حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتقرير بقلم: الشيخ حسن الخرس
تمهيد في مقدّمات خمس
حظيت مسألة الخلود الأخروي ـ أو ما يسمّى في الكتب الكلاميّة بدوام الثواب والعقاب أو بقاء النار وفنائها وغير ذلك ـ باهتمام العلماء والباحثين المسلمين على تنوّع مدارسهم واتجاهاتهم الفكريّة والعقدية والتفسيريّة وغير ذلك، لكنّ الخلود في النار ظلّ هو الأبرز والأكثر أهميّة على الإطلاق، خاصّة من جهة كونه على صلةٍ وثيقة بموضوع العدل الإلهي وفكرة تناسب الجرم والجزاء.
وقبل الدخول في صلب البحث لابدّ من تمهيد ضروري نقدّمه في ستّ نقاط محدّدة:
1 ـ تحديد نقطة البحث في كلامنا وتمييزها عن موضوعات قريبة أو متداخلة
اتخذ بحث الخلود في النار جانبين أساسيّين:
أ ـ أصل فكرة الخلود في الجملة بحقّ بعض الناس وعلى الأقلّ المشركين المعاندين.
ب ـ امتدادات فكرة الخلود لتشمل مساحةً أكبر، من نوع مرتكب الكبيرة أو من تعنون بعنوان المسلم أو نحو ذلك، وهل التوحيد مانع عن الخلود أو لا؟
بالنسبة إلينا ليس كلامنا هنا عن أصل فكرة خلود النفس الإنسانيّة، الأمر الذي تعرّض له الفلاسفة والمتكلّمون منذ زمن هشام بن الحكم وقبله، انطلاقاً من مثل نظريّة التجرّد وامتناع التغيّر والتحوّل في عالم التجرّد والفعليّة التامّة، فإنّ أصل فكرة الخلود شيء وفكرة الخلود في النار شيءٌ آخر، فلا تلازم بين اعتقادنا بخلود النفس والخلود في النار ولو بالنسبة للكافر المعاند. كما وليس كلامنا فيما هو موجود اليوم في الفكر الأخلاقي العالمي من نقاش حول إطالة عمر الإنسان وهل هو أمرٌ أخلاقي في ظلّ التطوّرات العلميّة الحديثة أو لا؟
كما أنّ كلامنا ليس حول من هو الخالد في النار ومن لا يشمله قانون الخلود، فهذا موضوعٌ طويل له تشعّباته الكلاميّة الأخرى من نوع شمول الخلود لمرتكب الكبيرة أو لا، إنّما كلامنا عن أصل فكرة وجود الخلود في عذاب النار بصرف النظر عمّن هو الذي يخلَّد فيها. وفي ضمن البحث سنجد أنّ بعض المداخلات والقراءات هنا لا تقف عند حدّ الخلود في النار، بل تطال فكرة الخلود نفسها، لتعتبر أنّها بنفسها محلّ تساؤل بلا فرق بين كون الخلود في النار أو في الجنّة.
وأيضاً ليس كلامنا في موضوع الخلود في النار بمعنى مطلق البقاء فيها، بل الموضوع المركزي هنا هو الخلود في عذاب النار، وسوف يأتي أنّ بعض العلماء وافق على الخلود في النار لكنّه رفض الخلود في العذاب، وسنحلّل طبيعة فهمهم وإمكانيّة التفكيك بين البقاء في النار وعدم العذاب.
2 ـ رسوخ فكرة الخلود في العصر الإسلامي الأوّل
زاوية الانطلاق هنا ـ وبخاصّة لمشهور المسلمين ـ كانت النصّ القرآني الذي يقف معه النصّ الحديثي، فقد تحدّث القرآن عن فكرة الخلود في مواضع متعدّدة، سواء الخلود في الجنّة أم في النار، ولهذا نجد أنّ العديد من الكلمات المتفرّقة في هذا الموضوع موجودة في ثنايا الحديث عن تفسير آياتٍ قرآنيّة هنا أو هناك، فمنشأ الموضوع قرآنيّ عند كثيرين، والنصّ القرآني هو الذي أثار هذه القضيّة وفرض البحث فيها، دون أن يلغي ذلك أنّ موضوعات أخر فرضت طرح الموضوع تارةً على الصعيد الكلامي الداخلي في قضيّة مرتكب الكبيرة، وأخرى على الصعيد الفلسفي ـ الكلامي في قضيّة العدل الإلهي، وثالثة على صعد فلسفية أخرى ستأتي. فأوّل نزاع كلامي حقيقي في الخلود كان من طرف الخوارج، لكن لا على خلفيّة أصل فكرة الخلود، بل على خلفيّة خلود أصحاب الكبائر، وإلا فقبل الخوارج وبعدهم لا نجد أيّ استغراب من أحد من المسلمين حول فكرة الخلود نفسها باستثناء إشارات روائيّة قليلة للغاية، مثل حوار النبيّ مع اليهود الوارد في توحيد الشيخ الصدوق، وما نسب لبعض الصحابة وسيأتي.
