حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتقرير بقلم: السيّد أيمن عبد الزهرا الموسوي
تمهيد في تبيين الموضوع ومساره في العصر الراهن
أخذ موضوع “الطبّ الإسلامي” في العقود الأخيرة حيّزاً من الاهتمام في الأوساط الدينيّة، وبخاصّة الشيعيّة، ليس فقط تحت تأثير أسلمة العلوم بشكل عام، وهو بالمناسبة من نوع أسلمة العلوم الطبيعيّة، بل أيضاً لخصوصيّات ترجع للموضوع نفسه. وقد صاحب ذلك ظهور حركة مستجدّة للطبّ التقليدي (الطبّ العربي/طبّ سنّتى/الطبّ اليوناني..) وعودة لهذا الطبّ، فقد تمّ توجيه الدولة في إيران ـ على سبيل المثال ـ من قبل شخصيّات من الدرجة الأولى للاهتمام مجدّداً بهذا النوع من الطبّ (الطبّ التقليدي)، وتمّ إنشاء فروع وتشكيلات متعدّدة داخل الدولة معنيّة بهذا الأمر، وقد ساهمت هذه الحركة في تحقيق وتصحيح ونشر وترجمة الكثير من التراث الطبي ـ بالمعنى العام ـ في التراث الإسلامي والعربي والإيراني عامّة، وصار هناك اهتمام أكبر بطبّ الأعشاب ومحاولة استثمار هذه الثروة في غير مجال.
العودة ـ بمعنى من المعاني ـ للطبّ التقليدي أو التراثي أمرٌ يمكن أن يقوم بتقويمه المعنيّون والمختصّون، لكن ما يهمّنا هنا هو مقولة “الطبّ الإسلامي” التي تحوّلت إلى مادّة للجدل، بل وللتنازع في الوسط الديني، أوجب تدخّل شخصيّات دينيّة وصولاً إلى مرجعيّات دينيّة كبيرة. وانقسم المشهد بين مؤيِّدٍ ومعارض: مؤيّد يرى أنّ لدينا موروثاً دينيّاً معنيّاً بالطبّ وقضايا السلامة ومسائل الصحّة بمختلف ألوانها وعلينا أنْ نحافظ على هذا الموروث ونشتغل على العمل به؛ ومعارض يعتبر أنّ ما يُعرف بظواهر التركيب بين الدين والعلم ـ أي تركيب شيء مع الدين، عبر وضع كلمة “الإسلامي“ أو “الديني“ بعده ـ ليس سوى وهم، ومن ذلك مركّب “الطبّ الإسلامي”، إضافة إلى أنّ الموروث الديني المزعوم أنّه معنيٌّ بالطبّ تحوم حولَه الكثير من الشبهات والمشاكل وعلامات الاستفهام.
مطلع الألفيّة الثالثة والاتجاه نحو بلوغ الانقسام حول الطبّ الاسلامي ذروته
الانقسام الحادّ حول هذا الموضوع تجلّى أكثر ـ في مطلع الألفية الثالثة ـ ببروز شخصيّةٍ جديد، وهوالشيخ عباس تبريزيان المولود عام 1962م، وهو عراقي إيراني معاً، وُلد في النجف، ثم انتقل إلى قم، ثمّ إلى مشهد التي أصبحت محلاً لاستقراره منذ عام 1980م. والذي يصفه أنصاره ـ وربما هو نفسه ـ بأنّه أب الطبّ الإسلامي تارةً، ومحيي الطبّ الإسلامي أخرى، كما يُطلقون عليه لقب آية الله. فقد اعتبر تبريزيان ـ يوافقه في ذلك غير واحد من أنصار الطبّ الإسلامي ـ أنّ الطبّ الحديث ليس إلا أكذوبة أو خدعة، بل هو مؤامرة صهيونيّة أمريكيّة استكباريّة لإبادة المسلمين، وأنّ الوصول إلى المعرفة الطبيّة لا يكون ـ على الأقلّ غالباً ـ إلا عبر السمع، أي عبر الكتاب والسنّة، وأنّ المطلوب هو فتح “بحث خارج” في الطب الإسلامي، وهذا ما فعله هو بالفعل. وأنّ زمن العودة للطبّ الإسلامي قد حان. ورغم أنّه لا يملك أيّ شهادة رسميّة في الطبّ ـ مثله مثل أكثر مشاهير الطبّ الإسلامي اليوم ـ غير أنّه يمارس الطبابة “الإسلاميّة” ومعه فريقٌ من تلامذته وأتباعه ومريديه.
لقد تحوّلت شخصيّة تبريزيان إلى شخصيّة مثيرة للجدل، وهو جدلٌ بلغ أوجه بعد إحراقه كتاب هاريسون (طبيب أمريكي مشهور توفي عام 1978م) في الطبّ، والذي يمثل رمزاً للطبّ التعليمي الحديث، ونشره فيديو الإحراق على مختلف قنوات التواصل ومواقع الأنترنت، وذلك عام 2020م، معلناً أثناء الإحراق أنّ هذا تعبيرٌ رمزي عن انتهاء عصر الطبّ الكيميائي، وسط صلوات على محمّد وآله من قبل الحاضرين في المجلس. كان إحراق الكتاب سبباً في موجة عارمة من النقد بدأت من السلطات الصحيّة الرسميّة، وصولاً للجامعيّين والحوزويّين. الأمر الذي عزّز أكثر فأكثر المطالبات الجادّة بملاحقته قضائيّاً، حتى أنّ وزير الصحّة في حينها اعتبر ذلك شبيهاً بما تقوم به طالبان. كما تسبّب ظهوره في جدل وانقسام بدا وكأنّه صراع بين الأجهزة الطبيّة في إيران ومنافس من نوع مختلف بعدما تبيّن أنّ هناك نوعاً من إقبال الناس على هذا اللون من الطبّ سواء عند تبريزيان أم غيره، حتى أنّ تبريزيان يكاد يكون لديه ممثلين في مختلف المناطق الإيرانية وغيرها، فيما يراه النقّاد أنّه بسبب فارق التكلفة الماليّة التي يدفعها المريض، هذا الفارق في التكلفة يدفع الكثير من متوسّطي الدخل ومعدوميه إلى أنْ يذهبوا إلى هذا الخيار باعتباره أفضل لهم من الخيارات الأكثر كُلفة.
في عام 2015م، أعلن تبريزيان أنّه يعالج يومياً ما يقرب من 150 شخصاً وصفت حالتهم بالمستعصية وعجزت الطبابة الحديثة عن علاجها بما في ذلك أمراض السرطان وغيرها. كما أعلن في العام نفسه أن العلاجات الكيميائيّة هي أكبر الأمراض والأدواء التي لحقت بالبشريّة، وهو المسبّب الأكبر للكثير من الأمراض اليوم. ولهذا أيضاً عارض تبريزيان ـ ومعه كثير من رموز الطبّ الإسلامي ـ فكرة اللقاحات كلّها. وفي فترة انتشار الكورونا رفض هؤلاء كلّ ما قيل عن علاجات ومحاولات وما شابه ذلك، واعتبروا أنّ استخدام العسل والحبّة السوداء وأمثال ذلك على مواضع من الجسد ـ مما لا يناسب قوله هنا ـ كافٍ في معالجة هذا المرض. ونظّم أنصار الطبّ الإسلامي عموماً في تلك الفترة بعض التجمّعات التي اعترضوا فيها على اللقاحات وترك توجيهات أهل البيت في هذا الصدد! ولاحقاً أعلن تبريزيان أنّ لقاحات كورونا سوف تفضي إلى حدوث تغييرات في البنية الإنسانيّة، وأنّ فيها موادّ سوف تجري تغييرات عميقة على بنية الإنسان كلّها بما سوف يسبّب زوال الأخلاق والشرف والإيمان من النفوس، والميل نحو الانحرافات الأخلاقيّة كالمثليّة والشذوذ.
ويرى بعض الباحثين الاجتماعيّين أنّه في فترة انتشار الكورونا عزّز الطبّ الإسلامي وجوده مستغلاً عدم وضوح الصورة العلميّة حول كورونا في العالم وضعف العلم عن تقديم لقاحات تحسم الموقف، مما أعطى مجالاً قوياً لظهور تيّارات الطبّ الإسلامي بقوّة تارةً عبر التشكيك في وجود فيروس كورونا أصلاً، وأخرى عبر التشكيك في العلاجات، وثالثة عبر تقديم علاجات إسلاميّة لمشكلة كورونا، ورابعة مشاركتهم في أنشطة الدولة الصحيّة واللقاءات العلميّة التي تساهم في اتخاذ القرارات على مستوى بعض المناطق والمحافظات، ورفع مستوى الدورات واللقاءات التعليميّة في مجال الطبّ الإسلامي خامسة.
يصنِّف رجال تيار الطبّ الإسلامي ـ ومنهم تبريزيان وأنصاره ـ أنفسَهم في عداد المظلومين الذين تعرّضوا للكثير من الظلم، فيما يتهمهم المعارضون على أنّهم تجّار لا يفقهون في الطبّ شيئاً. وقد أدّى الضغط المتزايد باستمرار على جماعات الطبّ الإسلامي ـ ومنهم تبريزيان وجماعته ـ والمطالبة بملاحقات قانونيّة، إلى ترك تبريزيان إيران وعودته للنجف كما أُعلن. نقّاد تبريزيان يعتبرون أنّ السلطات الرسميّة لم تقم بما فيه الكفاية للحدّ من هذه المهزلة، فيما يعتبر أنصاره أنّه تعرّض لضغوط كبيرة جداً دفعته للهجرة مجدّداً، وبخاصّة أنّ السلطة القضائيّة وجّهت طلباً للسلطات الرسميّة بإغلاق تمام أنشطته الطبيّة المزعومة، حيث تمّ اعتبار مشاريعه بمثابة تهديد للسلامة العامّة.
وقد ذكر النقّاد العديد من العيّنات التي حصلت مع تجارب الطبّ الإسلامي، وليس آخرها المرجع الديني الراحل السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (2018م) نفسه حسب إعلان ولده السيد علاء الهاشمي، حيث ذكر بعد وفاته في حوار مصوّر أنّ والده وقع ضحيّة جماعة الطب الإسلامي وأنّه ظنّ أنّ العلاج عندهم، وكان يمكن تفادي ما حصل لو تدارك الأمرَ في بدايات إصابته بالسرطان.
يدّعي بعض المختصّين في هذا المضمار أنّ هناك ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألف رجل دين (شيعي) مشتغلين بقضايا الطبّ الإسلامي اليوم، درسوه أو أجروا دورات فيه أو مارسوه أو طبّقوه. وهذا رقم كبير جداً في الوسط الحوزويّ حتى لو كان نصفه غير دقيق. ويدلّ على حضور فاعل وقوي لمشروع الطبّ الإسلامي في اللحظة الحاضرة.
لقد شاركت الكثير من الشخصيّات الدينية في نقد حركة الطبّ الإسلامي المعاصرة، ومن بينهم وأبرزهم: الشيخ رسول جعفريان، والسيد محمّد علي أيازي، والشيخ أحمد مبلّغي نقداً شاملاً أو جزئيّاً.
كما تحدّث المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في عام 2018م عن الموضوع معتبراً أنّه لا يوجد لدينا شيء بعنوان “الطب الإسلامي”، بوصفه منظومة طبيّة جامعة، بل مجموعة توجيهات لها علاقة بالسلامة البدنيّة والصحيّة والوقاية من الأمراض والعلل وبعض العلاجات، في الوقت الذي أكّد فيه موقفه الإيجابي من الطبّ التقليدي وضرورة عدم تجاهله بالكليّة، معتبراً أنّه جرى كالعادة تحريف كلامه في هذه القضية خاصّة وأنّ لديه كتباً في النصوص الحديثية الطبيّة وأنّه من دعاة إحياء الطبّ الإسلامي بهذا المعنى وبهذا الحجم، لكنّها غير قادرة على أن تكون نظاماً كاملاً، كما أنّها ليست بديلاً عن الطبّ القائم. وبهذا حاول أن يتوازن هنا، فدعا إلى طبّ إسلامي لكنْ بمعنى مضيّق نسبياً عمّا يطرحه أنصار الطبّ الإسلامي، الذين يتحدّثون عن طبٍّ شامل جامع وبديل عن الطبّ القائم.
كما اعتبر المرجع الديني المعاصر الشيخ حسين النوري الهمداني أنّ رفض فكرة الطبّ الإسلامي غير صحيح، إلا أنّ بعض الناس يسيؤون استخدام هذا الأمر لمصالحهم ويجب مواجهة هؤلاء، وهذا ما أكّده مكارم الشيرازي أيضاً. لكنّ عبارات الشيخ حسين النوري الهمداني تبدو أكثر محافظةً، ولا يبدو عليه الوضوح في مواجهته لمشروع الطبّ الإسلامي القائم بالفعل، بقدر ما يبدو عليه أنَّه يتحفظ على بعض الناس الذين يشتغلون على قضايا الطبّ الإسلامي.
كما ساهم الشيخ عبد الله جوادي الآملي والشيخ جعفر السبحاني، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، عبر تصريحات ولقاءات مختلفة في الموضوع، رافضين وجود منظومة طبيّة شاملة بديلة في الإسلام، داعين في الوقت نفسه للاهتمام بالتراث الطبّي الإسلامي والتراث الطبي القديم.
هذه التصريحات من بعض الفقهاء والمرجعيّات العليا تشي بتحفّظ بعضهم عن رفض فكرة الطبّ الإسلامي، وربما هذا يساعد على شرح الانقسام الذي حصل على المستوى السياسي بين الحكومة الإيرانيّة وبعض أعضاء مجلس النواب، مما لا داعي للحديث عنه هنا.
سوف نتكلّم لاحقاً بحول الله عن الحركة المعارضة للطبّ الإسلامي ومستوياتها المختلفة، فمن المعارضة الجذريّة التامّة إلى المعارضة الجزئيّة، لهذا لا نريد الإطالة الآن.
لماذا ظهر المدّ الديني في مجال الطبّ في الفترة المتأخّرة؟
الموضوع الأخير الذي أودّ طرحه قبل الشروع في المحور الأوّل هو: لماذا ظهر المدّ الديني في الطبّ خلال العقود الأخيرة بقوّة وبخاصّة في الوسط الإمامي، سواء فرضناه ظهر للمرّة الأولى في التاريخ أو كان له وجود قبل ذلك؟
ثمّة أسباب متعدّدة، ليس لديّ المجال الكافي لعرضها وتحليلها، لكن يمكن الإشارة إلى بعضها:
1 ـ الرغبة العامّة في الوسط الديني في العودة للهويّة والحفاظ على الذات، في مقابل هيمنة الفكر الحديث على كلّ شيء وتأثيرات العولمة السلبيّة، وفي مقابل عَلْمَنَة كلّ جوانب الحياة.
2 ـ عودة المدّ الإخباري ـ بالمعنى العام للكلمة ـ بقوّة خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى الحوزات الدينيّة ومؤسّساتها والتيّارات الدينيّة عموماً، عبر إعادة تعزيز موقع الروايات والحديث بقوّة والعودة إليها في كلّ التفاصيل، وتقليل مستويات النقد الحديثي، والحذر من عدم منحها الأصالة والمرجعيّة الأولى في الحياة، وسوف نرى أنّ عمدة الطبّ الإسلامي هي الروايات.
3 ـ وجود رغبة دينيّة ـ سياسيّة لدى بعضٍ في تقوية مشاريع الأسلمة عموماً، الأمر الذي يعطي تياراتٍ من هذا النوع جُرعةً إضافيّة ترغّبهم في أسلمة العلوم الطبيعيّة.
وغير ذلك من الأسباب.
وأخيراً أشير إلى أنّ معركة الطبّ الإسلامي اليوم ليست فقط في أصل وجوده، بل في ادّعاء أنّه طبّ بديل بحيث يتمّ دعوة الناس إليه في الوقت الذي يتمّ دعوتهم لترك الطبّ القائم أو غالبه على الأقلّ، فيرجى الانتباه.
بعد هذا التمهيد أودّ الحديث عن هذه القضيّة باختصارٍ شديد جدّاً من خلال محورين: المحور الأوّل نعرض فيه وجهة نظر أنصار الطبّ الإسلامي، والمحور الثاني نرى فيه وجهة نظر الرافضين أو الناقدين أو الذين لديهم تعليقات جزئيّة أساسيّة.
