• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
العلوم الشرعية (الفقه وأصوله) الفلسفة والكلام علوم القرآن والحديث فكر وثقافة
# العنوان تاريخ الإعداد تاريخ النشر التعليقات الزائرين التحميل
11 الدرس القرآني وتجاذبات المناهج – قراءة في علوم القرآن عند د. نصر حامد أبو زيد 2013-08-22 2014-05-12 0 24414

الدرس القرآني وتجاذبات المناهج – قراءة في علوم القرآن عند د. نصر حامد أبو زيد

حيدر حبّ الله

مدخل

ثمة حاجة بالغة اليوم لتجاوز السياج الذي وضعه الزركشي (794هـ) ومن بعده السيوطي (911هـ) على صعيد علوم القرآن، بمعنى ضرورة السعي العلمي الجادّ والأصيل لقراءة علوم القرآن قراءة تواكب آخر منجزات العلوم ذات الصلة بالبحث القرآني، سواء داخل الدائرة الإسلامية التراثية سيما علمي الفقه وأصوله، أو خارج هذه الدائرة من الألسنيات وعلوم اللغة وفلسفتها الحديثة.

ونعني بهذا الطرح، لا تجاهل التراث أو القطيعة الكاملة معه، وإنما قراءته لتجاوزه، ومن ثم استكماله في سلسلة مترابطة ذات طابع تطوّري، وإذا كان المفكر الشهيد محمد باقر الصدر (1400هـ) قد نعى علم التفسير عندما اعتبره قد توقّف عند القرنين الخامس والسادس الهجريين([1])، وهو في نعيه هذا قد لا يكون مصيباً بالدقة عندما نعرف مدى التطوّر المذهل الذي شهده علم التفسير في القرن الأخير، فإنه يمكن تطبيق النعي عينه على علوم القرآن الأخرى عدا التفسير، ومن ثم فليس من تفسير واضح للجمود ـ حتى اليوم ـ على ما أتى به الزركشي والسيوطي سوى حالة الاتباع لا الابداع التي مني بها غير ميدان معرفي، مع التقدير الكامل للجهود التي بذلت في القرن الرابع عشر الهجري على صعيد علوم القرآن أيضاً.

وفي سياق إنتاج قراءة جديدة، ظهرت محاولات الباحث المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد (متولد: 1943م) سيما في كتابه “مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن”، لتقديم قراءة يراها صاحبها ـ على الأقل ـ جديدة لعلوم القرآن، مهما كان موقف معارضيها، وإذا لم تكن محاولة أبو زيد موفّقة في الإتيان بجديد، فإن جديدها أن صاحبها انطلق فيها من هاجس الابداع، وهي خطوة محمودة اليوم رغم الأخطاء العلمية المفترضة التي تكتنف النتاج نفسه، إنها خطوة يقيّمها حسن حنفي بأنها ((فتح جديد في الدراسات الإسلامية، القرآنية والأدبية واللغوية، (يتجاوز) تكرار القدماء الذي لا يضيف جديداً، أو تقليد المحدثين لعلم اللسانيات الحديث، وما أكثره لدى إخوتنا المغاربة ترجمةً وتأليفاً))([2]).

بدورنا، سوف نحاول في هذه الوريقات دراسة نظرية أبو زيد بصورة مجملة للقرآن وعلومه، مسجلين تعليقات خاطفة وموجزة.

بين الخطاب الديني والمنهج العلمي

يحاول الدكتور نصر حامد أبو زيد في مقدّمة مشروعه لفهم علوم القرآن فهماً جديداً، تقديم تجربته بوصفها مماهاةً للمنهج العلمي غير المؤدلج، وهو بذلك يضع ثنائية تمايز الخطاب الديني عن المنهج العلمي، هذه الإمازة يجدها أبو زيد في الايديولوجية التي تحكم الخطاب الديني ويتفلّت منها المنهج العلمي.

ان محاولة أبو زيد محاولة لقراءة النص قراءة علمية محايدة، دون ممارسة ((توجيه أيديولوجي))([3])، وهو من هنا وتأثراً بمدرسة أستاذه أمين الخولي (1966م)، يرى في الدراسة الادبية للنص كفيلاً يحقق وعياً علمياً، يتجاوز مجرد جمع التراث أو تسهيله أو إحيائه([4])، ومن هذا المنطلق يُدخل أبو زيد مجال التاريخية وجدل النص والواقع أساسين لتشكيل وعي علمي، فيبني قراءة النص طبقاً لآليات العقل التاريخي لا العقل الغيبي الأسطوري([5]).

وانسياقاً مع ثنائي العلماني الديني، يحاول أبو زيد أن ((يستلهم في مواقفه طه حسين وربما يتقمّص دوره، ولهذا فهو يعتبر أن المعركة الفكرية الدائرة الآن بين الإسلاميين وخصومهم من العلمانيين، هي استمرار للمعركة التي أثارها طه حسين في الثلاثينات من (هذا) القرن (العشرين) حول كتابه: في الشعر الجاهلي)) ([6]).

وبهذا، يضع أبو زيد نفسه داخل التقسيم الاجتماعي والسياسي المعاصر، ومن ثم يصبح عرضةً لايديولوجيا العلم نفسه، إنه ((لا يقف على الحياد مما يجري، ذلك أنه لا يفصل بين مهامه الأكاديمية وبين همومه السياسية والاجتماعية))([7]).

أما على خط الدراسة الأدبية، فإن موقف أبو زيد هذا يشبه إلى حد بعيد ـ وحسب رأي علي حرب ـ ((موقف أدونيس الذي يتعامل مع النص القرآني بوصفه أيضاً نصاً لغوياً، يُقرأ كما يُقرأ النص الادبي، أي ((خارج كل بعد ديني)) على ما جاء في كتابه ((النص القرآني وآفاق الكتابة)) كذلك يقترب أبو زيد [ودائماً حسب علي حرب] في طريقة تعامله مع القرآن، من أركون الذي يعتبر أن الخطاب القرآني، شأنه شأن أي خطاب ديني، هو نتاج معرفي يخضع للشروط النقدية التي تخضع لها النتاجات المعرفية الأخرى، أي خطابات البشر…))([8]).

وثمة انتقاد لخطوة أبو زيد هذه، ذلك أن كلمة ((القرآن نص لغوي)) كلمة عمومية ملتبسة بالنسبة للبعض، ولهذا يفضل حرب تعبير نص نبوي، نائياً به عن الدين في الوقت ذاته باستحضار تعبير أدونيس عن نفسه ((نبي وثني))([9])، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا معنى لحصر أبو زيد منهج فهم القرآن بالمنهج اللغوي، فالقرآن يدرس طبق غير واحد من المناهج، تماماً كما فعل أركون، باستخدامه ـ الى جانب المنهج اللغوي ـ المناهج السيميائية، والأركيولوجية، والسسيولوجية ومنهج النقد التاريخي([10]).

وبالمنهج اللغوي، ومحاولة اكتشاف المدلول عبره، وضع أبو زيد نفسه أيضاً في مأزق كما يراه البعض، فتحوّل الى ألسنيّ كلاسيكي يتبع المنهج الواقعي بدل ألسني حديث يقصر متابعاته على وقائعيات النص([11]).

وما فعله أبو زيد في تمهيد ((مفهوم النص)) بوضعه عنوان ((الخطاب الديني والمنهج العلمي))، عاد وكرّره في تمهيد ((النص والسلطة والحقيقة)) بوضعه عنوان ((التراث بين التوجيه الأيديولوجي والقراءة العلمية))([12]).

وفي هذا البحث، سعى أبو زيد انطلاقاً من ((القراءة العلمية)) لتفكيك الدين عن التراث، تفكيكاً يلغي تطابقهما محاولاً إقصاء بعضَ السنّة النبوية، وتوجيه نقده لخطوة الشافعي (204هـ) في السنّة نفسها، مستهدفاً تزييف إضفاء القداسة على التراث([13]).

ويخصّص أبو زيد تمهيده هذا لنقد صارم للنهضة الإسلامية الحديثة من الطهطاوي الى ما بعد الهزيمة / النكسة، فيبدي تارةً تناقضات محمد عبده (1905م) في أخذه بمبدأ الاختيار الانساني والعدل المعتزلي من جهة وانتقائه التوحيد الأشعري من جهة أخرى، متذبذباً بعض الشيء في مسألة خلق القرآن([14])، وأخرى تناقضات طه حسين (1973م) بين إنكار مرجعية القرآن في قصص الأنبياء واعتباره مرجعاً للحياة الجاهلية، رغم التقدّم الذي أحرزه طه حسين على صعيد تحويله الغرب الى أداة منهجية لتحليل التراث([15])، وثالثة مع زكي نجيب محمود (1993م) في تراجعاته و…([16])، وقد خلص أبو زيد في نقده لخطاب النهضة الى القول: ((إن خطاب النهضة وفكر النهضة صار تراثاً يخضع للفهم والتفسير والتحليل، لا لإعادة إنتاجه وتسويقه على طريقة الانفتاح الاقتصادي…)) ([17]).

ان مشكلة خطاب النهضة عند أبو زيد تتراوح بين التلفيقية ومرجعية النافع وبين المنهج الدفاعي الذي فرضه عليها التياران السلفي والاستشراقي معاً([18])، وهذه التلفيقية تجعل الحقيقة هي النافع في نوع من البراغماتية الفكرية، فيما النافع هو الحقيقة([19])، وبهذا امتاز العلم عن الايديولوجيا، وسقط خطاب النهضة في موحلة التوجيه الايديولوجي، وفي تناقضات الصالح والنافع حتى في أرقى أشكاله مع زكي نجيب محمود وحسن حنفي، وفي آخرها مع محمّد شحرور([20]).

وفي سياق تعليقنا على مزدوج (العلمي ـ الديني) ـ المنهج الغوي، نسجل وقفات:

الأولى: إن الثنائية (النقيضين) التي يضعها أبو زيد، أي الديني / العلمي واصفاً الأوّل بأنّه يخضع للتوجيه الايديولوجي، يمكن التوقف عندها قليلاً، ذلك أن هذا الثنائي المستورد في حدّ ذاته، لا يبدو علمياً دائماً، ثمّة إسقاطات ايديولوجية من جانب التيار الديني على النص، لا بل ثمة تلاعب به وتطويع له، إنها مشكلة قديمة جديدة، يبدو من الصعب أن نبرّء أحداً منها إلا من عصم الله، لكن إشكالية هذا الثنائي تكمن في:

1 ـ أنه يفترض المنهج العلمي، غير مؤدلج، وهذا أمرٌ ثبت ـ ربما ـ للجميع زيفه، إنه وهم تقليدي في دائرة الحداثة، فقد أقرّ أبو زيد نفسه بأن الوصول الى الدراسة الموضوعية للنص وهمٌ ليس إلا([21])، إن خلفيات القارئ حاضرة دائماً سواءً كان دينياً أو حداثياً أو علمانياً (بالمعنى العلمي للكلمة)، ومن ثم فلا تصحّ هذه المقابلة عندما يكون اساسها ما يسميه أبو زيد نفسه ((التوجيه الايديولوجي)) كما تقدّم.

2 ـ يجب تحليل هذه المقولة الشائعة التي تصفُ كل ما هو ديني بأنه ايديولوجي بما تحمله الكلمة الأخيرة من معنى سلبي لها اليوم تضم إلى صف واحد القرون الوسطى والتيارات الماركسية و…، إن الدينيين عندما يطوّعون النص يدّعون بأن هذا التطويع ناشيء عن معطيات دينية قبلية مؤكّدة، والتي هي بدورها ناشئة عن معطيات سبقتها حتى تصل المعطيات الى قضايا العقل المفارق للنص عند أحسن اتجاهاتهم، وهم بذلك يدخلون معطيات علمية متراكمة، غاية الأمر أن بعضها ينتمي إلى المضمون الديني.

وما دامت معطياتهم قائمة على معطيات تصل في نهايتها الى العقل، فإن هذا يخوّلهم إدخالها بوصفها عنصراً في التحكيم.

وبناءً عليه، فالمشكلة ليست في تطويع النص من جانب التيار الديني طبقاً لخلفيات، فإن هذا ما فعلته أيضاً تيارات علمانية، وتورّطت فيه أيضاً النهضة الحديثة منذ الطهطاوي (1873م) وحتى عصرنا الراهن، وتفسير الطنطاوي (1940م) والاسكندراني (1306هـ) شاهدان بارزان على ذلك، إنما المشكلة في ((النص)) واعتباره مرجعاً معرفياً، ومن ثم في تحديد علاقته مع العقل، ومن له الأولوية، ومن ليس له ذلك… إنها مشكلة التناقض القديم بين الحقيقة والطريقة والشريعة التي سعى ابن رشد (595هـ) ومن بعده صدر المتألهين الشيرازي (1050هـ) لحلّها.

عندما يولى العقل سلطاناً مطلقاً فهذا يوحي لاتجاه العقلانية بأن تحريك المعرفة والعلم طبقاً للنص هو عملية أدلجة مزيفة، لأننا سلفاً لم نقرّ بالنص مرجعاً معرفياً، أما لو افترضناه مرجعاً معرفياً وانطلقنا معه من البداية التي هي خلفياتنا التي لم يخلص منها أحد، فإن نتائجنا ستكون علمية تماماً وفق الاسس والمناهج الايبستمية التي انتقيناها.