هذا يعني أنّ فكرة الخلود لم تُثر أحداً ـ بشكل حقيقي يكوّن ظاهرةً ـ في العصر الإسلامي الأوّل فلا أسئلة ولا استفهامات، ولهذا خلت السنّة من هذا الموضوع إلا من:
أ ـ نصوص قليلة لا ترقى لمستوى الصحّة في العادة. وقد نشير لبعضها لاحقاً.
ب ـ منسوبات لبعض الصحابة القلائل حول وجود كلام لهم في الخلود.
بل نزاع الخوارج وخصومهم حول مذنبي الأمّة الإسلاميّة هو بنفسه دليلٌ على شيوع فكرة الخلود بين المسلمين في العصر الأوّل بل هيمنتها، حيث لم يقع النزاع في نفي خلود أصحاب الكبيرة لأنّه لا خلود في النار، بل تركّز على عدم خلودهم من زاوية أنّهم مسلمون أو خلودهم من زاوية أنّهم مذنبون، الأمر الذي يعني أنّ أصل فكرة الخلود كانت بديهيّة في العقل الإسلامي الأوّل.
3 ـ النقاش في الخلود نقطة التقاء جزئيّة بين بعض الفلاسفة والعرفاء وبعض السلفيّة
أوّل أمر يثيرنا هنا هو أنّ موضوع الخلود حظي باهتمام فريقين في الأمّة بينهما أشدّ الخصام والصراع، فقد اتفقا على موضوعٍ مخالف للمشهور هذه المرّة! وهما: العرفاء والصوفيّة ومعهم الفلاسفة من جهة والسلفيّة أو بعض رموزهم على الخطّ الآخر (ابن تيمية و..). وربما يمكن تصنيف ابن قيم الجوزيّة (751هـ) أوّل وأهمّ شخصيّة إسلاميّة تناولت هذا الموضوع بإسهابٍ كبير، وذلك في كتابه “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”، ليُنكر الخلود، في الوقت الذي نجد أسماء شخصيّات بارزة في الوسط الفلسفي والعرفاني تتجه لشيء من هذا النوع ضمن طريقة ومقاربة مختلفة في كثير من الأحيان، من أمثال محيي الدين ابن عربي (638هـ)، ثمّ عبد الرزاق الكاشاني أو الكاشي (736هـ) في “شرح فصوص الحكم”، ثمّ صدر الدين الشيرازي (1050هـ) الذي أخذ ـ فيما يبدو ـ روح الفكرة من العرفاء قبله وبخاصّة كلمات ابن عربي، مروراً بالفيض الكاشاني (1091هـ)، وصولاً للشيخ محمود شلتوت والشيخ محمّد جواد مغنيّة والشيخ الدكتور الصادقي الطهراني، والدكتور حسن حنفي وغيرهم. وسوف نشير بما يسمح به المجال لمدى دقّة ما نسب لهؤلاء.
لكن لا يمكن تصنيف السلفيّة والعرفاء والفلاسفة على أنّهم منكرون للخلود، فهذا الكلام غير دقيق إطلاقاً، فقد وقعت نقاشات داخل هذه التيارات حول القضيّة، وانتقد بعضهم كلامَ بعضهم الآخر، وعلى سبيل المثال انتقد العلامة الطباطبائي نفي الخلود وردّ الأدلّة العقلية والنقليّة التي استند إليها النفاة من الفلاسفة وغيرهم.
4 ـ تعرّض نفاة الخلود لانتقادات شديدة من التيار الغالب
لا تبدو هذه المسألة من القضايا السهلة السلسة في تناول الفكر الإسلامي لها، حتى أنّ بعض كبار الفلاسفة اعتبروها من المسائل العويصة كما هو تعبير الملاصدرا، أو من الأسرار بحسب تعبير الملا هادي السبزواري. ولم تمرّ مسألة من هذا النوع مرور الكرام بل تعرّض منكرو الخلود لانتقادات شديدة عبر التاريخ، حتى أنّ العلامة المجلسي (1111هـ) قال: «إنّ الثواب والعقاب هل يجب دوامهما أم لا، فذهب المعتزلة إلى الأوّل وطريقه العقل عندهم، والصحيح عند أصحابنا أنّه لا يجب عقلاً. وأمّا شرعاً فالثواب دائم، وكذا عقاب الكفر إجماعاً من المسلمين إلا ما نقل من شذّاذ من المتصوّفين الذين لا يعدّون من المسلمين»([2]). وقال العلامة الحلّي (726هـ): «أجمع المسلمون كافّة على أنّ عذاب الكافر مؤبّد لا ينقطع، واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين..» ([3]).
