غالباً ما نكتب عند الحديث عن شخصيّةٍ كبيرة ـ مثل شخصية الإمام الشهيد السيّد محمد باقر الصدر ـ عن منجزاته وأفكاره وأعماله العلميّة والاجتماعيّة والسياسية، فنحن عادةً نكتب عنه، لكنّني أودّ هنا أن نترك الحديث عنه لنتكلّم عن أنفسنا: ماذا ينبغي علينا أن نفعل تجاه هذا المعلّم الكبير؟ لا أريد فقط أن أعرف ماذا فعل هو بقدر ما أريد أن أعرف ما الذي ينبغي عليّ اليوم أن أفعله، مستلهماً ذلك من فعله وسيرته.
عادةً ما نقدّر رجالاتنا الكبيرة بعد وفاتها، فيما لا نعطيها هذه الأهمية في حياتها، ولهذا الأمر أسبابه، لكن ماذا نفعل بعد رحيل تلك الشخصية الفذّة؟ إنّنا نقوم بالتعريف بها، عبر مؤتمرات أو ملتقيات أو نشاطٍ إعلامي أو إلقاء محاضرة أو غير ذلك، وهذا كلّه بالتأكيد عمل رائع ومجهود مبارك، لا يمكن لمنصفٍ أن ينكر ضرورته ومدى الحاجة إليه. لكن هناك شيء يبقى ناقصاً في هذه الرحلة، رحلة الوفاء للعظماء الذين نعرف جميعاً أنّ لهم في رقابنا ديوناً كثيرة، وهذا الشيء الناقص يمكن أن أتحدّث عن بعض مظاهره كالتالي:
أولاً: هناك فرق بين أن أعرّف بهذه الشخصية عبر مؤتمر أو لقاء إعلامي، وبين أن أحوّل أفكاره ونهجه إلى حالة سارية في الوعي الجمعي، سواء في المجتمع العلمي أم المجتمع العام، ففرق بين أن أشرح نظريّته الأصوليّة لمدّة ساعة مثلاً، وبين أن أحوّل هذه النظرية عبر وسائل التربية والتعليم وعبر المؤثرات النفسية والروحية والمعرفية إلى نهج يعيشه طلاب العلوم الدينية. إنّ تحوّله إلى نهج يستدعي القيام بعمليّة أكثر تعقيداً من مجرّد بيان فكرته في صفحةٍ أو صفحتين. إنّها قضية تربويّة تعتمد بثّ أفكاره بشكل منظّم ولمدّة زمنية مدروسة وبطريقة متعدّدة الجوانب، كي تصبح أفكاره حاضرةً في وعي الجامعات والحوزات العلميّة، يفكّر بها الجميع وتصبح جزءاً من نمط تفكيرهم، فالغرب لم يعرّف الناس بفلاسفته فقط، بل حوّل نمط تفكيرهم إلى حالة تمّ نقلها إلى المجتمعات الأخرى، بحيث بتنا نفكّر بطريقة فلاسفة الغرب مثلاً. المطلوب اليوم خطّة متكاملة كي نقوم ببث فكر هذا العملاق في مختلف الأوساط وبشكل متكرّر وممنهج، كي نخلق حالةَ حضور عامّة له، ليس في مناسبة شهادته فحسب، بل في مختلف المناسبات.
ثانياً: هناك فرقٌ أيضاً بين أن أشرح نظريّات وفكر هذا الشهيد، فأبثها في الأوساط العلميّة والنخبوية والاجتماعية، وبين أن أقوم بنفسي بتمثّل شخصيّته كي اُكمل الطريق، فعندما أجد أنّ السيد الصدر فتح لنا بابَ التفسير الموضوعي، فإنّ الوفاء له ليس بشرح نظريّته في التفسير الموضوعي فقط للآخرين والتعريف بها وتكريسها في الوعي العام، بل بقيامي بنفسي بإكمال مشروعه وكأنّني هو نفسه، فما الذي كان سيفعله لو أراد ـ رحمه الله ـ إكمال المشروع؟ عليّ التنبؤ بذلك ثم القيام بما قام به تقديراً، فأذهبُ لممارسة التفسير الموضوعي في مسألة التغيير المجتمعي، كما مارسها هو في السنن التاريخيّة.
ثالثاً: لماذا قام السيد الصدر بنقد من قبله وبالتعديل والإضافة المعرفيّة والمسلكيّة؟ الجواب واضح؛ لأنّه شعر بضرورة أن تستمرّ الأمّة ونخبها بالتقدّم العلمي وسدّ الثغرات. حسناً هناك سؤال آخر: هل أنهى السيد الصدر كلّ الموضوعات وسدّ جميع الثغرات؟ والجواب أيضاً واضح بالنفي، فلم يسعفه الوقت لذلك، بل هذا الأمر فوق طاقة الفرد الواحد.. وعليه فالمطلوب هو ممارسة نقد علمي على السابقين ومنهم السيد الصدر نفسه؛ وذلك لسبب بسيط وهو أنّنا لو قمنا بتحويل السيد الصدر أو غيره إلى (الرمز ـ الأسطورة) التي لا يجوز نقدها، فنكون قد قتلنا أهدافه التي هي السعي المتواصل لمراكمة الجهود، ونقد التالي للسابق نقداً علميّاً موضوعياً وأخلاقيّاً ونزيهاً كلٌّ من موقع الاختصاص.. بهذا نكون قد أثلجنا قلبه وهو في تلك الدار؛ لأنّه لو استمرّ لتطوّر هو نفسه أيضاً. ألم يعدل ـ رحمه الله ـ عن نظريّته المعرفية في (فلسفتنا) إلى نظرية معرفية أخرى في (الأسس المنطقية للاستقراء)؟ إنّ نقده لا يعني العودة للوراء ما قبل السيد الصدر بل بالعكس، إنّه يعني التقدّم للإمام وما بعد السيد الصدر.
إنّ الوفاء للسيد الصدر من قبل كلّ الأجيال التي أتت بعده يكون بإحياء فكره ونشره وبثّه وإكمال مشاريعه التي لم يسعفه الزمن لإكمالها، ودراسته بذهنية واعية فاحصة لا بعقلية تقليدية له رحمه الله، وبهذا يضيف اللاحق على السابق وتستمرّ المسيرة التي أرادها العظماء لهذا المجتمع الإسلامي الكريم إن شاء الله.
أحسنت شيخنا الفاضل
السلام عليكم واحسنتم شيخنا الفاضل وكما قلت نحتاج لمنهج في التفكير هو المنهج الموضوعي في نقد ستراتيجيات التفكير بالسؤال عن فكرنا مالذي نعرف حقا ومالذي لا نعرفه ومالذي نريد ان نعرف ولا يمكن لهذا ان يكون الا من خلال المنهج النقدي الذي تميز به السيد الصدر رضوان الله عليه. مع الاحترام
د. سليم الجوهر