخ العربي والإيراني والتركي، والإسلامي، وعالجوا الكثير من الأحداث التاريخية على طريقتهم، كالثورات والحياة السياسية والسيرة النبوية وعلاقات المسلمين بغيرهم لاسيما باليهود، ودرسوا القرآن لاسيما على مستوى تحليل ظاهرة الوحي وما يتصل بتاريخ القرآن وجمعه وتدوينه وتطور كتابته والقراءات القرآنية، كما ترجموه ترجمات عديدة، وكتبوا في علم المعاجم والفهارس القرآنية.
وتناول المستشرقون الفتح الإسلامي، ودرسوا الشعوب والبلدان التي طالتها الفتوحات الإسلامية، وتحدّثوا عن أحوالها قبل الفتح وبعده، ودرسوا السلالات التي حكمت مختلف أقطار العالم الإسلامي، من العباسيين والأمويين والعثمانيين والحمدانيين والفاطميين و…
كما درسوا الفرق الإسلامية وتطوّرها وعلاقاتها، لاسيما المعتزلة والإسماعيلية والزيدية والقرامطة و… ودرسوا الفقه الإسلامي وتطوّره وعلم الكلام، ورصدوا علاقات المسلمين بالحضارات الأخرى وغير ذلك الكثير، حتى أبدعوا في دراسة الفنّ المعماري الإسلامي.
5 ـ عناصر النجاح ونقاط الضعف في أعمال المستشرقين
أ ـ عناصر القوّة والنجاح
ثمّة عناصر ساعدت على نجاح الدراسات الاستشراقية، أهمّها باختصار:
1ًـ دراستهم باهتمام اللغات والحضارات القديمة كالآرية والكلدانية والآشورية والعبرية والسريانية والعربية والفارسية والتركية، وقد صنّفوا فيها الكثير. فالمستشرق بيتز مثلاً أحسن 51 لغة ولهجة، والمستشرق فرموند أتقن 30 لغة، والمستشرق روكرت تحدّث 30 لغة.
2ًـ اتّباع مناهج متطوّرة في العلوم الجديدة وأخذهم بالمناهج الجديدة للمعرفة البشرية.
3ًـ التخصّص في مجال محدّد، من لغة أو دين أو..، لهذا نجد أنّ أعمالهم مركّزة جدّاً.
4ًـ الجدّية العالية في إنجازهم لأعمالهم، وصبرهم الكبير أثناء القيام بمشاريعهم الكبرى التي تستغرق أعماراً بأكملها.، فالمستشرق كاستل ظلّ 18 سنة في وضع معجمه في اللغات السامية.
5ً ـ الدعم المالي الذي كانت توفره لهم في كثير من الأحيان الدول والمؤسسات الدينية والمدنية.
ب ـ عناصر الضعف والإخفاق
ثمّة عناصر ضعف ابتلي بها المستشرقون في غالب دراستهم، أهمها بإيجاز:
1ًـ النزعة العدائية عند بعضهم، والتي أعمتهم في كثير من الأحيان عن رؤية الواقع بأمانة ودقّة.
2ًـ عدم معايشة ثقافة الشعوب الأخرى بشكل حقيقي، ولهذا كانت عندهم مشاكل لغوية.
3ًـ استخدام التفسير المادي السلبي دائماً للظواهر والأحداث والابتعاد عن القيم السامية في تفسير الظواهر لصالح الفهم المصلحي للحدث التاريخي.
4ً ـ عدم إقامة أدلّة على عدد لا بأس به من نظرياتهم، واكتفائهم بجمالية عرضها وتناسقها الداخلي.
5ً ـ اعتماد مصادر ضعيفة وغير أصليّة، لاسيما في دراساتهم حول الشيعة الإمامية.
6ً ـ إسقاط نظريات مسبقة أحياناً (جولدتسيهر أنموذجاً).
7ً ـ اعتماد مبدأ التشابه بين الديانات والحضارات لتفريغ الإسلام من كل جديد.
6 ـ منهج التعامل مع الاستشراق
انطلاقاً من هذا التنوّع الموجود في حركة الاستشراق يتبادر إلى ذهننا سؤال هام: كيف يفترض فهم الظاهرة الاستشراقية؟ كيف نتعامل مع هذه الظاهرة بشكل يكون فهمنا لها صحيحاً؟ كيف نتجنّب بعض المفاهيم والتصوّرات التي تعيق فهمنا الصحيح لها؟ ثم كيف نخوض معها حواراً علمياً؟ وما هو المنهج العلمي المفترض الذي نتمكّن من خلاله من تسجيل ملاحظات علمية على هذا المستشرق أو ذاك؟
في هذا السياق تجدر الإشارة السريعة للنقاط التالية:
1 ـ لا تتّحد صيغة التعاطي الفكري مع المستشرقين، وإنما تختلف تبعاً لانتماءات المستشرق الفكرية والمنهجية.
ولتوضيح هذه النقطة الهامة نمثل بالاستشراقين: الديني، والعلمي / العلماني، فالمستشرقون الذين كانوا ينطلقون من منطلقات دينية، وبعضهم رجال دين مسيحيون أو يهود، يمكن الإيراد عليهم بما في النصوص الدينية لدياناتهم؛ فإذا أشكلوا مثلاً بأنّ الحديث النبوي غير ثابت، وأنّ هناك فترة معتمة لم يدوّن فيها حديث النبي|، ومن ثَمّ فنحن غير قادرين على الوثوق بهذه الأحاديث، أمكن ممارسة جواب نقضي عليهم بأنّ نصوص (السنّة) في الديانتين اليهودية والنصرانية دوّنت بعد عقود من وفاة عيسى× وقرون من وفاة موسى×، لكن إذا جاء مستشرق علماني وقال هذا الكلام بعينه، فلا يمكن الجواب عنه بذلك؛ لأنه سوف يقول تلقائياً بأنه يقبل بذلك وبأنّ إشكاله يسري على المسيحية واليهودية كما على الإسلام. هذا كلّه يعني أنّ الانتماء الفكري للاستشراق ضرورة لمعرفة كيفية خوض الحوار الفكري معه.
وفي هذا السياق لا يصحّ اتّباع منهج واحد على مستوى الأسلوب مع جميع التيارات الاستشراقية، فبعضها له أغراض استعمارية، وبعضها ليس كذلك، فلا يصحّ الخلط بين الأوراق في هذا المجال.
2 ـ لا ينبغي الخلط بين دوافع المستشرق وقيمة بحثه العلمي، فلكي يكون حوارنا الفكري مع الاستشراق وزيناً وأكاديمياً علينا النظر في الدراسة التي يقدّمها هذا المستشرق أو ذاك، بصرف النظر عن دوافعه، فحُسن نواياه أو سوئها لا يبطل فكرةً قالها ولا يصحّح مقولةً أطلقها، وواحدة من أشهر أخطاء الدارسين المسلمين لقضايا الاستشراق هي:
إما حُسن الظن بالمستشرقين بحيث يعمي عن رؤية أخطائهم حتى تكوّنت تيارات فكرية في عالمنا الإسلامي لم تكن سوى ترجمة حرفية أمينة لأعمال المستشرقين، ولهذا نجد الكثيرين ممّن ينزعجون من نقد الاستشراق وأن هذا النقد تعبير ـ بالضرورة ـ عن تخلّفنا العلمي.
أو سوء الظن بهم وتطبيق منطق المؤامرة على أعمالهم بأجمعها، إلى حدّ أن هذا أفقدنا العديد من الأفكار الصحيحة التي اكتشفها المستشرقون، والتي كان من شأنها أن تطوّر معارفنا الفكرية والدينية.
لقد بلغ سوء الظن حدّاً أن حمل مفكّر كبير مثل مالك بن نبي، حمل مدح المستشرقين للحضارة الإسلامية على أنه حقنة اعتزاز كان الهدف منها ذرّ الرماد في العيون وتخدير المسلمين بماضيهم وتعمية أبصارهم عن الخطط الاستعمارية.
من هنا، فالمطلوب في الحوار الفكري مع الاستشراق وأعماله أن ننظر إلى النتاج الاستشراقي لتفكيكه وتحليله وتقييمه بصرف النظر عن الدوافع والنوايا.
المستشرقون والسنّة النبوية
دراسة في الشخصيات، الأعمال، النظريات والملاحظات
تمهيد
ومن جملة ما أولاه المستشرقون أهميةً في دراساتهم الإسلامية (الحديث الشريف)، فقد كان هناك تركيزٌ كبير على هذا الملفّ، وقد أثار المستشرقون العديد من الأفكار وقدّموا الكثير من الطروحات التي سرعان ما تركت أثراً على بعض الدراسات الإسلامية مخلّفةً وراءها مدرسةً جديدة بدأت بالتكوّن في الداخل الإسلامي.
بدورنا، سوف نطالع في هذه الأوراق جهود المستشرقين في مجال دراسة السنّة النبويّة والحديث الشريف، وذلك عبر العناوين التالية التي سنتعرف من خلالها تارةً على أهم المستشرقين الذين اشتغلوا على الحديث النبوي وحياتهم وأعمالهم الفكرية، وأخرى على أهم الأعمال الفكرية والكتب والمقالات التي قدّموها في هذا المضمار، وثالثة على أهمّ الأفكار التي قدّموها وفهرسة هذه الأفكار، ورابعة في أهم الأعمال الإسلامية التي علّقت على هذه الأفكار، ومهم التعليقات والردود التي كتبت، وذلك كلّه باختصار شديد.
1 ـ المستشرقون المساهمون في دراسة السنّة النبوية
برزت في الوسط الاستشراقي بعض الأسماء التي تخصّصت أو اهتمّت بدراسة السنّة النبوية والحديث الشريف، وأهم هذه الشخصيات:
أ ـ أجناس جولدتسيهر / Ignaz Goldziher(1850 ـ 1921م)
يعدّ المستشرق المجري المعروف أجناس جولدتسيهر من أشهر المستشرقين وأعمقهم، ولد في مدينة اشتولفيسنبرغ في بلاد المجر من أسرة يهودية على قدر كبير ومكانة مرموقة.
قضى سنيّ حياته الدراسية الأولى في بودابست، ثم ذهب إلى برلين عام 1869م، حيث بقي فيها سنةً، انتقل بعدها إلى جامعة ليبستك، حيث تتلمذ على يد المستشرق فليشر، وحاز هناك على شهادة الدكتوراه الأولى عام 1870م، وخصّص رسالته حول أحد الشراح اليهود للتوراة في القرون الوسطى ألا وهو تنخوم أورشلمي.
عاد جولدتسيهر إلى بودابست، وعيّن مدرّساً مساعداً في الجامعة عام 1872م، وسرعان ما أرسلته وزارة المعارف المجرية في بعثة دراسية إلى الخارج، ليكمل دراسته في فينّا وليدن، ثم ذهب إلى الشرق عام 1873م وأقام بالقاهرة مدّة، ثم سافر بعدها إلى سوريا بصحبة الشيخ طاهر الجزائري ثم إلى فلسطين، وقد أعطته فترة إقامته بالقاهرة فرصة لحضور بعض الدروس في الأزهر، حيث حضر عند الشيخ محمد عبده.
ومنذ مجيئه إلى بودابست ركّز اهتماماته على الدراسات العربية والإسلامية، فحاز على شهرة واسعة، ثم صار أستاذاً للغات السامية عام 1894م، حيث كان متقناً لعدّة لغات، وهي: التركية والعربية والفارسية، إضافة إلى أنه كان خبيراً بالتراث اليهودي.
لقد درس جولدتسيهر علم مناهج نفسية الشعوب (البليونتولوجيا) وكانت عنده مكتبة ضخمة تربو على الأربعين ألف كتاب.
ومن اهتمامه المبكر باللغات الشرقية نجده ترجم وهو في السادسة عشرة من عمره قصةً من التركية إلى المجرية، نشرتها له إحدى المجلات التي وضعت له العنوان التالي: «مستشرق في السادسة عشرة».
ومنذ ذلك الحين استقرّ جولدتسيهر في بودابست ولم يعد يخرج منها إلا للمشاركة في المؤتمرات أو لإلقاء بعض المحاضرات في الجامعات الأجنبية. وقد تربّى على يدي جولدتسيهر جيلٌ من المستشرقين، حتى عدّ واحداً من أهم المستشرقين حتى يومنا هذا.
انتخب جولدتسيهر عضواً في عدد من المجامع العلمية، مثل مجمع العلوم المجري عام 1893م، وكتب في المجلات الآسيوية والغربية بكل من اللغة الألمانية والفرنسية والإنجليزية والروسية والمجرية والعربية، وصنّف أشهر كتبه بالألمانية والفرنسية والإنجليزية.
توفي جولدتسيهر في بودابست في 13 نوفمبر عام 1921م.
مطالعة عامّة في الأعمال الفكرية لجولدتسيهر
لم يساهم جولدتسيهر في أيّ نشاط سياسي أو ديني أو اجتماعي أو تواصلي، ولأجل ذلك امتاز عن العديد من المستشرقين بل غالبيتهم؛ لأنّ الكثير من المستشرقين كانوا يكتبون نتيجة تواصلهم مع الشرق وكانوا يكتبون عن حال الشرق في زمانهم، أما جولدتسيهر فكان منكبّاً على المصادر والكتب أكثر من اعتماده على طريقة الاتصال الحيّ المباشر.
من هنا، ظهرت عند جولدتسيهر إسهامات هامة في دراسة الكتب والوثائق والتراث، فكان بحراً في جمع الوثائق والمعطيات وممارسة تحليل ظاهراتي لها.
يمتاز جولدتسيهر بقراءته التاريخية للتراث الإسلامي، فهو يصرّ على الدوام على تفسير كلّ الأمور وفقاً لحراك تاريخي زمني، فالمذاهب عنده وليدة أوضاع زمنية، وتفسير القرآن وفهمه ليس سوى نتيجة للتجاذبات السياسية والاجتماعية التي عصفت بالمسلمين في القرون الأولى، والحديث النبوي ليس سوى صنيعة للتيارات المتحاربة لمواجهة بعضها بعضاً، أما الفقه وعلوم الشريعة فيراها جولدتسيهر أبسط بكثير في أصل الدين الإسلامي مما صارت عليه بعد ذلك، إذ يفسّر تطوّر الفقه بأنّه مجرّد استجابة لتطوّر الأوضاع التي فاجأت العرب بعد الفتوحات فردموا الهوّة بخلق قوانين منحت شرعيّتها بتغطية من نصوص دينية مختلقة برأيه.
بهذه الطريقة استخدم جولدتسيهر ـ كما يقول د. عبد الرحمن بدوي ـ المنهج الاستدلالي أكثر من استخدامه المنهج الاستقرائي، فقد كانت في ذهنه مجموعة من المناهج والتصوّرات التي أخذها من العلوم المختلفة، وكان يكفيه أن ينظر إلى بعض المعطيات التاريخية لكي يقوم بإسقاط مناهجه على ذاك الوضع التاريخي مستخدماً التحليل والاستدلال، ولهذا كان تحليل جولدتسيهر للتاريخ الفكري الإسلامي تحليلاً يضع كلّ الأمور الجزئية داخل تيارات كبرى، ويفتح مربّعات ودوائر كبيرة تستوعب ما كان يجري بين المسلمين من خلافات في الفقه والكلام والتفسير.
حاول جولدتسيهر في العديد من دراساته ـ وبحكم خبرته في التراث اليهودي ـ أن يقوم بملاحقة جذور بعض الأفكار الإسلامية في الموروث اليهودي، فنحن نجده مثلاً ـ كما في كتابه (العقيدة والشريعة) ـ يحيل في مواضع عدّة أفكاراً أو أحكاماً أو عقائد عند المسلمين أو بعض فرقهم… يحيلها إلى جذر يهودي ولو على سبيل الإشارة، ويرجع ذلك إلى قدرة جولدتسيهر الكبيرة على القيام بمقارنات، حيث امتاز بعنصر المقارنة بين التيارات والديانات عموماً.
ترك جولدتسيهر 592 بحثاً يتراوح حجمها بين المجلّد ومجموعة تعليقات، وأوّل أبحاثه التي اشتهر بها في الدراسات الإسلامية كان كتابه «الظاهرية: مذهبهم وتاريخهم» درس فيه بإسهاب علم الفقه وتطوّره وأصول الفقه الإسلامي، وبعد هذا الكتاب يأتي كتاب هام آخر له وهو كتاب «دراسات إسلامية (أو محمدية)»، حيث تحدّث فيه عن الإسلام والوثنية، وعن صراع الروح العربية والروح الإسلامية، ثم الروح الفارسية والروح الإسلامية، كما تحدّث في هذا الكتاب عن السنّة والحديث، وتحدّث في آخره أيضاً عن ظاهرة تقديس الأولياء محلّلاً عبر مقارنات موسّعة التراث العربي الوثني والتصوّرات الشعبية للموضوع، مستعرضاً فرق تقديس الأولياء. وفي بحثه «الإسلام والدين الفارسي» تحدّث جولدتسيهر عن تأثير الفرس في الإسلام.
في كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي» تحدّث عن تطوّر حركة التفسير ومدارسه واتجاهاته، معتبراً أنّ القراءات القرآنية شكّلت البدايات الأولى للخلافات التفسيرية. أمّا في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام» فقد أسهب جولدتسيهر في دراسة الفرق الإسلامية في مجالي العقيدة والشريعة، وهو من أهمّ كتبه وأكثرها إثارةً.
هذا كلّه إلى جانب تحقيقه لسلسة من الكتب الشرقية، منها كتاب المعمّرين للسجستاني.
ب ـ جوزيف شاخت / Joseph Schacht(1902 ـ 1969م)
ولد المستشرق الألماني جوزيف شاخت في 15/3/1902م، في راتيبور في ألمانيا، ودرس هناك علوم اللاهوت والفيلولوجيا الكلاسيكية، واللغات الشرقية، وذلك في جامعتي برسلاو وليبيتسك، وفي عام1925 عيّن ـ بعد أن حصل على الدكتوراه في التأهيل ـ للتدريس في جامعة فرايبورغ، لينتقل عام 1932 إلى جامعة كينجسبرغ.
عام 1934 انتدب للتدريس في الجامعة المصرية ـ وهي اليوم جامعة القاهرة ـ في فرع فقه اللغة العربية واللغة السريانية بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وقد استمرّ أستاذاً في القاهرة حتى عام 1939م.
وباندلاع الحرب العالمية الثانية انتقل من مصر إلى لندن، حيث عمل في الإذاعة البريطانية BBCلصالح بريطانيا وحلفائها ضدّ وطنه، حيث كان شاخت معارضاً ساخطاً على النازية، ولم يعد إلى ألمانيا إلا عام 1945 بعد انتهاء الحرب، ورغم خدماته لبريطانيا وحصوله على شهادة دكتوراه فيها من جامعة أكسفورد، لكنه لم يعيَّن مدرساً هناك، فعاد وترك بريطانيا عام 1954، ليعيّن أستاذاً في جامعة ليدن في هولندا. وهناك في ليدن، اشترك شاخت في الإشراف على الطبعة الثانية من (دائرة المعارف الإسلامية). وفي عام 1959 انتقل إلى نيويورك ليعيّن أستاذاً في جامعة كولومبيا.
انتخب شاخت عضواً في العديد من المجامع العلمية، ومنها المجمع العلمي العربي في دمشق. وتولّى مع برونشفيج مجلّة (الدراسات الإسلامية)، وأخذ شهرته في دراساته حول التشريع الإسلامي (الفقه والأصول) ونشأته وتطوّره ومدارسه.