وإذا كان التيار الديني، قد تلاعب بالنص لحفظ الواقع القائم وتبريره، كونه يبقي على التشكيلة الاجتماعية والسياسية التي تحافظ طبقياً على منافع الأولياء على الدين وأدعياء الوصاية، فإن التيار العلماني الفاقد لسلطة نافذة في الحياة العربية والاسلامية سيما بعد فشل المثقف الذي أعلنه تيار النهضة ومن بعده، هو الآخر سعى لتطويع النص ـ ولو من الخارج أحياناً ـ أو سعى لنسفه تحقيقاً لمصالح أخرى، إذا أردنا أن نكون أوفياء لتحليلنا السسيولوجي و…

ومن ثم، فإطلاق عنوان الأدلجة على التيار الديني وتـنـزيه غيره عن ذلك مغالطة، يجدر لتفاديها استبدال عنوان الاشكالية الموجودة فعلاً، ونحت مصطلحات بديلة تفي بحقيقة المشكلة التي نقرّ بها، وتعبّر عنها أحسن تعبير، أو الأخذ بعنصر مرجعية النص وعدم مرجعيته فاصلاً بين ما هو علمي وما ليس بعلمي.

الثانية: إن محاولة أبو زيد في أكثر كتبه إسقاط الأصولية كلمةً لها مداليلها اليوم سيما في مصر والعالم العربي، على التيار الديني تبدو مجحفة الى حدّ ما، إن هذه المحاولة تسعى لاشتمال طيف وسيع من التيارات الدينية التي قد تتناقض فيما بينها تحت عنوان واحد قد لا يجمعها، ومن ثم ففي التيارات الدينية المعاصرة أجنحةً ـ سواء في الوسط الشيعي أو السني ـ بريئة من كثير من التهم التي يوجهها أبو زيد لما يسميه التيارَ الأصولي.

ولا تعنينا تبرئة أجنحة سياسية، فهذا ما لا شأن لنا به، إنما تبرئة اتجاهات فكرية داخل التيار الديني الاسلامي المعاصر لعل أبو زيد استخدم معها منطق المماثلة معمّماً تجارب خاصّة دون أن ندخل في أسماء ومسمّيات، رغم إقرارنا بأن بينها جميعاً مشتركات لا تتعالى عن النقد.

وهذا معناه، أن أبو زيد مطالب بشيء من التمييز الذي يقتضيه الإنصاف، وعدم سوق أطراف فيما بينها تناقض، مساقاً واحداً تحت شعار حمل في بطنه مدلولاً تشاؤمياً اليوم.

الثالثة: نشير في مناقشة أبو زيد في قراءته للغزالي كما سيأتي، أنه كان يريد نقد واقعه من خلاله، إلا أن ملاحظتنا العامّة على أبو زيد ـ ككاتب لا كشخص كانت له حقوقه التي يستحق المواساة عليها ـ أنه خلط البحث العلمي الاكاديمي بهموم الواقع أزيد من الحدّ اللازم، بل لقد أفرط أحياناً، وعندما وجّه إليه محاوره الايراني مرتضى كريمي نيا سؤالاً عن سبب إدخاله بعض الأحداث المصرية في هامش مفهوم النص، تفلّت أبو زيد بأن الهامش كان في مقدّمة الكتاب لا في المضمون عينه([22])، ويبدو أن محاوره قد قنع بهذا الجواب، ظاناً ان المشكلة تكمن في الدخول في جزئيات يومية، فيما تستكنّ في الحقيقة في لغة ذات طابع تعميمي، بيد أنها تحكي عن مشاكل يومية، وهذه هي اشكالية خطاب أبو زيد ليس لوحده، بل إن الحركة العلمانية (بالمعنى الواسع للكلمة) باتت تلهج بهذه اللغة، الأمر الذي أقدّر أن الخصم هو الذي فرض عليها ذلك، وجرّ رموزها الى السقوط في لغةٍ غير متعالية.

لا نريد فصل المثقف عن هموم العصر أو تلبيس الأمر، وإنما سعيٌ عنوانُه محاولةٌ قدر الإمكان لتحقيق دراسات علمية أكاديمية تتعالي ـ كما يفهم أبو زيد عنوان المنهج العلمي ـ عن الخلفيات وعمليات الخلط المتعمّد جهد المُكنة.

الرابعة: ثمة دعوة نوجّهها ـ يقصدها أبو زيد بالتأكيد ـ وهي أننا اليوم ـ حتى لو اقتنعنا بألوهية النص القرآني ـ محتاجون لقراءة هذا النص دنيوياً، أي يجب القيام بقراءة لا تأخذ ألوهية المصدر بعين الاعتبار.

والسبب الذي يحدو إلى ذلك، هو أن القراءة المنطلقة من أسس عقلية دينية، تساهم أسسها وخلفياتها في حل إشكاليات وتناقضات بادية في النص ملقيةً على القلوب سكينة واستقراراً، وإذا كانت هذه السكينة مقَرّاً بها، بيد أنها لا تجيب عقلانياً عن الإشكاليات الموجودة من زاوية ((خارج الدين))([23])، ومن ثم تغدو أعجز عن أن تقدّم منظومة منطقية تسهم في إقناع من لا يأخذ بالمبادئ الدينية، وهذا معناه أن الحاجة متعدّدة:

أ ـ دينية داخليّة أيديولوجيّة([24])، تنبع من ضرورة عرض الدين بلغة ذات طابع عولمي، أي قادرة على خطاب حتى ذاك الذي لا يعي الأصول الدينية الداخلية، وهي حاجّة ماسّة اليوم لم يعد ممكناً التغاضي عنها.

ب ـ علمية معرفية، إذ إن القراءة المحايدة للنص، تسمح بملاحظة مساحات مغيّبة في القراءة الدينية بفعل سلطان الاصول المقرّرة داخلياً، وهذه المساحات المغيّبة أو البقع الغائمة إذا ما تراكمت فسوف تؤدّي الى نوع من ارتباك وفوضى معرفية.

إذن ثمة حاجة لدراسةٍ لا دينية (بهذا المعنى) للنص القرآني بغية كشف مساحاته كافّة لايجاد مكوّن متكامل الصورة عنه.

في نفس الوقت، ثمّة حاجة ـ لا رخصة ـ لقراءةٍ دينيةٍ داخليةٍ للنص، لان مساحات أخرى منه لا تبدو إلا إذا ملأ الإيمان قلب قارئه، وهذا أمرٌ ملموس في قراءة النصوص الأدبية التي تحتاج لتفسيرها الى تفاعل غير عادي، يلعب في مثل النص القرآني الايمانُ دوراً بالغاً فيه.

وهذا ما يقودنا إلى ثنائي قراءةِ للنص الديني، ربما يكون أقدر من غيره على إزالة الأستار الحاجبة للنص ودلالاته، والخطوة التي قام بها أبو زيد وإن لم يكن من الممكن حسابها على القراءة الخارجية بيد أنها تحمل طابع هذه القراءة ونواتها.

الخامسة: أحاول في هذه الملاحظة تأييد أبو زيد في رأيه حول ضرورة قراءة خطاب النهضة لا تمثّله وإعادة اختباره، واستدراج هذه المقولة إلى المدار الشيعي الذي لم يلاحظه غالباً لا أبو زيد ولا غيره في دراسة الفكر الإسلامي، اللهم إلا للنقد أو التقريع مع الأسف، وهذه إشكالية أخرى لا نتحدث فعلاً عنها.

إن خطاب النهضة الشيعي منذ محسن الأمين (1952م) ومحمد حسين النائيني (1355هـ) والخالصي (1343هـ) والمظفّر (1383هـ) والشهرستاني (1386هـ) وحتى الصدر (1400هـ) ومطهري (1979م) وشريعتي (1977م) ومغنية (1979م) والطباطبائي (1983م) و… لم يعد قادراً بحالته التي هو عليها على حلّ الإشكاليات المعاصرة كافّة، ومن ثم لا معنى لترويج ثقافة بعثه بعثاً جسمانياً وروحانياً معاً، ثّمة في كل فكر عناصر متحركة تزول بمرور الأيام وأخرى ثابتة، ومن الخطأ التشبّث بالعناصر المتحرّكة في ظروف تباينت فيها تلك العناصر، ومن ثم كان من اللازم تشكيل وعي جديد مخالف لذاك الوعي الذي تشكّل في القرن العشرين، يستمدّ منه ولا يكون صدى له، وهذا معناه ضرورة أن يكون هناك قراءات ناقدة علمية لنتاج خطاب النهضة الشيعي، لا قراءات تبجيلية تستهدف على الدوام استخدام منطق تعتيمي.

ولا يعني ذلك تغييب هذا الخطاب، كما يحاول تيار أن يفعل ذلك، فهذا بترٌ لعملية التطور الداخلي التي يجب عدم بترها، ومن ثم قراءة هذا الخطاب واكتشاف سلبياته وإيجابياته هو القادر أكثر من غيره على تحقيق التواصل الطبيعي الذي يستطيع الحدّ من خلق فجوات فكرية واجتماعية أيضاً.

والسؤال الذي طرحه أبو زيد وغيره على خطاب النهضة العربي هو عينه يمكن توجيهه الى خطاب النهضة الشيعي، لماذا فشل هذا الخطاب ووقف دونما حراك([25])؟ ولماذا تستعيد اتجاهات ما قبل خطاب النهضة حياتها وبقوّة لتتسلم مقاليد الأمور؟ لماذا العودة لعزلة الإسلام بعد عقود مضنية ملأها الإمام الخميني (1989م) بإخراج هذا الإسلام من القمقم؟! ولماذا النكوص إلى أخبارية مفرطة بعد قرن من العقلانية؟ …

أسئلة يجب دراستها بروح علمية رصينة وبعقل مستوعب للتطوّرات، لنتأكد من أن الإشكاليات التي عصفت بخطاب النهضة العربي أو السنّي عصفت أيضاً بخطاب النهضة الشيعي مع فوارق بالطبيعة، دون أن نماثل بين ظواهر تبدو المماثلة فيها مستعصية.

أنطولوجيا النص ومدلولاته

يسعى الدكتور أبو زيد في دراساته عموماً و ((مفهوم النص)) خصوصاً لتأكيد أساس جديد في قراءة النص وآلياتها، وأوّل أركان القراءة الجديدة للنص القرآني ـ أو ما يسمّيه أركون الخطاب القرآني([26]) ـ هو تحليل النص نفسه، في خطوة تبعدنا فيه عن مقصود المؤلّف وغرضه من وراء الكلام، إنها عملية تحليل لوقائعية النص وكينونته المستقلّة، ليدرس تمايزه، بل وتمييزه لذاته عن بقية النصوص المتشكّلة في الثقافة، وهذه الخطوة التي تبدو في الفصل الأوّل من مفهوم النص (مفهوم الوحي)، ولدى تحليل أبو زيد ((الحروف المقطّعة في أوائل السور)) في الفصل الثالث من الباب الثاني، بشكل أكبر من بقية الأبواب والفصول، تضع أبو زيد في سياق الألسنيات الحديثة التي أعلنت موت المؤلّف، وأعرضت دون رجعة مستنكفةً عن مقصوده، ومن ثم عن وضع آليات تمنهج الوصول الى هذا المقصود النهائي الذي أطلق عليه علم أصول الفقه الإسلامي مصطلح ((المراد الجدّي)).

إن عملية تحليل النص ذاته، بعيداً عن المؤلّف وحتى المفسّر، هي التي تمنح النص كينونته وتجنّب هدرها كما يقول علي حرب([27])، وأية محاولة للعودة للوراء (وفق الزمن الهرمنيوطيقي) تصب ـ من وجهة النظر هذه ـ في عملية إهدار لكينونة النص سواء استخدمنا المنهج القديم وآلياته في قراءة النص أو أخذنا بمنهج أبو زيد نفسه الذي يحاول ربط النص دائماً بالواقع، ولهذا تذهب وجهة النظر هذه الى نفي النقد الايديولوجي الانطولوجي للنص، لانه يستهدف تحديد المقول، فيما المطلوب نقد علمي يكشف المستور والمجهول في النص، وهو باب أوّل من فتحه أركون وغيره أيضاً([28]).

ولسنا نمارس إلا توصيفاً، ولا نوافق علي حرب في حملته الناقدة لأبو زيد بوصفه محاولته بأنها خطاب يناهض الأصولية ولكنه يقف على أرضها([29])، معتبراً إيّاه تقدمياً علمانياً في ملفوظاته لكنه أصولي من حيث بنية تفكيره([30])، مفضلاً تسمية أخرى لمفهوم النص هي ((نقد النص)) كما فعل هو في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، وقد انطلق حرب في ذلك من اعتباره ((مفهوم النص)) تحليلاً نقدياً للقرآن وعلومه([31])، مصنفاً اياه في عداد سلسلة نقد الفكر الديني عموماً والنبوي خصوصاً([32])، وهو إن عابه على ذلك فقد أقرّ له بأنه حقّق ما تحفظ منه في ((مفهوم النص)) في كتابه اللاحق ((الخطاب الديني رؤية نقدية))([33]).