المحور الأوّل: مشروع “الطبّ الإسلامي”، التاريخ والمبرّرات والمنطلقات
يرى أنصار الطبّ الإسلامي أنّ لدينا ما يزيد عن أحد عشر ألف رواية طبيّة (وقيل: ثلاثة عشر ألف) في مجموع المصادر الحديثيّة الإسلاميّة، وأنّ هذا العدد الهائل من النصوص الطبيّة لم يأتِ عبثاً، فلا بدّ من أنّ الطبّ وعلاج الأبدان كان جزءاً من المشروع النبويّ، الأمر الذي أفضى إلى ظهور المهمّة النبويّة على شكل هذا الكمّ الهائل من النصوص عن النبيّ وأهل بيته الكرام. وإذا لم يكن المشروع الطبّي جزءاً من البرنامج النبويّ الوحياني فما هو مبرّر كلّ هذه النصوص الهائلة في موضوعٍ لا علاقة له بالدين أساساً؟!
على خطّ آخر، يرى بعض هؤلاء أنّ كمال الدين وشموليّته وخاتميّته تستدعي أن يهتمّ بكلّ تفاصيل حياة الإنسان، ومن أهمّ التفاصيل التي تؤثر على حياته هو البدن، فكمال الدين يستوعب تغطية الإسلام للقضايا الطبية والصحيّة والبدنيّة من وجهة نظرهم.
ويرى هؤلاء أنّ العلماء في الماضي كانوا يولون أهميّةً للطبّ الإسلامي، وقد صُنّفت فيه كتبٌ ومصنفات، لكنّ عوامل متعدّدة أدّت لتراجع هذا المشروع الضروري، ومنها:
1 ـ الشائعات والدعايات الكثيرة التي صوّروا من خلالها أنّ الطبّ الإسلامي مضرٌّ ومتخلّف.
2 ـ إيهام الناس بأنّ التطوّر الصناعي في العالم يعني أنّ تطوّر الأدوية هو أمرٌ صحيح، فالناس تصوّرت أنّ الدواء ذا الطعم الحلو والمصنّع كيميائيّاً هو مثل الطائرات والسيارات التي خدمت الإنسانيّة، فتمّ قياس هذا على هذا وهماً وخيالاً، وهو غير صحيح.
3 ـ قصور وتقصير علماء الإسلام الذين تجاهلوا كلّ هذا الموروث الطبّي الهائل وأخذوا لكي يعالجوا أنفسهم بالذهاب إلى الغرب ومستشفيات الطبّ الحديث تاركين وراءهم كلّ هذه النصوص الدينيّة!
لهذا يرى أنصار الطبّ الإسلامي أنّ تلاشي الثقة بالطبّ الإسلامي هو أكبر مشكلة يواجهها هذا الطبّ، وهذا هو المشروع الاستكباري برأيهم، فانهيار أوجه الثقة مع التراث ظاهرةٌ تتسع يوماً بعد آخر، لهذا فحتّى يُعطي الطبّ الإسلامي نتائجه علينا نشر حالة الثقة في المجتمع، لكي تبدأ رحلة جديدة من العمل الطبّي بمفاهيم طبيّة جديدة هذه المرّة.
والمؤسف ـ من وجهة نظرهم ـ أنّ الدعاية المضادّة قائمة على قدمٍ وساق، فإذا فشل الطبّ الإسلامي في موضع أقاموا الدنيا، وكأنّنا ندّعي أنّه يغيّر القضاء، في حين مئات وآلاف الحالات التي تذهب نحو الطبّ الحديث لا ينقذها هذا الطبّ، بل ينتهي بها الأمر للموت ولا أحد يعترض! وفي الرواية عن حَمْدَانَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَانَ لِيَ ابْنٌ وكَانَ تُصِيبُه الْحَصَاةُ، فَقِيلَ لِي: لَيْسَ لَه عِلَاجٌ إِلَّا أَنْ تَبُطَّه فَبَطَطْتُه([2])، فَمَاتَ، فَقَالَتِ الشِّيعَةُ: شَرِكْتَ فِي دَمِ ابْنِكَ. قَالَ: فَكَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ×، فَوَقَّعَ: «يَا أَحْمَدُ، لَيْسَ عَلَيْكَ فِيمَا فَعَلْتَ شَيْءٌ، إِنَّمَا الْتَمَسْتَ الدَّوَاءَ، وكَانَ أَجَلُه فِيمَا فَعَلْتَ»([3]).
عبر هذه العمليّة يُجري أنصار الطبّ الإسلامي مقارنةً بينه وبين الطبّ الحديث، فيرون أنّ الطبّ الإسلامي جاء من المعصومين، فمكانته يفترض أن تكون ـ قهراً ـ أعلى من أيّ مكانةٍ أخرى، فشرافة مصدر هذا الطبّ وعصمته تفترض اللجوء إليه بدل اللجوء إلى غيره.
هذه الفكرة لها ـ كما سوف نرى ـ تاريخٌ طويل بين علماء الإسلام، حيث ذهب بعضهم ـ مثل الشيخ المفيد ـ إلى أنّ علوم الطبّ سمعيّة وليست عقليّة، من هنا يعتبر أنصار الطبّ الإسلامي أنّ علم الطب في الأصل علمٌ ديني، وأنّ مشاريع العَلْمَنة هي التي قامت بإخراجه عن هويّته الدينيّة إلى هويّة أخرى، كما نرى في كلّ يوم سحب سلطة أو مساحة من الحياة من يد المشروع الإلهي وجعله علمانيّاً.
النقد الفقهي لأنصار الطب الإسلامي ضدّ الطبّ الحديث
يتخطّى المدافعون عن الطبّ الإسلامي ذلك لوضع إشكالاتٍ فقهيّة في المنظومات الدوائيّة الحديثة، فيرون أنّ الكثير من العناصر الكيميائيّة التي تساهم في صناعة الدواء مأخوذةٌ من التراب، وأكل الطين حرامٌ في الإسلام، فهل من سبيل لتحليل هذه الأدوية بعد ذلك؟! ليس هذا فحسب، بل إنّ الكثير من الأدوية أو أغلفتها تصنّع من الخنزير، فكيف لا نواجه هذه الظاهرة التي تسري فينا دون أن نُبدي أيّ معارضة؟! إلى غير ذلك كالبول والمسكرات والمخدرات وغيره. وهذه من نقاط اختلاف أنصار الطبّ الإسلامي مع الطبّ التقليدي القديم نفسه أيضاً؛ لأنّ هذا الطبّ القديم يعتمد النجاسات في العلاج، ولهذا ينتقدون ابن سينا في هذا الأمر.
هنا يثير أنصار الطبّ الإسلامي تساؤلاً: أنتم تطلبون منّا رخصة عمل لكي نروّج الطبَّ الإسلامي مع أنّ المطلوب منكم أن تحصلوا أنتم على رخصة من الحوزة العلميّة، لكي تروّجوا الأدوية المشتملة على المحرّمات، والناشرة أكثر فأكثر للأمراض في المجتمع؟!
إنّ الطب الإسلامي يعتقد بأنّ الطبّ الحديث الذي ركّز على تسكين الآلام واعتمد على الكيميائيات في معالجة الأمراض والأدواء ساهم بدرجة كبيرة في ظهور أنواع كثيرة جديدة من الأمراض في العالم، وأدّى لتدهور بنية الإنسان الجسديّة وتراجع حالته، والمطلوب هو نقد هذه التجربة نقداً جادّاً وعدم الاستسلام لها.
بل يذهب بعض أنصار الطب الإسلامي إلى ما هو أبعد من ذلك، فيرون أنّ تأسيس المستشفيات ظاهرة غربيّة، في حين أنّ الطبّ الإسلامي وقيمه البديلة لا تعرف شيئاً من هذا القبيل. ولهذا لم يكن للمستشفيات وجودٌ في عصر النبيّ‘، والنصوص الدينية ترجّح أن يأتي الطبيب إلى منزل المريض، فالمستشفى الإسلامي هي ثقافة وحالة يعيشها المريض ولو في بيته، وليست مكاناً له بهدف أخذ المزيد من الأموال وإنعاش الثقافة الرأسماليّة.
المنظومات القيمية عند أنصار الطبّ الإسلامي
واضحٌ جداً لمن يقرأ لدعاة الطبّ الإسلامي اليوم أنّهم يركّزون كثيراً على منظومات قِيَم وأفكار، ويعتبرون أنّها غابت بفعل الثقافة المعاصرة، ويرون أنّ منظومات القيم هذه تشكّل أساساً في مشروع الطبّ الإسلامي، فيما يعتبر نقّادهم أنّهم يمارسون رومانسيّة، ويقدّمون لغة عاطفيّة تجتذب الجماهير المؤمنة وتدغدغ مشاعرها.
أ ـ ومن هذه القيم أنّ الشفاء من الله، وهي قيمة غائبة تماماً عن الثقافة الطبّية الحديثة، جاء في الرواية عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي بإسناده يرفعه إلى أبي عبد الله×، قال: «كان يُسمّى الطبيب المعالِجَ، فقال موسى بن عمران: يا ربّ ممن الداء؟ قال: منّي، قال: ممن الدواء؟ قال: منّي. قال: فما يصنع الناس بالمعالِج؟ قال: يطيّب بذلك أنفسهم، فسمّي الطبيب لذلك»([4]).
ب ـ ومن هذه القيم الاعتقاد بالله وبأنّ النبيّ وأهل بيته أطبّاء، ومعنى ذلك أنّ درجة اعتقاد المريض لها دور كبير في شفائه بوسائل الطبّ الإسلامي، وهذا أمرٌ أشارت إليه العديدُ من الروايات، ومنها روايات في مجال طلب الشفاء بالتربة الحسينيّة.
ج ـ ومن القيم التي يؤمن بها القائلون هنا قيمة الاعتقاد بدوائيّة أيّ شيء، فالاعتقاد بنفسه معالجٌ وطبيب، وهذا يعني أنّ مشروع الطب والمستشفى الإسلامي لا بدّ له أن يشتغل على الاعتقادات. ويرى هؤلاء أنّ هذا الأمر لا يختصّ بالطبّ الإسلامي، بل نجده في الطبّ الحديث أيضاً، فكثيراً ما تُبنى العلاجات على أوهام المرضى لا أكثر.
د ـ ومن المعايير التي تختلف بين الطبّ الحديث والطبّ الإسلامي عندهم هو مبنى العجلة في الشفاء، ففي الطب الحديث العجلة معيار تفوّق، فيما في الطب الاسلامي ليس الأمر كذلك.
لا أريد أن أطيل في نقد أنصار الطبّ الإسلامي للطبّ الحديث، فنقد الطبّ الحديث لا يُثبت مقولة: الطبّ الإسلامي، خلافاً لما يصوّره أنصار الطبّ الإسلامي؛ لأنّ الثلاثيّة القائمة بالفعل ـ فضلاً عن رباعيّات وخماسيّات محتملة ـ تقول: الطب الإسلامي، والطب التقليدي، والطبّ الحديث، فمجرّد نقد الطبّ الحديث لا يعني ثبوت الطبّ الإسلامي بمعناه الخاصّ. والمهم هنا أن نسلّط الضوء أكثر على مشروع الطبّ الإسلامي نفسه.
عندما نسأل أنصار الطبّ الإسلامي عنه فهم يقسّمونه إلى قسمين: الطبّ القائم على الأدوية، والطبّ القائم على الدعاء والصدقة والاستعاذة أو التعويذ والصلاة والحوقلة والرقية والتمائم والقرآن وأمثال ذلك. فقسم كبير من كتاب طبّ الأئمة لابني بسطام النيسابوريّين هو في طبّ الدعاء وأمثاله فراجع. وبهذا يُبدون جدّية عالية في التعامل الحقيقي مع ظواهر شفاء الصدقة وشفاء الدعاء وغير ذلك، ويرون أنّ سبب غياب الشفاء بسبب هذه الظواهر هو ضعف الإيمان وغياب هذه الظواهر بوجودها الحقيقي في حياة البشر، فالناس صارت ثقتها بالطبيب أعلى بآلاف المرّات من ثقتها بالله سبحانه وأنبيائه وكتبه.
يخيَّل لي أنَّ مشروع الطبّ الإسلامي هو مشروع أيديولوجي قبل أنْ يكون مشروع معالجة بدنيّة مجرّدة، له خلفيّة فلسفية ـ اعتقادية ـ أيديولوجية ـ كلاميّة.
ولعلّه من نافلة القول أن يتخذ بعض أنصار الطبّ الإسلامي موقفاً من جعل العلم الطبي الحديث معياراً في تقويم التراث الحديثي الطبّي، وهي العمليّة التي مارسها غير واحدٍ من العلماء بمن فيهم بعض الذين وافقوا على فكرة الطبّ الإسلامي، إنّ هذه العمليّة تجعل الطبّ الإسلامي تحت رحمة الطبّ الحديث ونتوقّع أن يرفضها القائلون بالطبّ الإسلامي أو يرفضوا أغلب تطبيقاتها، ولهذا يعتبر نقّاد الطبّ الإسلامي أنّ إضافة “الإسلامي” إلى الطبّ ـ كإضافة “الإسلامي” لعلوم كثيرة أخرى أو لظواهر اجتماعيّة أو سياسيّة ـ وجعل المرجعية عبارة عن نصوص دينيّة.. هدفه التعالي عن النقد والتحرّر من الضوابط العلميّة والمعايير العالميّة في ممارسة الطبّ، وجعل أيّ نقاش في دائرة علم منتمٍ بطبعه للتجربيّات نقاشاً في الدين نفسه واعتراضاً على الله ورسوله. بينما أنصار الطبّ الإسلامي لا يرون أي مشكلة في ذلك فهذا وضع طبيعي؛ لأنّ المفروض أنَّ المصدر المعرفي الحقيقي هو النبيّ وأهل بيته، وهذا المصدر هو الذي تُعرض عليه المعطيات التجريبيّة.
من خلال مجمل ما تقدّم يتضح أنّ تعريف الطبّ الإسلامي هو الطبّ الذي يعتمد المصادر الإسلاميّة من الكتاب والسنّة مرجعاً له، ويدّعي أنَّه عبارة عن منظومة شاملة وبديلة.
لكن قد نجد تعريفات أخرى للطبّ الإسلامي، ليست محلّ اهتمامنا هنا، تسعى ـ مثلاً ـ لإعادة فهم مفردة “الإسلامي” هنا، فهو يرى أنّ الإسلامي هو بالمعنى الأعم من كونه مأخوذاً عن النبي وأهل بيته والصحابة والتابعين، وكونه مأخوذاً من تاريخ التجربة الإسلاميّة وحكمائها مثل ابن سينا والرازي وغيرهما. ومفردة “الإسلامي” بالمعنى الثاني ناشئة من كون رجالات هذا الطبّ وفضاء ولادته هو الفضاء الإسلامي لا غير. ولا شأن لنا بخلع صفة “الإسلامي” بهذه الطريقة إن لم نقل بأنّها موهمة هنا في محلّ بحثنا. علماً أنّ شبيه هذا النزاع موجودٌ في توصيف الفلسفة بأنّها فلسفة إسلاميّة، فراجع.
هل علم الطبّ الإسلامي مفهومٌ حديث؟
يرى بعض الباحثين المعاصرين ـ ومن بينهم السيد محمد كاظم الطباطبائي، رئيس كلية علوم الحديث الشريف ومعارفه ـ أنّ مقولة الطبّ الإسلامي لا وجود لها إطلاقاً في التاريخ وأنّ أوّل ظهور لها هو ما نراه في العقود الأخيرة فقط، وما سوى ذلك ليس إلا توجيهات لها سمات خاصّة سوف نأتي على ذكرها.
ولنترك هذه الفكرة الآن لننظر أكثر في التاريخ الإسلامي، فعندما نراجع التاريخ الإسلامي الأوّل، نرى وجوداً للروايات المتصلة بالطبّ والسلامة في ثنايا الأحاديث المنقولة عن النبي والصحابة وأهل البيت، وبظهور القرن الثالث الهجري تبدأ هذه المجموعات من الأحاديث تأخذ باباً مستقلاً لها داخل المدوّنات الحديثية والموسوعات الحديثيّة الجديدة، مثل باب الطبّ أو كتاب الطبّ، وتُجمع في هذه الأبواب نصوص ذات صلة ـ فيما فهموه ـ بالطبّ. وهذا ما نجده ـ على سبيل المثال ـ في بعض كتب الصحاح والمسانيد السنيّة في القرن الثالث، مثل صحيح البخاري، بل نجد كتاب الطبّ باباً من أبواب كتاب المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي الإمامي الذي توفّي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.
لكن وبظهور القرن الهجري الرابع نشهد ظاهرة انفصال هذه النصوص عن الكتب الحديثيّة، لتأخذ لنفسها تصنيفاً مستقلاً تحت عنوان طبّ النبيّ لأبي العباس جعفر بن محمّد المستغفري (432هـ) وهو كتاب أخذ منه المحدّث النوري الكثير من الروايات ووضعها في كتاب “مستدرك الوسائل” وصارت رائجة أكثر اليوم بين الشيعة الإماميّة، وكذلك طبّ النبيّ لأبي نُعَيم الإصفهاني (430هـ)، والطبّ النبوي أو طبّ سيدنا محمّد كما هو كتاب أحمد بن محمّد بن إسحاق الدِّيْنَوَرِي (364هـ)، وكتاب طبّ الأئمّة لابني بسطام النيسابوريّين (ق 4هـ) وهكذا.