توفي شاخت في شهر آب/أغسطس من عام 1969م.
مطالعة عابرة للأعمال العلمية لجوزيف شاخت
اشتغل شاخت على عدّة محاور أبرزها:
1 ـ دراسة المخطوطات العربية،حيث اهتمّ ببعضها ممّا كان موجوداً في اسطنبول والقاهرة وتونس وفاس.
2 ـ تحقيق نصوص مخطوطة في الفقه الإسلامي،من بينها كتاب الحيل والمخارج للخصّاف، وكتاب الحيل في الفقه لأبي حاتم القزويني، وكتاب الشفعة للطحاوي، وكتاب اختلاف الفقهاء للطبري.
3 ـ دراسات في علم الكلام الإسلامي،مثل دراسته التي حملت عنوان «مصادر جديدة تتعلّق بتاريخ علم الكلام الإسلامي»، والتي نشرها عام1953.
4 ـ دراسات في تاريخ العلوم والفلسفة في الإسلام،كما في تعاونه مع مايرهوف في نشر بعض النصوص المخطوطة في الطب.
كان شاخت يعتقد بأنّ للفكر الإغريقي والجاهلية العربية فضلاً على الإسلام حيث أخذ منهما الكثير.
5 ـ دراسات في الفقه الإسلامي،وكان هذا أبرز مجال عرف شاخت به، ومن أهم أعماله في هذا المضمار كتابه الأهم «بداية الفقه الإسلامي» الذي طبع في 350 صفحة عام 1950، ودرس فيه بالدرجة الأولى مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204هـ)، محلّلاً رسالة الشافعي في علم أصول الفقه.
كتب شاخت أيضاً كتيباً صغيراً أخذ أهميته أيضاً بعد كتابه المتقدّم، وحمل عنوان «مخطط تاريخ الفقه الإسلامي»، وقد نشر في باريس بعد ترجمته إلى الفرنسية عام 1953.
ألّف شاخت أيضاً باللغة الإنجليزية: «مدخلاً إلى الفقه الإسلامي» ولم يكن بتلك المثابة من الأهمية كما في سائر أعماله.
إضافة إلى ذلك، اهتمّ شاخت بالدراسات الجديدة في العالم الإسلامي، لاسيما بالقانون في مصر الحديثة، وقد كتب مقالاً تحت عنوان «الشريعة والقانون في مصر الحديثة، إسهام في مسألة التجديد الإسلاميn.
امتاز شاخت بالدقة العلمية والحرص في عرضه للمذاهب الفقهية، ولم يكن يشبه جولدتسيهر في إعمال التحليلات والفرضيات بقدر ما كان يتتبع الظواهر ويؤلّف منها مشهداً متكاملاً، من هنا تركت أعماله بصماتها على دارسي الإسلام والتشريع الإسلامي.
تحوّلت نظرية شاخت في أنّ الفقه ليس سوى وليد تطوّر تاريخي إلى مادّة أصليّة للدراسات الجامعية في الغرب، وصارت أشبه بالمسلّمة التي يتمّ الانطلاق منها لدراسة الفكر الإسلامي.
عُرف شاخت في الحديث بنظرية اختلاق الإسناد التي سمّاها (القذف الخلفي) وسوف ندرسها لاحقاً بعون الله، وقد كان لهذه النظرية بدايات سابقة مع كلّ من كايتاني 1926، وميور 1905، وشبرنجرا 1893، وجولدتسيهر 1921.
امتازت أهم أعمال شاخت بنشرها في أهم المجلات في العالم، وفي دائرة المعارف الإسلامية.
ج ـ الأمير ليوني كايتاني Leone Caetane(1869 ـ 1926م)
واحد من أبرز المستشرقين الإيطاليين، ولد في روما في 12/9/1869 وعاش فيها، وتعلّم في جامعاتها، وكان أميراً من أسرة كيتاني، وهي أسرة من كبار الأمراء في إيطاليا الحديثة. كان يتقن عدة لغات بلغت السبع، منها: العربية والفارسية، وقد عمل سفيراً لإيطاليا في الولايات المتحدة الأمريكية.
زار كايتاني الكثير من البلدان الشرقية، مثل الهند ومصر وإيران ولبنان وسوريا، وزار شبه جزيرة سينا، وكتب عنها كتاباً خاصّاً سمّاه «في صحراء سينا»، وذلك عام 1881م.
تعلم في جامعة روما الحديثة، وحصل على الإجازة عام1891م، وكان مشغوفاً بالعالم الإسلامي منذ أن كان طالباً بالجامعة، وبعد زيارته لشبه جزيرة سينا، قرّر كتابة تاريخ مفصّل لبدايات الإسلام، وقرّر أن يجمع مكتبة ضخمة حول كلّ ما ألف بهذا الصدد باللغات الأوروبية والإسلامية وما استطاع تصويره من المخطوطات غير المطبوعة بعدُ حول التاريخ والسيرة.
كان عمله مطلع شبابه مقسّماً بين هذا الجهد العلمي وبين إدارة أملاك أسرته الموجودة في شسترنا وفوليانو.
أنفق كثيراً من أمواله على البعثات العلمية لدراسة الشرق، وجهّز على نفقته الخاصة ثلاثة بعثات لترتاد مناطق الفتح الإسلامي وترسمها جغرافياً، وجمع كلّ المعلومات المتصلة بحركة الفتح في اللغات القديمة.. وقد دفع كلّ أمواله في هذا السبيل حتى أفلس تماماً.
لم تقف أعمال كايتاني عند البحث العلمي، فقد خاض غمار السياسة كأجداده وانتخب نائباً، وكان راديكالياً معادياً للكهنوت، كما عارض الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911م ومعه الحزب الاشتراكي، وبسبب ذلك خسر موقعه الشعبي، ونتج عن ذلك خسارته في انتخابات عام 1913م.
عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى، تطوّع في الجيش سنة 1915م وقاتل لعامين بصفة ضابط في المدفعية الجبلية.
عقب انتصار موسوليني عام 1922م صار كايتاني معارضاً للنظام الفاشستي، فخاف على نفسه ومكتبه، ولكي ينقذها أهداها إلى أكاديمية (لنشاي)، لتكون النواة لما سمّي بعد ذلك باسم «مؤسّسة كايتاني للدراسات الإسلامية».
بعد يأسه من الإصلاحات السياسية، فكّر في الهجرة من إيطاليا، فتركها عام 1926 أو 1927 وهاجر إلى كندا، واشترى مزرعةً أقام بها حتى أواخر عمره، وكانت له زيارات متقطّعة إلى فرنسا وإنجلترا دون أن يعود أبداً إلى وطنه إيطاليا. وقد حصل على الجنسية الكندية عام 1935 فعاقبته إيطاليا بسحب جنسيته.
توفي في 24/12/1926م في فنكوثر بكندا.
نظرة في أعمال كايتاني العلميّة
من أهم أعماله ما كتبه مطلع القرن العشرين، تحت عنوان (حوليات الإسلام)، وهو كتاب مؤلّف من عشرة مجلدات، درس فيه تاريخ الإسلام إلى عام 40هـ، صدر المجلّد الأول منه عام 1907، وتتالت الإصدارات إلى عام 1926م. ويعدّ هذا الكتاب أحدّ أهم المراجع التي اعتمد عليها المستشرقون فيما بعد، ويحوي معلومات كثيرة عن تاريخ الإسلام الأول كما يشتمل على خرائط ورسوم مفصّلة، وكانت له فيه أفكار كثيرة، منها تشكيكه في وجود عبد الله بن سبأ، حيث اعتبر أنّ المجتمع العربي لا يعرف في تلك الفترة نظماً وتنظيمات ومؤامرات بهذا النحو من الدقة والتفكير، إنه لا ينكر وجوده لكنّه ينكر هذه الشخصية التي مُنحت له.
نظّم كايتاني كتابه على طريقة تاريخ الطبري، وهو التاريخ الحولي، ومن بعض أبحاث هذا الكتاب أخرج كايتاني كتاباً آخر تحت عنوان «دراسات في التاريخ الشرقي» تحدّث فيه عن الإسلام والمسيحية / الجزيرة العربية قبل الإسلام / العرب القدماء / سيرة محمد نبيّاً ورجل دولة / بداية الخلافة / فتح الجزيرة العربية.
كانت لدى كايتاني مكتبة عربية وإسلامية عظيمة، جمع فيها مخطوطات كثيرة وذات حجم ضخم كان يقصدها الباحثون، وقد تركها بعد وفاته للمكتبة الإيطالية.
يرجع الفضل لكايتاني في نشره طبعة هامة لكتاب تجارب الأمم لمسكويه الرازي مرفقاً معه مقدّمات مفيدة وفهارس موسّعة.
استعان كايتاني بثلاثة مستشرقين إيطاليين وهم: ميكلنجلو جويدي، وجورجيو ليفي دلافيدا، وجوزبي جبرييلي، حتى ترجموا له بعض المصادر العربية، ولم يساعدوه في غير الترجمة، وهناك شائعات أطلقت أنّ هؤلاء الثلاثة هم الذين ألّفوا كتاب حوليّات الإسلام وليس كايتاني، فرفع كايتاني دعوى قضائية وشهد الثلاثة بالعكس تماماً وأنّ عملهم كان الترجمة إلى الإيطالية.
بعد كتاب (حوليات الإسلام) كتب كايتاني «التاريخ الإسلامي» وهو مختصر عن مشروعه الأم، يبدأ من الهجرة وحتى عام 922، تاريخ استيلاء الأتراك على مصر، وقد صدر منه خمسة كراسات ما بين عامي: 1912 ـ 1928.
العمل الثالث الذي قام به كايتاني، هو «معجم الأعلام العربية»، وهو معجم أبجدي لأسماء الأشخاص والأماكن المذكورة في كتب التاريخ الأساسية، وكتب التراجم والجغرافيا المطبوع منها والمخطوط.
تمتاز دراسات كيتاني للسيرة النبوية والإسلامية بنزعة نقديّة شديدة؛ إذ تسيطر عليه ظاهرة الشك المفرط في كلّ حقائق التاريخ الإسلامي، فقد أهمل بشدّة الجانب الديني بوصفه محرّكاً تاريخياً، وركّز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجغرافية. ومن أمثلة ذلك اعتقاده بنظرية العالم الجغرافي هوغو فنكلر بحدوث تصحّر قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وأنّ هذا التصحّر كان أحد العوامل الأساسية لظهور النبي محمّد وقوة انتشار الإسلام في المنطقة.
ينتمي كايتاني إلى النظرة الوضعية التاريخية التي كانت مهيمنةً على المؤرّخين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وتعطي الماديات أهم تأثير في الحركات الفكرية والدينية.
د ـ جورجيو ليفي دلاّفيدا / Giorgio Livi Dellavida(1886 ـ 1967م)
مستشرق إيطالي ولد في 22 آب (أغسطس) 1886م، من أسرة يهودية ـ وإن كانت زوجته وأولاده مسيحيين ـ كانت تعيش في إيطاليا منذ زمن بعيد. وأكمل دراسته الثانوية في جنوة، ثم انتقل إلى روما للجامعة، وانتسب لكلية الآداب، وحصل على ما يعادل الليسانس عام 1909.
سافر في عامي 1908 و 1909 إلى الشرق بصحبة ميكلنجلو جويدي، وسافر إلى القاهرة عام 1910 ـ1911، ولمّا عاد تعاون مع الأمير كايتاني في تحرير كتاب حوليات الإسلام، وكانت مهمّته الترجمة إلى الإيطالية، وقد أهداه كايتاني المجلّد التاسع معترفاً بفضله.
درّس اللغة العربية في المعهد الشرقي في نابلس عام 1914 ـ 1916، وعام 1917 فاز في مسابقة الترشيح لكرسيّ العبرية واللغات السامية المقارنة في جامعة تورينو 1920.
انتقل إلى روما حيث خلف أستاذه جويدي على كرسيّ اللغات السامية، وظلّ حتى عام 1931؛ لأنّ حكومة موسوليني كانت طلبت من كل الأساتذة أن يقسموا يمين الولاء للحكومة، فرفض أحد عشر أستاذاً، كان هو من بينهم، فصدر قرار عام 1932 بفصله من الجامعة.
بعدها اشتغل دلافيدا في مكتبة الفاتيكان بين عامي 1932 ـ 1939، وفهرسَ المخطوطات العربية الإسلامية، وهناك ألّف كتابه (ثبت المخطوطات العربية الإسلامية في مكتبة الفاتيكان) فيه 120 مخطوطة، ثم عقبه بدراسة حملت عنوان «أبحاث في تكوين أقدم مجموعة من المخطوطات الشرقية في مكتبة الفاتيكان» فيه 276 مخطوطة، وقد نشر عام 1965 ثبتاً ثانياً بالمخطوطات العربية الإسلامية في مكتبة الفاتيكان.
كتب دلافيدا دراستين هامّتين إلى جانب الأعمال الثلاثة السابقة هما: «قِطع القرآن بحروف كوفية في مكتبة الفاتيكان»، و «مخطوطات عربية من أصل إسباني في مكتبة الفاتيكان».
كانت هذه الأعمال نقلة نوعية لهداية الباحثين إلى مخطوطات الفاتيكان، جاءت بعد أعمال السمعاني، وهو أحد اللبنانيين الذين كانوا كتبوا فهرساً للمخطوطات فيه أخطاء كثيرة على ما قيل.
بعد صدور القوانين المميزة ضدّ اليهود عام 1939، فكّر في الهجرة وحصل على دعوة من جامعة بنسلفانيا في أمريكا، وهناك درّس اللغات السامية إلى عام 1945، حيث عاد بعد الحرب العالميّة الثانية للتدريس في جامعة روما، ثم درّس التاريخ الإسلامي والنظم الإسلامية ـ وهو ما بات يعرف اليوم بكرسيّ الإسلاميات ـ إلى أن أحيل للتقاعد عام 1961م.
توفي دلافيدا في 25 نوفمبر 1967م.
جولة حول أعمال دلافيدا العلمية
أما الأعمال العلمية له فتتلخّص في:
1 ـ الدراسات العربية الإسلامية،وكان من ثمراتها ما كتبه نتيجة تعاونه مع كايتاني، وحمل عنوان (خلافة عليّ وفقاً لكتاب أنساب الأشراف للبلاذري)، والذي ظهر عام 1915م. وهنا قارن بين معطيات الطبري والبلاذري وغيرهما.
وفي عام 1938 ترجم القسم الخاص بمعاوية بن أبي سفيان في أنساب الأشراف، وسمّاه «خلافة معاوية الأول وفقاً لكتاب أنساب الأشراف للبلاذري».
ولاهتمامه بالأنساب أوكلت إليه في دائرة المعارف الإسلامية كتابة ما يتصل بالأنساب العربية. كما كتب مادة «عرب» في دائرة المعارف الإيطالية، ونشر العديد من المقالات حول التاريخ الإسلامي، ومنها بحث السيرة الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية، وهو ما يهمّنا هنا، وسيأتي بعون الله.
2 ـ الدراسات الأدبية العربية،حيث كتب عن طبقات الشعراء لمحمد بن سلاّم، وبعض أبيات من الشعر للخليفة يزيد الأول، وعميرة بن جعيل شاعر لا وجود له. كما كتب بحثاً طويلاً عن الترجمة العربية.
3 ـ اللغات السامية،وكانت له مساهمات عديدة في هذا المجال.
4 ـ النقوش،حيث اهتم بالنقوش الفينيقية بدرجة كبيرة.
وضعت له جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس معرضاً مخصّصاً له في قسم الدراسات الشرقية.
وكان مساهماً في عدد من المجلات الفكرية.
هـ ـ جيمس روبسون / J. Robson
مستشرق إنجليزي تخرّج باللغات الشرقية من جامعة جلاسجو، وعيّن أستاذاً مساعداً في اللغة العربية فيها عام 1915 ـ 1916، وتنقّل بين العراق والهند في عام 1916 ـ 1918، واختير معيداً للإنجليزية في لاهور عام 1918 ـ 1919، ثم سافر إلى عدن بين 1919 ـ 1926، وعيّن وزيراً في شاندون (1926 ـ 1928)، وأستاذاً للغة العربية في جامعة مانشستر عام 1949.
ترك عشرات الأعمال العلمية منها: آلات الطرب العربية القديمة، المدخل إلى علم الحديث، الإعجاز في القرآن، الإسناد في الحديث عند المسلمين، هل تكلّم الكتاب المقدس عن النبي محمد؟ المسيح في الإسلام، موادّ الحديث، الأساس الثاني في الإسلام (الحديث)، الغزالي والسنّة، فهرس المخطوطات الشرقية في جامعة جلاسجو.
تركت أفكار جوزيف شاخت تاثيراً عليه، وإن ناقشه في بعض الأبحاث، وكان يعتقد بصناعة الأحاديث والأسانيد واختلاقها، وأنه لم يظهر كتاب حقيقي في تدوين السنّة قبل عام 120هـ.
و ـ جوزيف هوروفتس / Joseph Horovitz(1874 ـ 1931م)
مستشرق ألماني يهودي، ولد في لاونبرج عام 1874م، وتعلّم في جامعة برلين، حيث حضر دروس أدوارد سخاو، وعيّن مدرساً في جامعة برلين 1902. واشتغل في الهند من 1907 إلى 1914، حيث كان يعمل مدرّساً للغة العربية في كلية عليكرة الإسلامية. كما اشتغل أميناً للنقوش الإسلامية في الحكومة الهندية البريطانية. وكان ثمرة هذا العمل أنه نشر مجموعة «النقوش الهندية الإسلامية» (1909 ـ 1912).
عاد إلى ألمانيا في 1914، وعيّن مدرساً للغات السامية في جامعة فرانكفورت، من 1914 حتى وفاته في 1931.
كان عضواً في مجلس إدارة الجامعة العبرية في القدس منذ إنشائها 1925، وهو الذي أنشأ فيها قسم الدراسات الشرقية، وصار مديراً له، وهو الذي اقترح قيام هذا القسم بجمع كلّ الشعر العربي القديم (الجاهلي وأوائل صدر الإسلام).
كانت رسالته للدكتوراه الأولى في 1898 عن كتاب «المغازي» للواقدي. وتولّى تحقيق جزأين من أجزاء «طبقات ابن سعد»، يتعلّقان بغزوات النبي محمد. وعهد إليه ليوني كايتاني بالبحث في مكتبات القاهرة ودمشق واستانبول عن المخطوطات العربية المتعلّقة بتاريخ الإسلام.
تركّز اهتمامه في فترة أُستاذيّته في جامعة فرانكفورت (1914 ـ 1931) على الدراسات المتعلّقة بالقرآن والسيرة النبوية. وأهم أعماله في هذا الباب كتابه: «مباحث قرآنية» (1926) ومنهجه فيه التحليل التفصيلي للغة القرآن؛ لكنها تحليلات ثبت ما فيها من مغالاة وافتعال، مما جعل نتائج بحثه مشكوكاً فيها منذ البداية، ومرفوضة كلّها فيما بعد. واستعان في عمله هذا بمعاني الألفاظ القرآنية كما تستنبط من الشعر الجاهلي، ومن ثم اقترح خطّة لتصنيف معجم للشعر الجاهلي، وعهد إلى القسم الشرقي في الجامعة العبرية في القدس بعمل جذاذات لكلّ دواوين الشعر المطبوعة للشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين حتى آخر العصر الأموي. وهو الذي اقترح أيضاً على هذا القسم القيام بنشر كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري (وقد نشر هذا القسم منه: المجلد الرابع، القسم الثاني، بتحقيق ماكس شليزنجر، والمجلد الخامس بتحقيق جويتاين، وتوقف عن النشر بعد ذلك).
