حيدر حب اللَّـه([1])
تمهيد
تعرّفتُ إلى مجلّة «الكلمة» منذ سنين طويلة، تابعتُها وقرأت منها الكثير من البحوث والمقالات، وكانت أحد مصادري في العديد من البحوث والدراسات. لا يمكنني أن أتحدّث عن هذا المشروع المبارك بشكل كامل، فله زوايا نيّرة متعدّدة، لكنّني سأحاول الإشارة لبعض ما أجد له أهميّة مضاعفة اليوم.
«الكلمة» بمثابة اسم دالّ
أوّل ما يستوقفني في مشروع «الكلمة» هو اسمُها، فهذا الاسم تعبيرٌ صادق عن حقيقة هذه المجلّة، فـ«في البدء كان الكلمة» كما جاء في مطلع إنجيل يوحنّا، فالكلمة هي أساس الفعل والإنتاج، وهي أساس نشاط العقل وحركاته، وهي أساس التفاهم والتواصل والتعارف.
وفي النصّ الديني القرآني كانت الكلمةُ على نوعين: كلمة طيّبة وكلمة خبيثة، فالكلمة الطيّبة تسمو بنفسها نحو السماء منتجةً الحقيقة والخير والعطاء، إنّها كلمة عميقة في الأرض وبعمق جذورها تصبح قادرةً على السموّ والارتفاع، بينما الكلمة الخبيثة هي التي تفتقد قرارها وينقصها ما يجعلها ثابتة؛ لأنّ الثبات يكمن في الحقيقة بنوعيها النظري والعملي.
هذا الاسم «الكلمة» يحمل معه الكمّ الكبير من الدراسات والبحوث التي أنتجتها هذه المجلّة المباركة، لتشكّل كلمة طيّبة حقيقيّة، تضرب بجذورها في أرض الحقيقة لتنتج ثمرًا في المجتمع يسمو ويتعالى على كلّ الضجيج المحيط.
«الكلمة» والتعارف في مواجهة العنف والتدابر
ومن الكلمة بوصفها وسيلة تواصل تبدو أمامي مجلّة «الكلمة» واحدةً من أكثر المجلات العربيّة التي أكّدت -لا سيما بمشروع رئيس تحريرها الأستاذ الفاضل زكي الميلاد- على مبدأ التعارف، خاصّة بين الحضارات والثقافات، فـ«الكلمة» مشروعٌ ساهم عمليًّا في تكثيف وتنضيج هذا التعارف والدعوة إليه، ووضع بذوره في المجتمع وبين الشباب المثقّف والمتديّن.
وعندما نتكلّم عن دور «الكلمة» في نشر ثقافة التعارف لا يمكن أن يغيب عن بالنا المشهد المأساوي الذي تمرّ به بلداننا العربية والمسلمة من التمزّق والتدابر والتناحر والتخاصم والإقصاء والنبذ، ويقف خلف هذا كلّه الجهل بالآخر وتكوين الصور المغلوطة عنه، وتبرير الافتراء عليه بتبريرات مصلحيّة، بل ودينيّة أحيانًا مع الأسف الشديد.
وفي ظلّ هيمنة ثقافة القطيعة والغياب تأتي محاولات «الكلمة» لتأكيد الحضور والتواصل عبر مبدأ التعارف الذي يزيل الصور المشوّهة، ويعيد إنتاج تفاعل قلبي عاطفي مع الآخر عبر تصحيح نشاط العقل في تصوّراته عنه.
هذا ما جعلني أطلّ على «الكلمة» من زاوية كونها واحدة من أبرز مجلّات التقريب بين المذاهب والفئات الفكريّة والاجتماعيّة في بلداننا المختلفة، وريادتُها في هذا المضمار مما لا يمكن إنكاره.
«الكلمة» وحوار الأجيال
ما أعجبني كثيرًا في مجلّة «الكلمة»، هو ما سأستعير اسمه من كتاب الدكتور حسن حنفي «حوار الأجيال»، إنّ هذه المجلّة مصرّة -فيما يبدو لي- على النظر إلى حركة التجديد الديني بمثابة خيط واحد متواصل عبر الزمن الحديث منذ بدايات القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا. ومشكلة الكثير من شباب ومثقّفي حركة الوعي الديني أنّهم لا يعرفون الكثير عن رموز ورجال وتطوّرات حركة التحديث والتنوير والتجديد الديني في العالم الإسلامي خلال القرنين الأخيرين، فهناك ما يُشبه قطيعة أجيال، بدل أن يكون هناك حوار أجيالٍ يؤكّد للمتنوّرين الدينيين اليوم أنّهم ليسوا قطعةً منفصلة عن تاريخ، بل لهم تاريخهم العميق الذي أنتج الكثير من المفكّرين والعظماء والفقهاء والمفسّرين والمبدعين على مختلف الصعد.