من الواضح أن أبو زيد يقوم في ((مفهوم النص)) بمحاولة تغيير داخلي كما يصرح هو نفسه أيضاً([34])، أو فلنقل إنقلاب أبيض، وهذا المنهج عموماً لم يعد يرضى به فريق من التيار الموسوم اليوم بالعلماني، انهم يريدون تجنّب النص نفسه والنأي بالذات عنه، تحقيقاً لمرجعية بديلة كائنة ما كانت، وهو ما لم يقم به أبو زيد في تحليله لعلوم القرآن، حيث حضرته مجمل النصوص التراثية من الغزالي والباقلاني والزركشي والسيوطي والقاضي عبدالجبار وابن خلدون والجرجاني وابن عربي و… ولم يشذّ عن محاولته الداخلية هذه سوى بعض الأبحاث القليلة مثل مفهوم الوحي ودراسته له.

وإذا كانت مكرمة علي حرب ـ وأدونيس ـ انه صريح في أفكاره شفّاف فيما يقول، فإن الكثيرين من الذين يوافقونه الرأي، ويعملون وفقاً لذلك، يحاولون تحقيق الغاية نفسها عن طريق إفراغ داخلي، وهي مفارقة تستحق التأمّل.

وعلى أية حال، عندما يدخل أبو زيد منطقة الحروف المقطعة مستعرضاً النظريات المقولة فيها من التفسير العددي الذي يربطها بتاريخ الاسلام، مروراً بالتفسير الرمزي الذي يجعل منها إشارات للأسماء والصفات الإلهية.. وصولاً إلى تصنيفها أسماء للسور الواردة فيها و.. فإن ما يعنيه في تحليل هذه الحروف وما يفهمه من جماع التفسيرات الكثيرة لها (13 تفسيراً) ليس سوى إصرار النص في بقعة الغموض هذه على إمازة نفسه، ومن ثم قدرته على التفاعل مع الثقافة زمكانياً، وهذا ما يدخل أبو زيد في عملية تحليل ـ كما أشرنا ـ تتجاوز مدلول الحروف المقطّعة والمقصود الإلهي منها وفق نظم الدلالات، لتصب في عملية درس النص عينه ومكانته بين النصوص.

وتبدو عملية التفكيك المضنية التي يمارسها أبو زيد لمفهوم الوحي، اكثر تدليلاً على ما نقول، فعندما يحاول أبو زيد تفسير وجود الوحي في الثقافة ليربط بين هذا الموضوع واعتبار القرآن ((منتجاً ثقافياً)) في النهاية، لا يعنيه عدا تحليل مفهوم النص نفسه، إن النظرية التي تقول بأنّ النص يتولد من الواقع ثم يقوم في حركة راجعة بإعادة صوغ الواقع ليركّبه تركيباً جديداً، ليست سوى محاولة لتحليل النص ذاته.

ويحلّل أبو زيد في ((النص والسلطة والحقيقة)) إعادة إنتاج النص للواقع في حركته الراجعة، ((بعملية إعادة بناء دلالة العلاقات اللغوية في نظام اللغة الأساسي، حيث يتم تحويل تلك العلاقات في نسق العلامات اللغوية الى نسق العلامات السميولوجية (أو السيميوطيقية)، وبعبارة أخرى تقوم اللغة الدينية من خلال عملية التحويل تلك ـ ويطلق عليها مصطلح السمطقة Semiosisـ بالاستيلاء على اللغة الاساسية والاستحواذ عليها، والاستيلاء على اللغة يعني الاستيلاء على ((العالم)) الذي تنظّمه اللغة من خلال نظامها العلاماتي، وهذا يفضي بدوره إلى الاستيلاء على ((الإنسان)) عن طريق امتلاك وعيه بآليات التحويل…))([35]).

وبهذا نفهم الخطوة المتقدّمة التي خطاها أبو زيد في دراسة النص القرآني من زاوية حديثة هذه المرّة متابعاً في ذلك أنماط الفهم الهرمنيوطيقي الحديث.

واذا كانت علوم القرآن، وعلم الكلام الإسلامي والفلسفة أيضاً، قد درست النص بهذه الطريقة في ثنائيات عديدة وضمن اجابات متنوّعة امتدت من تحليل حقيقة الوحي وأنواعه (نظرية الخيال عند الفارابي) حتى الاعجاز وأشكاله، وبذلك نكون قد سجلنا ملاحظة ناقدة على القطيعة التي ربما يحاول البعض إحداثها، بافتراض أن دراسة النص بوقائعيته أمرٌ غير مسبوق في الألسنية الحديثة، فيما يتم تجاهل كلّ الجهود التي بذلت سابقاً من جانب فرقاء في الفكر والعلوم الإسلامية… فإن ما يميز أبو زيد اعتماده ـ كما يوحي ـ الخروج عن ما يسميه أركون السياج الدوغمائي المغلق، وعن الايديولوجيات المسقطة، إذ إن منهج أبو زيد قائم ـ متأثراً بأفكار توشيهيكو ايزوتسو كما أقرّ هو نفسه([36]) ـ على فصل النص عن أرباب الانواع (حسب التعبير الإشراقي) التي تدعي أن للنص وجوداً قديماً أعلائياً منشأةً علاقة وطيدة بينه وبين الصفات والذات الأزلية كما هو الحال في الفكر الأشعري، إن نفي الاعتقاد بقدم القرآن والأخذ بحدوثه كان هو المفتاح الاكبر الذي حقّق لابو زيد تمايزه عن المحاولات السابقة في مجال الكلام وعلوم القرآن إذا أردنا أن نأخذ محاولته ضمن مناخها بوصفه مناخاً أشعرياً([37]).

ولكننا ـ وبعيداً عن الجدل الكلامي الأشعري المعتـزلي في خلق القرآن، وما جرّه من محنة على الاسلام والمسلمين ـ نحاول إثارة تساؤل عن مدى حاجة أبو زيد لاستكمال مشروعه الى تنحية مقولة قدم القرآن بالكامل.

والسؤال هو: ألم يكن بإمكان أبو زيد ربط النص بالواقع دون المساس بقدم القرآن؟ وهل صحيح أن نظرية قدم القرآن غير قادرة في عملية تطوير داخلي على وضع النص موضع المواكبة للواقع؟ وهل هي التي تتحمل فعلاً كل تخلّفات قراءة النص الديني في الإسلام؟ أم أن تخلّفات قراءة النص كانت موجودة لدى فرق (غير المعتزلة) لا تنثني تناهض نظرية قدم القرآن؟ ومن ثم فالمطلوب ملاحقة المشكلة في مكان آخر.

لعلّ الجواب يكمن في التفرقة ما بين القرآن (وفقاً لنظرية قدمه) بوصفه كياناً انطولوجياً أزلياً، وما بينه بوصفه مظاهر تتراءى لنا، إن جعل وجود القرآن أزلياً لا يعني عزله عن الواقع الذي نـزل فيه، لان معنى قدم القرآن ان الكلام الالهي صفة ذاتية فهي قديمة، واذا كان النص أزلياً فهذا معناه تعاليه عن الوقائع التي حدثت زمن الرسول 2، إلا أن هذا الجانب هو الجانب الذي يربط علاقة الله بالنص، في حين أننا نريد تحديد الجانب الذي يربطنا نحن بالنص، وهو جانب يتحرّك مع أحداثنا ووقائعنا ولو كان مكتوباً قبل ذلك لكنه ناظرٌ إلينا.

ولتقريب الفكرة نأخذ مثال علم الله بالجزئيات بعيداً عن جدل الفلسفة والكلام في هذا المثال، فإن العلم صفة ذات، لكن هذا لا يعني ان هناك قطيعة كاملة بينه وبين الواقع الخارجي المتحوّل، لان هذا الواقع هو متعلّق العلم، فإذا فصلناه عن الواقع فهذا تحويل له إلى جهل، وهكذا مثال الاختيار الانساني وفق مقولة بعض العلماء، إن الله اراد وشاء أن يقوم الانسان بالصلاة عن اختيار، فإذا صدر الفعل لا عن اختيار فهذا معناه تخلّف الواقع عن إرادة الله، وهذا ما يجعل الإرادتين الالهية والانسانية في علاقة طولية وفي نفس الوقت جدل مستديم.

إن النص القرآني القديم ناظر إلى واقع آتٍ، تماماً كنظر الارادة لوقوع الفعل عن اختيار، فكما لا يوجب ذلك سلب الاختيار عن الانسان، كذلك لا يؤدي الى سلب القرآن عن الواقع، إن علاقة النص بالله علاقة تتعالى عن الزمان والمكان لهذا فهو قديم، لكن العلاقة حينما ترتبط بالواقع تعاد إليها سمة الحركية، كعلاقة الفعل الالهي بالقدرة.

لا نبغي الدفاع عن نظرية قدم القرآن، وإنما نستهدف التأكيد على أن مشروع أبو زيد لم يكن بحاجة لنسف هذه النظرية، بل لتطويرها داخلياً، بل كان بإمكانه تخطيها دون جعلها الاساس الذي تقوم على هدمه كل محاولته، لكن أبو زيد اكتفى بتقزيم كل الفرضيات الأخرى غير فرضيته بوصفها ذات طابع أسطوري([38])، دون أن يحاول التفتيش عن منفذ يتجاهل النظرية المذكورة.

إن شاهدنا على امكانية التفكيك هذه هو تعاطي علماء القرآن، فقد نقل أبو زيد نفسه عنهم ـ وعن الفقهاء ـ ما يؤيد مقولته في تاريخية النص وربطه بالواقع، ومن ثم فقد استطاعوا في مثل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والمكي والمدني.. فهم النص بوصفه حركة تفاعلية مع الواقع، دون أن تمسّ محاولتهم هذه ـ لا أقل وفق تصوّرهم ـ أسسهم الكلامية.

تاريخيّة النص / جدل النص والواقع

وبهذا المدخل الذي قطع أبو زيد به حبل الاتصال مع الأعلى دون ان ينكر ألوهية المصدر، وضع نفسه ومجمل دراساته تحت مظلة جدلية النص والواقع لتخيّم على محاولته ظلال المدرسة التاريخية، وهذا الربط الذي قام به أبو زيد بين علوم القرآن والتاريخ كان هامّاً ولامعاً في محاولته، فبعد أن نحّى ـ وفق تصوّراته ـ مقولة أزلية النص جانباً، أضحى المجال مفتوحاً له لكي يعيد انتاج العلاقة مع النص انطلاقاً من الواقع، فبدل البدء في حركة من النص إلى الواقع عكس أبو زيد المسير من الواقع الى النص، واذا ما استثنينا مباحث قليلة في دراسة أبو زيد لعلوم القرآن ـ كما تقدم ـ فإننا نجد الخط العام الذي سار عليه، بل واستهدفه، كامناً في إنشاء هذه العلاقة الجدلية بين النص والواقع.

لقد استعرض أبو زيد هذه العلاقة على صعيدين:

1 ـ على صعيد النص نفسه حينما ربطه بالواقع ليغدو منتجاً ثقافياً، ومن ثم ربط الواقع به ليكمل حلقة الجدلية التي طرحها حينما ذهب إلى تأثير النص المتمايز كالقرآن في الواقع مشكلاً الثقافة تشكيلاً جديداً.

وقد كانت هذه المحاولة أهم المحاولات، بل وأساساً للصعيد الثاني الآتي الحديث عنه، أي أن أبو زيد سعى في هذه المحاولة هنا لبناء النص من زاوية انطولوجية وجودية كمقدّمة لاستكمال أو فقل للشروع في دراسة علوم القرآن بوصفها منهجاً ايبستمياً دراسةً تتناسق وانطولوجيا النص نفسه، فعندما يكون النص في وقائعيته مفارقاً بمعنى من المعاني للذات الصادرة عنه في عينها وصفاتها وأسمائها، ومن ثم ـ كما يراه أبو زيد ـ كياناً في الزمان والمكان لا متعالياً عنه، فإن هذا يعني بناء الارضية المناسبة لتاريخية النص أنطولوجياً، بوصفها مقدمة لتاريخيته معرفياً، أي لبناء قراءته وآليات هذه القراءة على أساس تاريخي كما فعله أبو زيد فيما بعد سيما في أسباب النـزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ، وهو ما جهّز له المجال لتسجيل نقده القوي على الغزالي في دراسته الاخيرة من ((مفهوم النص)).

2 ـ على صعيد فهم النص وقراءة مدلولاته، أي وضع آليات القراءة في سياق تاريخي، وفي إطار جدل، هذا الجدل يمكن تصنيفه الى صنفين كما نفهمه من أبو زيد نفسه:

الأول: جدل النص مع القارئ، مستبعدين المؤلّف والواقع المحيط بالنص نفسه، وهو جدل ركّزت عليه الدراسات الهرمنيوطيقية والسيموطيقية الأخيرة، بل هو ـ كما يقول أبو زيد نفسه ـ نقطة البداية والقضية الملحّة عند فلاسفة الهرمنيوطيقا([39])، لكنه تركيز يراه أبو زيد مبالغاً فيه على حساب كينونة النص، وقد اهتم به كثيراً في دراستيه الشهيرتين حول التفسير والتأويل عند المعتـزلة وعند المتصوّفة في أرقى أشكالهم مع محيى الدين بن عربي([40]).