نشر هوروفتس «هاشميات» الكميت بن زيد الأسدي في 1904؛ لما لها من أهمية تاريخية ودينية.
وفي مجال العلاقات بين الإسلام واليهودية، كتب هوروفتس بحثاً بعنوان: «أسماء الأعلام اليهودية ومشتقاتها في القرآن» (نشر في مجلة Hucaج2 (1925) ص145ـ227؛ وأعيد طبعه 1964). كذلك كتب بحثاً بعنوان: «الجنّة في القرآن» (نشر في منشورات الجامعة العبرية، الشرقية واليهودية، رقم1 (1923) وكذلك نشر في Ha-Tekufahج23 (1925) ص276 وما بعدها).
ومن تلاميذه: هينرش اشباير (1897 ـ 1935) الذي كتب كتاباً بعنوان: «قصص التوراة في القرآن»، وفيه قارن بين قصص الأنبياء كما وردت في القرآن وبينها كما جاءت في الكتب اليهودية والمسيحية وخصوصاً السريانية.
ونكتفي بهذا القدر من التعريف بأهمّ الشخصيات التي اشتغلت بالحديث والسنّة النبوية([2]).
2 ـ الدراسات الاستشراقية حول الحديث، المصادر والأعمال
تعدّدت دراسات المستشرقين حول السنّة النبوية والحديث الشريف، وكانت لهم كتابات وأعمال عديدة، ونحن نوجز هنا أهم الأعمال التي تحوي أبرز نظرياتهم في هذا المجال:
1 ـ 2 ـ دائرة المعارف الإسلامية
ألّف المستشرقون «دائرة المعارف الإسلامية» لتشكّل عصارة تصوّراتهم عن الفكر والتراث والتاريخ الإسلامي، وتعدّ «دائرة المعارف الإسلامية» مصدراً أساسياً لفهم الرؤية الاستشراقية للإسلام، حيث نشرت باللغات الأجنبيّة، ثم ترجمت إلى اللغة العربية، فبلغت اثنين وثلاثين مجلّداً.
إنّ دائرة المعارف هذه تعدّ موسوعةً أكاديمية تدرس بعمق الحضارة الإسلامية بجميع أبعادها الدينية وغيرها. صدرت طبعتها الأولى بين عامي 1913 ـ 1938 بالإنجليزية والألمانية والفرنسية، وفي عام 1953م صدرت نسخة مختصرة لها ترجمت إلى كلّ من العربية والتركية والأوردية.
أشرف على الطبعة الأولى لها آرندجان فنسنك الذي كان عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما شارك في إعدادها المستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسينيون.
وصدرت الطبعة الثانية عام 1954 لتستمرّ إلى 2005م، وأضيفت إليها الكثير من المقالات، ليشارك فيها هذه المرّة باحثون شرق أوسطيّون، هذا ويتم إصدار هذه الموسوعة من قبل شركة بريل الهولندية.
بدايةً ـ كما قلنا ـ ترجمت بعض أجزائها إلى العربية، وصدرت في مصر في ستينيّات القرن العشرين، ثم أعيد طبع النسخة العربية في الشارقة عام 1998. وفي عام 1999 صدرت النسخة الالكترونية لهذه الموسوعة في أقراص مدمجة على صفحات الانترنت.
الإصدار أو الطبعة الثالثة لدائرة المعارف الإسلامية بدأ العمل عليه عام 2007م، وما يزال مستمراً إلى اليوم، حيث تظهر المقالات تباعاً كل فصل.
يوحي ظاهر هذه الموسوعة أنها عمل إسلامي من خلال عنوانها حتى أن بعض الباحثين يتصوّرونها معبّراً عن وجهة النظر الإسلامية، إلا أنّ الصحيح غير ذلك، فهي منهج علماني في فهم الحضارة الإسلامية، وهناك نقاش كبير في الوسط الإسلامي حول حيادية هذه الموسوعة وعدم حياديتها، إذ يعتقد نقادها أنها تهدف إلى مهاجمة الإسلام وأنها لا تلتزم بالمنهج العلمي الأكاديمي المتوازن، وأنها مغرضة. ومن الكتب المعروفة في نقد دائرة المعارف هذه كتاب (دائرة المعارف الإسلامية، أضاليل وأكاذيب) للدكتور إبراهيم عوض، وقد صدر هذا الكتاب عام 1998م.
وهناك في دائرة المعارف الإسلامية مداخل ذات صلة وثيقة بموضوع السنّة والحديث، أهمها:
1 ـ الحديث،وهو المصطلح الذي كتبه المستشرق جوينبل، ويقع في النسخة العربية (دار المعرفة) في17 صفحة، تحدّث فيه عن موضوع الحديث وصفته، وعن نقد الحديث عند المسلمين، وعن تصنيف الحديث إلى أنواع وأصناف، وعن المجموعات الحديثية. كما تحدّث عن الكتب الحديثية الخمسة عند الشيعة بإضافة نهج البلاغة، وقال بأنّ الشيعة لا يأخذون إلا الحديث المرويّ عن علي وأهل بيته، ثم تحدّث خامساً عن رواية الحديث وطرقها وأساليبها.
وقد كتب الدكتور أحمد محمد شاكر تعليقات نقدية على هذا المصطلح في الهامش.
2 ـ الأصول،وقد كتبه المستشرق جوزيف شاخت، ويقع في 25 صفحة، في المجلد الثاني من الطبعة العربية، وقد تعرّض بمناسبة الحديث عن أصول الفقه لموضوع السنّة النبوية والروايات، وكتب أمين الخولي تعليقات نقدية على هذا المصطلح، ثم عاد وأدرجها ضمن سلسلة كتب دائرة المعارف الإسلامية مستقلاً في 101 صفحة، لينشرها دار الكتاب اللبناني.
3 ـ الأصحاب،وقد كتبه المستشرق أجناس جولدتسيهر، وبلغ صفحتين، وتحدّث فيه عن تعريف الصحابي ومكانته في الفكر السني والمعاقبة على سبّته وأهمية الصحابة في الحديث، وأنّ الخلفاء الأربعة هم أفضل الصحابة ثم الستة الذين تلتئم به مجموعة العشرة المبشرين بالجنة، كما تحدّث عن طبقات الصحابة.
وصف جولدتسيهر موقف الشيعة النقدي للصحابة بقوله «تلك الخصومة التي وصلت بهم إلى حدّ التعصّب المثير للكراهية»([3]). وأنهى جولدتسيهر بحثه المختصر بسلسلة من المؤلّفات.
علّق على هذا البحث الدكتور أحمد محمد شاكر.
4 ـ السيرة،وقد كتبه المستشرق الإيطالي دلافيدا في 16 صفحة (439 ـ 455 من الطبعة العربية ـ دار المعرفة)، وعلّق بشكل مفصّل على هذا المبحث أمين الخولي.
إلى غيرها من المصطلحات مثل: إجازة، وآحاد، والسنّة وغير ذلك.
تقوم طريقة التصنيف في هذه الموسوعة على اختيار مصطلحات متنوّعة، ثم إيكال كلّ مصطلح إلى باحث أو مجموعة مصطلحات تتصل بموضوع ما إلى باحث أو باحثين، ويكتب هناك عصارة تصوّره عن هذا الموضوع ساعياً إلى الاختصار وتكثيف النص، وتذكر في نهاية المقالة قائمة بأهم المصادر والمراجع المعدّة لهذه الدراسة.
وفي بعض الأحيان تستخدم المصطلحات الإحالية، بمعنى أن مصطلحاً يذكر ثم يحال إلى غيره ويرجع إليه، مثل مصطلح (أصل) الذي أحيل مباشرة إلى مصطلح (أصول)([4])، وهنالك في مصطلح (أصول) بحث الموضوع بالتفصيل.
وحسب الموضوعات تتوزع أحجام المقالات، فتارة يكون الموضوع أصلياً وأخرى فرعياً يعالج محوراً جزئياً من قضية كبرى.
2 ـ 2 ـ الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية في الإسلام، وليام آلبرت جراهام
كان هذا الكتاب في الأصل عبارة عن أطروحة دكتوراه بالإنجليزية قدّمها الكاتب في جامعة هارفرد الأمريكية، ودافع عنها عام 1973م ثم نشرها عام 1975.
ذهب الكاتب إلى أنه اكتشف حقائق هامّة حول الحديث القدسي، وأنه سبق الباحثين الذين أتوا قبله في هذا المجال مثل: صموئيل زويمر، ولويس ماسينيون، وجيمس روبسون، ونابيه ابوت و.. فقال بأنّ قدماء المسلمين لم يميّزوا بين الأحاديث القدسية والنبوية، وقد تسبّب الصحابة في إرباك من جاء بعدهم في هذا الأمر، وأنّ الأحاديث القدسية لم تنظّم وتحدّد بدقة إلا في القرن السابع الهجري، وأنّ أكثرها مأخوذ من كتب أهل الكتاب ومن الفلسفة الهلينيقية.
وقد قامت الدكتورة عزية علي طه بنشر دراسة نقدية لكتاب جراهام عام 1414هـ في مجلة الشريعة بالكويت (214، ص8) حملت عنوان: «صور من افتراءات المستشرق جراهام على الأحاديث القدسية».
3 ـ 2 ـ دراسات محمدية (إسلامية) أو درس في الإسلام، أجناس جولدتسيهر
صدر هذا الكتاب لجولدتسيهر عام 1889 و1890م، وقد استعرض في الجزء الثاني منه موضوع الحديث الشريف. ترجم هذا الكتاب عن الإنجليزية إلى اللغة العربية بعد أن ترجمه د. سترن من الألمانية إلى الإنجليزية، ونشر في مصر، وقد نشرت بعض فصوله في مجلّة كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا (ع3 ـ 8 و 13)، وقد كتب صديق بشير نصر نقدين على ما ترجم ونشر في المجلّة المذكورة، وذلك في عددين منها هما: الثالث والثامن.
كما نشرت مؤسّسة دار الحديث في قم ـ إيران ثلاثة فصول من هذا الكتاب حول الحديث، وذلك في الكتاب الحادي عشر من سلسلة (حديث بجوهي)، شتاء عام 2001م. لتشكّل ثلاث مقالات من هذا الكتاب، وهي الرابعة والسادسة والثامنة.
تعرّض جولدتسيهر في الجزء الثاني من دراسات محمدية للحديث عن العوامل الشعبية والدينية في تطوّر الإسلام، وهو يشير إلى أن ما سطره في هذا الجزء كثير منه لم يتعرّض له في أيّ موضع آخر، ويقدّم مسرداً في بداية الجزء بالمخطوطات التي اعتمد عليها، وهو يوجّه شكره للسيد فولرس ـ مدير مكتبة «وليّ العهد» بالقاهرة ـ لدعمه له بالكتب والمصادر.
يضع جولدتسيهر الفصل الأول المخصّص لدراسة الحديث تحت عنوان «عن تطوّر الحديث النبويn، ويدرس هناك تفكيك مقولة «السنة والحديث» وهناك درس حركة تحديث الصحابة، وكيف أنهم قاموا بعد وفاة الرسول بإضافة أشياء اعتقدوا أنها من رأيه لكونها نافعة.
يركّز جولدتسيهر على أنّ الحديث مرآة لرؤية التطوّر الإسلامي، فهو مصدر تاريخي مهم، ويتحدّث كذلك عن السند والمتن، ويدرس قضية تدوين الحديث في العقود الأولى، ويرى ضرورة التمييز بين مصطلح السنّة والحديث، كما تحدّث عن انطلاقة فكرة السنّة في المدينة ضمن مناخ سياسي، وسياق محاربة البدعة، وقد تحدّث عن البدعة باهتمام، وتحدّث عن تطوّر سلطة السنّة يوماً بعد يوم مع بداية القرن الثاني الهجري، وقيمتها أمام القرآن، وعن إحياء السنّة، وإقامة البدعة.
وفي الفصل الثالث من كتاب دراسات محمدية، تحدّث جولدتسيهر تحت عنوان «الحديث النبوي وصلته بنزاع الفرق في الإسلام»، عن دور العامل السياسي وعامل السلطة والمعارضة في تنامي الحديث، وأسهب في دراسة الفرق ودورها في وضع الحديث، من المرجئة الذين اهتمّ بهم كثيراً، إلى الفقهاء الذين ركّزوا على طاعة الدولة، وصنعوا الأحاديث ـ لاسيما في العصر العباسي ـ لدعم الدولة الحاكمة، وتحدّث عن أزمة الوراثة في الخلافة وكيف كانت الأحاديث مثار جدل بين أنصار الدولة العباسية ومعارضيها وبين العلويين وغيرهم.
تحدّث جولدتسيهر أيضاً عن وضع الحديث عند أحزاب المعارضة مركّزاً على الشيعة بمعناهم السياسي والديني، ومستعرضاً مقولات تنسب لهم مثل تحريف القرآن وغيرها.
شنّ جولدتسيهر نقداً على الشيعة وعقائدهم وتوجّهاتهم، وتحدّث أيضاً عن الدسّ الجزئي في الأحاديث بواسطة زيادة كلمة أو تنقيصها أو ما شابه ذلك، وقال بأنّ العلويين استخدموا هذه الطريقة بشكل حقيقي..
في الفصل الثامن من كتاب دراسات محمدية ـ الذي ترجمه أيضاً الصدّيق بشير بن نصر وراجعه د. محمد بن الحاج ـ تحدّث جولدتسيهر عن مصنّفات الحديث وعن بدايات تصنيفه وتدوينه، وعن الموسوعات الحديثية و..
هذا، وقد كتب مترجم هذه الأبحاث مقالات نقدية عليها.
4 ـ 2 ـ أصول الشريعة المحمّدية، جوزيف شاخت
طبع هذا الكتاب باللغة الإنجليزية ولم يترجم بعدُ، وقد كتب الدكتور الأعظمي نقداً عليه حمل عنوان: mالمستشرق شاخت والسنّة النبويّةn، وقد طبع هذا النقد في كتاب: mمناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلاميةn.
يُتهم شاخت في هذا الكتاب وغيره بأنّه لم يكتفِ بتشكيكات أستاذه جولدتسيهر، بل جعلها حقائق تاريخية مسلّمة.
5 ـ 2 ـ العقيدة والشريعة في الإسلام، أجناس جولدتسيهر
يعدّّ هذا الكتاب من أهم كتب جولدتسيهر، وقد قسّمه مؤلّفه إلى ستّة أقسام، تحدّث في الأوّل عن النبي محمد|، وفي الثاني عن تطوّر الفقه، وفي الثالث عن نموّ العقيدة وتطوّرها، وفي الرابع عن الزهد والتصوّف، وفي الخامس عن الفرق، وفي السادس عن الحركات الدينية الأخيرة.
وقد بحث جولدتسيهر حول الحديث في القسم الثاني من هذا الكتاب، بمناسبة حديثه عن تطوّر الفقه الإسلامي، واستغرق بحث الحديث عنده حوالي ثماني صفحات، بعضها يلتقي مع ما ذكره بصورة مسهبة في كتاب mدراسات محمّديةn.
ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية مع تعليقات عليه كلٌّ من: محمد يوسف موسى، وعبد العزيز عبد الحق، وعلي حسن عبد القادر، ونشرته دار الرائد العربي في بيروت، في طبعة مصوّرة عن دار الكتاب المصري عام 1946م.
يعدّ هذا الكتاب دراسة شاملة عن الإسلام، وهو موثق بمصادر كثيرة جداً، وكان الكتاب في الأصل سلسلة من المحاضرات والدروس حول تاريخ الأديان دعته إليها اللجنة الأمريكية في خريف عام 1908م، لكنّ صحّته ـ كما يقول في مقدّمة الكتاب ـ حالت دون قدرته بعد كتابة الأبحاث على السفر إلى أمريكا، فقرّر إجراء بعض التعديلات وأنجزها ـ وفق تاريخ المقدمة ـ في 22 يونيو 1910م في بودابست.
يقع الكتاب في مقدّمة وستة فصول، ثم حواشي متتالية لكل فصل تقارب المائة صفحة، ثم كشافاً ألفبائياً في حوالي عشرين صفحة.
وقد كتب الشيخ محمد الغزالي، العالم المصري المعروف، نقداً على هذا الكتاب وغيره من أفكار المستشرقين مثل مرجليوت (1940م) الذي نفى تدوين الحديث إلى عام 90هـ، حمل عنوان: «دفاع عن العقيدة والشريعة ضدّ مطاعن المستشرقين».
6 ـ 2 ـ ملاحظات نقدية عن القيمة التاريخية لأقدم ما روي من السنّة عن شؤون الرسول، الأمير كايتاني
هذا البحث عبارة عن مقالة كتبها كايتاني في المجلد الأول من مشروعه «حوليات الإسلام»، وقد امتاز هذا البحث أنه شكل مفتاحاً قد يكون لأول مرة بهذا المستوى فيما طرحه المستشرقون حول نقد المتن، حيث يتهمون المسلمين بعدم ممارستهم النقد المتني.
ويُتهم كايتاني في هذه المقالة بأنه اعتمد المنهج الإسقاطي حيث يضع فكرةً ثم يقوم بحشد الشواهد لها.
كانت هذه بعض النماذج من المساهمات الاستشراقية حول السنّة والحديث النبوي، نكتفي بها هنا.
3 ـ دراسات إسلامية حول (الاستشراق والسنّة الشريفة)
كتب المسلمون العديد من الدراسات حول الاستشراق، وحول دراسة المستشرقين للسنّة النبوية، وكثير من هذه الدراسات جاء نقدياً، ونذكر هنا بعضاً من أهمّ ما كتب في هذا المجال مما حمل عنوان الاستشراق والحديث الشريف ولو في أحد فصوله، وإلا فإنّ الكثير جداً مما كتب حول السنّة في القرن الأخير جرى التعرّض فيه بشكل أو بآخر لنظريات المستشرقين.
1 ـ 3 ـ المستشرقون والسيرة النبوية، عماد الدين خليل
هذا البحث كتبه الدكتور عماد الدين خليل، ونشر في دار الثقافة في الدوحة عام 1989م، وتدور أبحاثه حول القيام بمقارنة في منهج المستشرق البريطاني mمونتغمري واتnالذي ترك كتاباً هاماً حمل عنوان (محمد في مكّة)، حيث أخضع خليل هذا الكتاب للنقد والتحليل، معتبراً أن الكثير من المسلّمات التاريخية أخضعها وات للتشكيك.
وبصفته مؤرّخاً، عاب عماد الدين خليل على وات وكثير من المستشرقين إساقطهم فرضيات مسبقة تعاطوا معها على أنها أمور قطعية مؤكّدة، فيما أطاحوا بالكثير من الوثائق التاريخية الواضحة بممارسة منهج التشكيك.
2 ـ 3 ـ تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين، حاكم عبيسان المطيري
صدر هذا الكتاب للدكتور المطيري عن مجلس النشر العلمي في جامعة الكويت عام 2002م، ويقع في 212 صفحة ضمن ثلاثة فصول أولها: السنّة ومراحل تدوينها، حيث يقسّمها إلى مرحلة الكتابة ومرحلة الجمع والتدوين ومرحلة التصنيف، ومرحلة ظهور الموسوعات. أما الفصل الثاني فيخصّصه المؤلف لـ(آراء المستشرقين حول تدوين السنّة ومناقشتها) حيث يردّ فيه على آراء كل من موير، وجولدتسيهر، وشاخت، وروبسون.