وعبر هذا الانفصال تتحرّر المدوّنة الطبيّة الإسلامية من علمَي الحديث والفقه معاً، فالفقه يتناول في كثير من بحوثه قضايا تتصل بالتداوي والطبابة وغيرها، لكن هذه المرّة انفصلت بحوث الطبّ تماماً وتُركت مباحثُ فقه الطبّ للفقهاء يشتغلون بها.. لكنّ هذا الانفصال لم يلغِ وجود أبواب الطبّ من الكتب الحديثيّة ولو تحت مسمّيات أخرى، فكتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان (363هـ) ظلّ ـ على سبيل المثال ـ كتاب الطبّ حاضراً فيه، وهو الكتاب الذي يرى بعض الباحثين أنّه شكّل الدستور والمرجع القانوني للدولة الفاطميّة الإسماعيليّة.
عندما نراجع كتب الفهارس والمصنّفات والتراجم، فنحن نجد كتاب الطبّ منسوباً للعديد من الشخصيات في الفضاء الشيعي في القرون الثالث والرابع والخامس، مثل أحمد بن محمّد بن دُوْل القمي، وأحمد بن محمد بن سيار، وعبد الله بن جعفر الحميري، وعلي بن الحسن بن فضال، ومحمّد بن مسعود العيّاشي، وموسى بن الحسن الأشعري القمي، وأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وغيرهم.
هذا المشهد يعتبره القائلون بالطبّ الإسلامي تأكيداً على أنّ المسلمين كانوا يريدون إنشاء علم الطب على أساس ديني من الأوّل، وكانت هذه هي الفكرة الأساسيّة لديهم بتأثير من الحجم الهائل للنصوص الطبيّة الموجودة بين ظهرانيهم.
بل حاول بعض توظيف بعض الروايات ليقول بأنّها تدلّ على إسلاميّة الطبّ، ومنها رواية الربيع صاحب المنصور، قال: حضر أبو عبد الله×، مجلس المنصور يوماً وعنده رجلٌ من الهند يقرأ كتب الطبّ فجعل أبو عبد الله ينصت لقراءته، فلما فرغ الهنديّ، قال له: يا أبا عبد الله، أتريد مما معي شيئاً. قال: «لا، فإنّ معي ما هو خير مما معك» قال: وما هو؟ قال: «أداوي الحارّ بالبارد والبارد بالحارّ والرطب باليابس واليابس بالرطب، وأردّ الأمر كلّه إلى الله عزّ وجل واستعمل ما قاله رسول الله‘، وأعلم أنّ المعدة بيت الداء وأنّ الحمية هي الدواء وأعود البدن ما اعتاد». فقال الهندي: وهل الطبّ إلا هذا؟ فقال الصادق: «أفتراني من كتب الطبّ أخذت» قال: نعم، قال: «لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه..» فقال الهندي: من أين لك هذا العلم؟ فقال: «أخذته عن آبائي عليهم السلام، عن رسول الله‘، عن جبرئيل× عن ربّ العالمين جلّ جلاله الذي خلق الأجساد والأرواح». فقال الهنديّ: صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله وعبده، وأنّك أعلم أهل زمانك([5]).
لكنّ المشهد لا يحوي صورة التأييد فقط للطبّ الإسلامي بل نجد تنوّعاً يبدأ، ولكي نفهم المشهد عند العلماء في القرون الثمانية الأولى، لابد لنا أن نلاحظ في البداية نصّ القاضي النعمان المغربي في هذا الكتاب إذ يلفت نظرنا حيث يقول: «روّينا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى الأئمّة من ذريته آثاراً في التعالج والتداوي، وما يحلّ من ذلك وما يحرم منه، وفيما جاء عنهم صلوات الله عليهم، لمن تلقاه بالقبول وأخذه بالتصديق بركة وشفاء إن شاء الله، لا لمن لم يصدّق ذلك، وأخذه على وجه التجربة»([6]).
هذا النصّ يشي بوجود من كانت لديه اعتراضات على التعامل الديني مع علم الطبّ، لكن القاضي النعمان ينتصر للوجه الديني للطبّ.
نكتشف بمراجعة مسار التاريخ الطبّي في العصر الإسلامي أنّنا ـ كما يقول رسول جعفريان ـ أمام مدرستين كبيرتين: الطبّ التجريبي المستقى من الطبّ اليوناني والعربي القديم وغير ذلك، والطبّ الديني المأخوذ من النصوص الدينيّة. ويزداد هذا الانقسام يوماً بعد آخر، فتظهر لدينا تيارات متعدّدة في التعامل مع هذا الموضوع، وتهدف هذه التيارات للجواب عن السؤال الآتي: هل الطبّ علمٌ سمعي وحييّ أو أنّه علمٌ تجربيّ بشري؟ بعيداً عن فكرة الشيخ جوادي آملي من أنّ كل علم يقيني مبرهن وحقّ فهو إلهي، بناء على نظريّة خاصّة عنده بفكرة العلم الديني.
انقسام العلماء المسلمين في وحييّة وتجربيّة علم الطبّ
لقد انقسم العلماء تجاه هذه القضيّة إلى ثلاثة تيّارات:
التيّار الأوّل: وهو القائل بوحييّة الطبّ النبوي و.. ومن أبرز الرموز هنا:
أ ـ الشيخ المفيد (413هـ)، حيث يقول: mالطبّ صحيح، والعلم به ثابت، وطريقه الوحي، وإنّما أخذه العلماء به عن الأنبياء عليهم السلام؛ وذلك أنّه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلا بالسمع، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلا بالتوقيف، فثبت أنّ طريق ذلك هو السمع عن العالم بالخفيّات تعالىn ([7]).
وبصرف النظر عن ذلك ولكي نحلّل وجهة نظر هذا التيار أكثر فهو يرجع في حقيقته للاعتقاد بعدم تجربيّة العلوم الطبيّة، وهو ما اعتبره النقّاد لاحقاً أحد الأسباب التي جرّت لتراجع غير واحدٍ من العلوم الطبيعية في الحضارة الإسلاميّة، لأنّ هيمنة المرجعيّة النصيّة على بعض العلوم الطبيعيّة مثل الطبّ سوف ينتج عنه ممارسة زهد بالعلوم التجربيّة، في المقابل يرى آخرون أنّ هذه المرجعيّة الحديثيّة للطب لم تنعكس في حياة المسلمين كثيراً، فالمسلمون ظلّوا يرجعون للأطباء وظلّ علم الطبّ التجريبي ينمو في أوساطهم فيما ظلّت فكرة الطبّ الإسلامي حبيسة بعض الأوساط الدينيّة لا غير، إلى أن شهدت عودةً في العقود الأخيرة.
ب ـ ابن قيم الجوزيّة (751هـ)، حيث قال: mوليس طبّه صلّى الله عليه وسلّم كطبّ الأطباء، فإنّ طبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم متيقّنٌ قطعي إلهي صادر عن الوحي، ومشكاة النبوّة، وكمال العقل. وطبُّ غيره أكثره حدس وظنون وتجارب، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطبّ النبوّة، فإنّه إنّما ينتفع به من تلقّاه بالقبول واعتقاد الشفاء له، وكمال التلقّي له بالإيمان والإذعان. فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، إن لم يُتلقّ هذا التلقّي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم. وأين يقع طبّ الأبدان منه؟! فطبّ النبوّة لا يناسب إلا الأبدان الطيّبة، كما أنّ شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيّبة، والقلوب الحيّة. فإعراض الناس عن طبّ النبوّة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع. وليس ذلك لقصورٍ في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد المحلّ وعدم قبولهn([8]).
ج ـ السيد عبد الله شبر (1242هـ)، حيث يقول بعد حديثه عن روايات الطبّ النبوي وأمثالها: «والعجب من اعتناء جمع من العلماء الأعلام والفضلاء الكرام بالكتب الطبيّة، والرجوع إليها والتعويل عليها، وعدم الاعتناء بما ورد عن أئمّة الأنام عليهم الصلاة والسلام، وما خطر في بعض الأوهام الفاسدة وعرض لأرباب الأفهام الكاسدة من أنّ الوارد عنهم عليهم السلام في ذلك لو كان حقّاً لما تخلّف، مع أنّه كثيراً ما يتخلّف، حتى أوّلوا الأخبار في ذلك بتأويلات بعيدة، وحملوه على محامل غير سديدة، فهو جهلٌ محض ومحض الجهل، لا يخفى على من له أدنى فهم وعقل..»([9]).
هذا الذي ينتقده السيد شبّر بقوّة هنا هو بعينه إحدى وجهات النظر المطروحة اليوم في سياق النزاع حول قضيّة الطبّ الإسلامي، وذلك أنّ بعض الاتجاهات ذهب إلى أنّ علينا أن نسمح للطبّ الإسلامي أن يقوم بفعاليّاته تحت إشراف الدولة، ونضعه تحت الاختبار، فإذا استطاع أن يحقّق نتائج تجربيّة ولو بنسبة غالبيّة، دون مضاعفات سلبيّة أكبر، فنرحّب به، وإلا فيجب وضع حدّ لهذا المشروع الذي أثبت فشله عمليّاً. يبدو أن السيد شبّر لن يقبل بهذا، بل يُتوقّع أن أكثر المناصرين للطبّ الإسلامي ـ ولو بشكل جزئي ـ لن يقبلوا بهذا العرض؛ لأنّه يضع النصوص الدينيّة أمام محكّ الاختبار الدنيوي والتجربة، وهي قضيّة تحتوي بشكل عام على قدر عالٍ من المخاطرة بالنسبة إليهم أو لأكثرهم فيما نخمّن.
التيّار الثاني: وهم القائلون بالأصول البشريّة للطبّ النبوي، وأنّ النبيّ حصل على هذه العلوم من ثقافة عصره.
ومن أبرز القائلين بهذا القول ابنُ خَلدون (808هـ)، حيث يقول: mوللبادية من أهل العمران طبٌّ يبنونه في غالب الأمر على تجربةٍ قاصرة على بعض الأشخاص متوارثاً عن مشايخ الحيّ وعجائزه، وربما يصحّ منه البعض، إلا أنّه ليس على قانونٍ طبيعيّ ولا على موافقة المزاج، وكان عند العرب من هذا الطبّ كثيرٌ، وكان فيهم أطبّاء معروفون كالحارث بن كَلَدَة وغيره. والطبُّ المنقول في الشرعيّات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنّما هو أمرٌ كان عادياً للعرب (عند العرب) n ([10]).
هذا التيار يقضي تماماً على فكرة وجود طبّ إسلامي وينهي القضيّة برمّتها بضربة واحدة؛ لأنَّ الروايات نفسها التي تعتقدون أنَّها حجر الزاوية والأساس التحتي لبناء الطبّ الإسلامي ليست وحياً.
التيّار الثالث: وهو التيار الذي يحاول التلفيق بين الرأيين السابقين، فيرى أنّ نصوص الطبّ النبويّ على نوعين: ما هو وحي، وما هو تجارب بشريّة.
ومن أنصار هذا التيار الشيخ أبو سليمان الخطابي الشافعي (388هـ)، والذي يقول: mالطبّ على نوعين: الطبّ القياسي، وهو طبّ اليونانيّين الذي يستعمله أكثر الناس في واسطة (أوسط) بلدان أقاليم الأرض، وطبّ العرب والهند، وهو الطب التجاربي.. إذا تأمّلت أكثر ما يصفه النبيّ صلى الله عليه وآله من الداء فإنّما هو على مذهب العرب، إلا ما خُصّ به من العلم النبويّ الذي طريقه الوحي، فإنّ ذلك فوق كلّ ما يدركه الأطباء أو يحيط (به) بحُكمه الحكماء والألباء، وقد يكون بعض تلك الأشفية من ناحية التبرّك بدعائه وتعويذه ونفثه، وكلّ ما قاله من ذلك وفعله صوابٌ وحسنٌ (جميل)، بعصمة الله إيّاه أن يقول إلا صدقاً وأن يفعل إلا حقّاًn([11]).
ونستخلص من مجمل ما تقدّم أنّ تيار الطبّ الإسلامي الذي يفترض أنّ الطب الإسلامي ظاهرة قائمة منذ قديم الأيّام، ليس بيده دليل تاريخي واضح ـ غير الروايات الطبيّة نفسها ـ يؤكّد أنّ هذا الطب كان حقيقة قائمة، وسيرة جارية في حياة المسلمين، كلّ ما يمكن تأكيده هو وجود من يعمل بهذه الروايات هنا أو هناك أو ببعضها، أمّا أنّ المسلمين اعتمدوا على الطبّ النبوي في بناء الطبّ في التاريخ الإسلامي فهو أمر مشكوك جدّاً، وتاريخ علم الطبّ في الحضارة الإسلاميّة يؤكّد هذا الأمر، بل سوف يأتي الحديث عن الروايات نفسها وعن مدى كون النبي وأهل البيت ممن كان يُقصد للاستشفاء في تلك العصور أو لا.
ويبقى السؤال: لماذا لم يتمّ اعتماد التراث الحديثي أساساً في تكوين علم طبّ إسلامي بوصفه منظومة صحيّة وعلاجيّة في تاريخ المسلمين؟ هل ثمّة مشكلة في المسلمين أنفسهم بحيث كانوا مقصّرين ـ كما يُستوحى من كلمات بعض رموز الطبّ الإسلامي اليوم وقبل اليوم ـ أو أنّ السبب يرجع إلى أنّ هذا الكمّ الكبير من الروايات يعاني كلّه من مشاكل أو أوضاع لا تسمح أساساً بافتراض كونه مشروعاً لطبّ إسلامي بديل. هذا ما سنتحدّث عنه قريباً إن شاء الله.
المحور الثاني: القراءات النقديّة لـ “الطبّ الإسلامي”
قبل أن نشرع في عرض بعض القراءات النقديّة أو نماذج منها، لا بأس بإعادة التذكير بالمفهوم المحدّد الذي ندرسه هنا حول “الطبّ الإسلامي”، فهناك مجموعة تصوّرات أو تعاريف، أبرزها:
1 ـ الطبّ الإسلامي بوصفه الطبّ الذي عرفه تاريخ المسلمين، أي الطبّ بقراءة تاريخيّة ضمن السياق الإسلامي، فكلّ طبّ عرفته الحياة الإسلاميّة أو كان هو عنوانها في عصور الازدهار الذهبيّ للمسلمين فهو المعنيّ بالطبّ الإسلامي، مثل طبّ ابن سينا وطبّ الرازي، وليس هذا هو محلّ النزاع.
2 ـ الطبّ الاسلامي بوصفه معادلاً للطبّ التقليدي، بمعنى أنّ منهج الطبّ القديم هو منهجٌ صحيح بمباركةٍ من النصوص الدينيّة، والمستند الأساس لهذا هو الاشتراك الهائل في الاصطلاحات والمفاهيم والأفكار بين نصوص الطبّ الإسلامي في الروايات ونصوص الطب التقليدي. فكأن الطبّ الإسلامي باستخدامه أدوات الطبّ القديم في نصوصه الحديثية أعطى مسحة من الشرعية للطبّ القديم. وهذا المعنى أيضاً لا علاقة له ببحثنا.
3 ـ الطبّ الإسلامي هو مجموعة محدودة من الإرشادات والتوصيات السلوكيّة ونحوها والتي تترك تأثيرات على الحياة الصحيّة للإنسان. وهذا هو مفهوم الطبّ الإسلامي بحدّه الأدنى أو المحدود. وهذا المعنى قد اختاره العديد من العلماء في العصر الحاضر، ويبدو أنَّه هو الذي كان مشهوراً بين العلماء سابقاً، وأعقد أنَّ كثيرين يقبلون بهذا المقدار من الطب الإسلامي، وأيضاً ليس هذا هو محلّ التنازع.
4 ـ الطبّ الإسلامي بوصفه مدرسة طبيّة مستقلّة تماماً، تعبّر عن منظومة شاملة (أو شبه شاملة) وبديلة (ليست مكمِّلة) عن مدارس الطبّ القائمة اليوم، مصدرها الأساس هو القرآن والسنّة.
وقد اتضح مما تقدّم أنّ مصبّ نظرنا هنا هو المفهوم الرابع من مفاهيم الطبّ الإسلامي، وعلى أساسه سوف يؤخذ بعين الاعتبار ما سنقدّمه من قراءات نقديّة، وإن كانت بعض الانتقادات تشمل غير التفسير الرابع، فيُرجى الانتباه.