إن النص كيان صامت، كما يحلو للدراسين الايرانيين المعاصرين توظيف هذا المصطلح كثيراً، والشريعة من ثم صامتة لا تنطق، وهذا يعني أن فهم النص عملية لا تبدأ من النص نفسه، وإنما من دارسه ومن يقرؤه، تماماً كالطبيعة لا تحكي عن نفسها ولا تنطق عن ذاتها، وإنما دارسها هو الذي ينطق.

ان الفرضيات القبلية والبنى المعرفية التحتية التي تختـزن في ذهن القارئ، كما أن الوضع الاجتماعي والسياسي له هو الآخر يكوّن مع بقية العناصر النظّارات التي يضعها لكي يطالع النص، مما يعني أن النص سيغدو تابعاً للّون الذي اكتسبته من قبل النظّارة عينها.

((إن اختلاف مناهج المفسرين في العصر الحديث فيما يتصل بتفسير القرآن ما تزال تدور حول هذين المحورين))، محور تجاهل المفسّر لتأكيد النص، ومحور التأكيد على علاقة المفسّر بالنص، الذي بلغ مع الرومانسية مبلغاً جعل مهمة القارئ فهم المؤلّف بوصفه مقدّمة لفهم النص نفسه كما يقول ابو زيد([41]).

وانطلاقاً من هذه الفكرة، تغدو نظرتنا للتراث كلّه محكومة لنظرتنا لحاضرنا، ويتبدّد الوهم التقليدي الذي يريد الفصل بين الموقف الحالي للباحث ورؤيته للتراث، ومن ثم يبدو أمراً متناقضاً الحديث بعد ذلك ـ كما يراه أبو زيد ـ عن شيء اسمه ((الدراسة الموضوعية)) للماضي، وهذا يعني انه لا توجد ثمة قراءة بريئة كما يقول لوي آلتوسير([42]).

ورغم أن أبو زيد يقرّ بهذه الحقيقة التي ما تـزال تتحفظ عليها الكثير من التيارات الدينية، بدعوى إفضائها الى النسبية وفساد الحقيقة، الا أن دراسته لعلوم القرآن التي اختـزنها ((مفهوم النص)) لم تعتني كثيراً بهذا النوع من الجدل، جدل النص / القارئ، بل ركّز أبو زيد نظره هذه المرّة على النوع الآخر من الجدل وهو:

الثاني: جدل النص / الواقع، وهو جدل يكوّن الى جانب صاحبه الثلاثي الخطير النص / الواقع / المؤلف.

أكّد أبو زيد مراراً أن النص بمفارقته عالم الأزل والقدم، لم يصبح عدمياً، وإنما أنشأ علاقة بديلة مع الواقع، وقد حاول أبو زيد استدراج بعض علوم القرآن لكي تؤيده في مدّعاه.

وفي الحقيقة، فالطابع العام الذي يطبع دراسة أبو زيد لعلوم القرآن، طابع واضح التحفّظ، ويبدو هذا التحفظ جلياً في محاولة أبو زيد جعل خطوته تبدو وكأنها استكمال لجهود السابقين، الأمر الذي يحتاجه شديداً لكسب الخطوةِ الشرعيةَ العامةَ في المجتمع، ومن ثم تهدئة الآخرين عبر إشعارهم بأن التراث يتحدث نفسه عن هذه الأمور، ولهذا وجدنا في ((مفهوم النص)) النقل المبالغ فيه أحياناً ـ كما يصفه حسن حنفي([43]) ـ لنصوص القدماء والتركيز على اختلافهم، بوصف ذلك محاولة لاكتشاف الامتداد التاريخي لمقولته، بل لقد اعترف أبو زيد نفسه لاحقاً بتحفظه هذا الذي ألقاه جانباً فيما بعد في بقية كتبه ودراساته، وكان يريد منه التأكيد على أن ما أتى به لم يكن أمراً من عنديّاته، بل مستمداً أيضاً من الموروث نفسه([44]).

علوم القرآن وتاريخيّة النص

وعلى أية حال، وجد أبو زيد في بعض العلوم القرآنية مبتغاه، وكان أهمها:

1 ـ المكّي والمدني:يرى أبو زيد ((ان التفرقة بين المكي والمدني في النص تفرقة بين مرحلتين هامتين ساهمتا في تشكيل النص سواء على مستوى المضمون أم على مستوى التركيب والبناء، وليس لذلك من دلالة سوى أن النص ثمرة للتفاعل مع الواقع الحيّ التاريخي)) ([45]).

بهذه الكلمات يفتتح أبو زيد دراسته للمكي والمدني، مؤكّداً تاريخية النص وجدلـه مع الواقع، وقد وجد في الفقهاء عينةً جيدة لتأكيد نـزعته، حيث رآهم مهتمّين بالمكي والمدني ـ كما وبأسباب النـزول ـ لكي يحلّوا مشاكل دلالية من نوع الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، بيد أنه يتحفظ على الاعتماد على المدخل الفقهي في دراسة هذا الموضوع، ذلك انه يوجب اضطرابات مفهومية خاصة([46]).

وفي إطار تحليله للمائز المفترض بين المكي المدني، يذهب أبو زيد في منهجة وضع معيار لعملية التصنيف الى تكوين مزدوج يربط فيه بين النص ذاته، وبين الواقع، فالنص من حيث بنائه ومضمونه، يقف الى جانب حركته المتصلة بحركة الواقع عنصراً أساسياً لإيجاد تصنيف يحدّد المكي من المدني، دون أن يرى في هذا المعيار أساساً حدّياً يشبه الفرز الرياضي للأمور، وهو من هنا يجد في ((الهجرة)) العنصر الفاصل بين النوعين من حيث مكية ما قبلها ومدنية ما بعدها، بوصفها ـ أي الهجرة ـ عاملاً محوّلاً للواقع.

ولعل أبو زيد لم يأت بجديد على صعيد وضع ميزان للتفرقة بين المكي والمدني، فالخصائص البنائية والمضمونية للنص كانت ملحوظة للعلماء قبل ذلك، ولهذا تحدّثوا عن طول السورة وقصرها، وعن مراعاة الفاصلة، وعن خطاب يا أيها الناس وخطاب يا أيها المؤمنون، وعن تفصيل الشريعة وإجمالها.. كما أن خصائص مراعاة الواقع كانت موجودة في وعي العلماء المشتغلين بالقرآنيات، فقد وجدوا في جدال النصارى واليهود علامةً لمدنية السورة انطلاقاً من احتكاك الدعوة بهم بعد الهجرة، فيما كانت آيات الانذار والتنديد والنكير على عبادة الاصنام.. مظهراً لمكيّة السورة انطلاقاً من احتكاك مماثل مع وثنيي قريش، الى غيرها من العلاقات([47]).

ولعل ما ميّز أبو زيد او جعل فكرته إكثر إضاءةً، محاولته تسليط الضوء على عناصر:

أ ـ خلع لباس التاريخية، وجدل النص والواقع على النص نفسه بما تحمله هذه المفردات من مداليل لها اليوم، محاولاً بذلك توظيف المكي والمدني لصالح مشروعه الشامل الهادف لإعادة انتاج القرآنيات على أساس واقعي تاريخي، ووقائعي بنائي ايضاً.

ب ـ تركيزه على رفض معيار دقيق، بوصف احداث الاجتماع والتاريخ أحداثاً متحركة رملية الطابع، ومن ثم فمحاولات العلماء وضع تصنيف دقيق للآيات والسور تصبح عديمة الفائدة عندما يراد التعامل معها بوصفها أرقاماً ومعادلات.

لكن ربط أبو زيد المكي والمدني وفق ما تقدم، يضعه أمام اجتهاد في القرآنيات يبعده عن مجرّد عمليات الترجيح ما بين الروايات التي مارسها القدماء، وهو اجتهاد يضع معياراً جديداً يرفع الحظر عن تحليل آخر للمكي والمدني، يضعه في خانة جدل القارئ والنص.

ومن هنا ينكر أبو زيد المنهج التلفيقي الذي استخدمه القدماء للجمع بين الروايات بادعاء نـزول آية واحدة مرتين، إحداها في مكة والأخرى في المدينة، إن هذا المنهج كان مجرّد محاولة فرار من تضارب الروايات بخلق مقولة تجمعها جميعاً دون أن يكون هناك من دليل ثالث يفترض ظاهرة الجمع نفسها، ومن ثم فما يقوله أبو زيد نقطة جديرة بفتح نقاش حولها، دون سدّ الباب بالكلية على احتمال تكرّر النـزول كما فعله هو نفسه، ان عملية نقدنا لظواهر الجمع العشوائية والتي يطلق عليها علم اصول الفقه الشيعي عبارة ((الجمع التبرّعي))([48])، تنطلق من تأييد أبو زيد في تحليله السيكولوجي لمواقف العلماء الذين ارتؤوا هذا النوع من الجمع، إن تقديس السند، والوقوف عند الرواة هو الذي فعل ذلك؛ وجعل أي محاولة تحافظ على نص ـ أي نص موروث ـ خطوة مشكورة مهما ضعفت الشواهد عليها، إن افتراض امكانية تكرر النـزول لا يبرر هذا التفسير، الذي لا تشهد له المستندات التاريخية حيث لم يتحدّث الصحابة فيما هو ثابت عنهم والقدماء أنفسهم عن ظاهرة كهذه إلا في حالات معدودة جداً، ومن ثم يكون الجمع في نتيجته محاولة حلّ مشكلة في إطار احتمال لا دليلاً على تكرّر النـزول، الأمر الذي إذا لاحظنا خلفياته سنجده ينسحب على العديد من آليات الاجتهاد نفسها في الفقه والتاريخ.

لا نريد مجرّد تحليل الموقف كما فعله أبو زيد من زاوية نفسية أو… مكتفين بمجرّد استبعاد تكرّر النزول، وإن كان تحليلاً منطقياً، غير أن القنوع بمجرد استبعاد تكرر النزول لا ينسجم مع نظرية أبو زيد، لأنه ما دام النص على علاقة بالواقع، وما دام )لنثبت به فؤادك(قائماً، فإن تكرار آيةٍ نزولاً أمرٌ منطقي وعقلاني، ما دام نزول الآية لا يهدف دائماً لتقديم معطى خبري جديد، بل لممارسة دور اجتماعي ونفسي أيضاً، وفي هذا انسجام تام مع ربط النص بالواقع.

إنما نريد إحداث ثغرة في الموضوع على صعيد الجوانب الدلالية والشواهد التاريخية، انطلاقاً من التفرقة بين مجرد احتمال تكرر النزول لرفع تناقض مستوحى بين روايتين، وكون الروايتين فعلاً تدلان على تكرار النزول، إن الأمر على نفس المنوال في آليات الاجتهاد الفقهي، وإن قدّم الأصوليون تبريراتهم الخاصة التي لا نناقش فيها فعلاً، إن مجيء المخصّص المنفصل يدفع العلماء للأخذ بنتيجة جديدة لا يدل عليها لا العام ولا المخصّص، فإذا قلنا: ((أكرم العلماء))، ثم بعد عشرة أعوام قلنا: ((لا تكرم فساق العلماء))، فإن جملة “أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم” ستكون معطى جديداً لا يفهمه أحد لا من العام ولا الخاص، أي هذه الجملة غير موجودة في أي نص، ومن ثم فتبرير وجودها يحتاج الى دليل كقواعد الجمع العرفي الأصولية، لا فقط الى ثبوت كلا النصّين على حدة العام والخاص، وهذا ما يجعلنا في موضوعنا القرآني بحاجة إلى دليل خارج كلا النصين الدالين على النزول يفسّر فكرة التكرّر التي لم يشر إليها النصان معاً في خطوة غير مفهومة في ديمومتها.

2 ـ أسباب النـزول:يرى أبو زيد أن علم أسباب النـزول ((أهم العلوم الدالة والكاشفة عن علاقة النص بالواقع وجدلـه معه))([49])، والأمر كذلك، إن النص القرآني يتابع عبر منظومة أسباب النـزول حركة الواقع ويستجيب لها، وليست بينه وبينها قطيعة أو خصام، واذا كان تثبيت قلب النبي سبباً لنـزول القرآن نجوماً، فإن جعل استجابة أحوال المكلفين هي الاساس في ذلك هو المعطى المنطقي لظاهرة التنجيم([50])، وعندما يدخل أبو زيد مدار الجدل الكلامي في ان الله عالم بالوقائع جميعها قبل وقوعها، فلماذا يكون التنجيم مراعاة لحركة الوقائع والاسباب؟ فإن مفرّه حينئذٍ هو الفعل الالهي، إنه يريد الخروج من نطاق صفة الذات (العلم) الى نطاق صفة الفعل (الكلام) مما يخلع على النص (القرآن) في المحصّلة النهائية سمة زمكانية تاريخية، إن علماء القرآن انتبهوا باكراً لأهمية التنجيم انطلاقاً من حاجاتهم العلمية، حيث وجدوا فيه معيناً على معرفة الناسخ من المنسوخ و… لكن اعطاء هذه المحاولة الخجولة طابعاً كلياً قواعدياً أمر لم يتحقق مع الاسف كما يقول ابو زيد، ومن ثم كان سببه عنده سيطرة الاتجاهات الرجعية على مجمل التراث([51]).