إنّني ألاحظ أنّ التقصير في هذا الجانب يفضي إلى انعكاسات نفسيّة سيّئة على جيل التنوير الديني الحديث اليوم؛ لأنّه يتصوّر أنّه لا يملك رصيدًا تاريخيًّا مما يجعله يشعر وكأنّه خيط معلّق في الهواء، بل الأصعب من ذلك هو محاولة الآخرين مصادرة بعض رموز التجديد بإعادة إنتاجهم وتفسيرهم على أنهم رموز للتفكير المدرسي التقليدي، وهذه خسارة كبيرة يُمنى بها مشروع النهوض الفكري في الأمّة، الأمر الذي يفرض إطلاق مشروع حوار الأجيال؛ لأنّه مشروع يقوم على ركنين:
الركن الأوّل: التعارف بين أجيال التجديد والتحديث الديني وتجاربها.
الركن الثاني: القراءة التقويميّة من قبل الأجيال اللاحقة لتلك التي سبقتها، ليس بهدف التراجع نحو الوراء، بل بهدف التأسيس لمفهوم الـ«ما بعديّة»، فما بعد الكانطيّة لا يعني عودة لما يسمّى بالقرون الوسطى مثلًا، بل تجاوزٌ إضافي للتفكير يتخطّى المرحلتين معًا، وبهذا نحن بحاجة لما بعد «الكواكبيّة» نسبة لعبدالرحمن الكواكبي، و«النائينيّة» نسبة للشيخ محمد حسين النائيني، و«المطهّريّة» نسبة للشيخ مرتضى المطهري، و«الصدريّة» نسبة للسيد محمد باقر الصدر، وغير ذلك، وهذا ما لا يمكن أن يحصل إلَّا بحوار أجيالٍ حقيقيّ قائمٍ على معرفة واعية وجادّة من قبل الأجيال اللاحقة بتلك التي سبقتها.
من هنا نكتشف مدى أهميّة الخطوة التي قامت بها مجلّة «الكلمة» على هذا الصعيد.
«الكلمة» الهدوء والبعد عن العدوانيّة والحزبيّة
تعجبني مجلّة «الكلمة» بهدوئها الفكري واتِّزانها وبُعدها عن ضجيج الصراعات والمناكفات، هي انعكاس صادق لأكثر من شخصيّة من الشخصيّات المشرفة عليها، والتي تتمتّع بالهدوء والوقار والتفكير المتماسك.
ليس سهلًا أن نحظى في عصرنا بتفكير غير حزبي، وليس سهلًا -أيضًا- أن نحظى بتفكير غير عدواني، فالعدوانية والحزبية -بمعناهما السلبي المبغوض- من الأمراض الفتّاكة في مجتمعاتنا المعاصرة، ليس المسلمة فحسب، بل وغيرها أيضًا. أَلَّا يكون تفكيرك عدوانيًّا وأَلَّا يكون تفكيرك حزبيًّا معناه أنّك تستشرف الأمور بروحٍ متعالية، وبعقليّة منفتحة رصينة، لا تملك عقدةً من هذا أو ذاك، ولا تعيش قلقًا من هذه القضيّة أو تلك.
هذه الخصال الحميدة التي تحملها «الكلمة» تنعكس تلقائيًّا في خفض مستوى التوترات الفكريّة في بحوثها، الأمر الذي يوفّر فيها نسبة أعلى من الموضوعيّة والتوازن من جهة، ودرجة أكبر من الأدب اللغوي واختيار المفردات والكلمات التي تفتح الآفاق العقليّة ولا تغلقها نتيجة انفعالٍ هنا أو هناك. من هنا، نجد في أعمال «الكلمة» هدوءًا لغويًّا، وتوازنًا فكريًّا، وبُعدًا حقيقيًّا عن مشاريع الأدلجة والتطويع.
«الكلمة» والمسيرة المتواصلة في زمنٍ عصيب
أودّ هنا أن أتكلّم بصفتي شخصًا عمل في مجال المجلات والدوريّات الفكريّة لعشرين عامًا، فقد كنت خلال هذه المدّة رئيسًا لتحرير ثلاث مجلات، وعضوًا في هيئة تحرير مجلات أُخَر، ومن هذا المنطلق أعرف مدى الصعوبات التي تواجهها مسيرة العمل الفكري الإنتاجي، ومدى التحدّيات التي يعاني منها العاملون في هذا المضمار، فاليأس والإحباط يسيطر اليوم على الكثير من العلماء والمفكّرين والشباب الناهضين الجامعيّين والكتّاب والباحثين والنخب الثقافيّة في العالم العربي والإسلامي، وبخاصّة في ظلّ تهميش دور الثقافة وعدم اهتمام الكثير من دولنا بقيمة المعرفة والعلم والثقافة والأدب، الأمر الذي يترك تأثيره على الروافد الماديّة والمعنويّة لأنشطة بحثيّة من هذا النوع، دون أن نقدّم صكّ براءة للمفكّر والمثقّف نفسه الذي ربما يكون ساهم في وصوله إلى هذه المرحلة من الفشل والانزواء.