على هذا الأساس، تتنوّع القراءات النقديّة لموضوعة الطبّ الإسلامي، بين ما هو ذو طابع فلسفي ومنهجي، وهو الأعمق والأكثر جذرية في إلغاء مشروع الطبّ الإسلامي، وما هو ذو طابع تراثي وحديثي قائم على مراجعة المصادر والأسانيد وتقويم تلك الروايات، وما هو ذو طابع هرمنوطيقي بمعنى مناهج فهم التراث الطبيّ الإسلامي وتفسيره، ويهتم بكيفيّة تفسير النصوص الحديثيّة الطبيّة وأنَّ هذا التفسير الذي اختاره أنصار الطبّ الإسلامي كان عبارة عن خطأ ومغالطة وقعوا فيها فأوصلتهم إلى ما وصلوا إليه.
1 ـ النقد الفلسفي المنهجي لـ “الطبّ الإسلامي”
تتنوّع أيضاً أشكال النقد الفلسفي والمنهجي للطبّ الإسلامي، وسوف أذكر منها الآتي:
1 ـ 1 ـ النقد على أساس نوع العلاقة بين العلم والدين
تعتبر مسألة العلاقة بين العلم والدين من أكثر القضايا الإشكاليّة في القراءات الفلسفيّة الدينيّة في العصر الحديث، وقد كُتب فيها الكثير، ومن أبرز من كتب في هذا المضمار المفكّر الأمريكي إِيَان بَربور (2013م) في كتبه المتعدّدة، ومن أشهرها على هذا الصعيد: Science and Religion الذي صدر عام 1968م.
ومن زاوية الإيمان بالفصل التامّ بين العلم والدين، ظهرت انتقادات وجّهت للطبّ الإسلامي، حيث اعتبر النقّاد أنّ طريق العلم منفصلٌ تماماً عن طريق الدين، من حيث انفصال موضوعهما وغاياتهما، فالدين يريد معرفة الله والارتباط به ورفع المستوى الروحي والخلقي للبشر، بينما العلم يريد معرفة الطبيعة وتسخيرها بهدف خدمة الحياة الماديّة للبشر؛ لهذا فالحديث عن قضايا علميّة في الدين هو مفهوم متناقض، بل سوف يسبّب تصادماً حادّاً بين الاثنين.
ويُنسب للعلامة الطباطبائي أنّه يرى أنّ الأصل في الدين هو البُعد المعنوي، لكنّ ذلك لا يمنع بما تقتضيه الحاجة أن يتوسّل الدين بطرح قضايا علميّة أو يتعرّض لقضايا غير معنويّة في سياق تحقيق الهدف الأصل الذي جاء لأجله.
على هذا الأساس ينتقد هذا الفريق ـ من منطلق فلسفي ـ دعاوى شموليّة الدين بحدّها الأعلى، وأنّ القرآن الكريم فيه جميع العلوم والفنون وتحت كلّ حرفٍ منه علم، ومن ثمّ فلدينا علم فيزياء إسلامي وعلم كيمياء إسلامي وعلم طبّ إسلامي وهكذا! إنّ النقّاد يعتبرون هذا كلاماً طوباويّاً لا يتعدّى الكلمات فقط، ولا يحوي أيّ محتوى حقيقي، وأنّ أصحابه يكرّرونه دائماً دون أن يقدّموا بجدّية علم كيمياء إسلامي متكامل ولا غيره. ويرون أكبر دليل على ذلك هو مشاريع أسلمة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة التي أطلقت منذ عقود وصرفت عليها أرقام ماليّة هائلة، ولكنّها ما تزال تناقش في أصل الفكرة إلى يومنا هذا وتحلّلها وتفلسفها، دون أن تتمكّن من تقديم عيّنات متكاملة لعلومٍ بديلة منطلقة من الدين.
بل يرى النقّاد أنّ فكرة التركيب بين العلم والدين هي فكرة متناقضة (تحوي تناقضاً داخليّاً)، تترك تأثيراً على الدين والعلم معاً:
أ ـ فتأثيرها السلبي على الدين أنّها تحمّله مسؤوليّات أكبر بكثير مما يتحمّل، ومن ثمّ تنقض ظهره وتكسر قوّته؛ لأنّ حجم المتوقّع منه سوف يصبح هائلاً، في حين أنّ الواقع الديني لا يمكنه أن يلبّي حاجات هذه التوقّعات، الأمر الذي يُلحق الضرر بالدين نفسه وبمصداقيّته، وبخاصّة لو فشلت المخرَجات التي تحمل مسمّيات الفيزياء الإسلاميّة والطبّ الإسلامي والرياضيّات الإسلاميّة وغير ذلك (مشروع نظام الكمبيوتر التوحيدي)، ولعلّنا نفرد موضوعاً خاصّاً لقضيّة الأسلمة واتجاهاتها. لهذا يتحفّظ بعض النقّاد المعتدلين هنا عبر القول بأنّ مآل علم الطبّ الإسلامي إلى دخول رجال الدين مجال علم الطبّ، وهذا أمرٌ فيه مخاطرة كبيرة قد تُسقط الثقة والقيمة المعرفيّة التي تملكها المؤسّسة الدينية تماماً؛ لأنّ الفشل سيكون على مرأى الناس ومسمع، كما سيكون في ذلك تشويهٌ للإسلام اليوم.
ب ـ وتأثيرها السلبي على العلم ليس بأقلّ من تأثيرها على الدين؛ فالعلم بسلب روح التجريب والقراءة العقلانيّة منه القائمة على الدحض والإبطال المتواصلَين، وإرجاعه إلى قراءات هرمنوطيقيّة تأويليّة لنصوص دينيّة محدودة، سوف يتوقّف ولن يتمكّن من تقديم المزيد للإنسانيّة.
إنّ الانشغال بقضايا التركيب بين الدين والعلم هو مؤشر تخلّف العالم الإسلامي اليوم؛ لأنّه يشغلنا بأمور تافهة، فيما العالم يتقدّم كلّ يوم نحو مزيد من الكشوف العلميّة والابتكارات التكنولوجيّة. إنّ وظيفة المؤسّسة الدينية في العصر الجديد أن تُثبت أنّ الدين موجودٌ مع العلم قويّ وراسخ، لا أنّ الدين يتدخّل بقضايا العلم ليدّعي كونه بديلاً عنه هنا أو هناك.
إنّ النقّاد يرون هنا أنّنا قليلو الاعتبار بالتاريخ، ولا نقرأ التجارب؛ لهذا نجترّ أنفسنا دائماً، فمشكلة الطبّ الإسلامي لها سابقة تاريخيّة شبيهة في العصر الصفوي، حيث تمّ تأسيس علم النجوم والهيئة الإسلامي الذي كان مدعوماً من قبل أعلى السلطات الصفويّة، وبعد مدّة طويلة لم ينتج عن ذلك سوى الفشل التامّ، ولم نقدر على تقديم أيّ إضافة تُذكر في مجال هذه العلوم قياساً بما حصل في الغرب([12]).
في هذا السياق، تظهر سلسلة نظريّات تمّ تداولها خلال العقود الأخيرة في الوسط الديني، وليس المجال مجال الحديث عنها هنا، من نوع ما طرحه المهندس مهدي بازرگان (1995م)، من أنّ الدين لم يأتِ بمشاريع دنيويّة، بل لمشاريع أخرويّة تترك تأثيراً على دنيا الناس، ونحن ليس لدينا في القرآن الكريم مشاريع علوم طبيعيّة ولا طبّ إسلامي، بل لدينا طبّ الأرواح (وهذا ما يعرف بنظريّة الله والآخرة هما الغاية من الدين).
ومن هذه الأطروحات ما طرحه الدكتور عبد الكريم سروش، حول فكرة الذاتي والعرضي في الدين، فالذاتيّ منه هو البعد المعنوي أمّا غيره فهو عرضيّ طارئ فرضته ظروف أو ملابسات، والمطلوب منّا أخذ الذاتي من الدين وترك العرضي؛ لأنّ العرضي ليس جزءاً من رسالة الدين. ومن هذا العرضيّ هو تعرّض الدين لقضايا متصلة بالطبيعيّات، ومنها الطبّ الإسلامي.
ومن أهمّ النظريّات التي طرحت في هذا السياق وتعتبر بمثابة نقد بنيوي فلسفي على مشاريع الطبّ الإسلامي وأمثالها، هي نظريّة توقّعات البشر من الدين، والتي طرحها أمثال محمد مجتهد الشبستري وعبد الكريم سروش وغيرهما، وهي ترى أنّ الإنسان يوجّه أسئلته للدين فيما يعجز عن إيجاد حلّ له في حياته، فالدين هو العالِم الذي نسأله لأنّنا نعجز عن معرفة الجواب بما مُنحنا من إمكانات، لهذا فهو يحدّثنا عن الغيب والآخرة والله، أمّا ما نعرف جوابه فلا نسأل الدين عنه أساساً، مثل الطبّ الذي هو علم بشري يحصل باستمرار على أجوبة، والبشر لديهم المؤهّلات لمعرفة الأجوبة منه عن الأسئلة الطبية ولو بمرور الزمن؛ لأنّ العدّة المعرفيّة موجودة لديهم والمطلوب منهم البحث والتقصّي والتجريب، أمّا الغيب والله والآخرة ونحو ذلك فهذا ما لا مجال لنا لمعرفته إلا بالرجوع للوحي، فأنت لا تذهب للطبيب لتسأله عن علم التاريخ!
وهذه النظريّة ربما تكون على النقيض من القول: كلّ ما يواجهك في الحياة فارجع فيه إلى القرآن واسأله، بينما هذه النظريّات تقول بأنّ ما لا تملك تجهيزات معرفته بحسب بنيتك وفطرتك واستعدادك هو الشيء الذي تسأل عنه القرآن، أمّا سؤال القرآن عن كلّ شيء فهو في نفسه خطأ، وهو الذي يسبّب خلل الدمج بين العلم والدين، ويقدّم تصوّراً عن شموليّة الدين وسعته وتدخّله في كلّ شيء.
هذا الرجوع للنص الديني أو حتى لفلسفة معيّنة، بهدف استخراج كلّ شيء منها أو إعادة إنتاج كلّ شيء منها، هو ـ برأي الناقدين ـ مقتل الفكر الديني المعاصر الذي سيظلّ بهذه الطريقة يدور حول نفسه، فهناك من يطرح اليوم نظريّات من نوع “الأمن المتعالي”، و “الطبّ المتعالي” و “السياسة المتعالية” وغير ذلك، وهذه أمثلة واقعيّة حاول أنصارها استخراج مشاريع رؤية أمنيّة وسياسيّة وطبيّة من خلال فلسفة الحكمة المتعاليّة لصدر الدين الشيرازي! فهذا الرجوع الدائم للوراء لحلّ مشكلات مستجدّة في حياة البشر هو نقطة فشل العقل الديني المعاصر من وجهة نظر هؤلاء النقّاد.
هذا وقد سبق أنّ بحثت حول هذه النظريّات بشكل كلّي (بازركان ـ شبستري ـ سروش ـ علي عبد الرازق وغيرها)، ووافقت على بعض مضمونها، وناقشت في بعضها الآخر، فراجع([13]).
1 ـ 2 ـ الهوية التجربيّة لعلم الطبّ (معايير المحاكمة)
يعتبر هذا الفريق أنّ العلوم لها مناهج وهويّات خاصّة لا يمكن فصلها عنها، وعلم الطب من العلوم المبنيّة على التجريب والدحض والإبطال المتواصلَين بهدف الارتقاء بالمعرفة المرتبطة بالأبدان. وهذا يعني أنّ التفكير في الطبّ بطريقة النصّ الديني الآتي من السماء أمرٌ غير منتج، فهذه النصوص يجب إخضاعها لمحكّ التجارب، فإذا أنتجت فائدةً فيمكن الأخذ بها في سياقها الذي تنتج فيه فائدةً ضمن القواعد والمعايير المثبتة علميّاً وفلسفيّاً، وإلا فيجب تركها أو على الأقلّ عدم العمل بها.
هذه هي الدعوة التي أطلقها بعضُ نقّاد الطبّ الإسلامي لإخضاع هذا الطبّ للتجريب، بوصف التجربة شاهداً صارخاً ومعيار محاكمة في الصحّة والبطلان، ولا يمكن القول بأنّ التجريب غير قادر على البتّ في هذا المضمار؛ لأنّه لا يحكم على الوحي الإلهي؛ وذلك أنّه إذا أدخلنا مثل هذه المفاهيم، فلن يمكننا إنتاج علم طبّ له غاية محدّدة وهي السلامة البدنيّة، بل كلّ نتيجة ولو كانت فاشلة للطبّ الإسلامي سوف نقوم بعمليّة تبرير أيديولوجي لها.
إنّ إدخال العلوم الطبيعيّة في المجال الرمزي والأسراري والغيبي هو حكمٌ بنهايتها عمليّاً، فعلم الطبّ هدفه محدّد، وهو سلامة الأبدان، فيمكن محاكمته في سياق قدرته على تحقيق هدفه أو عدم تحقيقه، وإلا فسوف نقحم أنفسنا في مخاطرة اللعب بحياة الناس وصحّتها، كما هو أحد إشكالات نقّاد الطب الإسلامي من حيث احتواؤه على عنصر المخاطرة.
يُضاف إلى ذلك أنّ كون الوحي من مصادر الطبّ شيء وكونه المصدر الحصري الذي تعرض عليه بقيّة الأمور شيء آخر، وعمليّة الانتقال من أحد هذين الأمرين للآخر غير صحيحة منطقيّاً ومنهجيّاً.
الطبّ الإسلامي بمثابة “شبه العلم”
ولهذا يسمّي العديد من نقّاد الطبّ الإسلامي هذه الحالة اليوم بظاهرة “شبه العلم“؛ لأنّ هذه العلوم غير قادرة على إثبات صحّة نفسها، وإذا فشلت أوكلت الأمر لله ومشيئته، وإذا نجحت في مكان استعملت النجاح لإثبات نفسها، فإذا كان النجاح التجريبي دليلاً على صحّة الطبّ الإسلامي في موضعٍ فالفشل التجريبي يجب أن يكون دليلاً على بطلان الطبّ الإسلامي أيضاً على وفق وحدة المنهج ومنطقيّته. وبهذا يعتبر النقّاد أنّ شبه العلم هو نمط من الفرضيّات والغيبيات غير المبرهنة والتي تأبى وضع منهاج محدّد لمحاكمتها. من هنا قال النقّاد بأنّ علم الطبّ الإسلامي إمّا أن يحاكم من خلال التجريب أو من خلال قواعد النقد الحديثي والرجالي، وعلى كلا المقلبين فهذا العلم لا يحظى بقدرة صمود.
يضيف النقّاد هنا بأنّ بناء الطبّ الإسلامي على العقيدة الدينيّة، كما يقول بعض أنصاره مثل ابن قيم الجوزيّة وكثير من المعاصرين، اعتماداً على بعض الروايات([14]). إنّ بناء الطبّ الإسلامي على ذلك يعني أنّه لن يمكن إنتاج علم طبّ عامّ قابل للمحاكمة؛ إذ كلّما فشل قالوا بأنّ هذا بسبب ضعف إيمان صاحبه المريض، أو أنّه بسبب المشيئة الإلهيّة حيث أراد الله موت المريض عبر العلاج.. فكيف يمكن إنتاج علم طبّ في هذه الحال؟! بل كيف يمكن إجراء حوار مع مدرسة الطبّ الإسلامي؟! إنّ مثل هذه المحاولات تعبّر عن إجهاض لمجال محاكمة الأفكار عبر التلاعب، وهذا يشبه الإشكال الذي ينسبه بعض علماء الملل والنحل لسليمان بن جرير الرقي الزيدي ـ زعيم فرقة السليمانيّة أو الجريرية الزيديّة ـ حين قال ناقداً الشيعةَ الإماميّة بأنّهم إذا قالوا شيئاً سيقع فإن أصاب احتجّوا به، وإن أخطأ تعلّلوا تارة بأنّه صدر تقيّةً فراراً من الكذب، وأخرى بالبداء فراراً من الفشل والخطأ، فكيف يمكن التعامل مع دعاوى من هذا النوع؟!
بالعودة إلى رفض جماعات الطبّ الإسلامي محاكمة النصوص الحديثيّة بالعلم الحديث لتقدّم الوحي على الظنون البشريّة، فإنّ النقّاد هنا يعتبرون أنّ هذه المحاولة فيها مغالطة؛ لأنّ قدسيّة الحديث إنّما تثبت للسنّة الواقعيّة، وكذلك للسنّة المحكيّة المعتبرة. والذين يناقشون في صحّة الحديث الطبّي من زاوية بطلانه العلمي بالعلم الحديث، إنّما يقولون بأنّ هذه الرواية أو تلك لا يمكن فرض صحّتها أو إطلاقها؛ لمعارضتها للواقع الثابت بالعلم، فهنا لا يوجد تقدّم للعلم البشري على الوحي الإلهي المعصوم والمقدّس، بل هو تقدّم للعلم البشري الطبيعي على العلوم التاريخيّة والتفسيريّة البشريّة في إثبات صدور الأحاديث أو في تفسيرها.