وإذا ربط أبو زيد النص بأسباب النـزول، فإنه لم يعجزه عن امتلاك قدرة التعميم، انطلاقاً من قناعته أن اللغة قادرة على تجاوز الوقائع الجزئية([52]).

ان هذا المزدوج الذي يقدمه أبو زيد يبدو فيه متحفظاً قياساً بالتيارات الأخرى في الفكر الاسلامي المعاصر، فعندما يقدّم برهاناً لغوياً من اختصاصه على عملية التعميم، فهو يحافظ على شمولية النص ولا يُفْرط في الأخذ بتاريخيته كما فعل فريق معاصر، لكنه كان يخشى إهدار خصوصية السبب لصالح عمومية النص([53])، حتى لا يبدو النص غيبياً على قطيعة مع الواقع كاملة، ولهذا ركّز على أسباب النـزول بوصفها شواهد لفهم النص ذاته بغية تحديد درجة التعميم، لان سبب النـزول يحدّد المناخ الذي جاء النص في سياقه، ومن ثم لم يعد بالامكان فهم النص بمعزل عنه ما دام يشكل بالنسبة للمؤلف عنصراً لفهم كلامه، مما يسمّيه الاصوليون ((السياق المقامي والحالي وغير اللفظي)).

وإذا ما نجح أبو زيد في تحليله بناء اللغة ونظامها من حيث قدرتها على التعميم الذي يتجاوز خصوصية السبب، فإن هذا التحليل لا يحلّ المشكلة تماماً، ذلك أنها مشكلة أكثر تعقيداً مما نتصوّر حتى لو كانت اللغة مجهّزة بطبيعتها بطاقة التعميم.

إن مشكلتنا ليست فقط في اللغة نفسها، وفي إمكانية أن يريد المؤلف مدلولاً عاماً يتخطّى السبب، بل في علاقتنا نحن بالنص من حيث كونه مرتبطاً بالواقع، فإذا فصلنا النص عن الواقع صار الأمر سهلاً، وكانت علاقتنا حينئذٍ مع النص فحسب، وهناك يمكن تحديد كل عناصر الدلالة ما دام النص بين أيدينا، أما عندما نربط النص بالواقع فهذا يعني أن دلالات النص لم تعد فقط ما يتراءى لنا، وإنما اصبحنا مضطرين ـ كقرّاء ـ لدرس الواقع المحيط مقدّمة لفهم دلالات النص، لكن الواقع غير منكشف لنا بتمام زواياه ومن ثم فقدرتنا على فهم النص تغدو محدودة، إن روايات أسباب النزول ليست حساماً يفصل الأمور كلّها ويبتّ فيها، حتى لو قلنا بأنها صادرة وواصلة إلينا على البتّ واليقين، لأن النقولات التاريخية عادةً لا تحتوي على مجموعة من العناصر طبيعتها أنها مرتكزة مستكنّة في العقل الجمعي والوعي الاجتماعي العام مما يجعل الناقل مستغنياً عن نقلها ما دامت حاضرة لدى الأطراف كافة في عملية التحاور، وعندما تحصل التحوّلات الاجتماعية الشاملة تظهر هذه المعالم المركوزة في الذهن العام، وتثير تساؤلات عن مدى دخالتها في النص نفسه سيما على الصعيد التشريعي، وهنا من العسير تقديم شواهد ترفع احتمال دخالتها، الأمر الذي يجعل النص عاجزاً ـ وفق فهمنا له ـ على التعميم المؤكّد، وإن كان قادراً ببنائه اللغوي على جعلنا نحسّ بأننا ما نزال ـ رغم مضي الزمن عليه ـ مخاطبين به.

إن النص قادر على التعميم وربما أراد المؤلف ذلك، لكن اكتشافنا دلالة التعميم من النص ذاته خيانة لربطه بالواقع، وما دامت حيثيات الواقع التي تمثل قرائن متصلة بالنص تحدد دلالاته غير واضحة لنا مع وفرة الاحتمالات سيما المعاصرة، فإن النتيجة النهائية من النص لا تبدو ميسورة.

وإذا اردنا استخدام لغة أصولية قلنا بأن احتمال القرينة المتصلة ـ وهي هنا من نوع المتصل اللبي المرتكز في الذهن العام ولو على نحو الكمون والمفروض وجوده في الواقع ـ يمنع عن انعقاد دلالة في النص تتخطاه ولو لم يكن ثابتاً مما يهدم ظهوره بالكامل، وهو أمرٌ وافق عليه جماعة من الاصوليين، وإن لم يتعرّضوا لأمثلة معاصرة له اليوم.

ويبدو أن أحد حلول هذه المشكلة يكمن في النص نفسه، وفق رؤية أيديولوجية من الداخل، ذلك أن النص يقول عن نفسه بأنه بيان ونور و.. جاعلاً بيانيته ممتدّة امتداد الزمان والمكان، وهذا يعني ان القرائن المختفية يجب أن تكون ذات طابع ممتدّ كذلك حتى يصح الاعتماد عليها بحيث يبقى النص بياناً ومبيناً، وهذا معناه أن خصائص الواقع يجب ـ ونقول ان هذا الوجوب ايديولوجي ـ أن يكتنفها النص بإشاراته وروعة بيانه، لتكون معيناً على فهمه على الدوام، وهذه الفكرةِ ـ إذا صحّت ـ قد تنسف كل التفاسير القائمة على تحليلات نظرية بحتة لم يكتنفها النص ولم يمكنه الاعتماد فيها على السامع بوصفها متحرّكة في العقول، لا بديهية راسخة.

وغايتنا من كلّ ذلك، الإشارة العابرة إلى أن مجرّد قدرة اللغة في حد ذاتها على التعميم لا يصلح حلاً لمشكلة الآثار الناجمة عن ربط النص بالواقع، وانما المفروض استكمال الحل بصورة أفضل.

ويبدو أن غرض أبو زيد فيما أتى به في ((مفهوم النص)) هنا هو ما تكشفه كلماته في ((التاريخية: المفهوم الملتبس)) من كتابه ((النص والسلطة والحقيقة))، إن طرحه مسألة تاريخية القرآن دفعت أو من المتوقع أن تدفع الطرف الآخر للحديث عن هدم مبدأ ((عموم الدلالة)) ومن ثم إحالة النص القرآني إلى ((الحفريات))، وهو خلط يراه أبو زيد جهلاً يمزج بين أنماط مختلفة من الدلالة، ويرى أن النصوص الممتازة قادرة على التواصل دلالياً مع أجيال عديدة كما هو حاصل فعلاً([54]).

ولذلك أكد أبو زيد ـ في درسه خصوصية السبب ـ على عمومية الدلالة، محاولاً في موضع آخر تحليل البناءات الفلسفية اللغوية للتصوّرات النقيضة في إطار قراءته لمعطيات ((الفريد دي سوسير)) العالم السويسري المعروف([55]).

وإذا ما سلّطت معاول الهدم على روايات اسباب النـزول في عملية حفر وتنقيب نقدية، فإن أبو زيد لا يشعر بالقلق، لان ما يعنيه ليس مفردةً ما يحاول استنطاق النص فيها، وإنما منهجاً، أي هو يريد مبدأ جدل النص / الواقع، مهما كانت العقبات الميدانية كبيرة أمام تحقيق هذا المنهج على الصعيد الاستكشافي الميداني، علاوة على أن أبو زيد استخدم هذه المرّة ايضاً المنهج الاجتهادي في تحديد أسباب النـزول محاولاً تخطي عقبات المنهج التاريخي المدرسي في ملاحقة روايات النـزول والتورّط ـ من ثم ـ في تلفيقات تشبه ما حصل في المكي والمدني([56]).

3 ـ الناسخ والمنسوخ:يصنّف أبو زيد ظاهرة النسخ بوصفها أكبر دليل على جدلية العلاقة بين الوحي والواقع([57])، ذلك إن احدى زوايا هذه الظاهرة تتمثل في عملية التدرّج في بيان الاحكام وتطبيق عملية التغيير، وهو امرٌ يربط شئنا أم أبينا بين النص والواقع([58]) ، وبتحديد وظيفة النسخ تتضح هذه العلاقة المتينة.

وفي سياق استعراضه ـ على غرار ما فعل في المكي والمدني وأسباب النـزول ـ معيار تحديد الناسخ والمنسوخ، لا يرفض أبو زيد الحاجة الشديدة الى المعرفة التاريخية الدقيقة بأسباب النـزول وترتيبه([59])، لكنّه يعيد هنا نفس الجدل الذي دخله في عملية التحديد من قبل، ويناقش الجمود على الروايات، واستخدام منطق تبريريّ لها([60]).

لكن الشيء الملفت عند أبو زيد إصراره على وجود سرّ وراء إبقاء الآية المنسوخة قرآناً متلوّاً بين المسلمين، وهو ـ من وجهة نظره ـ فتح في مجال إعادة تفعيل الآية المنسوخة عندما تعود ظروفها مرّة أخرى، وفي هذا ربط للنص بالواقع من أكثر من جهة، وهو ما يضع الناسخ في دائرة المنسأ على الدوام([61]).

لكن هذا التحليل يضعنا أمام تفسير جديد يغير مفهوم الناسخ والمنسوخ رأساً، وهو تغيير لا نستنكره فعلاً، وإنما نحاول تلمّس معالمه، إن تفسير بقاء المنسوخ على أنه إعادة تفعيل لدوره على تقدير عود الظروف المشابهة يعني أن النص المنسوخ لم يمت الى الأبد كما توحيه كلمات علماء القرآن والأصول([62])، ومن ثم فهو باقٍ، كلّ ما في الأمر أن موضوعه وظرفه الذي يجعله حكماً فعلياً قائماً عملياً قد تجمّد، وهذا يعني ان عودة ظرفه تعيده الى حالة الفعلية هذه، وهذه العملية تضع التشريعات كلّها تقريباً ـ إن لم نقل تحقيقاً ـ تحت سلطان ثنائي الناسخ والمنسوخ، ومن ثم، فلا تعني حالات النسخ المذكورة تاريخياً صيغة نهائية، وإنما مجرّد مثال تحقق في تلك الظروف، كما أن هذا ما يلغي تماماً الفكرة التي تقول بأن النسخ ظاهرة مختصة بزمن النبي 2لأن المفهوم الذي قدّمناه للنسخ نوع مفهوم متحرّك، يمكن تطبيقه في كل زمان، فلو فرضنا أن أحداً من المسلمين لم يكن مستطيعاً للحج وأن هذا الوضع استمر لعدة سنوات فهذا يعني أن حكم وجوب الحج قد تجمّد، والفائدة من الابقاء على آية وجوبه في القرآن ليس سوى مؤشّر على عودة هذا الوجوب الى الحياة والتحريك عندما تعود حالة الاستطاعة ولو إلى مسلم واحد مثلاً.

إن فكرة النسخ وفق هذا التصوّر تشبه إن لم تطابق، ما يعبر عنه علم أصول الفقه بأن فعلية الحكم تتبع تحقّق موضوعه في الخارج، وأن الأحكام في حال تحوّل دائم، تبعاً لتحول الموضوعات المترتبة عليها، وهو ما يستنكر علم الاصول عموماً تسميته نسخاً، لأن النسخ ـ وفق التصوّر المألوف ـ الغاء حكم في عالم التشريع رأساً بحيث لم يؤت به الا لغرض آني زال وانتهى، وإذا لم يحدد النص نفسه هذا الزمن بداية الأمر، فإنما ذلك لكي يمنح ـ مثلاً ـ الحكم المنسوخ لاحقاً طابع الهيبة والديمومة بغية الحد من تقاعس المكلفين عن الاتيان به([63])، ومن ثم فلا معنى للحديث عن إعادة إحياء النص المنسوخ تبعاً للتصوّر المألوف، ما دام النص آنياً في تشريعه مختصاً بالزمان الاوّل.

ويستتبع هذه المقولة، تعديل في منهج التعامل مع الناسخ والمنسوخ، فبعد أن خضع التعامل الى نظام الدلالات صار من المفترض خضوعه لنظام آخر، وهو نظام يربط النص بالموضوع المفترض تحقّق ظروفه كاملة لكي يأخذ النص درجة الفعلية والتنجيز، وهذا معناه أن نسخ دليل لدليل ليس أمراً يرتبط بالدلالة فحسب، وإنما بعلاقة كل دليل بموضوعه وتحقق قيود الحكم التي توجب تفعيل الحكم ووصوله درجة التنجيز، وهذا تحوّل أساسي آخر تستتبعه مقولة أبو زيد.

وإذا كان النسخ بمعناه المألوف يحقق لابو زيد مطلوبه، فإنّ النسخ بالمعنى الجديد كفيل بإعادة إنتاج كل التشريعات تبعاً لنظام النص / الواقع.

لكن مشكلة التفسير الجديد للنسخ ـ وهو تفسير حقّ في نفسه، وإن لم تجرِ الموافقة على تسميته نسخاً ـ هي مشكلة تحديد الظرف والموضوع الذي ربطت فعلية النص به، فإذا أخذنا بالمنهج التاريخي في الاجتهاد الفقهي والذي يميل لربط النصوص بالظرف التاريخي، فقد تبدو تشريعات كثيرة جداً منسوخة الآن، أما لو أخذنا بالمنهج المدرسي لكان الأمر مختلفاً، وبين المنهجين تصوّرات وآراء نعرض عن بحثها فعلاً.