أما الفصل الثالث فيحمل عنوان: كتب أحاديث الأحكام ومراحل تطوّرها. ويدرس فيه الكتب الحديثية الخاصّة بالفقه.
3 ـ 3 ـ الاستشراق دراسات تحليلية تقويمية، د. محمد عبد الله الشرقاوي
صدر هذا الكتاب في 199 صفحة، عن دار الفكر العربي. خصّص المؤلّف قسمين منه لدراسة قضايا السنّة وهما: المستشرقون والسنّة المطهرة، والمستشرقون وسيرة الرسول÷.
اعتمد المؤلف في هذا الكتاب على المصادر الأساسية لأعمال المستشرقين ومارس نقداً عليها.
4 ـ 3 ـ المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، د. عجيل جاسم السنحشي
صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى في الكويت عام 1984م، وقد درس فيه مؤلّفه نظريات المستشرقين في مصادر التشريع: القرآن، السنّة، الإجماع، القياس، المصادر المختلف فيها، والمصادر المادية مثل العرف ورأي القضاة والفقهاء.
والفصل المخصّص في هذا الكتاب لبحث نظريات المستشرقين حول السنّة كان عبارة عن الفصل الثاني، والتركيز الأساسي فيه جاء على نظريات كل من جولدتسيهر وشاخت، في موضوعات مثل: التدوين، التعريف، الوضع وجعل الأحاديث وأمثال ذلك.
5 ـ 3 ـ المستشرقون والسنّة، د. سعد المرصفي
جاء هذا البحث في كتاب من 80 صفحة، نشرته مكتبة المنار الإسلامية في الكويت ومؤسّسة الرمان في بيروت عام 1994م.
يتألف هذا الكتاب من ثلاثة فصول أولها: «أضواء على الاستشراق والمستشرقين»، تحدّث فيه المؤلّف عن دوافع المستشرقين وإشكالياتهم. وثانيها: «شبهات حول مفهوم السنّة وتدوينها». وثالثها: «جهالات حول السند والمتن»، حيث انتقد نظريات المستشرقين فيما يخصّ علم الرجال ونقد المتن.
6 ـ 3 ـ المستشرق شاخت والسنّة النبوية، د. محمد مصطفى الأعظمي
نشرت هذه الدراسة مقالاً في كتاب: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية، وقد صدر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس.
حلّل الأعظمي ـ وهو من المختصّين المعروفين بدراسة الحديث النبوي ـ عملين لشاخت هما: المدخل إلى الفقه الإسلامي، وأصول الشريعة المحمدية، وقد اهتم الأعظمي بالردّ على الفكرة التي طرحها شاخت حول انفصال الشريعة عن الدين.
7 ـ 3 ـ مناقشة آراء المستشرق روبسون الواردة في دراسته: «أساليب صياغة حديث المسلمين»، د. مصطفى بن عمر الحلبي
كتب هذه الدراسة التي تقع في 35 صفحة، الدكتور مصطفى بن عمر الحلبي، من جامعة طيبة في المملكة العربية السعودية، ونشرت في أعمال المؤتمر الدولي: المستشرقون والدراسات العربية والإسلامية، والذي انعقد في مارس 2006م، ونشرت أعمال المؤتمر جامعة المنيا وكلية دار العلوم ورابطة الجامعات الإسلامية.
بعد مقدّمة مختصرة عن روبسون وعن منهج البحث، خصّص الحلبي المبحث الأول لدراسة: رأي المستشرق في أنّ صحة الحديث ودرجته تبنى على أساس طريقة النقل فقط، وقد بيّن الكاتب أهمية نقد المتن عند المحدّثين.
في المبحث الثاني تحدث عن: موقف المستشرق من الأسانيد، وقد ناقش فيه ظاهرة الريبة والشك التي تهيمن على موقف المستشرقين من الأسانيد.
أما البحث الثالث فخصّص لدراسة: افتراض المستشرق أنّ تفصيل الكلام بعد إجماله من أساليب العصور المتأخرة.
أما المبحث الرابع فحمل عنوان: زعمه أن أسلوب السؤال والجواب في الحديث نتاج أفكار فترة متأخرة.
وخصّص المبحث الخامس للبحث في الأحاديث التي اعتبرها روبسون أنها تمثل أسلوباً في رفض ما تفعله بعض أقاليم المجتمع.
8 ـ 3 ـ نقد الخطاب الاستشراقي، د. ساسي سالم الحاج
يتألّف هذا الكتاب من جزأين كبيرين، عالج فيهما كاتبه الاستشراق ودراساته ومساهماته معالجةً مطوّلة، وقد نشر هذا الكتاب دار المدار الإسلامي في بيروت بطبعته الأولى عام 2002م.
خصّص المؤلف لدراسة السنّة والحديث عند المستشرقين فصلاً كاملاً، وهو الفصل الثاني من الباب الثاني، وبلغ حجم هذا الفصل 164 صفحة تحدّث فيها الكاتب عن مواقف المستشرقين حول مصطلحات الحديث، وتطوّره في العصرين الأموي والعباسي، وأسباب وضع الحديث، وتدوينه، وظاهرة القصّاصين وغير ذلك.
استخدم الكاتب منهج النقد بصورة عامة، وحاول الخوض في التراث الإسلامي الحديثي للعثور فيه على ما يساعد على ردّ إشكاليات المستشرقين.
9 ـ 3 ـ مدخل إلى الدراسات الحديثية للمستشرقين، الشيخ مهدي مهريزي
هذا العنوان عبارة عن فصل من المجلّد الثاني من كتاب «حديث بجوهي/البحث الحديثيn، لأستاذنا الشيخ مهدي مهريزي، وقد كان في البداية مقالاً جرى نشره في العدد 28 من مجلّة mعلوم حديثnالفارسية، شتاء عام 2003م.
تحدّث الكاتب فيه عن الجهود التي بذلها المستشرقون وما كتبوه حول الحديث الشريف، ثم تحدّث عن بعض المساهمات النقدية الإسلامية، وختم مقاله الذي بلغ 18 صفحة بفهرس جمع النقاط الأساسية التي طرح المستشرقون إشكالياتهم فيها، ثم علّق ببعض التعليقات المختصرة.
الدراسة في طابعها العام محايد، وإن سجلت بعض الملاحظات القليلة.
10 ـ 3 ـ من افتراءات المستشرقين الفرنسيين على السنّة ودفاع ناصر الدين دينيه عنها، د. بلقاسم محمد الغالي
هذه الدراسة التي كتبها الدكتور بلقاسم محمد الغالي، من جامعة الشارقة، نشرت في الجزء الأول من أعمال المؤتمر الدولي «المستشرقون والدراسات العربية والإسلاميةn، والذي عقد عام 2006م.
تحدّث الكاتب ـ بعد مقدّمة عامة حول الاستشراق ونشأته ودوافعه ـ عن تحامل الاستشراق الفرنسي على شخصية النبي وأحاديثه، ثم عن دفاع ناصر الدين دينيه عن السنّة عبر تسجيل العيوب المنهجية التي وقع فيها المستشرقون.
11 ـ 3 ـ اهتمام المحدّثين بنقد الحديث سنداً ومتناً ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم، د. محمد لقمان السلفي
هذا الكتاب المؤلَّف من 599 صفحة، كتبه الدكتور محمد لقمان السلفي، رئيس جامعة ابن تيمية ومركز العلامة عبد العزيز بن باز للدراسات الإسلامية في الهند، طبع هذا الكتاب في دار الداعي للنشر والتوزيع في الرياض، وذلك بطبعته الثانية عام1420هـ بعد مدخل مطوّل، تحدّث فيه عن الحديث وعلم نقده.
خصّص الكاتب الباب الأول تحت عنوان «اهتمام المحدثين بنقد سند الحديثn، مستعرضاً أبحاثاً مختلفة، وباحثاً في نظرية عدالة الصحابة، وشروط الراوي والاتصال والانقطاع في الأسانيد، والشذوذ، أما الباب الثاني فخصّصه الكاتب تحت عنوان «اهتمام المحدثين بنقد المتن» ودرس فيه المتن وقواعد نقده واهتمام العلماء بذلك. في الباب الثالث الذي حمل عنوان «مزاعم المستشرقين وأتباعهم في عدم اهتمام المحدّثين بنقد المتن، ودحضها» تحدّث الكاتب عن حركة الاستشراق وأهدافها وعن آراء المستشرقين في السنّة والحديث، مثل جولدتسيهر وشاخت وهاملتون جب وغليوم وكايتاني وغيرهم، كما تحدّث عن الحركة التي تأثرت بالمستشرقين في العالم الإسلامي، مثل القرآنيين في باكستان وغيرهم.
وقد بلغ الباب الثالث المخصّص للمستشرقين حوالي الثمانين صفحة.
12 ـ 3 ـ الاستشراق في السيرة النبوية، أ. عبد الله محمد الأمين النعيم
هذا الكتاب هو الرقم 21 من سلسلة الرسائل الجامعية التي يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كتبه عبد الله محمد الأمين النعيم ـ من السودان ـ وهو في الحقيقة رسالة ماجستير حاز عليها عام 1994م من جامعة الخرطوم، وقد صدر الكتاب عن المعهد بطبعته الأولى عام 1997م.
يدرس الكتاب الآراء التاريخية لثلاثة من المستشرقين المختصّين بالسيرة النبوية، وهم وليام منتغمري وات، وكارل بروكلمان، ويوليوس فلهاوزن.
يتألف الكتاب من سبعة فصول مع تمهيد وخاتمة، تحدث في الأول عن «منهج وات وبروكلمان وفلهاوزن في دراسة السيرة»، وفي الثاني عن: «رؤية وات وبروكلمان وفلهاوزن للسيرة النبوية في العهد المكي»، وفي الفصل الثالث تحدّث عن: «معالم دولة المدينة»، وفي الرابع: «معارضة المنافقين»، وفي الخامس: «العلاقات الإسلامية ـ اليهودية»، وفي السادس: «العلاقات الإسلامية ـ المسيحية»، وفي السابع: «العلاقات الإسلامية بالقبائل العربية الوثنية».
13 ـ 3 ـ الردّ على مزاعم المستشرقين إجناتس جولدتسيهر ويوسف شاخت ومن أيدهما من المستغربين، د. عبد الله عبد الرحمن الخطيب
درس المؤلّف في هذا الكتاب نظرية السنّة الشريفة في ثلاثة أقسام، سبقها بمقدّمة ولحقتها خاتمة وتوصيات، اعتمد فيها الكاتب على مصادر عربية وأجنبية.
في القسم الأول تحدّث عن «عرض لآراء المسلمين حول منهجية توثيق السنّة بالاعتماد على نقد السند والمتن معاً». وفي القسم الثاني تحدّث عن «عرض لآراء المستغربين والمستشرقين فيما يتعلّق بتوثيق السنّة عبر نقد المتن والسند والردّ عليهم»، فيما خصّص القسم الثالث لبحث «نظرية الإسناد عند شاخت والردّ عليه».
يتألّف الكتاب من 72 صفحة. يدعو الباحث في آخره إلى عقد ندوات ومؤتمرات تتخصّص في الردّ على مزاعم المستشرقين.
14 ـ 3 ـ السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري
صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عن مكتبة وهبة في القاهرة عام 1408هـ في 178 صفحة.
فُهرس هذا الكتاب على أربعة فصول، تحدّث المؤلّف في الأول منه عن «أسلوب المستشرقين وحقدهم»، وفي الثاني عن «مترجمو القرآن وكتب السيرة»، وفي الثالث عن: «الشبهات المشتركة بين المستشرقين»، وفي الفصل الرابع تحدّث عن نظريات سيديو، ولامانس، نقداً وتمحيصاً.
إلى غيرها من الدراسات مثل : mموقف المستشرقين من السنّة والسيرة النبويةn، للدكتور أكرم ضياء العمري، و mمنهج المستشرقين في دراسة الحديث النبويn، للدكتور أحمد نصري، والتي نشرت في مجلّة دعوة الحق، العدد: 347، السنة الأربعون، 1999م.
والذي يلاحظ من خلال الدراسات النقدية التي كتبت ضدّ المستشرقين ضعف كامل للحضور الشيعي، فلا نكاد نجد دراسة شيعية جادّة حول الحديث والمستشرقين حتى باللغة الفارسية، على خلاف نظريات المستشرقين حول القرآن، حيث برز في العقود الثلاثة الأخيرة اهتمام شيعي واسع بهذا الأمر، إلى جانب نظريات المستشرقين حول التشيّع.
ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى وجود تصوّر مهيمن يدور حول أنّ إشكاليات المستشرقين هي في غالبيّتها العظمى ـ على الأقل ـ تسجّل على السنّة والحديث عند أهل السنّة، ولا ترد وفقاً للعقائد الشيعية؛ لأنّ الشيعة عرفوا التدوين في عصر النص وليس بعده و..
لكن مع صحّة هذا التصوّر في الجملة، لا يفترض الاغترار به؛ لأنّ العديد من دراسات المستشرقين لا تختصّ بأهل السنّة كما سوف نلاحظ في الأبحاث القادمة إن شاء الله، مثل موضوع نقد المتن، واختلاق الأسانيد، والوضع والدس، بل قد صرّح العديد من المستشرقين باسم الشيعة في قضايا الحديث، الأمر الذي يستدعي بحثاً مركّزاً حول هذا الأمر.
يضاف إلى ذلك، أنّ تشكيك المستشرقين بأصل حجية السنّة ـ بصرف النظر عن الحديث ـ يطال جميع المذاهب الإسلامية، وكذلك الحال في السيرة النبوية.
4 ـ الحديث الشريف، فهمه وإشكالياته عند المستشرقين
تعدّدت المحاور التي تحدّث فيها المستشرقون عن السنّة النبوية والحديث الشريف، ونحن نورد أهمها كالتالي:
1 ـ 4 ـ السنّة والحديث نتيج تلقائي لتحوّل أوضاع المسلمين
يركّز العديد من المستشرقين ـ وعلى رأسهم جولدتسيهر وشاخت ـ على أنّ الحديث النبوي لم يكن ظاهرة كبرى في الحياة الإسلامية، بل غدا كذلك عندما خاض المسلمون غمار علاقات فكرية وثقافية مع حضارات متنوّعة أخرى، من مصر وشمال أفريقيا، مروراً ببلاد الشام، وصولاً إلى إيران وآسيا الوسطى، كان الانفتاح على الثقافات والحضارات الجديدة مثاراً لأسئلة كثيرة جداً ولتوسّع في الأفق والوعي العربي الزاحف للهيمنة على العالم. إن الفتوحات الإسلامية سرعان ما أرخت بظلالها على واقع المسلمين ففتحتهم على تجارب جديدة ووعي جديد، ومن ثم تساؤلات جديدة، وبدأ العرب الفاتحون ـ على حدّ تعبير المستشرقين ـ يكوّنون لأنفسهم حياةً جديدة قائمة على مفهوم الدولة الكبيرة الغنية، واستجدّت الوقائع وتركت خلفها تساؤلات كبيرة جداً.
لم تكن نصوص القرآن بالتي تستطيع تغطية هذه المساحة الكبيرة جداً من التطوّر المدني؛ لأنّ القرآن لم يكن يحوي سوى عدد محدود من المواعظ والإرشادات والحِكَم والقوانين القادرة على تنظيم حياة قبائل صغيرة، لا تعرف الإمبراطوريات والسلطة بمعناهما الواسع، وعندما واجه المسلمون وضعاً جديداً كان لابد من أجوبة عن كل شيءٍ مستجد، ولم يكن يمكن لأيّ جواب أن يملك نفوذاً وسلطة وانتصاراً في الحياة الإسلامية إلا إذا استند في شرعيّته إلى الدين والمقدّس، ولما كان القرآن محدوداً رغم عمليات التأويل البسيطة التي كانت ولدت آنذاك، كانت السنّة الملجأ الأساس، فتمّ تحويل الأفكار إلى نصوص، ثم تمّ نسبة هذه النصوص إلى النبي|، لتملك نفوذها وسلطانها من المنطلق الديني، حيث كانت الديانة أساساً للفكر والوعي والعمل.
يضاف إلى ذلك، أنّ النظم القانونية كانت حاجةً ماسّة لتقوية الدولة والحيلولة دون تفكّكها ضمن إثنيات متعدّدة وأوضاع اجتماعية جديدة مختلفة إلى حدّ التناقض بين ثقافات الشعوب الجديدة والوافدة ـ كما يقول جولدتسيهر ـ وغيره.
على خطّ آخر ـ كما يرى جوينبيل ـ وقعت الانقسامات الحادّة بين المسلمين منذ وفاة النبي، وتطوّرت عقب اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان، لتنفتح على كلّ الاحتمالات بعد تولّي معاوية بن أبي سفيان للسلطة، كانت هذه الخلافات ذات طابع سياسي في بداية أمرها، لكن سرعان ما تحوّل السياسي إلى ديني وأيديولوجي وظهرت الفرق الإسلامية، لقد أرادت كلّ فرقة أن تثبت نفسها، فعمدت إلى الأحاديث النبوية لتضعها فتكون أساساً مشرعناً لوجودها، لمّا افتقدت نصّ القرآن في الدلالة عليها، وهكذا اعتمد مبدءان في تصفية الحسابات بين الفرق والمذاهب والتيارات الإسلامية اجتماعياً وسياسياً، وظهر هذا المبدءان بشكل صريح وواضح في القرن الثاني الهجري وهما:
1 ـ مبدأ التأويل لنصوص القرآن وقديم السنّة الواقعيـ كما يشير شاخت ـ فقد بدأت عملية تفسير القرآن تأخذ انحيازاً فرقياً ومذهبياً واضحاً، فظاهرة القراءات القرآنية ـ كما عند جولدتسيهر ـ لم تكن سوى تفاسير للقراء قاموا بإسقاطها على النص القرآني فقرؤه وفقاً لفهمهم له، تماماً كترجمة القرآن اليوم، حيث يقوم المترجم أحياناً بتفسير الآية ثم ترجمة تفسيره، لعدم إمكان الترجمة في بعض الآيات بدون ذلك؛ لأنها سوف تبدو غامضة وملتبسة.
من هنا، تحوّل القرآن إلى مصدر لتبرير الاتجاهات كافّة، فكلّ فريق يرى في القرآن ناصراً له، تماماً كما كانت فرق المسيحية ترى الإنجيل معها.
2 ـ مبدأ نحت الحديث النبوي:وهو المبدأ الذي بلغ مبلغه في القرن الثاني الهجري بعد فترة قرن معتمة لم يدوّن فيها الحديث، فنتيجة الخلافات السياسية والمذهبية صار كل فريق ينحت روايات يؤيّد بها آراءه ليكتسب شرعيةً وقوّة ونفوذاً، بهذه الطريقة ظهرت آلاف الروايات عند الفرق الإسلامية كافّة.
وكلّما ظهر موضوع جديد في الساحة الإسلامية كان الفرقاء المختلفون يسعون لتقديم أجوبة له، فينسبونها إلى النبي، فإذا واجهوا مشكلة الموالي وكانوا عرباً ظهرت روايات تفضيل العرب، وإذا ظهرت الحركة الشعوبية ظهرت روايات تفضيل الفرس أو أهل المشرق، وهكذا تضخّم الحديث ليكون استجابةً للتطوّرات والمستجدات في الساحة الإسلامية.