إنّ تقلّص طبقة النخبة، إضافة لانحسار دورها الريادي في المجتمع خلال الفترة الأخيرة، جعل مهمّة إصدار مجلّة مثل مجلّة «الكلمة» بشكل متواصل لمدّة ثمانية وعشرين عامًا أمرًا أشبه بالمستحيل. إنّه تحدٍّ حقيقيّ في تقديري لا يعرفه إلَّا الذين يخوضون التجربة، وبخاصّة إذا كانت هذه المجلّة تهدف لاستخراج نتاجات نخب محليّة، أعني هنا نخبًا عربيّة، دون أن تعتمد في نسبتها الأكبر على الترجمات من اللغات الإسلاميّة كالفارسيّة والتركيّة، وغير الإسلاميّة كالإنجليزية والفرنسيّة وغير ذلك.
هذا يضعني أمام تقدير واحترام لجهود الفريق الذي أسّس ورافق وكانت له الرعاية لمثل هذه المجلّة طيلة هذه الفترة الزمنيّة. ويزداد التقدير والاحترام عندما نعرف أنّ فضاءنا الديني نفسه بات غير متحمّس للنتاج الفكري المكتوب، وإنّما يميل أكثر للمؤثرات الخطابيّة والمنبريّة والصوتيّة والتصويريّة، وللّغة الطائفيّة وللمقاطع القصيرة والكلمات المختصرَة، في عصرٍ تراجعت فيه حركة القراءة والمطالعة، وتقلّصت فيه رغبة الكتابة والتدوين لصالح رغبة الشفويّة والتكلّم المختصرَين.
هذا ما يجعلني أُكبِر هذا الصبرَ الطويل والعمل الدؤوب الذي قام به الفريق العامل في هذه المجلّة الطيّبة والكريمة.
«الكلمة» وجماليّة المشاركة بين المشارقة والمغاربة
النقطة الأخيرة التي أودّ الحديث عنها هنا والتي كانت تُلفت نظري في هذه المجلة -كبعض المجلات الأخرى- أنّها تخطّت الإطار المناطقي في العالم العربي، ففي العادة يكتب المشارقة بلغتهم وفي مجلّاتهم، وعلى المنوال عينه يكتب المغاربة، لكنّ روعة مجلّة مثل «الكلمة» أنّك تجد فيها مشاركة المغاربة والمشارقة معًا في العمل والإنتاج وفي الكتابة والمشاركات البحثيّة.
هذه العيّنة تهمّني جدًّا، ولا أدّعي أنّها لوحدها في الميدان، لكنّها كانت من المجلات السبّاقة نسبيًّا في هذا المضمار، فالفكر في العالم العربي له أوجهه القائمة على المذاهب والطوائف والملل، ومن أوجه تنوّعه البعد المناطقي والجغرافي. وللمغاربة -كما المشارقة- فرادتهم في مجالات وموضوعات وطرائق بحث وبيان، الأمر الذي يثري الحراك الفكري، ويجعل الجيل الناشئ متنوّعًا في مقارباته للموضوعات، منبسطًا في وجوده الفكري على مساحة العالم العربي كلّه، وهي مساحة تشهد بنفسها انعكاسات مساحة أوسع تمتدّ من إيران وشبه القارّة الهنديّة إلى الغرب بعالَمَيه: الإنجليزي والفرنسي.
كلمة أخيرة
لا يسعني في نهاية هذه السطور المتواضعة إلَّا أن أتوجّه بخالص الشكر والامتنان لكلّ العاملين والمشرفين والفاعلين والمشاركين في مجلّة «الكلمة» المباركة، وأخصّ بالذكر رئيس التحرير الموقّر الأستاذ الفاضل زكي الميلاد حفظه الله تعالى، على مجهوداتهم وأعمالهم الطيّبة المثمرة هذه، سائلًا المولى القدير سبحانه أن يمنّ عليهم جميعًا بأسباب التوفيق والنجاح، وأن تنمو هذه الكلمة الطيبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، إنّه قريب مجيب.
([1]) نشرت هذه المقالة بوصفها «الكلمة الأولى» في مجلّة “الكلمة” في عددها رقم 112، صيف عام 2021م، وذلك بمناسبة مرور ربع قرن على تأسيس مجلّة “الكلمة”.