النص والتحوّل الوظيفي

يفرد الدكتور نصر حامد أبو زيد الفصل الأخير من كتابه ((مفهوم النصّ)) لدراسة ما يراه التحوّل الوظيفي في النص، مركزاً جهوده جميعها على تجربة ابي حامد الغزالي (505هـ) بوصفه نقطة التحوّل المذكور.

لقد أحدث الامام الغزالي في كتابه ((جواهر القرآن)) ـ كما اعتمده أبو زيد ـ تحوّلاً كبيراً في فهم وظائف النص وطبيعته، فبعد أن كان عملية نـزول من عند الله إلى الانسان تهدف الإفصاح، تحوّلت الى حركة صعودية سعياً الى الله، وأدى ذلك بشكل تلقائي الى انصراف الانسان لبناء حياته الأخروية بوصفها المنقلب الذي سيؤول اليه، معرضاً عن بناء الحياة الدنيوية واعادة تشكيل الواقع بهدف صنع الحياة وإشباع الحاجات جميعها([64]).

أدى التحوّل المذكور الى ان يصبح الهدف من النص هو قائله، وأُعرض عن المخاطَب الذي هو الانسان نفسه، وتحوّلت الحركة تلقائياً محدثة انحرافاً كبيراً.

كان ذلك مع الامام الغزالي قبل ابن عربي (638هـ) بقرن من الزمن، هناك اختلطت المدرسة الاشعرية بالمنحى الصوفي([65])، وتنطلق تصورات الغزالي ـ فيما يراه أبو زيد ـ من ثنائي الدنيا والآخرة، وهو ثنائي أحدث الغزالي بينه قطيعة، ومن الدنيا والآخرة جاءت مقولة الظاهر والباطن عند الغزالي لتعيد تصنيف علوم القرآن من جديد.

يضع الغزالي تقسيمه لعلوم القرآن وفق نظام ثنائي الظاهر والباطن، فيقسّمها الى علوم اللباب وعلوم القشر والصدف.

في علوم القشر والصدف، هناك علم مخارج الحروف، يليه صعوداً علم اللغة، فعلم النحو، فعلم القراءات، فعلم التفسير الظاهر.

أما علوم اللباب فهي الأخرى ذات طبقتين سفلى وعليا:

1 ـ أما السفلى فقصص القرآن عن الانبياء والكفار، وعلم الكلام، وعلم الفقه.

2 ـ وأما العليا فهي معرفة الله، ومعرفة طريق السلوك اليه، ومعرفة الحال عند الوصول (الثواب والعقاب).

وتحتل معرفة الله المرتبة العليا، تبدأ من معرفة الافعال الالهية في عالمي الغيب والشهادة، وتمرّ بمعرفة الصفات، لتصل إلى أرقى معرفة ألا وهي معرفة الذات.

وعبر هذه الطريقة، أصبحت علوم الفقه والتفسير والكلام علوماً دونية، فيما كانت معرفة الله، أي تلك المعرفة التي يبلغها الصوفي والعارف، هي الأساس الذي لا ترقى اليه معرفة أخرى.

واذا ما ضممنا ـ كما فعل أبو زيد ـ مبدأ التوحيد بين القرآن والصفات الالهية لغدا النص القرآني بدوره بحراً من الاسرار والعلوم التي لا حصر لها([66])، وعبر ذلك يتم انتاج المنهج الرمزي ومسالك التأويل الباطني، عبر مزدوج أشعري صوفي كما لاحظنا([67]).

وبهذه المنظومة، يغدو من الطبيعي تولّد الثنائي الذي غطّى حركة الفكر الاسلامي عموماً، أي ثنائي العامة والخاصة الذي راج في الاوساط الصوفية، واخذه العلماء، كما طبّقه الشيعة على أنفسهم وغيرهم (ولو لم يكن تطبيقاً حرفيّاً) على أساس أنهم الخاصّة وأهل السنّة هم العامّة، والنقطة الحسّاسة عند الغزالي في موضوع العامة والخاصة هو اعتباره العامة خدمة للخاصة، فهم ـ أي الخاصة ـ متفرغون لله، لهذا كان لا بد من آخرين يكدّون ويكدحون، ليتسنّى للخاصة سلوك طريق الله([68])، ويعتبر أبو زيد هذا التقسيم قلباً للتقسيم الاجتماعي الواقع في المجتمع([69]).

ويذهب الغزالي مذهباً أبعد من ابن عربي، حينما يضع الخلاص في ثنائي العامة والخاصة، عندما يكون خلاص العامة بالاخذ بمجمل الاعتقادات الاشعرية، فيما ينحصر الخاصة بالمتصوّفة والعرفاء، وفي هذا ما فيه من تصوّر نهاية سوداوية للآخر كالشيعة والخوارج والمعتزلة والفلاسفة، وهو اتجاه بالغ الخطورة يؤسّس له الغزالي هنا([70])، ضاماً إيّاه إلى ثنائياته الأخرى ليغدو مصطلح الخاصة والعامة تعبيراً آخر عن المتصوفة والبله.

ورغم أن الفقهاء فيما بعد وفي عصرنا الحاضر استخدموا هم أيضاً منطق الخاصة والعامة، إلا أن الغزالي لم ينظر الى علم الفقه ـ كما يقول أبو زيد ـ إلا بوصفه علماً دنيوياً له في الدرجة الثانية تعلّق بالآخرة، وهذا ما أدى الى تحوّل وظيفي في الفقه نفسه وتبدّل في مقاصد الشريعة من إقامة مجتمع الى تحقيق الخلاص الفردي، وهو ما دفع الغزالي لتسجيل نقده على توسّع هذا العلم([71]).

وبالنسبة لنا، يهمّنا جداً تحديد موقف الغزالي من التفسير والتأويل، فقد اعتبر الغزالي التأويل والوصول الى المداليل الحقيقية للنص أمراً مرهوناً بالسلوك الصوفي، وهو من هنا يرى النص رموزاً وإشارات تحتاج الى من يفسرها على طريقة تعبير الرؤيا، مستخدماً منطقاً جديداً في تحويل نظام الحقيقة والمجاز، بادعاء ان اللفظ يطلق حقيقة على معناه الغيبي ومجازاً على الأمر الحسي على خلاف النظم اللغوية الشائعة، وهو تحول كبير من الغزالي لا يستهان به، أضحى النص كله معه قابلاً للتأويل([72]).

ورغم نقد أبو زيد للغزالي بيد أنه يرى في التحوّل الوظيفي نتاجاً لسيطرة العسكر من السلاجقة والترك والديلم ثم الدولة العثمانية([73])، وهو بذلك يحاول ربط المشكلة بعامل خارجي، فاسحاً المجال لمثل علي حرب لوضعه في مصاف أمثال الجابري في تفسيره مشكلة العقل العربي تفسيراً خارجياً جاء من الهرمسية والغنوصيّة والمانوية… دون أن يبحث عن أسرار المشكلة من الداخل([74]).

وفي سياق تعليقنا على دراسة أبو زيد للغزالي من زاوية التحويل الوظيفي للنص نسجل ملاحظات، مؤيدين من حيث المبدأ الدور السلبي الذي مارسته الصوفية على الصعيد الإسلامي العام:

الملاحظة الأولى: يأخذ أبو زيد على الغزالي ـ في تقسيمه العلوم ـ استخفافه بمثل الفقه، بتحويله ((مقاصد الشريعة تحويلاً تاماً من اقامة المجتمع الى الخلاص الفردي))([75])، فيما الغاية هي الصلاح الأخروي، وعندما يتعرّض لنقد الغزالي للاكثار والتوسع في علم الفقه نقداً لا يستثني الغزالي منه نفسه، يلاحظ عليه ان هذا الموقف منبثق من تصوّر الغزالي لغاية العلم، وحصرها في المجال الفردي لتحقيق الخلاص([76]).

ولكي نقيّم مقولة الغزالي يجب أن نعرف موقفه الحقيقي من علم الفقه ومن ثم معرفة النزعة الفردية التي حكمت تفكيره من ناحية ثانية.

أمّا على صعيد استهتار الغزالي بالفقه وأمثاله من العلوم فنلاحظ، أن أبو زيد ينطلق هنا من أسس أنسية في تحليل العلوم، وكما انطلق الغزالي من أساس روحي أخروي مرتباً العلوم وفقه، فعل أبو زيد الفعل نفسه من منطلق أنسي دنيوي (لا بالمعنى السلبي للكلمة)، وكما لا يرضى أبو زيد بأن توصف محاولته استخفافاً بالامور الروحية أو العقائدية أو… كذلك لا يعني تقسيم الغزالي انه استخفّ بالفقه.

ان علم الفقه علم قانوني ينظم حياة الإنسان، وفي سياق المفهوم القرآني لدور الفقه ثمة ترابط بين الدنيا والآخرة، إن فصل الدور العام للعلوم الدينية عن هدف الخلق وعن النظام الانطولوجي الاسلامي محاولة لتشطير العلوم الاسلامية وفق اساس من الخارج لا من الداخل، إن الدنيا في المفهوم الاسلامي مزرعة، ولا ندري ماذا نفعل في اكثر من ألف آية تتحدث عن الآخرة، وفي العديد من الآيات الذامّة للدنيا؟ هل نستنطق هذه النصوص ـ ولا نظنّ ـ بصورة توحي بأصالة الدنيا واعتبارية الآخرة حسب التعبير الفلسفي؟ ان اصالة الآخرة مبدأ يفترض بأبو زيد مثلاً لكي ينكره تقديم دراسة شاملة تعطينا انطباعاً عن تصوّره مدعّماً بأدلّته، وهذا ما لم يفعله، وانما عمد لواقع تاريخي سلبي لعبت الصوفية دوراً فيه، ليحمّل تقسيم الغزالي تبعاته.

وما دامت الآخرة هي الاساس، فمن الطبيعي أن يتعاطى الغزالي مع الدنيا وحركة تنظيمها تعاطياً آليّاً أداتياً استطراقياً، وهذا ما يجعل علم الفقه علماً دنيوياً بهذا المعنى، إنه علم يريد تنظيم الدنيا لكي تنتظم أمور الآخرة لا لكي تنتظم أمور الدنيا فحسب، لكنه في نفس الوقت يرى أن انتظام أمور الآخرة لا يتمّ إلا بنظم أمور الدنيا.

إن نقد الغزالي كان لا بد ان ينطلق من داخل المناخ الاسلامي، عبر اثارة تساؤل يستفهم عن مدى إمكانية الجمع بين تقسيم الغزالي وعدم التورّط في الإفراط الصوفي؟

واذا تبرهن ان هذا الأمر غير ميسور، صحّ القول بأن دعوة الغزالي من الزاوية العملية دعوة لتفكيك المجتمع والعودة الى العزلة الصوفية المتمثلة في الخلاص الفردي، اما اذا استطعنا الجمع المذكور فلن تكون امامنا من مشكلة في القيام بعملية دمج تربط الدنيا بالآخرة مع حفظ أصالة الآخرة.

هل قال الغزالي ان كون الفقه والتفسير من علوم القشر او اللباب بالطبقة السفلى معناه أنه أبطل مفعول هذه العلوم أو دعا الى طرحها، رغم تصريحه بأن الحاجة تعم لهذا العلم (الفقه) لتعلقه بعلاج الدنيا أولاً ثم بعلاج الآخرة؟

إن عملية تقسيم العلوم لا تعني الاستهانة ببعضها وانما وضع مفاضلة، واذا دعا الغزالي لتجاوز الشريعة بحثاً عن الحقيقة على أسس الطريقة فمن حقنا مطالبته، لكن وضعه معرفة الله بذاته في أعلى الهرم مع افتراضه ان كل العلوم الأخرى تقع في سلسلة لا مفر منها أمرٌ لا ضير فيه، بعيداً عن النقاش الأولي مع الصوفية والعرفاء حول تصوّراتهم لمعرفة الله ولقائه.

وإذا رجعنا إلى كلمات الغزالي نفسه في التبرير الذي وضعه لذاته بجعله الفقه من علوم الدنيا، لرأينا أنه لا يقصد بذلك التهوين من هذا العلم وأمثاله، يقول ـ وهو في صدد تحديد المقصود من العلم الذي جعل في الحديث فريضة على كل مسلم ـ : “وليس المراد بهذا العلم (المذكور في الرواية) إلا علم المعاملة (لا علم المكاشفة) والمعاملة التي كلّف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد، وفعل، وترك…”([77])، وبعد تعرضه للعلوم الواجبة على نحو الكفاية كالطب والحساب والفقه و… قال: “فإن قلت: لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا؟ فاعلم أن الله عز وجل… وخلق الدنيا زاداً للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود، فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومة وتعطّل الفقهاء، ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولّدت منها الخصومات، فمسّت الحاجة الى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم شهواتهم، فكان الفقيه معلّم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا، ولعمري إنه (أي الفقه) متعلّق أيضاً بالدين، ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا…”([78]).