وكنتيج تلقائي لهذه النظرية التي هيمنت على الفكر الاستشراقي، تحدّث شاخت عن ندرة الحديث الفقهي الصحيح، وأنّ الأحاديث الفقهيّة والقانونية صنعت في أواسط القرن الثاني الهجري، وتأتي هذه الفكرة في سياق المقولة التي تتحدّث عن أنّ مجتمع المسلمين الأول ـ الصحابة ـ لم تكن لديهم اهتمامات قانونية وتشريعية؛ لأنّ الفقه والتشريع أمور بشرية لإدارة الحياة، فيما الدين ـ كما يذهب شاخت ـ يقع على مسافة مع الشريعة والقانون.
وهذه الفكرة نجد طرحها عند أمثال جولدتسيهر بطريقة تحليل أخرى، فجولدتسيهر يرى أنّ النصوص القرآنية والوثائق المؤكّدة عن النبي لا تقدّم لنا نظاماً تشريعياً، وإنما مجموعة من المواعظ والإرشادات وبعض الوقفات القانونية فأقلّ من نصف سدس القرآن يحكي عن الفقه، وهو في غالبه قضايا عامّة أقرب إلى الطابع الدستوري التوجيهي منها إلى قوانين، فلا وجود لنظم قانون مدني، أو تجاري، أو اقتصادي، أو أحوال شخصية، أو جزائي أو جنائي.. وإنما بعض المواقف المتفرّقة هنا وهناك، وهنا عمد الفقهاء فيما بعد لتغطية هذا الفراغ بخلق نصوص نبوية تكمل الثغرات، لتضبط حركة الأمّة الجديدة، وتضع لها مثالاً يحتذى.
من هنا، ذهب جولدتسيهر وشاخت إلى أنّ النصوص النبوية التي كانت متداولةً في العصر الأموي لم تكن على صلة بالفقه، وإنما ارتبطت بمحور الأخلاق والزهد والسياسة فحسب، على خلاف الحال في العصر العباسي الذي شهد ازدهاراً في الأحاديث الفقهية وهو العصر الذي نشأت فيه وتسامت المذاهب الفقهية الثمانية ـ بل وغيرها ـ عند المسلمين.
وقد تخطّى جولدتسيهر النبي|، إلى من حوله، فاعتقد بأنّ العادات التي عرفها المسلمون الأوائل من الصحابة سرعان ما حوّلها الأتقياء إلى مثال يتمّ السير وفقه باطمئنان، فصارت العادات مقدّسات، وظهرت فكرة السنّة التي هي جوهر العادات والتقاليد الإسلامية القديمة.
لقد بلغ استيعاب الحديث للتحوّلات الإسلامية مبلغاً كبيراً أن استطاع هضم واستيعاب الثقافات والحِكَم الموجودة عند الحضارات الأخرى وسائر الديانات أيضاً، لتُصَبّ كلّها في بوتقة الحديث، وليكون الحديث إطاراً للأفكار الدينية والخلقية في الإسلام وتطوّراته القديمة.
وفي سياق مواكبة الحديث للتطوّر التلقائي للوعي الإسلامي كانت علاقة الحديث بالأخلاق، فتعاليم النبي كانت مواعظ أخلاقية بسيطة سرعان ما عمّقها المسلمون، فبعد أن جاء ينهى عن الشرك الذي عرفه العرب طوّر الأخلاقيون المسلمون فكرة الشرك لتستوعب ـ كما يرى جولدتسيهر ـ كل اتصال أو تمجيد لغير الله، ثم نحتت الأحاديث بهذا الصدد، وجاء الرياء ليكون شركاً أيضاً، ومثله الكبر، وهكذا.
وتأخذ فكرة جوينبيل الأخرى وضعاً خاصاً، حيث يذهب إلى أنّ فكرة السنّة وظهور الحديث ترجع ـ نسبياً ـ إلى عادة العرب القدماء في اتّباع سنّة آبائهم الأولين، ولما جاء الإسلام لم يعد يمكن للمسلم أن يجعل من سنّة الآباء الأولين قدوةً ومثالاً أنموذجياً فاستبدل ذلك ـ ليحافظ على عادته ـ بسنّة الجيل الإسلامي الأول من النبي ومن حوله من الصحابة، وهكذا عوّض المسلم الإطار المرجعي لتقليد الآباء بابتكار فكرة السنّة والعمل على جمعها والاهتمام بها.
مطالعة نقدية لنظرية ولادة السنّة عند المستشرقين
وتستوقفنا هذه الصورة التي رسمها المستشرقون، ويمكن الحديث عن عدّة ملاحظات تتصل بها:
أولاً:لقد بنى المستشرقون الصورة التي نحتوها عن ولادة السنّة في التراث والتاريخ الإسلاميين وفقاً لعنصرين:
أ ـ التحليل الأناسي (الأنثروبولوجي) والعلم اجتماعي (السيسيولوجي) لتلك الحقبة وتلك الشعوب التي عاشت في تلك الفترة.
ب ـ بعض النصوص التاريخية التي استوقفتهم، مثل حديث الإمام علي لابن عباس عن عدم الاحتجاج بالكتاب وغيره.
وقد سيطرت على دراسة المستشرقين هنا طريقة العرض المنظم لصورة متناسقة، لكنّ مشكلتها أنها افتقدت دوماً إلى وثائق تاريخية مؤكّدة، والشواهد التاريخية القليلة التي استندوا إليها لم تثبت تاريخياً، وحتى لو ثبتت لم يكن للمستشرق أن يعتمد عليها في بحثه التاريخي؛ لأنه إذا كان المسلمون قد صنعوا فكرة السنّة لدوافع متعدّدة، فإن نصّ الإمام علي المتقدّم يجب أن يقع في سياق الاختلاق الإسلامي للحديث تأكيداً لمرجعية السنّة، فكيف صار هذا الحديث مستنداً تاريخياً للصورة الاستشراقية؟!
وإذا كان المستشرقون لا يثقون بالمنقولات التاريخية عن تلك الحقبة كما صرّحوا مراراً، فكيف تمكّنت مجموعة قليلة جداً من الوثائق التاريخية أن تلعب دوراً أساسياً في تكوين صورة شاملة عن المشهد التاريخي الواسع لولادة فكرة السنّة؟
ولنتجاوز هذه القضية إلى الجهاز التحليلي الأول الذي استخدموه، إنّ هذا الجهاز ممتاز جداً وقادر على أن يقدّم لنا معلومات وفيرة للغاية، لكن ليس من حقّه تجاهل الدافع الديني لمجتمع حديث الولادة تحكمه العواطف الدينية؛ فعندما تولد الثورات الكبرى وتظهر الديانات يغلب على الجيل الأول طابع الصدق والتفاني؛ لأنّ الثورات الروحية تأتي مليئةً بالعواطف الجيّاشة الصادقة، سواء كانت واعية أم غير واعية، وإذا كان هذا هو أحد العناصر المحرّكة، بعيداً عن المال والسلطة، لا أقل حتى معركة بدر في المدينة، فهذا يفترض إدخال تأثير النص الديني في الحسبان، وعندما نرجع إلى القرآن الذي يركّز مفهوم النبي والاقتداء بالنبي واتباع النبي وغير ذلك، يلزمنا حينئذٍ أن نضع احتمالاً حقيقياً في أن يكون الله نفسه ـ وبحسب رأي المستشرقين: النبي نفسه ـ قد ركّز في القرآن قدسية النبي، وولادة القدسية في جوّ مليء بالعواطف الجياشة في لحظات انتقالية لجماعة مقموعة محاربة من جميع الأطراف، كما تحكي معركة الأحزاب، يساعد ـ حتى وفق معايير التحليل الاستشراقية ـ على ولادة مبكرة لمفهوم قدسية الفرد؛ لأنّ الأمة الجديدة كانت تقوم على خطوته ودعوته وادّعائه، فمركزية الفرد تسمح هنا في هذا المناخ بولادة المقدّس في شخصية النبي.
ونحن لا نريد هنا إثبات ما نقول، بقدر ما نريد تقديم فرضيات منطقية بديلة انسجاماً مع المنهج الذي استخدمه المستشرقون أنفسهم.
ثانياً:لا أظنّ أنّ أحداً من المسلمين يختلف مع المستشرقين في أنّ السياسة والمذهبيات والوقائع الحادثة.. لعبت دوراً في قضية السنّة، إلا أنّ نقطة الخلاف مع المستشرق تكمن في الانتقال من البعض إلى الكل، فعندما وقع الخلاف الأوّل بين المسلمين حول قضية الخلافة وحروب مانعي الزكاة ثم أزمة عثمان بن عفان، ثم الحروب في العصر الأموي… عندما حدث هذا كلّه كان الصحابة أيضاً بحاجة إلى مستندات لدعم مواقفهم في الانقسام الذي حصل بينهم عقب وفاة الرسول|، فإذا كانت هناك ضرورة دعت المسلمين لفرض مرجعية النبي، فإنّ هذه الضرورة يمكن أن نتصوّرها أيضاً في عهد الخلفاء الأربعة الأوائل وبدايات الدولة الأموية، وفي هذه الفترة كان نقلة الحديث في الغالب هم الصحابة، ونحن نسأل إذا اختلق بعض هؤلاء أحاديث لدعم مواقفهم فهل كان النبي| صامتاً طيلة حياته معهم؟ ألم يصادف أن تحدّث في خطب الجمعة وفي المسجد وفي المناسبات المختلفة مثل الحج والحروب والغزوات؟ أليس من المنطقي افتراض أن المسلمين الفاتحين احتاجوا إلى نصوصه في فتوحاتهم؟ وأليس من المنطقي أن يكون النبي وهو زعيم الجماعة الجديدة قد قال شيئاً عن علاقات أبناء هذه الجماعة ببعضهم؟ ألم يقم المسلمون بعد النبي الصلاة والحج والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف و.. هل يمكن ـ وهذه عبادات دينية يتوقع من النبي أن يتكلّم فيها ـ أن لا يكون لنبيّ كلام في هذا الأمر يستفيدون منه في هذه الأفعال أو أفعال وعادات جرى عليها ثم اتبعوه فيها؟
إنّ هناك فرقاً بين أن يكون للنبي سنّة عمل بها المسلمون وتناقلوها واحتجّوا بها على بعضهم وبين أن يكون صامتاً كأنه لا كلام له ولا دوافع أيضاً لنقل كلامه في الأمة المؤمنة الجديدة.
إن الافتراض الأكثر منطقية هو أنّ النبي كانت تصدر عنه كلمات ومواقف وأفعال وعادات، وأنّ المسلمين كانوا يتبعون ولو بعضها، وأنّ هذا الأمر ـ أي وجود مرجعية للنبي ـ هو الذي سمح لبعض المسلمين فيما بعد باستغلال هذه المرجعية للتقوّل عليها، أما لو لم تكن هذه المرجعية من أساسها ولم يعرف المسلمون الأوائل شيئاً عنها لكان لابد من حدوث نزاع بينهم في أصل الاستناد إلى سنّة النبي في عصر الصحابة، الأمر الذي لا توفره لنا الوثائق التاريخية. وحتى الخلفاء الذين قيل بأنّهم منعوا تدوين الحديث لم يقل أحد منهم بأنّ كل ما قاله أو فعله النبي لا قيمة له، بل إنما تعرّضوا لكثرة الحديث تارةً وللتدوين تارة أخرى، فلو كان الخلاف حول أصل القيمة التي تأخذها السنّة لوجدنا نزاعاً من نوع آخر، وقد احتفظ المسلمون بالخلاف الذي شهدته تلك الحقبة ونقلوا منع التدوين رغم اعتقادهم بالتدوين في القرن الثاني، لكنّ أحداً منهم ـ سوى في نصوص قليلة للغاية لا يجدر جعلها مصدراً تاريخياً ـ لم يناقش في أصل قيمة السنّة النبوية.
ثالثاً:إنّ مقولة أنّ الشافعي هو مؤسّس السنّة في التراث الإسلامي، والتي طرحها المستشرقون والكثير من الباحثين المتأخرين في العالم العربي والإسلامي تحوي خطأً واضحاً؛ فهناك فرق بين التأسيس النظري لمقولةٍ ما والاقتناع الوجداني غير المنظّر له لهذه المقولة، وتاريخ الفكر قائم على ذلك، فالعمل بالظهورات اللفظية سنّة قائمة، لكنّ نظرية حجية الظهور فكرة متأخرة، وهكذا الحال في نظرية حجية خبر الواحد عند من يقول بها، فاذا كان الشافعي أوّل من طرح نظرية السنّة وأقام عليها الأدلة والأفكار فهذا لا يعني غياب هذه النظرية في الوعي الإسلامي قبل ذلك، وإلا فكيف نفسّر مثل كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس (179هـ) والذي كتبه قبل أن يظهر اسم الشافعي في الحياة العلمية للمسلمين؟ وما معنى موقف الأحناف (وهم سابقون على الشافعي) في القرن الثاني من الحديث، وهو موقف متشدّد؟ فلو لم تكن فكرة مرجعية السنّة والحديث قد ظهرت لم يكن هناك من تفسير لهذه الظواهر الواسعة المهتمّة بالحديث بحيث يقع الخلاف بينها في حجية المنقول وعدم حجيته لا حجية أصل السنّة الواقعية.
بل إن نفس منع تدوين الحديث في القرن الأوّل ـ بناءً على صحّته ـ شاهد على أنّ هناك تياراً ـ على الأقل ـ كان يتجه إلى التدوين، وهو مؤشر على اعتبار السنّة في الوعي الإسلامي الأول ـ في الجملة ـ مرجعاً يستحقّ أن يدوّن.
وعليه، فمرحلة الوجود شيء، ومرحلة بناء نظرية لما هو موجود شيء آخر.
2 ـ 4 ـ نظرية ظهور الأسانيد في القرن الثاني الهجري
يذهب بعض المستشرقين من أمثال روبسون إلى أنّ المسلمين في القرن الهجري الأول عندما كانوا يتحدّثون عن النبي وأقواله وأفعاله لم يكونوا يذكرون السند، ولم تكن فكرة السند لتشغل بالهم، بل كانوا ينسبون ذلك مباشرةً إلى النبي، كأيّ قصّة تاريخية يجري الحديث عنها.
ولما تطوّرت الأوضاع في القرن الثاني الهجري، ظهرت فكرة الإسناد، كي يؤكّد الجميع أنّ ما عندهم معلوم النسبة للنبي، وأنّهم لم يختلقوا ذلك، فمن الطبيعي أنه عندما لا يكون هناك من يناقش في أمر ما أن يطرح صاحب هذا الأمر أمره بلا دليل؛ لأنّ المناخ العام مهيأ لتقبّل الفكرة، لكن عندما يتم إخضاع ما يقوله للبحث والنقاش ويظهر خصوم له ومعارضون.. يضطر للجوء إلى الأدلّة والبراهين ويخوض في الوسائل التي تثبت ما يقول.
هذا بالضبط ما حصل مع المسلمين، فبعد اشتداد الخلاف بينهم وظهور الفرق وأهل المقالات، عمد كل فريق لإثبات ما يقوله لوضع السند المصحّح لادّعائه، فولدت الأسانيد وصار الفريق الأول يذكر سلسلة السند ليؤكّد أنه وصله هذا الخبر عن النبي بشكل موثوق، وكذلك فعل الفريق الثاني والثالث، وهكذا..
وبهذه الطريقة هيمنت فكرة الإسناد على الحديث عند المسلمين، وصار معياراً كبيراً يتمّ اللجوء إليه لوزن الأحاديث، لتتطوّر بعد ذلك مع علم الحديث والجرح والتعديل تطوّراً مذهلاً.
ويشير جولدتسيهر هنا إلى نقطة هامة تتعلّق ببُنية الحديث، حيث يرى أنّ الأحاديث الصحيحة لا تختلف عن غيرها في مكوّناتها الدلالية والأدبية، فالإسناد لا يغيّر شيئاً، فعندما نواجه حديثاً صحيح الإسناد ثم نأخذ حديثاً آخر مطعوناً فيه، لا نجد في متن الحديثين أيّ اختلاف، إذ يغلب على الجميع طابع واحد، وهو وجود مشكلة ما جاء الحديث ليقرّر قاعدة أو جواباً يتصل بهذه المشكلة، وذلك أكثر من أن يكون الحديث مشتملاً على حقيقة تاريخية حيادية، فلو كان هناك حديث صحيح واقعاً لظهر اختلاف في تركيبة الأحاديث الصحيحة وغيرها، وهو أمر لا نجد أنّ علم السند يوفّره لنا.
ويلفت جوينبيل هنا إلى أنّ هذه الأحاديث ورواتها كانت محلّ جدل وتساؤل كبيرين في الفترة الأولى، ويمثل لذلك بالراوية المشهور أبي هريرة، فهذا الرجل كان مورد نقد شديد، والثقة به كانت محلّ جدل عنيف بين كثير من الناس في عصره، لكنّ مرور الأيام كرّس هذه الأحاديث التي اختلقتها المنازعات بين المسلمين، وتحوّلت عند الأجيال اللاحقة أمراً مسلّماً، وشيئاً فشيئاً بدأ تصحيح الأحاديث وتحوّلها إلى مرجع ليستند إليه المسلمون، وبالرغم من التعارض بينها شديداً لأنها تنتمي إلى تيارات مختلفة متصارعة إلا أن العلماء المسلمين ذلّلوا العقبات أمام تفتيت أشكال المعارضة الموجودة بينها، واستطاعوا أن يروها في غاية التجانس، وبعد أن كان المسيطر هو الموقف المتشدّد من الحديث ونقده صار المهيمن هو الأخذ والتسليم للروايات، وصار لا يجوز نقد الحديث إلا بعد اليأس التام عن تأويله بشتى أنواع التأويل.
ويقدّم جوينبيل تفسيراً متصلاً، فيرى أنّ السبب في صيرورة الكتب الستّة عند أهل السنّة مقدّسةً معتمدة ـ لاسيما الصحيحين منها ـ لا يرجع إلى الدقّة ونحو ذلك، إنه يدلّنا على سبب آخر برأيه، وهو أنّ هذه الكتب احتوت الأفكار المتّفق عليها في القرن الثالث الهجري بين الفرق السنيّة، وكان الاتجاه العام يميل إلى جمع الأحاديث التي حازت قبولاً عاماً عند الغالبية في ذلك العصر، فليس الأمر مسألة اتباع لأفكار البخاري وجهوده الحديثية بقدر ما كان اتّباعاً لرغبة في جمع ما اتفق المؤمنون في ذلك العهد على قبوله من الأحاديث المروية([5]).
إنّ هذا التفسير الوضعي لمقبولية هذه الكتب يعيد إلى ذهننا ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من أنّ الشافعية هم الذين روّجوا لصحيح البخاري بجهود كانت تهدف لسيطرة مذهبهم الفقهي على العالم الإسلامي.
وفي سياق تطوّر الحديث التفت المستشرقون إلى قضية الوضع في الحديث، وأثاروا حول نصوص العرض على الكتاب استفهامات، فذهب جولدتسيهر إلى أنّ مثل هذه الأحاديث جيء بها كي تؤمّن شرعيةً وتغطيةً للوضع في مجال الأخلاق وما ينفع الناس ويجعل أمرهم مستقيماً، ولهذا نجد أنه ظهر تساهل في حديث الأخلاق والفضائل في الأعمال أكبر بكثير من الجانب الفقهي([6]).
وتدخل في عملية الريبة في الحديث وأنّ الأسانيد جيء بها فيما بعد.. الأساليب الصياغية للحديث النبوي، حيث يذهب روبسون إلى أنّ أسلوب التفصيل بعد الإجمال من الأساليب التعليمية التي ظهرت فيما بعد، ثم لما نسب الحديث إلى النبي استخدم الرواة الأسلوب المعاصر لهم، ويمثل لذلك بمثل أن يقول النبي: بني الإسلام على خمس: الصلاة و..؛ إنّ هذا التفصيل بعد الإجمال شكلٌ من أشكال صياغة الحديث تتناسب مع الفترات اللاحقة، وهذا يكشف عن مدى الوضع في الحديث ويقلّص من فرص الوثوق بالأسانيد أيضاً.