هل تجربية الطبّ يمكن أن تسري للقول بتجربيّة الفقه؟!
يبقى أمرٌ إشكالي يمكن أن يثار هنا، وهو أنّ مسألة تجربيّة الطبّ يمكن أن تسري للقول بتجربيّة الإدارة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، ففي الغرب اليوم تخضع جميع هذه العلوم للتجربة، والمشاريع الاقتصادية والنظريّات السياسيّة يتمّ وضعها تحت مجهر النقد التجريبي، فإذا فشلت في التجربة تمّ استبدالها، ومن ثمّ يأتي سؤال: إذا كانت علوم الطبّ تجربيّةً، وبهذا نُخضع النصّ الطبّي الإسلامي للتجربة، فإنّ الكثير من القضايا المرتبطة بالفقه يجب تصنيفها تجربيّةً أيضاً بمعنى من المعاني، فهلى سيقبل الفقهاء بإخضاعها للتجربة؟ هل الفقه علم تجريبي؟ هل سيقبلون أن نخضع القوانين الجنائيّة والجزائيّة الإسلاميّة للتجربة، لنرى هل تفعل فعلها في الحدّ من الجريمة أو أنّنا عند فشلها ونجاح صيغ بديلة ـ كما يقال عن تجارب بعض الدول الاسكندنافيّة ـ نحاول التأويل، ونعمل كما يعمل القائلون بالطبّ الإسلامي الذين يتمّ نقدهم هنا؟ أليس هناك ازدواجيّة في التعامل مع نصوص الطبّ الإسلامي من نقّاده المؤمنين بالشريعة والنصّ الديني؟! سؤال ليس لدينا المجال الكافي للحديث عنه هنا.
1 ـ 3 ـ المقارنات العامّة بين الطبّ الإسلامي والطبّ التقليدي
يرى فريقٌ آخر من النقّاد أنّ إجراء مقارنات عامّة بين الطبّ الإسلامي ـ في مقولاته وأفكاره ومنهجه وبنياته وكلّ شيء يتصل به ـ وبين الطبّ التقليدي الهندي والفارسيّ واليوناني والعربيّ وغير ذلك، يؤكد أنّه لا يوجد مدرسة طبيّة إسلاميّة، بل هذا المسمّى بالطبّ الإسلامي ليس سوى نسخة عن تجربة الطبّ في تلك العصور لا غير، حتى أنّ بعض العلماء ـ مثل الشيخ محمّد باقر البهبودي، وكذلك السيد أحمد المددي فيما يخصّ الرسالة الذهبيّة ـ شكّك في صحّة الروايات انطلاقاً من عنصر المقارنات هذا، واعتبر أنّ بعض الناس كان لديهم مزاج في تلك العصور يرغبون فيه بإلصاق كلّ شيء بالأنبياء والأئمّة، وهذا المزاج كان واسع الانتشار لدى بعض أوساط نقلة الحديث في تلك العصور. وهذه الظاهرة هو ما يمكن أن أسمّيه شخصيّاً بأنّه نوع من مشاريع أسلمة العلوم في نسختها القديمة آنذاك.
ولهذا كلّه يرفض الكثير من أنصار الطبّ القديم اليومَ مشروعَ الطبّ الإسلامي، ويعتبرونه تخريباً لمشروع الطبّ القديم، فهو نسخة من الطبّ القديم، لكنّه نسخة لا تتطوّر، كما أنّه محاولة لمصادرة الطبّ القديم من يد أهله ليصبح مشروعاً دينيّاً لا يمكن النقاش معه!
ولعلّ هذه المقارنات بين الطبّ الإسلامي والطبّ القديم اليوناني والعربي وأمثاله هي التي جعلت أمثال ابن خلدون يعتقدون بأنّ النصوص النبويّة في موضوع الطبّ ليست تعبيراً عن وحي إلهي، بل هي تعبيرٌ عن علوم زمانهم فهي أمور قالها النبيّ من موقع علوم الزمان الظاهريّة، لا من منطلق علومه الوحيية اللدنيّة، وهذا مثل قضاء النبيّ بين الناس، فهو لا ينطلق فيه من الوحي، بل يقضي على الظاهر مستخدماً معرفته بوصفه قاضياً بشريّاً، لا بوصفه عالماً بالغيب لو سُلّم علمه بالغيب. وهذا النمط من التفكير يحافظ على نبويّة النصوص الطبيّة وفي الوقت عينه يقرأها بطريقة تفصلها عن السياق الوحيي، تماماً مثل حديث تأبير النخل الوارد عند أهل السنّة والذي يقول بأنّكم أعلم بأمور دنياكم، فتكون شؤون الطب والبدن من أمور الدنيا التي يصرّح الرسول بأنّكم أعلم بها.
فالفرق بين ابن خلدون وبين النمط الأوّل من نقد الطبّ الإسلامي على أساس المقارنات، أنّ النمط الأوّل كأنّه يريد أن يقول بأنّه لا مشروع في الطبّ الإسلامي غير مشروع الطبّ القديم نفسه، فلا داعي لخلع صفة الإسلاميّة عليه، في حين ابن خلدون يريد الحفاظ أكثر على نبويّة النصوص، غير أنّه يسلبها الطابع الوحيي الحامل للقداسة.
وأختم هذا الجانب المنهجي الفلسفي بالتعليق النقدي الذي يركّز عليه العديد من النقّاد هنا، وهو أنّ مشروع الطبّ الإسلامي يحاول إثبات نفسه بمغالطة الثنائيّات، فهو في الوقت الذي يسجّل ملاحظات نقديّة على الطبّ الكيميائي الحديث، يعتبر أنّ هذا الطبّ إذا تمّت تصفيته أو تشكيك الناس به وسلب ثقتهم، فهذا معناه صحّة الطبّ الإسلامي، فيما يقول النقّاد هنا بأنّ نقد الطبّ الكيميائي يجب أن يكون من خلال العبور منه، لا من خلال المرور بجانبه ونقده من الخارج، فما بعد الطبّ الحديث لا يعني العودة لما قبله، بل يعني خوض تحدّي تقديم طبّ منافس يبني على ما توصّل إليه الطبّ الحديث ـ ومعه منظومة العلوم الطبيعيّة المساعدة والمتواشجة معه ـ من مسلّمات بات يعرفها الصغير والكبير.
العديد من النقّاد يعتبرون أنّ جماعات الطبّ الإسلامي حاولت تصوير محاربتها للعلم الحديث على أساس أنّها محاربة للثقافة الغربيّة، وهذه مغالطة أخرى وقعوا فيها، فالنقد الأخلاقي للطبّ الحديث ونقد الثقافة الغربية، وممارسة قراءة فلسفيّة للبنيات التحتية التي ينبني عليها الطبّ الحديث كلّه أمر مشروع، غير أنّ إدخال هذه القضايا التخصصيّة في سياق خطاب شعبوي أيديولوجي هو تشويش كبير، يشبه محاولات العديد من علماء الدين في بدايات القرن العشرين محاربة تأسيس المدرسة العصريّة بوصفها معلماً من معالم الثقافة الغربيّة، ثمّ قبولهم بها بعد ذلك إلا النادر جدّاً منهم. إنّ نقد الطبّ الحديث لا يكون إلا بدخوله، ثمّ العبور منه، لا بحذف سلسلة من قرون التطوّر المعرفي وكأنّها ليست موجودة، وإعادة الاتصال بالعصور القديمة، بما يُشبه الانحياز غير المبرّر الذي قام به معارضو الكنيسة بحذفهم حقبة القرون الوسطى، حتى أنّهم لم يسمحوا بإطلاق اسمٍ عليها، فعبّروا عنها بـ “القرون الوسطى” في حين أثبتت الدراسات أنّ فترة القرون الوسطى كان لها دور كبير معرفيّاً وفلسفيّاً وعلميّاً في ولادة العصر الحديث في أوروبا.
الاعتراف بحقّ الجميع في ممارسة نقدٍ للطبّ الحديث ومنظومته المعرفيّة الحافّة
إنّنا لا ننكر حقّ الجميع في ممارسة نقد على ما وصل إليه علم الطب عند البشر اليوم، وأيّ علم آخر، وفقاً لقواعد النقد الصحيحة، وهذا النقد قد يكون معرفيّاً يطال البنية الفلسفيّة والمنهجية لهذه العلوم، بل الغرب نفسه ما زال يواصل عمليّات النقد في هذا السياق، ولا مانع أيضاً أن يرجّح شخص الطبّ الوقائي على غيره، كما لا مانع من توجيه نقد أخلاقي للعلم الحديث عموماً بما فيه الطبّ. واليوم هناك صراع واضح وجليّ بين العلوم والتكنولوجيا من جهة وبين المدارس الأخلاقيّة في العالم من جهة ثانية، من حيث هل يجب ممارسة رقابة أخلاقيّة على العلم أو التكنولوجيا أو أنّ هذا الأمر غير صحيح؟ وهل الفلاسفة وعلماء الأخلاق والقانون يجلسون ليفكّروا في حلول بعد أن يضرب العلم والتكنولوجيا ضربتهما وتنتشر بسببها المشاكل الأخلاقيّة أو أنّ لهم أصالة وشخصيّة مستقلّة مسبقة؟ هذا كلّه سؤالات مشروعة وضروريّ أن نبحث فيها بعقل مستقلّ غير مستقيل، وبإبداع لا اتّباع، لكنّ كلامنا ليس هنا، بل في أنّ ما يسمّى بالطبّ الإسلامي هل له وجود أصلاً؟ وعلى تقدير وجوده فهل هو قادر على أن يكون بديلاً عن الطبّ الحديث يمكنه الجواب عن الأسئلة والتحدّيات التي يجيب عنها الطبّ الحديث أو لا؟ هذا هو السؤال. وإلا فلا نقاش في وجود مساحة مهمّة للسلامة والصحّة والوقاية في النصوص الإسلاميّة، وقد يوافق كثيرون أيضاً على أنّ النصوص الدينيّة في الكتاب والسنّة فيها قضايا علميّة قد تتصل بمسائل متعلّقة بالطبّ والصحّة، مثل ما يقولونه في قوله تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) (الكهف: 11)، لكنّ هذا شيء مختلف عن وجود نظام طبي، ولهذا يلاحظ النقّاد ـ شاهداً على ادّعائهم ـ أنّ الطبّ الإسلامي ليس فيه نظام تشخيص الأمراض، الذي هو جزء أساس من علم الطبّ، والأطباء الإسلاميّون لا يدلّوننا على منهج قدّمه النبيّ‘ لنعرف هل فلان لديه مرض السرطان أو السكّري مثلاً؟ وأين نستطيع معرفة ذلك؟ وكيف؟
إنّ الإسلام بتوجيهاته السلوكيّة يترك تأثيرات على السلامة البدنيّة والعامّة، مثله مثل أكثر الأنظمة الأيديولوجية والدينية التي تتدخّل في نمط عيش مناصريها، لكنّ هذا غير وجود طبّ إسلامي مبنيّ على علوم تمثل البناء التحتي، ثمّ تشخيص أمراض، ثم علاجات. إنّ نظام النوم واليقظة أو الصيام أو نظام الذكر والعبادة والعلاقة الروحيّة مع الله أو الدعاء أو البكاء.. كلّها قضايا لها تأثيرات على الصحّة والبدن، لا يشكّ أحد في هذا، لكنّ هذا ليس علم طبّ بالمفهوم المتنازع عليه، وعلينا تجنّب الوقوع ضحايا ألعاب لفظيّة.
2 ـ النقد التراثي ـ الحديثي
نترك النقد ذا الطابع الفلسفي أو المنهجي العامّ، لندخل إلى عمق البنية التي يبني الطبّ الإسلامي مشروعَه عليها، وهو التراث الحديثي، بعد قلّة وجود نصوص قرآنية منفصلة عن نصّ الحديث في هذا الصدد. ولاعتماد الطبّ الإسلامي على النصّ الحديثي كثيراً ما يُطلَق عليه عنوان: الطبّ الروائيّ، أو الطبّ النبويّ، أو طبّ الرضا، أو طبّ الصادق، أو طبّ الأئمّة.. حتى أنّهم أحياناً يسمّون دواءً معيّناً بمثل اسم: دواء الإمام الرضا، وينشرونه بهذا الاسم.
نقاط تمهيدية
وتمهيداً لعرض المشهد النقدي هنا، نشير:
أوّلا: بعض أهمّ الكتب في الطبّ الروائي
1 ـ طبّ الرضا أو ما يُعرف بالرسالة الذهبيّة، وهي التي يقال بأنّ الإمام الرضا كتبها للمأمون العباسي بطلبٍ منه، وقد كُتبت العديد من الكتب مبنيةً على هذه الرسالة.
2 ـ طبّ الأئمّة، لابني بِسطام ـ عبد الله وحسين ـ النيسابوريّين (ق 4هـ).
3 ـ الطبّ النبوي أو طبّ سيدنا محمّد، لأحمد بن محمّد بن إسحاق الدِّيْنَوَرِي (364هـ).
4 ـ طبّ النبيّ، لأبي نُعَيم الإصفهاني (430هـ).
5 ـ طبّ النبيّ، لأبي العباس جعفر بن محمّد المستغفري (432هـ). وفيه ما يزيد عن مائة وخمسين رواية، لا أسانيد فيها في العادة.
6 ـ الطبّ النبوي، لابن قيم الجوزيّة (751هـ)، وهو مأخوذ من كتابه الموسوعي: “زاد المعاد في هدي خير العباد”.
7 ـ شفاء الآلام في طبّ أهل الإسلام، لأبي المظفر يوسف بن محمّد السُّرَّمَرِّي البغدادي الحنبلي (776هـ)، وهو كتاب تمّ الجمع فيه بين الطبّ النبوي والتجريبي، حسبما شرحه الكاتبون عنه في بعض مقالاتهم، وهو من أنصار ابن تيمية، ويُنسب له كتاب في الدفاع عنه.
8 ـ طبّ الأئمّة، للسيد عبد الله شبر (1242هـ).
9 ـ موسوعة الأحاديث الطبيّة، التي أصدرتها مؤسّسة دار الحديث في إيران، بإشراف الشيخ محمّدي الريشهري (2022م). وتعتبر من المراجع الشاملة والواسعة في استقصائها للنصوص الطبيّة عند السنّة والشيعة معاً.
10 ـ دانشنامه طبّ أهل البيت، لمحمّد رسول دريائي، اعتمد فيه على ما قدّمه السيّد عبد الله شبّر.
11 ـ دائرة المعارف بزرگ طبّ اسلامي، لمصطفى نوراني، في خمسة مجلّدات، وهي موسوعة شاملة تجمع بين الطبّ القديم والطبّ الإسلاميّ، رغم أنّ عنوانها يوحي بأنّها خاصّة بالطبّ الإسلامي.
12 ـ دراسة في طبّ الرسول المصطفى، للشيخ عباس تبريزيان، في أربعة مجلدات.
13 ـ أبواب الطبّ من بحار الأنوار، للعلامة المجلسي (1111هـ)، وهي موجودة في المجلّد التاسع والخمسين من البحار، وفيه أورد المجلسي الرسالة الذهبيّة للرضا، والتي انتشرت بقوّة منذ ذلك الزمان، وبه يمكن اعتبار المجلسي أحد الإخباريّين الذين ساهموا في عودة النصوص الطبيّة للحياة في الوسط الإمامي.
إلى غيرها من الكتب الكثيرة.
طبعاً نحن هنا نركّز على الكتب الروائيّة الطبيّة بوصفها مصادر أو مراجع أساسيّة، وإلا فإنّ الكتب ذات الصلة بشكل أو بآخر بالطبّ الإسلامي كثيرة، كما فيما كتبه السيد جعفر مرتضى العاملي (2019م)، تحت عنوان “الآداب الطبيّة في الإسلام”.
وأيضاً يجب أن أشير إلى أنّ العديد من كتب الحديث القديمة والمتأخّرة ـ أي المصادر والمراجع ـ لم تعقد باباً للطبّ بهذا العنوان إطلاقاً، حتى لو اشتملت هنا وهناك على روايات طبيّة. وهذه نقطة تستحقّ التوقّف عندها، فلماذا لم يختر بعض المحدّثين المتقدّمين طرح عنوان من هذا النوع؟!
ثانياً: تقسيم الروايات الطبيّة
يكاد يكون من الأمور الواضحة عند كثيرين أنّ مراجعة الروايات الطبيّة في التراث الإسلامي يدفعنا لتصنيفها على الشكل الآتي غالباً:
1 ـ النصوص التي تحاول تبيين جوانب إعجازيّة للأنبياء والأئمّة وأمثالهم في معالجة الأمراض، مثل النبي عيسى×.