وليس هذا هو موقف الغزالي وحده، بل لقد صرّح العديد من العرفاء، أنّ منهجهم قائم على رعاية الشريعة وعدم الاستخفاف بها، فقد صرّح ابن عربي بتابعيّة الولي للنبي في الأمور الراجعة إلى ظواهر الأعمال، رغم اعتقاده بأرفعية مقام الولاية عن مقام النبوة، بل لقد صرّح نفسه في فتوحاته بأن ((كلّ من قال من أهل الكشف أنه مأمور بأمر إلهي في حركاته وسكناته مخالف لأمر شرعي محمدي تكليفي فقد التبس عليه الأمر…))([79])، وهذا نص واضح، يؤكّد أن جماعة العرفاء لم يدافعوا عن تجاوز الشريعة، بل اعتبروا لا الشروع بها بل المداومة عليها شرطاً لازماً لسلامة مسيرتهم الروحية ورحلتهم الباطنية، وإذا كان لنا من ملاحظة عليهم فهو ـ كما قال أبو زيد ـ في قصرهم الشريعة بالأمور الفردية دون ملاحظة البعد الاجتماعي، وهو أمرٌ لم يكن مقصوراً عليهم، وإنما كان بلاءً أصاب كلّ الفرقاء والاتجاهات، بمن فيهم الفقهاء أنفسهم، ومن ثم تعدّدت أسبابه وتنوّعت دوافعه بما لا يسمح بتوحيد السبب وحصره بجهة أو بشخص، أي لا معنى لحصره بجماعة العرفاء ولا بالغزالي لوحده، فالشيعة مثلاً كانت لهم ظروفهم التي فرضت تنحيهم عن الحياة السياسية العامة مما ترك ذلك أثراً في حالة الفردية والانكماش التي غطّت فقههم كله تقريباً في بعض الحقبات الزمنية، و… هذا فضلاً عن أنّ ذلك لا يبطل التقسيم الذي وضعه الغزالي كما أشرنا، والذي نحن بصدد الحديث حوله لا حول كل المنظومة الفكرية للغزالي أو الدفاع عنها… فليلاحظ ذلك جيّداً.

علاوةً على ذلك، نعرف جميعاً بأنّ الكثير من العلماء سعوا في مؤلّفاتهم للقول بأن العلم الذي اختصّوا فيه هو أشرف العلوم أو من أشرفها بحسب تعابيرهم، فالمتكلّمون جعلوا علم الكلام أشرف العلوم([80])، فيما جعله الفلاسفة الفلسفة([81])، أما الفقهاء فأصرّوا أيضاً على أن الفقه هو أشرفها([82])، وهكذا جعل الأصوليون علم الأصول([83])، وجعل المفسّرون التفسير كذلك([84])، لقد كانت هذه نزعة شاملة بقيت حتى حقبات متأخرة، وإذا كان الغزالي قد قسّم العلوم جاعلاً معرفة الذات الإلهية أرقاها، فهو قد مارس تطبيقاً لظاهرة عامة، ولم يبتكر شيئاً من العدم.

وحصيلة الكلام، إن مجرد تقسيم الغزالي العلوم تقسيماً كالذي أسلفناه لا ينبئ عن مشكلة، نعم في فكر الغزالي مشاكل أخرى يشترك في بعضها مع التيار الصوفي عموماً سنأتي على ذكر بعضها لاحقاً.

الملاحظة الثانية: إنّ نقد الغزالي لبعض العلوم كالكلام والفقه و… يجب فهمه في سياقه التاريخي، ولا يصح تفسيره بعيداً عن هذا السياق، لقد أقرّ أبو زيد بملاحظته ((احياء علوم الدين)) و ((المنقذ من الضلال)) و.. بأن الغزالي كان ردّة فعل على الواقع القائم، لقد بلغت المجادلات الكلامية مبلغاً مفرطاً قسّم المسلمين واغرقهم في جدل لا نتيجة من ورائه، كما بلغ تطوّر الفقه حداً دفع الفقهاء الى ملاحقة مسائل هامشية أضاعوا بها أعمارهم من قبيل هل يجوز الزواج من الخامسة إذا كانت جنّية؟ أو هل يحسب الجن من أفراد نصاب صلاة الجمعة؟ الأمر الذي أثار سخرية المستشرقين فيما بعد([85])، أما علماء اللغة والتجويد و.. فقد أفرطوا في ملاحقة تحليلات وتشدّدات لا محصل من ورائها ولا فائدة عملية ترجى منها، شبه صفة التورّم التي نعت العلامة محمد مهدي شمس الدين علم أصول الفقه بها، وفي خضم هذا كله، شاهد الغزالي الفساد الطبقي والاخلاقي في العلماء وغيرهم، كما يبدو ذلك كلّه جلياً من كتابه إحياء علوم الدين فليلاحظ نقده على الجدل والمناظرة وعلى الكلام و…

ولا نريد تنـزيه الغزالي فلا شأن لنا به، وانما نريد تفسير موقف من هذا النوع، إن القيام بثورة روحية في مجتمع نضبت فيه القيم وجفّت فيه فائدة العلوم ليس أمراً سلبياً، ولا يمكن أن نفهمه على مقاييس زماننا، واذا كانت النتيجة التي خرج بها الغزالي قابلة للنقد ـ وهي كذلك بالتأكيد ـ فإن هذا لا يفسر خطوته بوصفها خطوة سلبية وارتدادية ارتجاعية، ولو أن العلماء الذين أتوا بعد الغزالي وظّفوا مفاهيمه في سياق مناسب وعصرهم لربما اختلف الأمر، إن هذا هو ما تقتضيه القراءة التاريخية للفكر والتي تضعه في سياقه التاريخي الخاص.

وخلاصة القول، ان محاكمة النتيجة شيء، وتفسير موقف الغزالي شيء آخر، إنّ ما يجب ملاحظته في موقف الغزالي هو قياسه على المناخ المعاصر الذي كان بحاجة في ظل تفكّك الدولة إلى زخم روحي هائل يعيد انتاج القيم، وهذا ما أراده الغزالي نفسه في ذاته ومجتمعه.

الملاحظة الثالثة: لم يحاكم ابو زيد، وهو يمارس في كتابه ((مفهوم النص)) عملية درس قرآني، تجربة الامام الغزالي من منطلق قرآني، وإنما من تصوّر مسبق حملته إليه الصراعات الاصولية العلمانية، كما تسمّى هذه الثنائية في العالم العربي، وفي مصر بالتحديد.

كان أبو زيد يحمل همّ إعادة بناء مجتمعنا الممزّق، وكانت همومه هي هموم المواطن المسلم والعربي، إنها الديمقراطية والحرية والتعددية والاختلاف و…، وهذا حقّه الذي لا يسلب منه، كما ومن حقّ أبو زيد مقارعة التخلف الاجتماعي والديني، وهو تخلّف سببه الجمود على الموروث مع خلع لباس التاريخية عنه.

لكن هذا الواقع، لا يبرر قراءة تجربة الموروث من أعين معاصرة، وكأن أبو زيد أراد تصفية حساب مع الخطاب الاسلامي المعاصر عبر مناقشة الغزالي، انه يريد توجيه سهامه الى الموروث المقدّس لينهار، مما يفقد التيار الديني المعاصر مبررات وجوده وفق تركيبته الخاصّة، إن نقد الاصولية المعاصرة في ((جواهر القرآن)) و((احياء علوم الدين)) خطأ منهجي جادّ، وهو ما أوقع أبو زيد في تجاهل المناخ التاريخي الحاكم على محيط الغزالي، كما أن محاكمة تجربة الغزالي من منطلق معاصر لا يبرر تجاهل تجربته وفق فهم جديد للقرآن، وبالتالي فمن حق قارئ أبو زيد ان يسأله عن تفسيره للنص القرآني في رأيه عن ثنائي الدنيا والآخرة، سيما بوصفه باحثاً قرآنياً، وهذا ما يصحح مطالبته بذلك باعتبار تجربته محاولة من الداخل لا نقد من الخارج كما أراده منه علي حرب، ومن ثم فأي مبرر لهذا التجاهل ما دام النص شديد الحرص على مفهوم الآخرة كما يلاحظ بوضوح؟

إن الدراسة السيكولوجية والسسيولوجية للخطاب الديني، ليس مبرراً ـ لمن يحاول الانطلاق من الداخل ـ لتقديم تقييم نهائي، بل لا يحق له تقديم هذا التقييم ما دام النص ما يزال محافظاً على مركز من مراكز الصدارة.

الملاحظة الرابعة: كأن أبو زيد افترض أن العمق الاستراتيجي للخطاب الديني المعاصر ينتهي بأبي حامد الغزالي لهذا سلّط الضوء عليه، فيما الأمر ليس كذلك، بمعنى ان الاتجاه الصوفي والعرفاني مثل طيفاً وسيعاً اشتمل تيارات عدة بين متطرّفة ومعتدلة، ومن الخطأ محاكمة كل تيارات التصوّف على اساس مدرسة الغزالي كما يقول حنفي([86])، فقد تطوّر التصوّف ـ كغيره من الاتجاهات الفكرية ـ تطوّراً ملحوظاً، بل لقد فقد تسميته هذه في الفكر الشيعي لتحل محلها كلمة ((العرفان)) لتبدو كلمة ـ التصوّف ـ في هذا الفكر ذات مدلول سلبي، وقد بلغ العرفان الشيعي ـ على سبيل المثال ـ مبلغاً كبيراً، وتطوّر تطوّراً مذهلاً، وحلّ اكثر من اشكالية يتألم منها ابو زيد، إن العرفان الشيعي في القرن العشرين خرّج السيد محمد حسين الطباطبائي والامام الخميني والشهيد مرتضى مطهري، كما خرّج العرفان أمثال السيد جمال الدين الافغاني (1897م) ومحمّد اقبال اللاهوري (1938م) ممن شكّلوا بمجموعهم معالم الجمع بين دنيوية الدين وأخرويته، ان تجاهل هذا التطوّر المذهل في العرفان الاسلامي هو الذي برّر لابو زيد تسجيل ملاحظاته على تيار التصوّف، إن قدرة الدمج الموجودة عند أمثال العلامة الطباطبائي بين الاتجاه العرفاني الخالص وحركية الحياة والانغماس في الوقت نفسه في عملية نقد تحريري للفكر الديني كان يمكنها أن تشكل مفتاحاً لمثل أبو زيد لتسجيل ملاحظته على الخطاب الديني المعاصر([87])، دون ان يبخس تياراً كبيراً في الاسلام حقه باختـزاله في اتجاه واحد بل وشخص واحد، وإذا كانت التيارات الأصولية تستقي معالم طريقها من أمثال الغزالي، فإن من يسميهم أبو زيد أصحاب الخطاب الرجعي ليسوا جميعاً على هذا الطريق، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

الملاحظة الخامسة: ثمة إشكالية في تفسير الغزالي ـ وعموم المتصوفة والعرفاء ـ للنص القرآني، يربط المتصوفة بين باطن القرآن وباطن الوجود فيعتقدون بأن الذي يبلغ باطن الوجود وحقيقته بالكشف والشهود يرى هناك باطن القرآن وجوهره، ومن ثمّ يؤسّس المتصوفة علاقة جديدة مع النص تمتاز عن علاقات الفقهاء والمفسرين المعروفين.

يبدو أنّ هناك مجالاً لتأييد نقد أبو زيد على قضية التفسير والتأويل عند الغزالي، إن هذه العملية في منهجة التأويل والتفسير تبدو غير منضبطة في أبسط إشكالياتها العقلانية، ذلك أن معياراً لتحديد المدلول (ولا نتحدث عن معايير نهائية) أمرٌ لا يتسنى الحصول عليه في ظل هذه التركيبة الصوفية، انطلاقاً من عدم تقديمهم شواهد على كلامهم، فكل إنسان بإمكانه أن يسند إلى النص القرآني أيّ مدلول بحجة أنه عملية كشف، وأن يقرّع خصومه بأنهم أهل الظاهر بحجّة انهم لم يقتنعوا معه بما يقول، دون أن تكون هناك مواد تجري محاكمة المعطيات وفقها، وهذه المشكلة تضع عملية تفسير القرآن برمّتها تحت سلطان شخصانيات، إذ يشيع تفسير لا لشيء إلا لكون صاحبه ذا تأثير في القلوب، وهذه مشكلة حقيقيّة.

وقد حاول المتصوفة والعرفاء فيما بعد تفادي مشكلة من هذا النوع، عن طريق إرسال إشارات قرآنية، ولكن ذلك أدّى إلى إلغاء البعد البلاغي في النص القرآني نفسه لصالح التمسّك بظاهر النص الذي يلامس الأفكار المتبنّاة سلفاً، فإذا قال تعالى ـ وهذا مجرد مثال قد لا نقف عنده ـ (ذوقوا ما كنتم تكنـزون) فإن هذا النوع من التفسير يحاول أن يستنتج من هذا النص نظرية تجسّم الأعمال، أو التمسّك بإطلاق (إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا) لإثبات الولاية التكوينية للرسول والأولياء و…

ولا نقول إن هذه المشكلة حصر بالتيار الصوفي أو بالغزالي، لكن تطبيق هذا التيار لهذه الطريقة كان ملحوظاً، ونحن نكتفي بهذه الإشارة لتأكيد طرح أبو زيد، والدعوة إلى تقييم علمي رصين لهذا النمط من التعاطي مع النص القرآني والنبوي عموماً، لا أقل عن طريق عقلنة العرفان بالمعنى الذي يحتمله العرفان نفسه من العقلانية.