بل يستمرّ جيمس روبسون في محاولته تحليل صياغة الأحاديث، فيرى أنّ أسلوب السؤال والجواب أسلوب متأخّر عن العصر الأوّل، إنه يشكّك في أن يتجه الناس إلى سؤال الصحابة عن شؤون الدين أو النبي، ويرى أنّ أحداثاً قليلة ربما تكون حصلت ومن المستحيل اكتشافها، أما أن هذا الأمر كان ظاهرة فهو أمر مرفوض عنده.
إن الروايات في نظر أمثال روبسون تعبير عن رفض بعض التصرفات أو العادات التي كانت عليها بعض الأقاليم الإسلامية آنذاك، فأريد تغييرها، فجيء بالسند لتنسب الأمور إلى النبي لتكون هناك القدرة على الرفض والتغيير.
وانسجاماً مع نظريته في تأخر الفقه الإسلامي ظهوراً وخروجه عن النطاق الديني، يذهب جوزيف شاخت إلى أنّه يصعب التأكّد من الروايات الواردة في الفقه كلّها، وهذا يعني أيضاً أنّ كل تلك الأسانيد التي نسجت لهذه الروايات لا تعبّر عن شيء.
وهكذا الحال عند يطرح وليام جراهام فكرة أنّ الصحابة لم يميّزوا بين الحديث النبوي والحديث القدسي، فنسبوا أحدهما إلى الآخر، فينسبون أحياناً هذا لذاك، وأحياناً أخرى ذاك لهذا، والملفت اعتقاده بأنّ نسبة الأحاديث القدسية لله تعالى جاءت في القرن السابع الهجري، الأمر الذي يطيح بكل منظومات الأسانيد والمتون في الحديث النبوي.
جوزيف شاخت ونظرية القذف الخلفي
هذا المركّب الكبير من الأفكار التي طرحها المستشرقون وما يزالون، ساقت إلى تكوين شاخت نظرية القذف الخلفي (Projecting Back) التي اعتقد من خلالها أنه توصّل إلى اكتشاف تاريخ اختلاق الإسناد.
لقد بدت هذه النظرية عظيمة الأهمية عند المستشرقين، وقد تابع فيها شاخت أعمال من سبقه مثل مارجليوث وجولدتسيهر في تطوّر السنة والحديث، لكنّه وقبل تأليف (أصول الشريعة المحمدية) عكف على دراسة الأسانيد ليطرح نظريته الواسعة فيها، لتؤسّس لمرحلة في دراسات الاستشراق للإسلام، وهي تقول: إن الطبقتين اللتين سبقتا الشافعي (204هـ) كانت تنسب الأحاديث إلى الصحابة والتابعين، وكان من النادر نسبتها إلى الرسول نفسه، وهذا يعني تاريخياً تقدّم الإسناد والنسبة إلى الصحابة والتابعين عليه بالنسبة للرسول.
معنى هذا الكلام أنّ العلوم الإسلامية الأولى كالفقه لم تولد من رحم الحديث ـ كما يقال ـ وإنما من رحم الأفكار والعادات والأعراف والتوجّهات التي عرفتها الأجيال بعد النبي، ففي البداية كان الفقه وليد الأوضاع الجديدة ونتيجاً للمجهود البشري، ثم نسب إلى الصحابة والتابعين، ثم في القرن الثاني الهجري بدأ ينسب إلى الرسول، وهذا يعني أنّ النسبة للنبي وتكوّن الإسناد وتطوّره قد مرّا بمراحل تدريجية، ويرجع شاخت ولادة اختلاق الأحاديث إلى بداية القرن الهجري الثاني أو على أبعد تقدير القرن الأول.
وفي البداية كان الإسناد عمليةً بسيطة، لكن سرعان ما تطوّر، ولهذا يرى شاخت أنّه كلّما كان الإسناد متصلاً منظّماً جيداً عنى ذلك أنّ هذا السند هو وليد الفترة المتأخرة التي تطوّر فيها الإسناد وانتظم.
وتعني نظرية شاخت بهذا التسلسل الذي تقوم عليه أن قوّة الإسناد دليل الوضع المتأخّر بخلاف ضعفه، وأنّ تعدّد الأسانيد لتنتهي عند نقطة مشتركة ليس عنصر قوّة، بل هو بالضبط الذي يكشف لنا أنّ منشأ الوضع جاء من القاسم المشترك بين الأسانيد، أو على الأقل جرى استغلال هذا الاسم لجعله مصدر الحديث.
لقد أراد شاخت من هذا كلّه أن يجعل التقدّم الفقهي في بداياته بمعزل عن تقدّم الحديث، لقد كان يذهب إلى أن المحدّثين جاؤوا لمواجهة الفقهاء، ولهذا يرى شاخت أنّ أي حديث يراد اكتشاف وضعه يجب مراجعة كتب الفقهاء فيه، فإن لم يعتمدوا عليه دلّ ذلك على وضع المحدّثين له في مواجهة اجتهادات الفقهاء.
ورغم اهتمامه بحديث الفقه، لكنه يعرّج على الأحاديث العقائدية، فيرصد رسالة الحسن البصري في العقائد ويجدها خاليةً من الحديث، فيستنتج أنّ أحاديث العقائد ظهرت متأخّرةً عن زمان الحسن البصري أيضاً.
وفي سياق بيانه ـ عبر المثال والتطبيق ـ لنظرية اكتشاف مركز الوضع في الأسانيد، يقول شاخت بأنّ الجزء العلوي من الأسانيد غير صحيح، بينما الجزء السفلي صحيح تماماً، ويتمّ اكتشاف محور هذه النظرية عبر البحث في السند، إننا سنجد أنّ هناك شخصاً واحداً وقع في السند وأنّ هذا الشخص هو محور الحديث، وأنّ الذين وقعوا قبله في الجزء العلوي من السند وصولاً حتى الرسول كلّهم لا وجود لهم في التحديث، أي لم يحدّثوا بذلك إطلاقاً.
وقد استند شاخت في ذلك إلى أنموذج قدّمه من كتاب (اختلاف الحديث[7]) للشافعي رأى فيه أنّ راوياً يدعى عمرو بن أبي عمرو، يمثل الراوي المشترك الذي صنع هذا الحديث.
والحديث كالتالي:
الرسول
جابر
رجل من بني سلمة المطلب
عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب
عبد العزيز بن محمد إبراهيم بن محمدسليمان بن بلال
رجل مجهول
الشافعي
يقول شاخت: إنّ مركز الوضع في هذا الحديث هو عمرو بن أبي عمرو؛ إذ لا يمكن أن يكون قد تردّد بين مولاه المطلب وبين رجل مجهول من بني سلمة.
وعلى مسير شاخت، يحاول كايتاني أن يكتشف منشأ ظهور الأسانيد فيقوم بمراجعة الكتب الأقدم، ويرى أن أقدم مصدر قام بجمع الأحاديث يرجع إلى عروة (94هـ)، وعندما ننظر فيما يذكره أمثال الطبري نقلاً عن عروة نجده أنه لا إسناد له ولا ذكر لمصدر كلامه، وعندما ننظر في أعمال ابن إسحاق (151هـ) نجد أنّ السند كان قد ظهر، وبهذا نكتشف أن ظهور الأسانيد كان في القرن الثاني الهجري (بين 94 و 151هـ)، وأنّ الجزء الأعظم من الأسانيد الموجودة اليوم قد تمّ اختلاقه في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
ويسير شبرنجر في هذا الطريق، فيرى أنّ الكتابات التي تركها عروة لعبد الملك (80هـ) كانت خاليةً من الأسانيد، وهذا يعني أنّ ما نسب إليه من الأسانيد هو ظاهرة متأخرة.
لقد حظيت نظرية شاخت هذه بترحيب واسع في الأوساط الغربية وتوقّع لها غير واحد ـ مثل مونتغمري وات ـ أن تلقى قبولاً، ورغم أنّ روبسون انتقد بعض جوانب هذه النظرية، إلا أنه أبدى إعجابه بالرؤية النقدية التي حملها شاخت في دراسته هذه. أما mجبnفقال بأنها ستصبح أساساً للدراسات الغربية، كما قام كل من جون بورتون (1991م) ونورمان كولدر (1993م) بتبنّي هذه النظرية بشكل تام تقريباً. بل قد تأثر بعض المسلمين بهذه النظرية، مثل فضل الرحمن وعبد القادر شريف وقبلوا بمبادئها العامّة، مع انتقادهم بعض خيوطها.
ملاحظات على نظرية الوضع وظهور الأسانيد
كانت ردود الأفعال إزاء نظريات شاخت وكايتاني وشبرنجر مختلفة، والمناقشات متنوّعة، ويمكن هنا الحديث عن بعض التعليقات:
أولاً:المشكلة الأساسية في الاستناد إلى عروة أنّ تأليفاته لم تصلنا بشكل مستقلّ، وكلّ ما توفر لدينا حول أعماله ليس سوى اقتباسات تناثرت في كلمات اللاحقين، وهذا يعني أنّ المقتبسين يمكن أن يكونوا قد ساهموا في الأمر، فحيث وجدوا أنّ الواسطة بين عروة والنبي ستكون واحداً من الصحابة في الغالب؛ لقربه من عصر النبي، لم يروا ضرورة لذكر الأسماء ما دام الصحابة في تصوّرهم عدولاً([8]).
ثانياً:لقد جاءت رواية كتاب عروة في مصادر متعدّدة، منهم الإمام الزهري، وعندما نراجع ما ينقله الزهري عنه، نجد ذكراً للإسناد من جانب عروة، أحياناً بإسناد منفرد وأخرى بإسناد مزدوج، وهذا يؤكّد أنّ عروة استعمل الإسناد، خلافاً لما يدّعيه شبرنجر وكايتاني([9]).
ثالثاً:ما كتبه هوروفتس في نقده على دراسة هذين المستشرقين حول ظهور الأسانيد، حيث طالب بالتمييز بين حالة الشخص عندما يكتب لشخص آخر، مثل حالة عروة في رسالته التي كتبها لعبد الملك بن مروان، حيث لا ضرورة لذكر الأسانيد، وحالته عندما يكتب في وسط علمي يخاطب فيه العلماء والمثقّفين، مقرّاً بأنّ دراسة مستوعبة لأعمال عروة تدلّ على أنه استخدم الإسناد، ولهذا يرجّح هوروفتس بأن يكون الإسناد قد بدأ في الثلث الثالث من القرن الأول الهجري([10]).
رابعاً:يسجّل روبسون ملاحظةً على شاخت، فيرى أنّ اعتقاده بأنّ نظام الأسانيد جاء نتيجة الاختلافات الحزبية بين المسلمين، فأراد كل واحد أن يقدّم مذهبه وتصوّراته الفقهية بشكل مسند ومستدلّ فاخترعوا نظام السند.. إنّ هذه الصورة يمكن أن تنجح مع المشهد الفقهي الذي كان يمرّ على الدوام بمتغيّرات، أما سائر المشاهد في الثقافة الإسلامية فلم تكن على هذه الحال، فالتعميم الذي مارسه شاخت في حقّ الأسانيد لم يكن دقيقاً([11]).
وكأن روبسون يريد أن يقول بأنّ النزاعات الإسلامية تركّزت في علمي الفقه والكلام لا غيرها من العلوم، مع أنّ الحديث يستوعب مساحةً أكبر من ذلك بكثير.
خامساً:سنأخذ بافتراض شاخت أنّ المحدثين جاؤوا في البداية في مواجهة الفقهاء، وأنّ الفقه بمراحله الأولى لم يكن يعرف حجيّة هذه الأحاديث، ونسأل: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نجد في أعمال الفقهاء القديمة الكثير من موارد الاستناد إلى النبي محمد|؟! وحتى لو ترك فقيهٌ ما حديثاً ولم يذكره، كيف نعرف أنّ هذا الحديث موضوع؟! فكما يمكن أن يكون هذا الفقيه بحسب وجهة نظره قد تجاهل هذا الحديث، كذا يمكن أن يكون المحدّث صادقاً في نقله([12])، إذن كيف جعل موقف الفقيه معياراً؟!
سادساً:ثمة ملاحظة تستحقّ التأمل والتفكير سجلها الدكتور الأعظمي وتقوم على إشكاليّة اختيار الموادّ المدروسة في المنهج الاستشراقي، فإنّ أغلب هذه المواد التي بنى المستشرقون قراءاتهم عليها يرجع إلى كتب السيرة لا الحديث، وهناك في الأصل خلاف في وجهات النظر بين المستشرقين في عملية الدمج والفصل بين السير والحديث، فلامانس وروبسون يذهبان إلى وحدة السيرة والحديث، أما هوروفتس فيفصل بينهما ويراهما مصدرين متميّزين.
والحقّ ـ من وجهة نظر الأعظمي ـ هو الفصل، ففي كتب الحديث يمكن ذكر حديثين معاً يحملان موضوعين مختلفين، بحيث يذكر الأول ثم يذكر الثاني، أما في كتب السيرة فهناك حاجة لتسلسل القصص والأحداث، ولهذا كان كتّاب السيرة مضطرّين أحياناً لجمع الروايات المتعدّدة ومزج بعضها ببعض لإخراج حادثة متكاملة، ولو لاحظنا بعض كتّاب السيرة ممّن صنف في الحديث سنجد أنه في الحديث التزم بالمنهج الصارم عند المحدّثين في الحديث ولم يقم بما فعله في كتب السيرة([13])، وهكذا نجد أن طريقة كتّاب السيرة تقوم على حذف السند تارة وذكره أخرى، وذكره مبتوراً في موضع ثالث([14]).
وعلى المنوال عينه اعتماد كتب الفقه مصدراً لدراسة الأحاديث فيما المطلوب أخذ كتب الحديث مصدراً([15]).
سابعاً:إنّ الشاهد الذي أتى به شاخت لانتشار الحديث، ونظريّته في تحديد مركز الوضع، يعاني من مشاكل:
أ ـ لم يأت شاخت سوى بمثال واحد من كتاب «اختلاف الحديث» للشافعي، فكيف يمكن بناءً على مصدر واحد وحالة واحدة الخروج باستنتاج عام شامل حول نظريةٍ بهذا الحجم تطال عشرات الآلاف من الأحاديث عند المسلمين؟!
ب ـ إنّ مجرد اشتراك شخص في أن يروي عنه جماعة لا يدلّ على أنّه مركز الوضع، فقد يكون الواضع شخصاً فوقه في السند، وقد يكون صادقاً، كما لو أنه كان شيخاً معروفاً يلقي الأحاديث على الآخرين فيسمع منه عدّة أشخاص ثم يتفرّقون في البلدان فينقلون عنه، أو قد يكونوا أخذوا كتابه ثم تداولوه باسمه لا باسم كتابه ـ كما يشير الأعظمي ـ فأيّ ضير في ذلك كلّه؟!
ج ـ إنّ السند الذي أتى به جوزيف شاخت له ثلاث طرق إلى عمرو بن أبي عمرو، إثنان منها ينقلان عنه عن المطلب، والثالث ينقل عنه عن رجل من بني سلمة، وهنا كما يمكن أن يكون عمرو بن أبي عمرو قد نسي فخلط السند أو وضع الحديث، يمكن أن يكون الراوي عن عمرو في الطريق الثالث ـ وهو عبد العزيز بن محمد ـ قد سها أو نسي أو وضع الحديث من حيث السند، فلا دليل هنا على أنّ مركز الوضع هو عمرو بن أبي عمرو.
د ـ إنّ تردّد اسم من روى عنه عمرو بن أبي عمرو لا يدلّ على وضع عمرو للحديث؛ إذ من الممكن أنّ عمرواً قد سمع هذا الحديث من رجل من بني سلمة وهو لا يعرفه، فنقله إلى شخص، ثم نقل ذلك الشخص الحديث إلى الشافعي، وبعد فترة سمع عمرو بن أبي عمرو الحديث نفسه من المطلب، فرأى أنّه بدل أن ينسب من الآن فصادعاً هذا الحديث إلى رجل نسي اسمه أو لا يعرفه من الأساس إلا أنّه من بني سلمة، صار ينسبه إلى المطلب، وهذا أمر طبيعي جداً، فذكر السند الجديد إلى شخصين آخرين ونقلا الخبر بحيث وصل أيضاً إلى الشافعي، فأيّ دلالة في السند على أنّ عمرواً هو مركز الوضع؟!
ثامناً:إنّ تشابه بنية الأحاديث التامة السند وغيرها لا يدلّ على انعدام قيمة الإسناد كما يريد جولدتسيهر؛ لأنّ غاية ما يعني ذلك أنّ الوضاعين تمكّنوا بجدارة عالية من صنع أحاديث متماسكة في كثير من الأحيان، لكن هذا لا يعني أن كلّ الأحاديث موضوعة؛ إذ من الممكن أنّ الوضّاعين شاهدوا نمط الأحاديث الصحيحة فعملوا على نحت نماذج مشابهة لها كي يتمكّنوا عبر ذلك من النفوذ في الوعي الإسلامي، وهناك فرق بين أن تقول: إنّ تشابه المتون دليل الوضع في الجميع، وبين أن تقول: إنّ تشابهها دليل الوضع في بعضها أو دليل عدم إمكان استخدام الجانب الدلالي والبياني لها لاكتشاف الصحيح من الموضوع، ودعوى جولدتسيهر هي الأوّل لا الثاني.
تاسعاً:نحن نوافق جوينبيل على أنّ هناك ظاهرة تحويل المختلف فيه من الرواة والأحاديث إلى متفق عليه في التراث الإسلامي عموماً بمرور الزمان؛ فكثير من الرواة كانوا من المختلف فيهم وصاروا اليوم مقدّسات، كما نتفق معه في حجم خطورة ظاهرة التعارض والاختلاف في الأحاديث وأن كثيراً من أشكال التذليل وحلّ التعارض لم تكن علمية بقدر ما كانت أيديولوجية، لكن هذا لا يعني ما أراد المستشرقون تحقيقه؛ وذلك:
أ ـ إنّ نظرية اختلاف الحديث تطوّرت تطوّراً كبيراً في العصور اللاحقة ونظّمت تنظيماً علمياً دقيقاً، بحيث تمّ نقد الطرق القديمة البدائية للتوفيق بين النصوص واستبدالها بطرق أكثر علميةً، وعلى سبيل المثال كانت طريقة القدماء ـ مثل الشيخ أبي جعفر الطوسي (460هـ) في كتاب «الاستبصار فيما اختلف من الأخبار» ـ تقوم على قاعدة: الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، بالتفسير الإفراطي لهذه القاعدة، وقد تركت هذه القاعدة ـ المنطوقة وغير المنطوقة ـ تأثيراً واسعاً على ولادة حركة أيديولوجية موجّهة لتذليل العقبات بهدف رفع أشكال التعارض والحيلولة دون هدر النصوص وخسارتها، إلا أن تطوّر الدراسات الأصولية والحديثية أدّى بالعلماء إلى طرح هذه القاعدة نفسها أو إعادة إنتاج تفسير لها يبديها أكثر منطقيةً، وقد كان من المفترض بالمستشرقين ـ ولاسيما شاخت المتخصّص بأصول الفقه الإسلامي ـ أن يطالع تطوّرات مباحث التعارض في أصول الفقه الشيعي مثلاً، ليرى كيف أنّ هذه القاعدة لم تعد مقبولة، وأنّ العلماء ميّزوا بين ما سمّوه: الجمع والتوفيق التبرّعي، والجمع والتوفيق العرفي والعقلائي.