2 ـ النصوص التي تدور حول الوقاية من الأمراض، فأكل الشيء الفلاني يقي من المرض الفلاني، وترك أكل الشيء الفلاني يقي من المرض الفلاني، وهكذا.
3 ـ النصوص الواردة في كيفيّة معالجة بعض الأمراض، وهذه النصوص هي التي تنقسم إلى:
أ ـ المعالجة عبر الدعاء والصدقة والقرآن والرقية والتعويذ وغيره.
ب ـ المعالجة عبر دواء مادي معيّن ومحدّد([15]).
بعد هذا التمهيد سوف أضع بعض القراءات النقدية الداخليّة (داخل ـ حديثيّة) ضمن الترتيب الآتي:
1 ـ ملاحظات منهجيّة عامّة على مستوى مديات مرجعيّة نصوص الطبّ الحديثيّة.
2 ـ ملاحظات هرمنوطيقيّة تفسيرية عامّة للنصّ الحديثي الطبيّ.
3 ـ وقفة مع عينات من المصادر الأصليّة الطبيّة، مثل الرسالة الذهبيّة وطبّ الأئمّة.
2 ـ 1 ـ ملاحظات منهجيّة عامّة في أصل مرجعيّة (حجيّة) النصّ الحديثي الطبّي
ليست هذه الملاحظة معنيّة بمدى صحّة سند هذه الرواية الطبيّة أو تلك، بل هي معنية جملةً واحدة بأغلب الروايات الطبيّة ـ ولو الصحيحة ـ التي لا ترقى إلى مستوى اليقين بالصدور، فالروايات الطبيّة في الأعمّ الأغلب منها رواياتٌ آحاديّة ظنيّة، تخضع في حجيّتها واعتبارها لقانون حجيّة خبر الواحد الذي نظّر له علماء أصول الفقه الإسلامي، لكنّ حجية خبر الواحد الظنّي خضعت لمناقشات حقيقيّة على مستوى الرواية التي لا ترتبط بالفقه ولا بالسلوك، بمعنى ليست عبارة عن توجيه أخلاقي أو فقهي شرعي، مثل الروايات التكوينيّة المتحدّثة عن خواصّ الأشياء والروايات العقائديّة والروايات التاريخيّة والروايات المستقبليّة كوقائع يوم القيامة أو أشراط الساعة، أو ما قبل وعند وبعد ظهور المهدي وآخر الزمان، والروايات التفسيريّة لغير آيات الأحكام، وكثير من الروايات الطبيّة وأمثال ذلك، فهل هذه الروايات حجّة أو لا؟ بمعنى هل يمكن ترتيب أثر عليها إذا لم تبلغ مرحلة التواتر مثلاً أو لا؟
ذهب بعض العلماء إلى القول بحجيّة هذه الروايات وإمكان التعامل معها، لكنّ بعضهم الآخر رفض ذلك وقال بأنّ حجيّة الخبر تعني مفهوماً مرتبطاً بالتنجيز والتعذير، وهما لا معنى لهما خارج سياق الفقه والأخلاق، ولهذا لا معنى لحجيّة أيّ رواية تقع خارج سياق التوجيهات العمليّة، وحيث إنّ الكثير من نصوص الطب عبارة عن نصوص إرشاديّة كالعلاقة بين هذا الطعام وهذه النتيجة على البدن، وليست نصوصاً مولويّة، فلا معنى للحديث عن وجود قيمة واعتبار لها ما لم تبلغ درجة اليقين بالصدور.
هذا المنطلق اعتبره بعض نقّاد الطبّ الإسلامي بمثابة مشكلة منهجيّة في تعامل علماء الطبّ الإسلامي مع الموروث الحديثي، وفي هذه الحال لا يكفي أن يكون الإنسان إخباريّاً يرى حجيّة جميع الأخبار الواردة في الكتب؛ لأنّ المشكلة ليست في اعتبار النصوص، ولو من خلال قاعدة التسامح، بل في وجود قيمة لهذا الاعتبار. فلا بدّ أن تكون إخباريّاً ـ مؤمناً بالطبّ الإسلامي ـ من النوع الذي يرى يقينيّة صدور جميع أو أغلب هذه الروايات.
وهذا بحث طويل لا نريد الخوض فيه الساعة، ويوجد فيه انقسام في الرأي بين العلماء، فليراجع([16]).
2 ـ 2 ـ ملاحظات هرمنوطيقيّة تفسيرية عامّة في النصّ الحديثي الطبيّ
المقصود بهذا العنوان هو هل نجح أنصار الطب الإسلامي في وضع نظريّة هرمنوطيقية وتفسيرية صحيحة في فهم نصوص الطبّ الإسلامي أو لا؟ هل فهموا الروايات بشكل صحيح أو أنَّ الروايات فيها حقائق وملابسات وسياقات تمنع عن فهمهم الذي استخرجوه منها؟
يعتبر النقّاد هنا أنّ طريقة تعامل أنصار الطبّ الإسلامي مع الروايات الطبيّة تقع في أخطاء تفسيريّة حقيقيّة، ومن أبرز ملاحظاتهم هنا هو الآتي:
2 ـ 2 ـ 1 ـ النصوص الطبيّة بين طاقة التعميم والحالات الخاصّة
يعتبر بعض النقّاد أنّ العلاجات الواردة في النصوص الطبيّة ليس فيها تعميمات حتى نستنتج منها قوانين عامّة وكليّة، فرجلٌ أتى للنبيّ فسأله عن علاج شيء، فأجابه: خذ كذا وكذا، لا يصلح للتعميم؛ لأنّ الأجسام تختلف، والحالات المرضيّة تختلف رغم وجود بعض التشابهات بينها في بعض العوارض، كما أنّ المناخات تختلف، والأمور لا تظلّ على وزان واحد. فالتعامل مع نصوصٍ علاجيّة مورديّة في سؤالٍ وجّه هنا أو هناك دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّات حالة هذا المريض أو ذاك، يعتبر خطأ أساسيّاً وقع فيه أنصار الطبّ الإسلامي.
يعزّز هذا النقد ما قاله الشيخ الصدوق ـ وتبدو موافقته من الشيخ المفيد أيضاً ـ حيث يشرّح فيه بنوع من التفصيل الروايات الطبيّة، فيقول تحت عنوان: “باب الاعتقاد في الأخبار الواردة في الطبّ“، وهو عنوان يضعه في قسم الاعتقادات ـ: «اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطبّ أنها على وجوه: منها: ما قيل على هواء مكّة والمدينة، فلا يجوز استعماله في سائر الأهوية. ومنها: ما أخبر به العالم× على ما عرف من طبع الرسائل (السائل) ولم يتعدّ موضعه (ولم يعتبر بوصفه)، إذ كان أعرف بطبعه منه([17]). ومنها: ما دلّسه المخالفون في الكتب لتقبيح صورة المذهب عند الناس. ومنها: ما وقع فيه سهو من ناقله. ومنها: ما حفظ بعضه ونسي بعضه. وما روي في العسل أنّه شفاء من كلّ داء فهو صحيح، ومعناه أنّه شفاء من كلّ داء بارد. وما روي في الاستنجاء بالماء البارد لصاحب البواسير فإنّ ذلك إذا كان بواسيره من حرارة. وما روي في الباذنجان من الشفاء فإنّه في وقت إدراك الرطب لمن يأكل الرطب، دون غيره من سائر الأوقات. وأمّا أدوية العلل الصحيحة عن الأئمّة ـ عليهم السلام ـ فهي آيات القرآن وسوره والأدعية على حسب ما وردت به الآثار بالأسانيد القويّة والطرق الصحيحة..»([18]).
إنّ الصدوق هنا يميّز بين النصوص بعيداً عن ملاحظاته على متونها وأسانيدها، فبعضها جاء لمناخ معيّن وآخر جاء لسائلٍ بعينه، لكنّ السؤال: كيف نميّز بين العلاج أو الوصفة الطبيّة التي تحمل طاقة التعميم عن تلك التي هي خاصّة بمناخ معيّن أو بشخص معين؟ وهل توصّل الصدوق إلى هذه النتيجة عندما رأى بالتجربة عدم فاعليّة بعض الوصفات العلاجيّة الموجودة في النصوص بحيث ثمّة من انتقد هذه النصوص اعتماداً على التجربة والعلوم الطبيّة وما يتصل بها في ذلك الزمان، أو أنّ الأمر أخذه من نوع من القراءة التفسيريّة والقرائن الدلاليّة الموجودة في النصوص نفسها وهو ما نستبعده مبدئيّاً؟ هذا ما لم يقتحمه الشيخ الصدوق هنا.
كما أنّ اللافت أنّ الصدوق يعتبر أنّ بعض النصوص الطبيّة أو شبهها مما دسّه المخالفون لتشويه صورة المذهب الشيعي، وهذا أمرٌ آخر يستحقّ التوقّف عنده بدقّة، ولعلّه يقصد بعض الروايات التي تميّز الحيوانات والنباتات والأشياء على أساس الانتماءات المذهبيّة، كمثل البطيخ الموالي والبطيخ الناصبي على أساس اختلاف طعمه ـ وهو ما كان انتقده السيد المرتضى ـ وأيضاً الباذنجان موالٍ لأهل البيت، والوزغ عثمانيّ مرواني وليس شيعيّاً، وحمرة الشفق في السماء جاءت بعد شهادة الحسين بن عليّ، وغير ذلك.
لكنّ هذا الأمر الذي يطرحه الصدوق هنا، ويغلب على ظنّي أنّه طرحه فراراً من إشكالات أو سخريات الآخرين، يفتح على مشاكل في النصوص الشرعيّة نفسها، فالنصوص الشرعيّة الحديثيّة غالبها أسئلة وجّهها أشخاص معيّنون. والمشكلة هنا هو النظريّة الهرمنوطيقيّة التي يمكنها أن تميّز بين الرواية الطبيّة والرواية السلوكيّة حيث قد يدّعى أيضاً أنّ السلوك الأفضل لإدارة الاقتصاد بما فيه الصالح العام ليس منحصراً بالروايات، بل هي واردة مورد الأمر الجزئي المتناسب مع البنية الاجتماعيّة الكذائيّة ـ قبلية أو غيره ـ أو الاقتصاد الزراعي والحيواني أو غير ذلك، فما الفرق؟! وهل سيقوم الصدوق بخطوة مشابهة في النصوص الفقهيّة الحديثيّة مثلاً؟!
أمّا الشيخ المفيد، فعلّق على كلام الصدوق بالقول: «وقد ينجع في بعض أهل البلاد من الدواء من مرض يعرض لهم ما يهلك من استعمله لذلك المرض من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقوم ذوي عادة ما لا يصلح لمن خالفهم في العادة. وكان الصادقون ـ عليهم السلام ـ يأمرون بعض أصحاب الأمراض باستعمال ما يضرّ بمن كان به (فيه هذا) المرض فلا يضرّهم، وذلك لعلمهم ـ عليهم السلام ـ بانقطاع سبب المرض، فإذا استعمل الإنسان ما يستعمله كان مستعملاً له مع الصحّة من حيث لا يشعر بذلك، وكان علمهم بذلك من قبل الله تعالى على سبيل المعجز لهم والبرهان لتخصيصهم به وخرق العادة بمعناه، فظنّ قومٌ أنّ ذلك الاستعمال إذا حصل مع مادّة المرض نفع، فغلطوا فيه واستضرّوا به. وهذا قسم لم يورده أبو جعفر، وهو معتمد (المعتمد) في هذا الباب، والوجوه التي ذكرها من بعدُ فهي على ما ذكره، والأحاديث محتملة لما وصفه حسب ما ذكرناه»([19]).
إنّ كلام المفيد يمكنه أن يطيح بمرجعيّة الكثير من الروايات الطبيّة، والسبب في ذلك أنّ المفيد يعتبر أنّ الإمام× قد يصف شيئاً لمريض وهذا الشيء لو أخذه المريض فهو يتضرّر به، لكنّ الإمام بحكم علمه من الله سبحانه يصف له هذا الشيء لعلمه بأنّ سبب المرض قد انقطع من هذا المريض، ولكنّه بحسب الظاهر لم ينقطع، فيأخذ المريض الدواء المفترض أن يكون مضرّاً له في حالته هذه، ولكنّه لا يتضرّر به، بل قد ينتفع. وإقحام المفيد فرضيّة العلم والإعجاز ونحو ذلك يعطّل إمكانيّة الأخذ بالنصوص الطبيّة في كثيرٍ من الحالات على الأقلّ. وغالب الظنّ أنّ المفيد يريد أيضاً ـ كالصدوق ـ أن يبرّر لماذا بعض أدوية أهل البيت عندما يأخذها المريض يتضرّر بها؟ فتأوّل الأمرَ إلى أنّ وصف الإمام له هذا الدواء لعلمه الخاصّ بزوال سبب المرض من جسده، فالدواء لا يصلح للمريض أصلاً، وهنا خطأ الذين استعملوا المرويّات الطبية بلا فهمٍ صحيحٍ لها، فألحقوا الضرر بالناس.
أمّا العلامة المجلسي، فكانت له محاولة أخرى حول بعض النصوص الطبيّة، حيث قال: «يحتمل بعضها وجهاً آخر، وهو أن يكون ذكر بعض الأدوية التي لا مناسبة لها بالمرض على سبيل الافتتان والامتحان؛ ليمتاز المؤمن المخلص القويّ الإيمان من المنتحل أو ضعيف الإيقان، فإذا استعمله الأوّل انتفع به لا لخاصيته وطبعه، بل لتوسّله بمن صدر عنه، ويقينه وخلوص متابعته، كالانتفاع بتربة الحسين× وبالعوذات والأدعية. ويؤيّد ذلك أنّا ألفينا جماعة من الشيعة المخلصين كان مدار علمهم ومعالجتهم على الأخبار المرويّة عنهم ـ عليهم السلام ـ ولم يكونوا يرجعون إلى طبيب، وكانوا أصحّ أبداناً وأطول أعماراً من الذين يرجعون إلى الأطباء والمعالجين»([20]).
إنّ هذا التأويل لبعض النصوص الطبيّة معناه انتهاء العلاقة بين الداء والدواء تكوينيّاً، وعدم إمكان إنتاج علم طبّ إسلاميّ عام من خلال هذه النصوص. واللافت أنّ المجلسي يعتبر أنّ التربة الحسينيّة في نفسها لا شفاء فيها، بل قوّة الإيمان بها هو سبب الشفاء، وقد بحثتُ حول هذا الموضوع في كتابي: “فقه الأطعمة والأشربة”. أمّا طريقة استدلال المجلسي فإنّها تفيدنا:
أ ـ إنّ جمهور الإماميّة كان على الرجوع للأطبّاء، ولهذا اعتبر أنّ الراجعين لغير الأطباء “جماعة”.
ب ـ إنّ حركة الرجوع للطبّ الإسلامي بشكلٍ منحصر كان لها وجود في العصر الصفوي ـ الإخباري.
ج ـ إنّ طريقة استدلال المجلسي تكشف عن مقاربة بدائيّة، فهو يعتمد على عيّنة صغيرة من الناس في زمانه للتثبّت من استنتاج يحمل ادّعاءً كبيراً. فهذا أشبه بمن يقول اليوم: إنّ التتن والتنباك وغيره لا يضرّ؛ بدليل أنّنا وجدنا ملايين الناس من الذي أدمنوا التدخين وعاشوا بسلامة عالية وبعمر أطول من غير المدخّنين! إنّ مسار التثبّت العلمي لا يجري بهذه الطريقة البسيطة. ولعلّ مثل هذه الأمور هي التي دفعت السيد أحمد المددي للقول بأنّ المجلسي كان عالماً بعلوم النجوم، لكنّه كان فاقداً للخبرة في مجال الطبّ والصحّة والسلامة.
د ـ إنّ محاولة المجلسي والصدوق والمفيد وأمثالهم ترجع في الحقيقة لمحاولة تعطيل أو شلّ حركة النقد المتني للروايات الطبيّة، فقد اكتشف هؤلاء العلماء أنّ الكثير من هذه الروايات لا يقدّم حلولاً، وأنّه باطل في محتواه على وفق التجربة، فانبروا لتبرير هذه الظاهرة. ولو لاحظنا تبريراتهم فهي من جهة تنفع في نقد مشروع الطبّ الإسلامي اليوم، لكنّها من جهة أخرى تعطّل مجال ممارسة نقد متني على قواعد التجريب، وهذا بعكس مشاريع من نوع مشروع الشيخ الريشهري والفريق العامل معه الذين قالوا بأنّهم ألّفوا موسوعتهم الطبيّة للمختصّين، بهدف بدء رحلة إخضاع النصوص للتجربة.