إن مشكلة التفسير أو التأويل العرفاني أو الصوفي للنص القرآني أنّه غير منضبط بقواعد يمكن التحاكم إليها، ولهذا فهي تشكّل مرجعاً ذاتياً للعارف نفسه دون أن ترقى مجال تقييمها وفق ميزان يشارك الأخر فيه العارف، دون أن يعنينا فعلاً هل هذا التفسير صحيح على مستوى الواقع أو لا، أمّا قول العرفاء ـ ومنهم الغزالي ـ بأن طيّ منازل السير والسلوك هو المقدّمة لفهم هذا المعطى القرآني الباطني، فهذا الكلام إذا أردنا أن نضعه في إطار محاكمة لا يرجع إلى محصّل على الصعيد عينه الذي أشرنا إليه، هذا بعيداً عن جدل بنيوي آخر في النتيجة العرفاني نفسها بما يخرج عن دائرة هذه الصفحات.

*          *          *

 

الهوامش:


[1] ـراجع محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، نشر المؤتمر العالمي للشهيد الصدر، إيران، الطبعة الأولى، 1421هـ، ص27.

[2] ـحوار الأجيال، الدكتور حسن حنفي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998م، ص412.

[3] ـمفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، الدكتور نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 2000م، ص10.

[4] ـالمصدر نفسه، ص11.

[5] ـنقد النص، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1995، ص 205، ولاحظ التأويل، الحقيقة، النص، حوار أجراه مع أبو زيد الكاتب الإيراني مرتضى كريمي نيا (مترجم كتاب مفهوم النص الى اللغة الفارسية) نشر في مجلة ((كيان)) باللغة الفارسية، العدد 54، 2000م، ص9.

[6] ـالاستلاب والارتداد، الإسلام بين روجيه غارودي ونصر حامد أبو زيد، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1997م، ص94.

[7] ـالمصدر نفسه، ص98.

[8] ـالمصدر نفسه، ص96.

[9] ـنقد النص، مصدر سابق، 207 ـ 208.

[10] ـالمصدر نفسه، ص208 ـ 209، ولاحظ أيضاً: حوار الأجيال، مصدر سابق، ص431.

[11] ـالمصدر نفسه، ص216 ـ 217.

[12] ـمفهوم النص، ص 29، وانظر لأبو زيد أيضاً: النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 2000م، ص13.

[13] ـالنص والسلطة والحقيقة ص 13 ـ 20.

[14] ـالمصدر نفسه، ص28 ـ 31.

[15] ـالمصدر نفسه، ص32 ـ 33.

[16] ـالمصدر نفسه، ص39 ـ 42، ولأبو زيد دراسة مستقلّة حول زكي نجيب محمود تحت عنوان ((زكي نجيب محمود رمز التنوير))، في كتابه الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000م، ص 67 ـ 88.

[17] ـالنص والسلطة والحقيقة، ص53.

[18] ـالمصدر نفسه، ص43 و54.

[19] ـالمصدر نفسه، ص53 ـ 54.

[20] ـالمصدر نفسه، ص62.

[21] ـإشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد ابو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة السادسة، 2001م، ص227 ـ 228.

[22] ـمجلة كيان، مصدر سابق، ص11.

[23] ـنقصد بالعقلانية هنا الانتظام المنطقي الممكن تفسيره عقلياً، لا صحّة الفكرة أو فسادها وخرافيّتها، راجع بصدد تعريفات العقلانية وامتيازها عن الصوابية: مجلة المنهاج، بيروت، العدد 27، خريف 2002م، حوار حول الدين والعقلانية مع الدكتور مصطفى ملكيان والشيخ علي العابدي والدكتور محمد لغنهاوزن، خصوصاً ص186 ـ 193.

[24] ـنقصد في تعابيرنا بالأيديولوجي ما كاننت نتيجته معتمدةً على معطيات دينية (من داخل)، دون سلب سمة العلميّة عنها، وبغيره ما كانت النتائج ناجزة فيه دون اعتماد على مقدّمة داخلية.

[25] ـيجب أن نشير إلى أن فشل الخطاب لا يعني أنّه لم يحقّق أي هدف في الزمان والمكان، وإنما في عدم قدرته ـ على الصعيد العام للأمور ـ على الدخول في مرحلة جديدة متقدّمة والأهم استكمالها نحو مزيد من التطوير الذي يناسب المرحلة، وإلا فإن خطاب النهضة حقّق أهدافاً كبيرة وعميقة، ومن الظلم نعته بالفشل الكامل، كان أبرزها إخراج الإسلام بقوّة من القمم مع الإمام الخميني رحمه الله.

[26] ـيفضّل الدكتور محمد أركون لأسباب تعود ـ من وجهة نظره ـ إلى فارق بين العقل الكتابي والعقل الشفاهي، استخدام مصطلح الخطاب القرآني بدلاً عن النص القرآني، وهو موضوع هام جداً وذا نتائج علميّة حسّاسة أيضاً حتّى على صعيد اكتشاف المراد من النص، لاحظ على سبيل المثال ما ذكره في: الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1998م، ص77.

[27] ـنقد النص، مصدر سابق، ص215 ـ 216.

[28] ـالمصدر نفسه، ص201 ـ 205.

[29] ـالمصدر نفسه، ص199 ـ 200.

[30] ـالمصدر نفسه، ص218.

[31] ـالمصدر نفسه، ص200، وانظر ايضاً الاستلاب والارتداد، مصدر سابق، ص97.

[32] ـنقد النص، ص201.

[33] ـالمصدر نفسه.

[34] ـكيان، مصدر سابق، 7 و 15.

[35] ـالنص والسلطة والحقيقة، مصدر سابق، ص7، وانظر تفصيل الفكرة وتطبيقها في الفصل الخامس من الكتاب نفسه، ص213 ـ 285.

[36] ـكيان، مصدر سابق، ص 8 و 12.

[37] ـمفهوم النص، ص 31 ـ 74، والنص والسلطة والحقيقة، ص33 ـ 34 و67 ـ 76.

[38] ـكيان، ص8.

[39] ـإشكاليات القراءة وآليات التأويل، مصدر سابق، ص13.

[40] ـأنظر، فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربي، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 1998م، وانظر له ايضاً، الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 1998م.

[41] ـإشكاليات القراءة وآليات التأويل، مصدر سابق، ص16 ـ 18، وانظر حول تطوّر الدرس الهرمنيوطيقي، الفصل الأول من الكتاب المذكور تحت عنوان ((الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص))، ص13 ـ 49، حيث درس أبو زيد هذا التطور ابتداءً من نظرية المحاكاة عند افلاطون.. مروراً بشلايرماخر وديلتاي وهايدغر.. وصولاً الى غادامر وبول ريكور و…

[42] ـالمصدر نفسه، ص227 ـ 229.

[43] ـحوار الأجيال، مصدر سابق، ص426.

[44] ـكيان، ص7 و16.

[45] ـمفهوم النص: ص57.

[46] ـالمصدر نفسه، ص76.

[47] ـالاتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق محمّد أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، لبنان، 1988م، ج1، ص47 ـ 49.

[48] ـانظر فوائد الأصول، تقرير درس الميرزا محمد حسين النائيني، بقلم الشيخ محمد علي الكاظمي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران، الطبعة الأولى، 1409هـ ، ج3، ص51، وانظر أصول الفقه، للشيخ محمد رضا المظفر، ج2، ص201 ـ 204.

[49] ـمفهوم النص، ص97.

[50] ـالمصدر نفسه، ص99.

[51] ـالمصدر نفسه، ص99 ـ 100.

[52] ـالمصدر نفسه، ص102 ـ 108.

[53] ـالمصدر نفسه، ص204.

[54] ـالنص والسلطة والحقيقة، ص75.

[55] ـالمصدر نفسه، ص79 ـ 80.

[56] ـمفهوم النص، ص108 ـ 115.

[57] ـالمصدر نفسه، ص214.

[58] ـالمصدر نفسه، ص220.

[59] ـالمصدر نفسه، ص121.

[60] ـالمصدر نفسه، ص126 ـ 127.

[61] ـالمصدر نفسه، ص122 ـ 123.

[62] ـأنظر على صعيد القرآنيات: الاتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، مصدر سابق، ج3، ص61، وهناك فرّق بين المنسوخ والمنسأ، تماماً كما فعله من قبل الزركشي في البرهان، ج2، ص42 ـ 43، وأيضاً التفسير الكبير، الإمام الفخر الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، الطبعة الثانية، ج3، ص227، وعلى صعيد أصول الفقه: الذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى علم الهدى، تحقيق أبو القاسم كرجي، نشر جامعة طهران، الطبعة الثانية، 1984م، ج1، ص414، والعدّة في أصول الفقه، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق محمد رضا الأنصاري القمّي، الطبعة الأولى، 1417هـ، ج2، ص486.

[63] ـانظر ـ كأنموذج ـ السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، الطبعة الثانية، 1406هـ ، ج1، ص343.

[64] ـمفهوم النص، ص245.

[65] ـالمصدر نفسه، ص246.

[66] ـالمصدر نفسه، ص254 ـ 255.

[67] ـالمصدر نفسه، ص256 ـ 257.

[68] ـالمصدر نفسه، ص261 ـ 262 و286 ـ 287.

[69] ـالمصدر نفسه، ص262.

[70] ـالمصدر نفسه، ص282 ـ 283 .

[71] ـالمصدر نفسه، ص264 ـ 265، وانظر دراسة أبو زيد حول مقاصد الشريعة في كتابه ((الخطاب والتأويل))، مصدر سابق، الفصل الخامس من القسم الثاني، ص201 ـ 208. حيث قدّم فيه طرحاً جديداً لنظرية المقاصد يربطها بثلاثي العقل ـ الحرّية ـ العدل، بدلاً من الخماسي المشهور.

[72] ـمفهوم النص، ص269 ـ 276 و 280 ـ 281.

[73] ـالمصدر نفسه، ص12 ـ 13.

[74] ـنقد النص، ص213 ـ 214.

[75] ـمفهوم النص، ص264.

[76] ـالمصدر نفسه، ص265.

[77] ـإحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1986م،
ج 1، ص25، وقد أخذ الغزالي هذا الكلام من أبو طالب المكّي كما أشار الى ذلك العلامة محمد بن محمد الحسيني الزبيدي المعروف بمرتضى في كتابه: “إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين”، دار الفكر، ج 1، ص135.

[78] ـالمصدر نفسه، ج 1، ص 28 ـ 29.

[79] ـمحيى الدين بن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر (الطبعة القديمة)، بيروت، ج1، ص179.

[80] ـيفهم من العلامة الحلي في مقدّمته على كتابه كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تصحيح وتقديم وتعليق: حسن حسن زاده آملي، مؤسّسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، إيران، الطبعة السادسة، 1416هـ، ص19.

[81] ـيفهم من تسميتهم لها بأنها العلم الأعلى، راجع ـ كأنموذج ـ بداية الحكمة، محمد حسين الطباطبائي، نشر جماعة المدرّسين، إيران، الطبعة الرابعة عشرة، 1416هـ، ص7.

[82] ـكأنموذج، راجع الفقيه المحقق محمد بن علي الموسوي العاملي، مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، نشر وتحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران، الطبعة الأولى، 1410هـ، ج1، ص3.

[83] ـأصول السرخسي، أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ، ج1، ص3.

[84] ـفتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، عالم الكتب، ج1، ص11 ـ 12. وتهمّنا الإشارة إلى أن النماذج التي أتينا بها ربما كان بعضها متأخراً عن زمن الغزالي، إلا أنه مع ذلك، فإن هذه الفكرة مترقّبة في الثقافة آنذاك، عنيت خصوصاً الجانب النرجسي من الثقافة الذي كان سائداً أيضاً ويعطي إيحاء بان تمييز علم على علم أمرً مرتقّب ومعقول، مما يجعل تبنّي الغزالي لها أمراً غير غريب.

[85] ـأجناس جولدتسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وعبدالعزيز عبدالحق وعلي حسن عبدالقادر، دار الرائد العربي، بيروت، مصوّر عن نسخة 1946م، ص63 ـ 66.

[86] ـحوار الأجيال، مصدر سابق، 416، بل يرى الدكتور حنفي في المصدر نفسه، ص16 ـ 17 أن الغزالي نفسه لا يمكن فهمه من خلال الإحياء والمنقذ والجواهر، فقد كان ((المستصفى في علم أصول الفقه)) آخر ما كتبه الغزالي، ولـه فيه مواقف لا تبعد كثيراً عن مفهوم النص في علوم القرآن، وقد كان للمستصفى أبلغ الأثر في ابن رشد الفقيه، ومن ثم فجواهر القرآن إنما هو بحث في علوم القرآن على الأصول الصوفية فقط.

[87] ـانظر حول العلامة الطباطبائي ودوره التنويري التحريري، مجلة الكلمة، العدد 36، 2002م، مقال: ((علم الكلام عند السيد محمد حسين الطباطبائي، قراءة في جدل العقل والنص))، حيدر حبّ الله، ص45 ـ 74.

*          *          *

إرسال

you should login to send comment link

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 36703537       عدد زيارات اليوم : 5876