ب ـ إنّ مجرّد وجود اختلاف سابقاً حول شخصيةٍ ما لا يعني بالضرورة اتخاذ موقف سلبي من هذه الشخصية بالنسبة إلينا اليوم، فقد كان يفترض بالمستشرقين أن يأخذوا بعين الاعتبار ظواهر الحسد والمناكفات آنذاك، ويدركوا أنّ نجاح شخص سيجعله عرضةً لخصومات عديدة تريد النيل منه، وحتى أصدق الناس هناك من يطعن فيه، فلا يصحّ أخذ الجميع بسلّة واحدة، وقد ذكر الوحيد البهبهاني في أبحاثه الرجاليّة أنّ الكثير من الروايات الجارحة بالرواة ترجع إلى هذا الأمر، وهو احتمال معقول جدّاً لاسيما وفق المنطق الوضعي والمادي الذي يتبنّاه أغلب المستشرقين عادةً، فكيف تلاشى هذا الاحتمال في تفسير هذا الحدث؟!
عاشراً:إنّ تفسير جولدتسيهر لنصوص العرض على الكتاب على أنها صنيعة الزهاد والمؤمنين بهدف تأمين غطاء للوضع في مجال الأخلاق والآداب والاستقامة.. دعوى بلا دليل، بل الأنسب ـ لو أنّ هذه الأحاديث كانت موضوعة ـ أن تكون من صنع نقّاد السنّة، وهذا بالضبط التفسير السنّي لهذه الأحاديث، فقد نظر علماء أهل السنة لها متّخذين منها موقف الشك والارتياب بل حكم بعضهم بوضعها من جانب من يرفض الحديث لا من طرف المؤيّدين له، وقد حقّق المتأخرون من علماء الأصول أنّ الترجيح بموافقة الكتاب وكذلك طرح مخالف الكتاب يمكن تخريجه وفق البناءات العقلائية أيضاً حتى لو لم ترد نصوص في هذا المضمار، فلماذا نعتبر أنّ أخبار العرض على الكتاب منحولةً بدل أن تكون تفسيراً عقلائياً للتعامل مع الحديث، ومن ثَمّ نتخذ منها موقفاً إيجابياً؟!
هذا التفسير بنظرنا يظلّ هو الأقرب؛ لأنّ هذه الأحاديث لا تقف لصالح الوضاعين بعد أن نضع أمامهم معياراً صارماً توزن به أحاديثهم، إنّ هذه النصوص لو صدرت من النبي تعني أنه يريد وضع حدّ لحركة الكذب عليه باستخدام منهج نقد المتن، وهذا أمر معقول جداً، فكيف نجعل الوضّاعين هم الذين اختلقوا هذه الأحاديث بهدف الترويج للروايات الأخلاقية؟! إن هذا التفسير يظلّ ناقصاً، وإن كان معقولاً في حدّ ذاته.
حادي عشر:لست أدري أيّ مشكلة تكمن في أسلوب التفصيل بعد الإجمال؟! وكيف عرفنا أنّ هذا الأسلوب لم يكن معروفاً في العصر الأول، مع أنه أسلوب عربي بليغ وجميل؟! لم يقدّم روبسون أيّ دليل على مستوى تاريخي يثبت هذا الأمر، فبدل أن يجعل عشرات الأحاديث وربما المئات المبثوثة في مصادر المسلمين دليلاً تاريخياً على وجود هذا النوع من البيان في العصر النبوي اعتمد على فرضيّة شكّية غير مبرهن عليها لينسف كل هذه النصوص!!([16]).
وحتى ظاهرة سؤال الصحابة، وطريقة السؤال والجواب التي اعتبرها روبسون متأخرةً عن القرن الأول الهجري لا نجد أنّ منطق الأشياء ينفيها، فعندما ينتشر الدين في بقاع جديدة ويدخل الناس فيه ويتعلّقون بالنبي الجديد من الطبيعي أن يسألوا عما حصل مع النبي في مكّة والمدينة، وإذا كانوا ملتزمين بالدين فمن الطبيعي أن يسألوا عن دينهم، فلماذا لا تكون هذه المبرّرات المنطقيّة هي المصحّح لوجود طريقة السؤال والجواب في القرن الهجري الأوّل؟!
نعم، فنحن نوافق على الدخول في ممارسة داخلية في النصوص لنقد نصّ هنا وآخر هناك، مهما بلغ عدد هذه النصوص المنتقدة، لنثبت أنّ هذه الصيغة أو تلك أو هذا الأسلوب أو ذاك أو هذا المضمون أو ذاك يبعد صدوره في العصر الأول، لكن هذا لا يعني اتخاذ موقف عام؛ فإنّ جميع المسلمين متفقون على وجود وضع في الأحاديث.
3 ـ 4 ـ الحديث عند المسلمين بين نقد السند ونقد المتن
أقرّ المستشرقون بأنّ المسلمين منذ القرن الثاني الهجري اهتموا بالسند اهتماماً عظيماً، لكنهم يقولون بأنّهم بالغوا في هذا الأمر حتى غفلوا عن معيار بالغ الأهمية في تحليل الحديث الشريف، وهذا المعيار هو نقد المتن.
يذهب غاستون وايت، وجوينبيل، وكايتاني، وألفرد جيوم، وجولدتسيهر، وشاخت، والسير وليام مور، وشبرنجر، وغيرهم.. إلى أنّ تحليل متون الروايات ومقاربتها وممارسة نقد عقلي وتاريخي ولغوي لها كان بإمكانه أن يقدّم للحديث الكثير من العقلانية، إلا أنّ المسلمين غفلوا عن هذا الأمر وقصروا نظرهم على السند، فإذا صحّ السند لم يجرؤا أحد على مناقشة المضمون، وبهذا كانت الذهنية الأيديولوجية والاستلاب الفكري مهيمنان على طريقة التعامل مع النصوص.
ويعتقد المستشرقون أن غياب نقد المتن سمح للأحاديث النبوية المصطنعة بالحضور في الساحة الإسلامية وغيّب النهج العقلاني في التعامل معها، وهذا ما أوقع العقل الإسلامي في استلاب فكري وتهاوي معرفي، فلو أنهم مارسوا نقد المتن لما سيطرت عليهم نصوص خرافية غير عقلانية، وقابلة للنقد، وحكمت حياتهم بطريقة غير متوازنة. لقد كان لغياب نقد المتن تأثيرٌ كبير على ضمور العقلانية الإسلامية وظهور التيارات الحَرْفية في فهم نصوص الدين، والقضاء على الذهنية التاريخية في فهم الأحداث والوقائع.
فعندما كان المسلمون يواجهون حديثاً صحيح الإسناد من وجهة نظرهم لم يكونوا يُعملون العقل في نقده وتحليله، ولم يكونوا يعالجون النصوص بطريقة المحلّل التاريخي النقّاد، فكلّ فرقة كانت تتعامل مع نصوصها الصحيحة السند بطريقة تقديسية ترى عقلها معها عاجزاً عن أن يناقش مضمون هذه النصوص بطريقة عقلانية، وإذا ما مورس نقد المتن العقلاني فإنما يمارس مع الخصوم المذهبيين، حيث تنتقد كلّ فرقة روايات الفرقة الأخرى وتكشف لها عن عيوبها وتناقضها وثغراتها على مستوى المتن.
وخلاصة القول: لقد اعتبر المستشرقون غياب ظاهرة نقد المتن ثغرةً كبيرة عطّلت قدرة العقل الإسلامي على محاكمة هذه الروايات غير اليقينية.
مطالعة تحليلية في موقف المستشرقين من نقد المتن عند المسلمين
يبدو لي أنّ المستشرقين على حقّ بقدر في هذه النقطة، وجانبوا الصواب بقدر آخر، ووقعوا في تناقضات من جانب ثالث.
1ـ أما الحق، فهو أحقّ أن يُتبع ويقال، من أنّ هناك فسحة عظيمة لنقد المتن غابت عن العلماء المسلمين، ليس بمعنى أنهم لم يمارسوا نقد المتن، فهذا غير صحيح إطلاقاً، كما سنشير بعون الله، بل بمعنى أنّ هناك مساحات غيّبوا فيها نقد المتن لدوافع متعدّدة، فإذا جاءهم حديث مضمونه غريب حملوه على الإعجاز أو الكرامة، ويكتفون في كثير من الأحيان بإمكان ذلك، فإذا قلت لهم هذا أمر بعيد الحصول، قالوا: لا يمكن ردّ الرواية بذلك ما دام ممكناً، ولا يصحّ أن نعمل عقولنا في مواجهة الكتاب والسنّة، مع أنه لا يراد مواجهة السنّة، وإنما الكلام فيما يدّعي أنّه يحكي عن السنّة، فنحن في أوّل الطريق لا أنه قد ثبتت السنّة ثم نحن اليوم نقف في وجه ما قاله الرسول| والعياذ بالله. فهذه نقطة جديرة بالانتباه، وقد تورّط في هذا الأمر بشكل أكبر أهل السنّة في تعاملهم مع الصحيحين، وكذلك عدد من إخباريّي الشيعة.
من هنا، نجد غياباً نسبياً لعرض النصوص على القرآن، حتى أنّ من أهل السنّة من قال بضعف روايات العرض على الكتاب وأنها من صنع أعداء السنّة الشريفة كما أشرنا آنفاً.
وليس المستشرقون وحدهم من تنبّه لهذه المشكلة بل سبقهم إلى ذلك العديد من العلماء، فالسيد المرتضى والشيخ المفيد يعيبان على المحدّثين عدم التأمّل في مضامين الأحاديث والانجرار وراء مجرّد روايتها، وكثير من علماء المسلمين في القرن العشرين بات يوافق على أصل وجود هذه الملاحظة، مثل العلامة الطباطبائي، والشيخ محمد عبده، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد روح الله الخميني (الذي ألمح إلى ذلك في موقفه المشهور من كتاب مستدرك الوسائل) والعلامة الشعراني وغيرهم كثير. ومن قبلهم ابن خلدون وغيره.
2ـ لقد وقع بعض المستشرقين في تناقض، فعندما ندّعي بأنّ المتن غائب، لا يصحّ أن نقول ـ كما قال جوزيف شاخت وجوينبيل في موضع آخر ـ بأنّ المسلمين أخفوا نقدهم لمادّة الحديث خلف نقدهم للأسانيد([17])، تلك الفكرة التي يقولها هذان المستشرقان معتبرين أنّ علم الجرح والتعديل علم أيديولوجي بامتياز.
إنّ الفكرة الثانية ليست ـ كما يقول أمين الخولي ـ تخفيفاً لفكرة غياب نقد المتن([18])، بل هي مناقضة لها؛ لأننا عندما نقول بأنّ نقد الرواة وجرحهم وتعديلهم كان على أساس المادة الحديثية التي كانوا يقدّمونها لنا، فهذا معناه قيامة علم الرجال والجرح والتعديل على نقد المتن، فالعلماء كانوا ينظرون في متون هذا الراوي ويحكمون بضعفه أو حُسن حاله، وهذا بنفسه أقوى دليل على أنّ نظرية السند ولدت من رحم القراءات المتنية للنصوص، فكيف نقول: إنّ نقد المتن غاب عن المسرح الإسلامي، مع أنّه هو الذي حكم آليّات نقد الرجال عند المسلمين؟!
هذا، ونحن نوافق تماماً ما يقوله شاخت هنا من حضور نقد المتن في عمليات نقد الرجال، وقد درسنا هذا الموضوع في محلّه في أبحاثنا في علم الرجال والجرح والتعديل، وقلنا بأنّ الظاهرة المنتشرة في تقييم الرواة كانت تتبع النظر في مرويّاتهم من حيث مقبوليتها عند الجارح والمعدّل، حتى أننا نجد العديد من علماء الرجال من أهل السنّة عندما يترجمون راوياً يشيرون إلى صفته مثلاً ويذكرون بعض الروايات التي برّرت تضعيفه، وليست سوى مرويّات لا يوافقون عليها.
كما لا يهم أن يكون منطلق نقد المتن مذهبياً أو غيره، فهذا خلاف داخل نظرية نقد المتن، وليس حولها وفي أصل وجودها وعدم وجودها، فكل شخص لديه طريقته الموضوعية في تقييم المتون الحديثية من حيث التصديق بصحّتها وعدمه، لكن المهم أنّ المتن كان حاضراً دوماً، وقد ذكر البهبهاني أنّ تضعيفات الكثيرين مثل النجاشي وابن الغضانري انطلقت من فهمهم الخاص لقضايا الغلو.
وعليه، فما ذكر في كلمات المستشرقين يحوي قدراً من التناقض.
3 ـ إنّ الحديث عن غياب نقد المتن عند المسلمين غير صحيح، فقد ظلّ المتن حاضراً بينهم على الدوام، وخير شاهد على هذا الأمر ما يلي:
أ ـ ظهور التحليل المتني في كلمات الرجاليين، مثل كون المروي في فضائل أهل البيت ومطاعن الصحابة عند أهل السنّة، وكون المروي غلواً في مدرسة قم الحديثية عند الشيعة، بل نجد عندهم عبارات مثل: يروي المنكرات، أو هو منكر الحديث، أو مضطرب الحديث، يروي ما يعرف وينكر، فهذا يدلّ على نظرهم للأحاديث من حيث المتن.
ب ـ تعريف العديد من العلماء للحديث الصحيح والحسن، فإنهم أخذوا في التعريف قيد «من غير شذوذ ولا علّة» وقالوا: إنّ الشذوذ والعلّة قد يكونان في السند وقد يكونان في المتن، وأنّ عروض الشذوذ والعلّة على المتن يعرفه الحذاق، فهذا دليل على أنّ فكرة المتن كانت حاضرةً في وعيهم لأنواع الحديث ومقبولها.
ج ـ ذكروا في سردهم للأحاديث وأنواعها بعض الأنواع التي أخذوا فيها المتن بعين الاعتبار:
منها: الحديث المقلوب، الذي ذكروا أنه حصل في متنه قلب وإبدال أو تقديم وتأخير.
ومنها: الحديث المضطرب، حيث تحدّثوا عن اضطراب المتن واهتزازه وركاكته.
د ـ وعند حديثهم عن الأخبار الموضوعة، ذكروا العديد من الشروط والقيود منها: عدم مخالفة الحديث للعقل، ولا للقرآن، ولا للكتاب والسنّة القطعية، بل ذكر بعضهم أنه لو جاء في الحديث ثواب عظيم على أمر بسيط دلّ على الوضع أو عقاب عظيم على معصية صغيرة دلّ عليه كذلك.
هـ ـ إنّ عند الشيعة الإماميّة روايات عديدة عن أئمّتهم^، وفيها الصحيح سنداً تحث على عرض الحديث على القرآن، وهذه محاسبة متنية تعود إلى القرن الثاني الهجري، بل نحن نجد الكليني نفسه في مقدّمة الكافي يتحدّث عن معايير العمل بالأحاديث مع اختلافها، ويذكر معيار العرض على القرآن، وهذا يدلّ على مدى حضور مفهوم مقارنة المتن في الوعي الحديثي.
و ـ بحوث التعارض التي طرحها العلماء في أصول الفقه وفي علم الدراية وفي مباحثهم حول العلّة في الحديث، فإنها دراسات متنية مفصّلة لترجيح حديث على آخر بمرجّحات متنوّعة، أحد أنواعها المرجّحات السندية وليس جميعها.
4 ـ 4 ـ السيرة النبوية استنساخ لأيام العرب وسيرة موسى وعيسى ’
يتحدّث ليفي دلافيدا في دراسته التي نشرها في دائرة المعارف الإسلامية عن السيرة، فيرى أنّ هذه الكلمة، أي كلمة «سيرة»، تعني ترجمة حياة شخص بصورة عامة، منذ نشأته إلى وفاته، ولم تكن لتختصّ أو تنحصر بالنبي؛ لأنّ المسلمين كتبوا سيرة معاوية وبني أمية، كما في كتاب عوانة الكلبي (147هـ أو 158هـ)، وقد أطلق عنوان (سِيَر) على ترجمة حياة النبي، وكأنما فضّل هذا العنوان على غيره ليدلّ على الروايات الخاصّة بحياته أسوةً بـ«سير الملوك» البهلوية الأصل، التي كان يعرفها العرب قبل الإسلام.
ويلمح دلافيدا كلمة «السير» في المصنّفات الإسلامية القديمة إلى جانب كلمة (المغازي)، حيث يُفهمنا هذا الأمر أنّ تصوّر المسلمين لسيرة النبي لم يكن على غرار كتابة تاريخ حياة بالمعنى الذي نفهمه من كلمة تاريخ، وإنما كان يقترب مما كان يفعله العرب أيام الجاهلية مما يسمّى بأيام العرب من غزوات ومفاخر قتالية، إنّ السيرة استمرار لفكرة أيام العرب، ففي أيام العرب يميل الناقلون إلى الحديث عن قصص متفرقة يقطعون بها حبل الاتصال، فليس هناك موضوع تاريخي متصل متسلسل بقدر ما هي «مذكرات حربية».
إنّ استمرارية أيام العرب بثقافتها وطريقتها في السير والمغازي قطع التواصل التاريخي من جهة، وأفقدنا الكثير من المعلومات من جهة ثانية.
ورغم أن دلافيدا يضع السيرة النبوية في سياق أيام العرب، لكنه يقدّم لها سياقاً ثانياً أيضاً، وهو سياق تثبيت العبادات والشرائع التي قدّرت في الدين الجديد.
ويثير دلافيدا فكرةً هامة يضعها هي الأخرى في سياق جديد، وهي أنّ المسلمين كانوا قد انفتحوا على الديانتين اليهودية والمسيحية منذ الهجرة إلى المدينة، فأرادوا أن يضعوا أنفسهم في مصافهما، وحيث إن المسيحيين واليهود كانوا قد تحدّثوا عن منشئهما أراد المسلمون أن يكون لهم ذلك، فوضعوا تلك القصص حول النبي وأضفوا عليها طابعاً أسطورياً رغم أنه كان مراراً يعدّ نفسه بشراً، وبهذه الطريقة لاحظنا المسلمين يقدّمون صورة محمد بوصفها نسخة ثالثة لصورة كل من موسى وعيسى، مضفين عليها في كل تفاصيلها طابعاً خرافياً إعجازياً أسطورياً.
ولا يوجد تفسير لهذا الاتجاه الذي ظهر في السير النبوية بعد حوالي القرن من وفاة النبي إلا ما ذكرناه، كما يرى دلافيدا، ولا يبتكر دلافيدا هذا من عنده بل يقتبسه من أمثال شبرنجر الذي تحدّث قبله عن تأثر السيرة بالسنن اليهودية والمسيحية، عبر عملية نسج قصصي يشابه التوراة والإنجيل أو يشابه قصص القدّيسين والهجّادة والمدرش.
ويرجع دلافيدا أيضاً إلى مقولة المستشرق الكبير ثيودور نولدكه في أنّ السير لم تكن سوى مجموعة من القصص التي نسجت فيما بعد لتمجيد الذين أسسوا الامبراطورية العربية.