2 ـ 2 ـ 2 ـ النصوص الطبيّة بين نظامَي: المقتضي والعلّة التامّة
سأضع هذه المداخلة النقديّة تحت عنوان “المقتضي والعلّة التامّة” بمعنى أنّ هناك وجهة نظر تنتقد الطب الإسلامي المعاصر وفي الوقت عينه تحافظ على الروايات الطبية قدر المستطاع، ولا تختص وجهة النظر هذه بالروايات الطبية بل قد تتعدّى لغيرها أحياناً، وخلاصة هذه الرؤية أنّ النص الحديثي عندما يقول: إنّ أكل اللبن كل يوم صباحاً مثلاً يذهب بداء كذا وكذا، ثم نلاحظ أنّ التجربة لا تسعفنا في إثبات شيء من هذا القبيل، فإنّ بإمكاننا تفسير هذه النصوص على أنها تشرح ما هو في مقام المقتضي لا في مقام العلّة التامّة، فاللبن يقتضي الشفاء من هذا المرض لكنّه ليس علّة تامّة بحيث عندما نشربه يرتفع المرض، بل هو بحاجة لمجموعة عناصر مساعدة أيضاً، ولا يتحقق الشفاء بسبب عدم وجود هذه العناصر.
هذا التفسير الذي يرتبط كثيراً بما يعرف بخواص النباتات والأعشاب والأطعمة والأشربة هو ـ في تقديري ـ محاولة لحماية النصّ الطبي الحديثي وفي الوقت عينه التوقّف عن اعتباره نسخة طبيّة نهائيّة يمكن إجراؤها، فهي أقرب إلى توجيه الناس نحو نظام تغذيةٍ صالح أكثر من علاجات لديها قدرات قريبة الوقوع في معاليلها. ومن هذا القبيل الطب الدُّعائي وما يلحقه فهو طلب للدعاء لكن دون الاقتصار عليه، مثل الأمر بالدعاء لطلب الرزق مع ضرورة أن تسعى في طلب الرزق عملاً لتحقيق المطلوب.
2 ـ 2 ـ 3 ـ إشكاليّة القفز من متناثرات الطبّ الروائي نحو تكوين منظومة طبيّة
هذه من الملاحظات التي طرحها كثيرون هنا، حيث اعتبروا أنّ وجود روايات طبيّة في قضايا هنا وهناك شيءٌ وقدرة هذه المتناثرات على تكوين منظومة طبيّة وما يتصل بها ـ بحيث ندعي أنّنا طبّ بديل وشامل ـ شيءٌ آخر، فنصوص الطبّ تعطي معطيات متفرقة، لا يمكنها لو ضمّت لبعضها أن تمنحنا نظاماً علميّاً وطبيّاً. والنفخ في هذه الروايات لتحويلها إلى نظام، والمبالغة في تأوّلها، هو أمرٌ يفتقد إلى نظريّة تفسيرية معقولة، وهو ما لم يقدّمه أنصار الطبّ الإسلامي.
هذا النقد يرى أنّ أغلب ما يسمّى بالروايات الطبيّة هو طبّ وقائي (أنظمة تغذية) أو أدعية وأمثالها، كما سنرى ـ على سبيل المثال ـ عند الحديث عن كتاب “طبّ الأئمة”، ولا علاقة له بالطبّ العلاجي أو بالعلوم التي تنبني الطبابة عليها مثل الفسيولوجيا والتشريح والكيمياء وغيرها. ولهذا فإنّ مقارنة الطبّ القديم بروايات الطب الإسلامي تؤكّد أنّ حجم الموضوعات الطبيّة التي تناولتها الروايات أقلّ بكثير من الموضوعات الطبية المبحوثة عند الأطباء، مما يؤكّد أنّ النبي وأهل بيته لم يكونوا بصدد تولّي مهمّة من هذا النوع.
2 ـ 2 ـ 4 ـ نقد فكرة أنّ الأنبياء والأئمّة أطبّاء
هذه الملاحظة تمثل تأكيداً للملاحظات السابقة، وتتمركز حول الفكرة الجوهريّة التي طرحها أنصار الطبّ الإسلامي، في اعتبار الأنبياء والأئمّة أطباء، وأنّ الطبابة وما يرتبط بها من علوم ومهارات جزءٌ من مشروعهم الإلهي، والنقد هنا يقول: لو صحّ هذا التصوّر لرأينا ظاهرة متشرّعيّة إسلاميّة أو شيعيّة، ترجع للنبيّ والأئمّة في قضايا الصحّة والسلامة، كونها قضايا يبحث الناس عن المعالجين الأفضل فيها، ومن هو أفضل من المعصوم؟! ومع ذلك لا يوجد عين ولا أثر لقصص يرجع فيها الناس للعلاج إلى الأئمّة أو إلى أشخاص يمثلون أطبّاء إسلاميّين منصوبين من قبل الأئمّة مثلاً، أو أنّ الإمام كان يذهب لبيت مريضٍ فيعالجه أو يفتح عيادة طبيّة مثلاً أو غير ذلك، إلا في حالات نادرة جداً لو صحّت تلك الروايات. بل بعض الروايات يجري فيه الحوار بين الإمام والسائل بالعَرَض، فيخبر السائل الإمام بمشكلته الصحيّة فيخبره الإمام بالعلاج، دون أن يقصده السائل. وبعض هؤلاء السائلين من كبار الرواة. كما أنّ العادة القائمة في تلك الأزمنة تشير إلى رجوع الناس للأطباء الموجودين، وليس لهذا النبيّ أو ذاك، ولهذا الإمام أو ذاك، فهذا التصوّر المتشرّعي الذي استمرّ لقرون ثلاثة، يكشف لنا أنّ النبيّ وأهل بيته وصحابته لم يقدّموا أنفسهم للناس على أنّهم أطباء إطلاقاً، وهذا خير دليل على بطلان البناء التحتي الذي بنى عليه أنصار الطبّ الإسلامي.
بل بعض الروايات التاريخيّة تشير إلى طلب الأطباء واستدعائهم لمعالجة الإمام نفسه، مثل ما حصل مع الإمام عليّ× عندما أتوا له بعد الضربة بأُثَيْر ـ بضم الهمزة وقيل بفتحها ـ بن عمرو السكوني (أثير بن عمريا) أحد أكبر أطباء الكوفة في عصره، في حين لم يداوه الإمام الحسن ولا الإمام الحسين!
إذن، لا توجد سيرة متشرّعية على الرجوع لاهل البيت في العلاجات والطبابة، بل السيرة على العكس، ولم يفتحوا عيادة، ولم يُسألوا أن يأتوا لبيت أحدٍ لمعالجته. ولم يرد أيّ نهي عن الرجوع لأطباء الطب التجربيبي بما في ذلك الأطباء غير المسلمين.
وما يقوّي هذا كلّه هو السؤال الآتي: لماذا هجر علماء المسلمين الروايات الطبيّة، وهم المعروفون بالتشدّد في أخذ الحديث؟ فحتى التيارات الحديثيّة والإخباريّة عند السنّة والشيعة لم تقم بذلك عبر التاريخ، ولم تُعلن وجود نظام طبّي قائم وبديل ينتمي للإسلام، عدا مواقف لبعض العلماء هنا وهناك فقط، أليس هذا خير دليل على أنّهم لم يفهموا من هذه الروايات شيئاً باسم الطبّ الإسلامي الكامل والبديل؟! بل لماذا قلّت الروايات الطبيّة المنقولة عن كبار الرواة الشيعة مثل محمّد بن مسلم وزرارة بن أعين وغيرهما؟!
2 ـ 3 ـ ملاحظات تاريخيّة وحديثيّة على التراث الطبّي من حيث الصدور والمصداقيّة
ننتقل هنا إلى المحور الأخير من حديثنا وهو حول قيمة هذه المرويّات الطبيّة المنقولة، فهل يمكن إثبات نسبتها للنبيّ وأهل بيته أو لا؟ وهل تتمتع بصدقيّة تاريخيّة أو لا؟
قبل كلّ شيء لا بدّ من ذكر أمور أربعة:
أ ـ البحث عن السند والكتب الأصليّة هنا ليس عبادةً للسند كما يحاول بعض الناس أن يصوّر، فراراً من الاحتكام للتثبّت التاريخي أحياناً، ورغبة في تصوير التحقّق السندي على أنّه بضاعة كاسدة، بل هو بحث في حقيقته عن مصادر المعلومات التي يقدّمها الكتّاب الأصليّون في الطبّ الإسلامي في القرون الأولى. والبحث عن مصادر المعلومات أمرٌ عقلائي ومنطقي وبخاصّة في قضايا تتصل بصحّة الناس وحياتها.
ب ـ إنّ ما سنذكره من نقودٍ على بعض أهمّ الكتب الأصليّة في الطبّ الروائي لا يعني نقد روايات الطبّ كلّها؛ لأنّ الكثير من روايات الطبّ موجود أيضاً ـ ولو بشكل مبعثر ـ في المصادر الحديثيّة الأصليّة المعتبرة نوعاً، مثل الكتب الأربعة وصحيحَي: البخاري ومسلم. لكن نقد الكتب تظل له أهميّته؛ لأنّ هذه الكتب تمثل العمود الفقري للطبّ الإسلامي عند أنصاره.
ج ـ إنّ الرقم الذي يقدّمه القائلون بالطبّ الإسلامي لعدد الروايات مبالغٌ فيه (أحد عشر أو ثلاثة عشر ألفاً من الروايات عند جميع المسلمين)، وبتعبير أدقّ يخلط النصوص الطبيّة بمطلق ما له علاقة بالصحّة والسلامة، وهذا ما سوف نلاحظه قريباً.
د ـ لنفرض أنّ جميع الروايات الطبيّة ضعيف المصدر والإسناد، فهل يمكن ـ كما حاول بعض أنصار الطبّ الإسلامي ـ الاعتماد على قاعدة التسامح في أدلّة السنن لمنحها جميعاً الاعتبار والحجيّة أو لا؟
يجيب بعض الناقدين هنا بأنّ هذا غير معقول؛ لأنّ الموضوع فيه مخاطرة صحّة الناس وسلامتها، فاحتمال المصلحة قائم لكن في مقابله يوجد احتمال المفسدة، وفي مثل هذه الحال لا تجري قاعدة التسامح. ولعلّ القول بجريانها يكشف عن المشاكل التي يمكن أن توصلنا إليها قاعدة التسامح ونحن لا ندري.
وعلى أيّة حال، فسوف أتحدّث ـ فقط ـ عن كتابين في الطبّ الروائي، هما من بين الكتب الأشهر، بوصفهما عينات للحديث هنا، وباختصار شديد:
2 ـ 3 ـ 1 ـ الرسالة الذهبيّة (المذهّبة) أو طبّ الإمام الرضا
الرسالة الذهبيّة أو الرسالة المذهّبة هي رسالة كتبها الإمام علي بن موسى الرضا إلى الخليفة العباسي المأمون بطلبٍ من الأخير، وأطلق عليها تعبير الذهبيّة لأمر المأمون لما وصلته أن تكتب بالذهب([21])، وهو تعبير عن شدّة الاهتمام بها والعناية، وعن قيمتها العالية.
أ ـ قصّة تدوين الرسالة ومعلومات عامّة حولها
وقد جاء في السياق الذي كتبت فيه هذه الرسالة: «كان المأمون بنيسابور، وفي مجلسه سيدي أبو الحسن الرضا× وجماعة من المتطبّبين والفلاسفة، مثل يوحنا بن ماسَوَيْه، وجبرئيل بن بُخْتِيشُوع، وصالح بن بهلة (سلهمة/بلهمة) الهندي، وغيرهم من منتحلي العلوم وذوي البحث والنظر، فجرى ذكر الطبّ وما فيه صلاح الأجسام وقوامها، فأغرق المأمون ومن بحضرته في الكلام وتغلغلوا في علم ذلك.. قال: وأبو الحسن× ساكتٌ لا يتكلّم في شيء من ذلك. فقال له المأمون: ما تقول يا أبا الحسن في هذا الأمر الذي نحن فيه هذا اليوم، والذي لا بدّ منه من معرفة هذه الأشياء والأغذية، النافع منها والضارّ. وتدبير الجسد؟ فقال أبو الحسن×: عندي من ذلك ما جرّبته وعرفت صحّته بالاختبار ومرور الأيام، مع ما وقفني عليه من مضى من السلف، مما لا يسع الإنسان جهله، ولا يعذر في تركه، فأنا أجمع ذلك مع ما يقاربه مما يحتاج إلى معرفته. قال: وعاجل المأمون الخروج إلى بَلخ، وتخلّف عنه أبو الحسن×، وكتب المأمون إليه كتاباً يتنجّزه ما كان ذكره مما يحتاج إلى معرفته من جهته على ما سمعه منه وجرّبه من الأطعمة والأشربة وأخذ الأدوية والفصد والحجامة والسواك والحمام والنورة والتدبير في ذلك. فكتب الرضا عليه السلام إليه كتاباً نسخته..»([22]).
عندما نراجع المعلومات المتوفّرة عن الرسالة الذهبيّة أو طبّ الرضا، نلاحظ أنّ الشيخ الطوسي قال في ترجمة محمّد بن الحسن بن جمهور العمي البصري: «له كتب جماعة، منها كتاب الملاحم، وكتاب الواحدة، وكتاب صاحب الزمان×، وله الرسالة الذهبيّة عن الرضا×، وله كتاب وقت خروج القائم×. أخبرنا برواياته وكتبه كلّها ـ إلا ما كان فيها من غلوّ أو تخليط ـ جماعة..»([23])، كما ذكرها ابن شهر آشوب في ترجمته للعمي نفسه([24])، غير أنّ النجاشي لم يشر لكتاب من هذا النوع من تأليف محمد بن جمهور العمي رغم ترجمته له، مع ذكره طرقه لجميع كتبه حسب تعبيره([25]).
كما يضع العلامة المجلسي هذه الرسالة ضمن مصادره في بحار الأنوار، فيقول ـ وهو يعدّد مصادر كتابه ـ: «وكتاب طبّ الرضا×، كتبه للمأمون، وهو معروف بالرسالة الذهبيّة»([26])، وبعد صفحات يقول المجلسي: «وكذا كتاب طبّ الرضا من الكتب المعروفة. وذكر الشيخ منتجب الدين في الفهرست أنّ السيد فضل الله بن علي الراوندي كتب عليه شرحاً سماه ترجمة العلوي للطبّ الرضوي.. وسنورده بتمامه في كتاب السماء والعالم في أبواب الطبّ»([27]).
المجلسي هنا يضع الكتاب في قائمة الكتب المعروفة، وسنرى ماذا يقصد، وينقلها بتمامها مع بعض التوضيحات والشروح منه في الجزء التاسع والخمسين من البحار، لكنّ كتاب السيد فضل الله الراوندي لا دليل يؤكّد أنّه ترجمة للرسالة الذهبيّة، فلعلّه جمع لنصوص طبيّة متفرّقة عن الرضا، كما فعل الصدوق في كتاب “عيون أخبار الرضا”. كما وبعد ذكره مقدّمة حولها يستنتج المجلسي: «فظهر أنّ الرسالة كانت من المشهورات بين علمائنا، ولهم إليه (إليها) طرق وأسانيد»([28]).
ب ـ أقدم النسخ المخطوطة للرسالة
عندما نراجع أقدم النسخ المخطوطة المتوفّرة اليوم للرسالة نجدها:
1 ـ نسخة مكتبة الفاتح في تركيا، وهي بالفارسية مترجمة عن العربيّة، وترجع لعام 614هـ.
2 ـ نسخة مكتبة السيّد الحكيم في العراق، وهي أقدم نسخة عربيّة، وترجع لعام 715هـ.
3 ـ نسخة مكتبة الإسكوريال في أسبانيا، وليس عليها تاريخ دقيق، لكن يقول الباحثون المتخصّصون بأنّها ترجع للقرن السابع أو الثامن الهجري.
وأمّا النسخة التي اعتمد عليها المجلسي، فهي بخطّ المحقّق الكركي (940هـ)، إذ هي أفضل النسخ حيث يشار إلى أنّ بين النسخ المتوفّرة لدى المجلسي اختلافاً فاحشاً([29]). وبعد المجلسي صارت النسخ المتوفّرة لهذه الرسالة كثيرة.