هذا كلّه يضع تحليل دلافيدا أمام النتائج التي كان قرّرها لامانس، حيث كان يعتقد أنّ الرواية الإسلامية لتاريخ النبي وما حصل معه ـ في الحد الأدنى قبل الهجرة ـ لا يملك أيّ سند، أي أنه لم تكن هناك رواية أساساً، وإنما الذي كان قد حصل أنّ المسلمين فيما بعد اعتمدوا تفسيرهم الذاتي للقرآن ليختلقوا منه بدافع ديني حدثاً أو قصّة.
هذه الأسس التي وضعها لامانس دافع عنها دلافيدا رغم وجود معارضين لهما، إنّ معنى هذا كلّه أنه لا يوجد تاريخ نبوي قائم على الرواية والنقل، وإنما جهود أيديولوجية دينية قائمة على تفسير القرآن من جهة، وعلى التوفيقات الدينية في الفقه وغيره ظهرت في العقود اللاحقة من جهة ثانية، ومن ثم فنحن نملك قدراً ضئيلاً من التاريخ النبوي.
وقفات مناقشة خاطفة مع نظرية دلافيدا و.. في السيرة
ويمكن التعليق على هذا الطرح بما يلي:
1ـ إنّ التشابه بين الديانات قد يدلّ على وحدة المصدر الديني، كما يمكن أن يدلّ على اقتباس الدين اللاحق من السابق، فلا يكفي لوحده للجزم باقتباس المسلمين من اليهود والنصارى.
2ـ إنّ التركيز على الحروب النبويّة ليس من الضروري أن يكون استمراراً لعادات العرب، بل لأنّ التاريخ القديم كلّه تاريخ سياسي، أو لأنّها عنصر البارز في التجربة.
3ـ إنّ الربط بين السير والجهاد والمغازي موجود في الفقه السنّي، ولا وجود جادّ له في الفقه الشيعي إلا نادراً.
4 ـ إنّ ضعف نقل المعلومات أحياناً من حيث التنظيم أمرٌ بشري يتطوّر زمنياً، ولا يقف عند التجربة الإسلاميّة.
5 ـ إنّ تصوير النبي بأنه أمير حرب فقط يخالف أقدم كتب الحديث والتاريخ مثل موطأ مالك، فقد قدّمته بوصفه رجل دعوة وأخلاق وهداية وحرب وسلم وغير ذلك…
معالم تصنيف السيرة عند المسلمين
يذهب دلافيدا إلى أنّ القصّاصين الذين انتشروا في البلدان الإسلامية بُعيد الفتوحات الأولى قد أسّسوا لإذاعة قصص حياة النبي التي اخترعوها على منوال أساطير التوراة والإنجيل والقصص الإيرانية، وبهذا ظهرت القصص التاريخيّة قبل أن يظهر التاريخ الإسلامي نفسه، والشاهد على ذلك ما جاء في كتاب المغازي لوهب بن منبّه (110هـ) الذي تعرف شهرته من خلال اتصاله بتاريخ التوراة والإنجيل وجنوبي بلاد العرب من اليمن ونحوها.
أقدم مؤلّفات سيرة النبي كان لعروة بن الزبير (23 ـ 94هـ)، وتتالت الجهود مع أبان بن عثمان الذي جمع دروسه عن حياة النبي| عبدُ الرحمن بن المغيرة، وهذه الجهود هي التي عرفت بالمغازي.
واستمرّ علم المغازي في القرن الثاني الهجري مع عاصم بن عمر بن قتادة (بين 119 ـ 129هـ)، وابن شهاب الزهري (51 ـ 124هـ)، وموسى بن عقبة (141هـ)، كما تنامى علم المغازي خارج المدينة مع مثل سليمان بن طرخان (143هـ)، ومعمر بن راشد (152هـ) في صنعاء، إلى أن جاء محمد بن إسحاق (150 أو 151هـ) الذي ابتلع جهود من سبقه وأخذ شهرتها، ووضع التاريخ المحمّدي ضمن سياق تاريخي عام للأديان، وقد حفظ تاريخَ ابن إسحاق فيما بعد ابنُ هشام في سيرته المشهورة.
وقد تعرّضت سيرة ابن اسحاق لانتقاد واسع؛ لعدم دقّتها وضبطها وطريقة إسنادها، عبّر عن ذلك الموقف العنيف منها لمالك بن أنس.
لكن الحقّ أن ابن إسحاق مزج في السيرة بين التراجم على الطريقة الدينية وبين الملحمية الأسطورية على الطريقة القصصية، مستعيناً حتى بالشعر العربي الذي قيل: إنه منحول، وهذا كلّه جعل سيرة ابن إسحاق مركزاً يترك تأثيره على الأجيال اللاحقة إلى يومنا هذا.
وإلى جانب أعمال ابن إسحاق، كانت هناك أعمال هامة جداً تركها محمد بن عمر الواقدي (130 ـ 207هـ) الذي ترك لنا ما كتبه في: المغازي، والسيرة التي ذكرها ابن سعد في طبقاته، وكتاب الطبقات. لكنّ السيرة فقدت بالواقدي تسلسلها وربطها بالتاريخ العام، مع أنّه نظمها بشكل منهجي جداً وابتعد عن الشعر العربي، وقد لعبت معلومات الواقدي التي ظهرت في أعمال تلميذه محمد بن سعد (230هـ) دوراً كبيراً في ترجمة الشخصيات والرواة مما عزز من علم الحديث وطوّره عبر تكوين تفكير جديد في علم الرجال والرواة.
بعد الواقدي وابن إسحاق، جاءت سلسلة من كتاب التاريخ والسيرة، بدأت مع البلاذري الذي تابع بدقّة ونقل ما كتبه ابن إسحاق في كتابه أنساب الأشراف، ومع وفاة البلاذري اختفت السيرة لتندمج وتنصهر فيما بعد داخل كتب التاريخ العام مع مثل الطبري (310هـ) ومن تلاه ممن أخذ عنه أو سار على نهجه.
ولم نعد نجد للسيرة بهذا المعنى الأول ـ أي ما قبل اندراجها في التاريخ الحولي العام ـ وجوداً إلا بقدر ضئيل، مع مثل الروض الأنف للسهيلي (581هـ)، والباقي كلّه كتب تاريخٍ هدفها الحشد والتجميع لما كتب سابقاً، مثل الاستيعاب لابن عبد البرّ، وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر، وعيون الآثار لابن سيد الناس (734هـ)، والمناقب الدينية للقسطلاني (923هـ)، والسيرة الشامية لشمس الدين الشامي (942 أو 974هـ)، والسيرة الحلبية، لنور الدين الحلبي (1044هـ)، ونور النبراس لسبط ابن العجمي (841هـ)، وشرح المواهب للزرقاني (1122هـ)، وكلّها كتب فاقدة للقيمة إلا من حيث الجمع والترتيب.
تعليقات على نظرية دلافيدا في تصنيف السيرة النبوية
سجّلت هنا بعض التعليقات على العرض الذي قدّمه دلافيدا، وذلك كما يلي:
أولاً:ما ذكره أمين الخولي من أنّ دلافيدا حاول أن يربط بين الوضع المتردّي للسيرة في القرنين الأولين وبين الحديث وعلم الإسناد، فعندما جعل علم الرجال متفرّعاً على جهود ابن إسحاق الذي انتُقد نقداً شديداً كان معنى ذلك أنّ الأسانيد التي ظهرت في كتب الحديث لم يكن لها قيمة، لكن غاب عنه أنّ علماء الحديث الكبار كانوا اكتشفوا ضعف نتاج ابن إسحاق وكتب المغازي، مثل الإمام مالك بن أنس، بل قد صرّح أحمد بن حنبل بأنّ هناك ثلاث كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير، من حيث ـ كما يقول أصحاب الإمام أحمد ـ فقدانها القوّة السندية، فكيف أغفل دلافيدا هذا التصوّر الإسلامي في القرنين الثاني والثالث على الأقل، وأخذ الجانب الأضعف من الإسناد ـ وهو الموجود في المغازي ـ ليحاول تقييم مجمل الإسناد الإسلامي من خلاله.
بل تطوّر الأمر فشنّ قدماء المسلمين هجمات عنيفة على تجربة ابن إسحاق في اللغة والشعر، ووصفوها بأنها أضعفت الشعر وأفسدته وهجّنته([19])، فكيف يجعل لهذه المغازي أصالة الإسناد والحديث مع أنّ رجال الأسانيد والأحاديث هاجموها بشدّة؟!
ثانياً:كان حريّاً بدلافيدا أن يدرس هنا المعلومات المتفرقة عند المسلمين حول السيرة والمبثوثة بوصفها بيانات خام في كتب الحديث والتاريخ والفقه وغيرها، فقد اقتصرت أعماله في تقييمه على خصوص التصنيف في السيرة، ولم يشتغل على وثائق السيرة خارج إطار التصنيف، مكتفياً ببعض الربط بين السيرة والحديث، فتقييم التصنيف شيء وتقييم الوثائق شيء آخر حتى لو لم تتحوّل من بيانات أولية إلى مادة تصنيف منهجية.
وهذا بالضبط ما ينطبق على سيرة الإمام أبي عبد الله الحسين× أيضاً، على تفصيل نتركه لمناسبة أخرى.
5 ـ 4 ـ تدوين السنّة: النشأة، التطوّرات والملابسات
اهتمّ المستشرقون بظاهرة تدوين الحديث، وكانوا ميّالين أكثر للقول بأنّ الحديث بدأ تدوينه في منتصف القرن الثاني الهجري فما بعد، وأنّ الفترة السابقة على هذه لم تشهد أيّ تدوين حقيقي للسنّة، وإنما اعتمدت إما على اختراع الأحاديث بدواً أو على تناقلها الشفوي.
ويذهب موير (W.Muir) صريحاً إلى أنه لا توجد أيّ مجموعات كتابية للسنّة يمكن التأكّد منها قبل منتصف القرن الثاني الهجري([20]). بل يستمرّ جولدتسيهر في هذا الأمر فيرى أنّ الكتب والرسائل التي زعم المسلمون أنها كتبت في القرن الهجري الأوّل كلّها مفتعلة، تمّ ذلك فيها في القرون اللاحقة، وأنّ الروايات الواردة في تدوين السنّة وكتابتها كلّها موضوعة لم تصدر عن أحد في القرن الهجري الأوّل([21]).
وحول منع تدوين الحديث من جانب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يذهب المستشرق الألماني شبرنجر إلى أنّ هدف عمر من ذلك كان الحفاظ على الإيمان الديني القوي والشجاعة والعزم والاندفاع في نفوس المسلمين لكي يحكموا العالم فيما بعد، فالكتابة والتدوين واتساع المعرفة ذلك كلّه لا يناسب مثل هذه الغاية([22]).
وتبدو معالم خطورة عدم وجود تدوين في قرن ونصف تقريباً بعد وفاة النبي| عندما نعرف أنّ التناقل الشفوي للمعرفة يظلّ محفوفاً بالكثير من الأخطار من حيث الوضع والدس وانعدام الوثائق المثبتة، فما دام التدوين غير موجود إذاً فبالإمكان اختلاق أيّ حديث سنداً ومتناً ونسبته إلى شفاه هذا الصحابي أو ذاك بعد أن كان قد توفي، ولا يستطيع أحد التأكّد من صحّة ما أقول أو كذبه!!
إنّ القرن الهجري الأول ـ بحسب التصوير الاستشراقي ـ قرن مظلم معتم من الصعب العثور فيه على وثائق مؤكّدة، فكلّه منقولات شفوية، والفصل بقرن عن عصر النبي كفيل بوضع علامة استفهام كبيرة على الأحاديث الموجودة اليوم في أيدي المسلمين.
هذه هي خلاصة الصورة التي رسمها المستشرقون حول تدوين الحديث.
محاولات نقدية مستعجلة لنظرية المستشرقين في تدوين الحديث
حاول العديد من الباحثين هنا الردّ على هذه الإشكاليات المثارة نذكر بعضها:
أولاً:لا يمكن الجزم بعدم وجود مجموعات كتابية للحديث قبل منتصف القرن الثاني مع وجود ما بين مليون ونصف، وثلاثة ملايين مخطوطة إسلامية في المكتبات في العالم، فما لم تخرج هذه المخطوطات يصعب الجزم، فكم من مخطوط ظهر وغيّر كل معالم الخارطة التاريخية التي رسمت من قبل([23]).
لكنّ هذا الجواب لا تبدو عليه معالم القوّة؛ إذ لنفرض أن تعبير جولدتسيهر وغيره كان القطع بعدم التدوين، ولنفرض أننا أشكلنا على مستوى يقينه، لكن هذا لا يغيّر كثيراً في الاستنتاج الذي خرج به، وهو أنّ كل المعطيات التي بين أيدينا تجعل التدوين أمراً غير ثابت، ومن ثم لا يمكن بناء صرح على أمر غير مبرهن عليه، فهذا هو الغرض النهائي للمستشرق هنا.
ثانياً:لنفرض أننا لم نعثر على كتب ترجع إلى تلك الفترة، لكن هذا لا يعني عدم وجودها، وذلك أنّ أحد المصادر الأساسية لمعرفة الكتب المدوّنة في فترةٍ ما، هو الرجوع إلى المصادر القديمة في مجال الفهارس والمصنّفات، والتي تخبرنا عن كتب موجودة في تلك الفترة، لكنّها تلفت بعد ذلك ولم تصلنا نحن اليوم، وإذا رجعنا إلى كتب الفهارس وأمثالها سنجد حديثاً عن كتب ورسائل عديدة تعود إلى القرنين الأولين، وهذا كافٍ من الناحية التاريخية في إثبات وجود هذه الكتب([24]).
ثالثاً:إنّ عدداً من الكتب الحديثية ألّفت في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجري، وليس بعد ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل جامع معمر بن راشد (95 ـ 152هـ)، والموطأ للإمام مالك بن أنس (93 ـ 179هـ) وقد صنّفه مالك عام 143هـ، وكذلك جامع سفيان الثوري (161هـ)، وجامع هشام بن حسّان (148هـ)، وجامع عبد الملك بن جريج (80 ـ 150هـ)، وكتاب السنن للإمام الأوزاعي (88 ـ 156هـ).
رابعاً:إذا كان التدوين قد مُنع منعاً رسمياً لكنه لم يمتنع على أرض الواقع، بل ظلّ المسلمون يمارسون تدوين الحديث حتى في القرن الهجري الأول، وقد قام الدكتور محمد مصطفى الأعظمي بالبحث والتقصّي في الوثائق والمرويات التاريخية حول من دوّن الحديث في تلك الفترة إلى 150هـ، فبلغ عدد الكتّاب في الصحابة ومن كتب عنهم 52 شخصاً، مثل: أبي أمامة الباهلي، وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر، وأبي سعيد الخدري، وأبي رافع، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأسماء بنت عيسى، وأسيد بن حضير، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وواثلة بن الأسقع([25]).
ثم قام الدكتور الأعظمي بسرد المدوّنين من التابعين، فبلغ عددهم ثلاثة وخمسون شخصاً، ثم سرد المدوّنين من صغار التابعين، فبلغ عددهم 99 شخصاً كلهم توفوا قبل عام 150هـ([26]).
وهذا يعني أنّ هناك ما لا يقل عن 204 أشخاص دوّنوا الحديث أو دوّن عنهم خلال قرن ونصف، وهذا رقم هائل في فترة العصر الأموي وما سبقه وما لحقه قليلاً، وحتى لو كانت المعلومات التي جمعها الأعظمي نصفها خاطئ يظلّ المشهد مختلفاً تماماً، فكيف يمكن التشكيك في كلّ هذه الوثائق والركون إلى صرف احتمالات، ودعوى أنّ هذا كلّه موضوع كما فعل جولدتسيهر؟!
هذا كلّه يؤكّد أنّ حركة التدوين كانت موجودةً، لكنها لم تكن رسميةً من طرف البلاط أو دار الخلافة، وقد كان أهل البيت^ والمحيطين بهم يتحرّّكون أيضاً في إطار التدوين، وقد كتب في تقصّي ذلك الدكتور علي الشهرستاني([27]). كما ذكر النجاشي مطلع كتابه في الرجال أسماء ستةٍ من الصحابة الشيعة كانت لهم مصنّفات مثل سليم بن قيس الهلالي وغيره([28]).
خامساً:إنّ ما ذكره شبرنجر من أنّ الخليفة الثاني منع من التدوين؛ لأنّ العلم يُضعف الإيمان وقد كانت لديه أهداف عسكرية.. هو تفسير خاطئ؛ فإنّ هذا النوع من التفكير في علاقة العلم بالإيمان لا يتناسب مع تلك المرحلة، ومستوى الوعي العام الذي كان فيها.
هذا، وقد ذكر العلماء المسلمون من أهل السنّة عدّة تفاسير لمنع الخليفة الثاني التدوين نتركها لمحلّها، وقد تعرّضنا لها في بعض أبحاثنا وناقشناها بالتفصيل، كما تعرّضنا لبعض النظريات الشيعية في هذا المجال([29]).
([1]) نشر هذا المقال في الجزء الأوّل من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، وذلك عام 2011م، وكان قبلها نشر على أقسام في مجلة المنهاج، ومجلة الكلمة.
([2]) حول المعلومات الشخصية حول المستشرقين المترجَمين أعلاه، يمكن مراجعة الكتب المعجمية مثل: المستشرقون لنجيب العقيقي، وموسوعة المستشرقين لعبد الرحمن بدوي، وغيرهما مما اعتمدناه في الوثائق التاريخية الشخصيّة هنا.
أعجبني العرض ،واقنعني الكاتب بكثير من تحليلاته،وكان أكثر مرونة وسعة صدر في تقبل بعض ما طرحه المستشرقون، وأظن أن أهم ملمح نقدي هو رفضه لمبدأ التعميم الذي يتكئ عليه بعض المستشرقين في إنكار السنة كلية، في ضوء التيقن من أن بعضها قطعي الثبوت متنا وسندا،ووجود أكثر من ستمائة ألف حديث يتم غربلتها لتصل إلى نحو نحو خمسة آلاف عند الشيخين دليل على وجود منهج في النقد اجتهد فيه أصحابه،لكن تطبيق قواعده لم يكن بشكل مرض تماما،فلماذا نحرص على الدفاع عن أحاديث تتعارض مع القرآن؟ولماذا نقبل حديثا يتعارض مع العقل؟ وما جدوى أحاديث الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؟ وإذا كان نصف السدس أي دون 8% من القرآن يتعلق بالقوانين والأحكام فما جدوى الخوض في أحاديث تثير الخلافات،علما بأن هذا الجانب هو سبب لجوئنا للسنة؟ ولماذا نعترض في الدفاع عن السنة- وهو يقينا واجب- بالقدح في منهج علمي مؤسس على الأنثوبولوجيا أو السيسيولوجيا،لنا أن نعترض على أخطاء التطبيق- وبعضها في عمل المستشرقين موجود- لا على رفض هذه المناهج،وإذا كنا نرفض المنهج الظاهراتي أو الهرمنيوطيقي في تأويل النص القرآني فقط لاعتبارات طبيعة النص المقدس الذي يتأبي على المنهج،فإن السنة المطهرة وبخاصة التي نجمع على أنها تعرضت لكثير من التزييف والانتحال لأسباب كثيرة تحتاج لتطبيق هذه المنهج العلمية في المعالجة، ولا خلاف بين الجميع على ذلك،وأخيرا فأنا أشد على يد الباحث مثمنا جهده ،وأتمنى أن يتعلم أبناؤنا من المستشرقين، ومن الدراسات التي تتناول أعمالهم أمرين:
الأول: الجدية والمثابرة في العمل.
الثاني: أن نستفيد من نقدهم أمرين:ا- ألا نتعصب،ب- ألا نعمم في أحكامنا.