ج ـ نقد الرسالة الذهبيّة صدوراً ومضموناً
يمارس النقّاد هنا نقدهم على الرسالة فيقولون بأنّ الاسم الأصلي أو الراوي الأصلي للرسالة ـ كما هو واضح للجميع ـ شخصٌ يسمّى محمّد بن جمهور العمي البصري، وهذا الشخص متهم بالغلوّ ومضعّف في الحديث، قال فيه النجاشي: «محمّد بن جمهور أبو عبد الله العَمِي([30])، ضعيف في الحديث، فاسد المذهب، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها. روى عن الرضا×..»([31])، وقال الطوسي: «محمّد بن جمهور العَمي عربيّ، بصري، غال»([32])، وقد تقدّم أنّ الطوسي يشير في الفهرست لرواياتٍ له غالية أو فيها تخليط. وقال ابن الغضائري عنه: «غالٍ، فاسد الحديث، لا يُكتب حديثه، رأيت له شعراً يحلّل فيه محرّمات الله عزّ وجلّ»([33]). يضيف النقّاد هنا بأنّ الرجل الأصلي الذي يعتبر المصدر الأصلي الوحيد لهذه الرسالة هو بهذه المثابة ولم نعثر على توثيق له عدا وقوعه في أسناد علي بن إبراهيم في التفسير وهو رأي غير صحيح، خلافاً للسيد الخوئي.
وبهذا نفهم لماذا يرى السيد المددي ـ على طريقته في التعبير ـ أنّ الرسالة الذهبيّة جاءتنا عبر الغلوّ البصري أو مدرسة الغلاة البصريّة؟ لأنّ محمّدَ بن جمهور العمي بصريٌّ.
وليست المشكلة في الرجل الأصلي فقط، بل كلّ الطرق التي توصلنا بهذا الرجل فيها سقط في الإسناد، فكلّها مرسلة أو فاقدة للسند أو تعتمد الوجادة أو نحو ذلك. وهناك تفاصيل هنا لا داعي للإطالة بها تعتمد نظريّة التعويض السندي.
عندما نترك الإسناد والمصدر لنذهب نحو المتن، يلاحظ النقاد هنا سلسلةً من الأمور:
1 ـ إنّ شبيه هذه الرسالة موجود في عصر المأمون نفسه وبُعيدَه، فالمقارنة التفصيليّة بين هذه الرسالة وكتب من نوع “الرسالة الهارونيّة” لمسيح (عيسى) بن حكم الدمشقي (255هـ)، و “التذكرة المأمونيّة” لجبرئيل بن بُختيشوع (213هـ)، و “رسالة بختيشوع” ـ يوحنا بن بختيشوع (256هـ) ـ للمأمون العباسي في تدبير البدن، تكشف عن شبه تطابق بين الرسالة وما في هذه الكتب، وقد قام الباحثون بالكشف التفصيلي عن هذا التطابق في مواضع عديدة، ولعلّه لهذا يذهب أمثال السيّد المددي إلى أنّ هذه الرسالة كتبها طبيبٌ، ثمّ نسبت للإمام الرضا بهدف ترويج الأفكار الطبيّة لهذا الطبيب أو ذاك.
2 ـ إنّ القصّة تقول بأنّ جبرئيل بن بختيشوع كان حاضراً مجلس المأمون الذي نقلناه قبل قليل، في حين أنّ المرويّات التاريخيّة تقول بأنّ هذا الرجل كان في السجن في تلك الفترة، والتي هي ما بين 201 و 202هـ، وهي الفترة التي كان فيها الرضا في خراسان بعد استدعائه من المدينة، وأنّ جبرئيل لم يخرج السجن إلا عام 205هـ، وقيل 202 أو 203هـ أي بعد وفاة الإمام الرضا، وعلى الأقلّ لم يرجع للبلاط العباسي قبل عام 205هـ.
3 ـ إنّ أحداً من المحدّثين والفقهاء والعلماء عبر التاريخ وإلى زمن المجلسي لم يعتمد على هذه الرسالة إطلاقاً، حتى أنّ الصدوق الذي خصّص كتاباً تحت عنوان “عيون أخبار الرضا” ويعتبر أحد أكثر الكتب جامعيّةً للروايات حول الرضا وعنه، لكنّه لم يُشر لا من قريب ولا من بعيد للرسالة الذهبيّة، كما أنّ العديد من الموضوعات المتصلة بالفقه ترتبط بهذه الرسالة، ومع ذلك لا نجد لهذه الرسالة حضوراً في الكتب الحديثيّة ولا الكتب الأربعة ولا في كتب الفقهاء. أمّا بعد المجلسي فنجد حضور هذه الرسالة حتى في المدوّنات الاستدلاليّة الفقهيّة لفقهاء كبار مثل الشيخ يوسف البحراني والشيخ أحمد النراقي والشيخ محمد حسن النجفي وغيرهم إلى يومنا هذا.
هذا كلّه فضلاً عن مناقشات تفصيليّة جزئيّة داخل بعض فقرات هذه الرسالة، مما لا يسمح به المجال هنا والمبنيّ على الاختصار.
بهذا يتبيّن قدر من تساهل المجلسي أنّ الرسالة كانت من المشهورات بين علمائنا، والأغرب قوله بأنّه كان لها طرق وأسانيد، وهو ما يذكّرنا بقوله نقلاً عن والده في الصحيفة السجادية بأنّ لها ألف ألف سند وأنّ تواترها كتواتر القرآن وأنّها عند الزيديّة متواترة!
هذا، وبعضهم شكّك في اعتقاد المجلسي نفسه بصحّة الرسالة الذهبيّة وعقد لذلك مقالةً مستقلّة، وهي مشتركة بين أحمد عابدي وجعفر نكونام وهادي نصيري([34]).
2 ـ 3 ـ 2 ـ كتاب “طبّ الأئمّة” لابنَي بِسطام النيسابوريَّين
كتاب “طبّ الأئمّة” من تأليف عبد الله وحسين ابني بسطام النيسابوريَّين، أحد الكتب المشهورة في مجال الطبّ الإسلامي، وهو يحتوي على أربعمائة وثلاث وعشرين رواية، مؤلّفة من:
160 رواية في التعويذات
140 رواية تقدّم دواءً
41 رواية تتكلّم عن خواصّ الأغذية
9 روايات حول الحجامة والفصد
9 روايات حول آداب المعالجة
22 رواية حول حفظ الصحّة والسلامة
42 رواية متفرّقة، كثير منها في قضايا ترتبط بالأدعية وثواب المرض وتلقين الميت وغير ذلك.
قال عنه النجاشي: «..له ولأخيه أبي عتاب كتاب جمعاه في الطبّ كثير الفوائد والمنافع على طريق (طريقة) الطبّ في الأطعمة ومنافعها والرقى والعود (العوذ)»([35]).
وقد تناول النقّاد هذا الكتاب من خلال مجموعة من الجهات والعناصر، ويمكنني ذكر أبرز الملاحظات هنا:
1 ـ مؤلّف الكتاب: المؤلّف هنا هما شخصان: عبد الله بن بسطام وحسين بن بسطام، وهذان المؤلّفان لم يترجمهما أحد من علماء التراجم والرجال إلا النجاشي([36])، ولم يذكر لهما أيّ توثيق، بل إنّ كتاب الطبّ هذا الذي تفرّد النجاشي بالحديث عنه نقله هو عن ابن عيّاش، وهو شخصٌ قال النجاشي نفسه في موضع آخر أنّه تركه؛ لأنّ الأصحاب غمزوا فيه وضعّفوه، قال النجاشي: «.. رأيت هذا الشيخ [يقصد أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن الحسن بن عياش بن أيّوب الجوهري] وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً، ورأيت شيوخنا يضعّفونه، فلم أروِ عنه وتجنّبته..»([37]).
2 ـ نسخ الكتاب: إنّ أقدم النسخ المتوفّرة لهذا الكتاب ترجع للقرن العاشر الهجري، أي بعد ستة قرون من حياة المؤلّفَين، وهي نسخة كليّة الإلهيات في مشهد بإيران، والتي يرجع تاريخها لعام 972هـ، وتوجد حوالي عشرين نسخة أخرى للكتاب كلّها تقع بعد هذا التاريخ. وهذا يعني أنّ كتاباً غير مشهور لا يمكن الوثوق بنسخته التي تفصلها هذه القرون عن عصر المؤلّف؛ لقوّة احتمال الدسّ والتحريف والتصحيف والتزوير فيه، وبخاصّة أنّ النسخ المخطوطة للكتاب لا تحتوي على أيّ عنصر يفيد اهتمام العلماء والمهتمّين بها، من بلاغات وإملاءات ومقارنات وقراءة وسماع العلماء وأمثال ذلك، مما يشي بأنّها نسخ غير قابلة للوثوق في العادة.
3 ـ الرواة الغلاة: يعتبر بعض النقّاد ـ مثل الدكتور حسن الأنصاري والشيخ محمد باقر ملكيان ـ أنّ هذا الكتاب مستقى من موروث الغلاة؛ حيث نجد في الأسانيد بشكلٍ متكرّر جداً أسماء العديد من الأشخاص المعروفين بالغلوّ أو المتهمين به، يقارب عددهم الخمس والثمانين رجلاً، حتى أنّه لا يكاد يسلم سندٌ من راوٍ مغال أو متهم بالغلوّ، مثل: محمّد بن سنان، والمفضّل بن عمر، وجابر بن يزيد الجعفي، ويونس بن ظبيان، ومحمد بن إسماعيل بن أبي زينب (أبو الخطّاب)، ومحمد بن سليمان، ومحمد بن يحيى الأرمني، وأحمد السياري، ومحمد بن جمهور العمي البصري، وداود الرقي، وغيرهم.
4 ـ الرواة المجاهيل تماماً: يرى النقّاد أنّ هذا الكتاب يتميّز بوجود عدد معتدّ به من أسماء الرواة من الذين لا نكاد نجد اسمهم في التراث الحديثي الشيعي، وهذا مؤشر ضعف عند علماء الحديث والرجال، مثل: محمد بن خلف، وسهل بن أحمد، وعلي بن إبراهيم الواسطي، وعلي بن عروة الأهوازي، وتميم بن أحمد السيرافي، وعبد الله بن مسعود اليماني، ومحمد بن إبراهيم سراج، وحنان بن جابر الفلسطيني، وغيرهم ممّن لا نكاد نجد لاسمهم وجوداً في الموروث الإمامي.
5 ـ ضعف الأسانيد: حقّق بعض الباحثين المتتبّعين الخبراء في مجال علم الرجال ـ وهو الشيخ محمد باقر ملكيان ـ جميع روايات هذا الكتاب كما حقّق الكتاب نفسه، وطبع تحقيقه في إيران عام 2017م، وأجرى دراسة لكلّ الأسانيد على المباني السائدة في علم الرجال ونقد الحديث تقريباً، وتوصّل بالأرقام إلى أنّه لم يصحّ حتى حديث واحد من أحاديث هذا الكتاب إطلاقاً. بل إنّ بعض الروايات تتعدّد جهات الضعف السندي فيها ولا تقتصر على ناحية واحدة.
يشار إلى أنّ السيد المددي في دروسه يعبّر بأنّ معظم أحاديث هذا الكتاب ضعيف ولا يقول: جميعها.
6 ـ عدم معروفيّة الكتاب: فالكتاب لا عين له ولا أثر ولا ذكر ولا أهميّة ـ رغم أنّ فيه بعض القضايا الفقهيّة ـ عند جميع العلماء تقريباً في القرون العشرة الهجريّة الأولى، سوى ما نقله النجاشي كما قلنا، وكذا ما نقله الطبرسي (حوالي عشرين رواية فقط) في القرن السادس الهجري في “مكارم الأخلاق” عن كتاب طبّ الأئمّة، ولعلّه يقصد هذا الكتاب، رغم أنّ أغلبيّة الروايات التي نقلها لا وجود لها اليوم في هذا الكتاب اليوم. ثم جاء في القرن التاسع الكفعميُّ ونقل عنه شيئاً قليلاً في المصباح، ومع ذلك فقد اعتمد عليه الحرّ العاملي (1104هـ)، واعتبره من مصادر كتابه، ومن الكتب التي قامت القرائن على صحّتها ونحو ذلك([38])، واهتمام المحدّثين الإخباريّين ـ مثل الحرّ العاملي في الوسائل، والمحدّث النوري في المستدرك، والعلامة المجلسي في البحار ـ بهذا الكتاب أدّى في العصر الحديث لشيوع رواياته وانتشارها، ورأينا لها حضوراً في الكتب الفقهيّة والاستدلالية، وبخاصّة منذ المحدّث البحراني (1186هـ).
من خلال مثل هذه العيّنات نكتشف ما قاله بعض الناقدين هنا من أنّ عدد الروايات المسماة بالطبّية مما يمكن تصنيفه صحيحاً لا يتعدّى الخمسة في المائة، وغالب هذا الصحيح هو في فوائد بعض الأطعمة وقضايا الصحة والسلامة العامّة لا غير.
خاتمة
إنّني أعتقد أنّ مشاريع من نوع الطب الإسلامي تفتقد لأساسيّات القراءة الفلسفية والتاريخية والحديثية، لهذا لا أقتنع إطلاقاً بشيء اسمه “الطبّ الإسلامي”، بوصفه منظومة، مع الاحتفاظ بشيء اسمه مجموعة القيم والتوجيهات الدينية التي تتصل جزئيّاً بالصحّة والسلامة أو يكون لها تأثير عليهما، وكذلك بعض القضايا الصحيّة.
([1]) هذا تقرير لثلاث محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ (14 ـ 28) 2 ـ 2023، و 8 ـ 3 ـ 2023م، وقد قام بكتابتها وتحريرها فضيلة السيّد أيمن عبد الزهرا الموسوي، ثمّ قام الشيخ حبّ الله بمراجعتها وإجراء بعض التعديلات والإضافات.
([2]) البطّ: يعني الجراحة، والبطّاط: الجرّاح.
([5]) المصدر نفسه 1: 98 ـ 101.
([7]) تصحيح اعتقادات الإماميّة: 144.
([10]) المقدّمة (تاريخ ابن خلدون 1): 493.
([11]) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 4: 2107 ـ 2108 (باب الدواء بالعسل)؛ ونقله عنه أيضاً ـ باختلاف بسيط ـ المجلسيُّ في بحار الأنوار 59: 137.
([12]) بهذا الصدد يؤكّد رسول جعفريّان ـ كما هي طريقته في المقارنات ـ على أنّنا لا نقرأ ولا نتعلّم من التجارب التاريخيّة، ولهذا دائماً نعيد إنتاج أنفسنا بطريقة اجتراريّة، فمثلاً نجد ـ كما يقول هو ـ فكرة ربط دولة معيّنة بظهور الإمام المهدي هي فكرة كانت موجودة في العصر الصفوي، وكان العلماء لأكثر من قرنين مؤمنين إيماناً تاماً بأنَّ الإمام المهدي يخرج ويسلّمه الصفويّون الراية. وهذه العمليّة نفسها ـ كما يرى جعفريّان ـ تتكرّر في كلّ الأزمنة وعبر الأجيال اللاحقة إلى يومنا هذا.
([13]) شمول الشريعة: 449 ـ 683.
([14]) توجد روايات في التربة الحسينيّة ـ مثلاً ـ تنتقد من يرى عدم تأثير التربة الحسينيّة في العلاج، وترى سبب ذلك هو ضعف الإيمان. وقد بحثتُ حول روايات التربة الحسينيّة والاستشفاء بها في كتابي: فقه الأطعمة والأشربة 2: 342 ـ 388.
([15]) راجع الريشهري، موسوعة الأحاديث الطبية 1: 20 ـ 21.
([16]) يمكن ـ لمزيد اطّلاع في هذا المضمار ـ مراجعة كتابَيَّ: نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 681 ـ 712؛ والحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 187 ـ 297.
([17]) يقصد هنا أنّه في بعض الحالات الإمام لا يأخذ بما سمعه من السائل، وإنّما بما يعرفه من طبع هذا السائل، بحيث السائل نفسه لا يستطيع التعبير عن مشكلته أو تعبيرُه عنها يكون خاطئاً، هذا يعني أنَّ الدواء الذي وصفه الإمام كان متناسباً مع تشخيصه للمشكلة، لا مع سؤال السائل، ومعنى هذا أنَّ العلاقة بين السؤال والجواب قد انهارت، وعليه فلا يمكن استنتاج قاعدة في العلاقة بين السؤال والجواب، فربما هنالك شيء آخر رآه الإمام في طبع السائل، ولأنَّه أعرف بطبعه منه أعطاه الجواب على طبعه لا على وصفه.
([18]) الاعتقادات في دين الإماميّة: 115 ـ 116.
([19]) تصحيح اعتقادات الإماميّة: 144 ـ 145.
([22]) المصدر نفسه 59: 307 ـ 308.
([24]) معالم العلماء: 138 ـ 139.
([30]) حرّكها هكذا العلامة الحلّي في إيضاح الاشتباه: 91، وخلاصة الأقوال: 55؛ فيما ابن داود الحلي قرأها: العَمِّي، فانظر له: رجال ابن داود: 35.
([34]) تحت عنوان “ترديدهاى آشكار وپنهان علامة مجلسى درباره اعتبار رساله ذهبيه”، والمنشورة في العدد 33 من مجلة پژوهش دينى، لعام 2011م.