وقال سعد الدين التفتازاني الأشعري (792هـ): «أجمع المسلمون على خلود أهل الجنّة في الجنّة وخلود الكفّار في النار»([4]). وقال عضد الدين الإيجي الأشعري (753 أو 756هـ): «أجمع المسلمون على أنّ الكفّار مخلّدون في النار أبداً لا ينقطع عذابهم، وأنكره طائفة لوجوهٍ..»([5]).
وبهذا نكتشف أنّنا أمام تيّار غالب في الأمّة يقابل تيّاراتٍ متفرّقة محدودة، تمّ نقدها بقوّة، واعتبارها خارجة عن السياق الإسلامي.
5 ـ من أصل واقعيّة الخلود إلى تبرير الخلود في العذاب فلسفيّاً وأخلاقيّاً
لقد أدّى النزاع حول الخلود ـ وفقاً لبعض منطلقاته ـ إلى خلق تيار يحاول تفسير فكرة الخلود من زاوية العدل الإلهي والمنطق العقلاني، وبهذا بات لدينا ملفّان أساسيّان اليوم:
1 ـ أصل فكرة الخلود في النار وما هي أدلّتها ومنطلقاتها، وهو بحث في عقلي نقلي معاً، وإمكانات إثبات هذا الواقع الخارجي العيني.
2 ـ تبرير الخلود في النار، وهذه المرّة من زاوية العقل الأخلاقي والعقل العملي، فكيف يمكن تبرير ذلك بوصفه فعلاً ينسجم مع العدل والرحمة ومنطق الجزاء؟ لقد أحدث الجدل الرافض لثبوت فكرة الخلود في النار إحساساً بلزوم أن يبرّر القائل بالثبوت أخلاقيّة ما يريد إثباته؛ ولهذا يمكننا أن نعدّ نظريّات مثل تجسيم الأعمال وما طرحه السيّد الخميني وغيره شيعيّاً وسنيّاً تحت إطار شرح الميكانيزم الأنطولوجي للخلود، وفي الوقت عينه تساهم في تبريره الأخلاقي.
لكنّ تركيزنا هنا سوف يكون على الملفّ الأوّل وبالضمن قد تقع إشارات حول الملفّ الثاني.
هذا، وسوف أقسّم البحث إلى قسمين أساسيّين: في القسم الأوّل نذكر الرأي السائد في مبدأ الخلود، وأبرز أدلّته باختصار، وكثيرٌ منها معروف. وفي القسم الثاني نتحدّث عن المسار التاريخي لنظريّات نفي الخلود وتنوّع منطلقاتها وأدلّتها والمناقشات حولها باختصار.
المحور الأوّل: نظريّة الخلود في النار، الأدلّة والمنطلقات
ذهب مشهور علماء الإسلام ـ حتى ادّعي إجماع الأمّة ـ إلى القول بمبدأ الخلود في النار أو في العذاب، ويعتبر ذلك واضحاً لديهم. وعندما نراجع التراث الإسلامي فنحن نجد تنوّعاً في منطلقات فكرة الخلود هذه، وذلك على نوعين:
1 ـ المنطلقات العقليّة
ثمّة بحثٌ في علم الكلام الإسلامي تحت عنوان “دوام الثواب والعقاب”، ويُدرج في كثير من الكتب تحت ما يعبّرون عنه بـ “صفات الثواب والعقاب”، فإنّ الدوام صفةٌ من صفات الثواب والعقاب. وعندما نراجع الاتجاهات الكلاميّة في صفة الدوام نجد انقساماً في هويّة العلم بدوام العقاب والثواب؛ فمن أين جاءنا هذا العلم بالدوام؟ وكيف عرفنا أنّ العقاب دائم والثواب كذلك؟
يميل المعتزلة ـ في الرأي المعروف عنهم ـ إلى القول بأنّ معرفتنا بدوام الثواب والعقاب معرفةٌ عقليّة، فيما يميل الكثير من الشيعة الإماميّة والمرجئة والأشاعرة وغيرهم إلى أنّ هذه المعرفة سمعيّة نقليّة، وأنّ العقل غير قادر على أن يُثبت دوام العقاب أو الثواب. ومن الإمامية من مال لرأي المعتزلة، كما يظهر من نصير الدين الطوسي (672هـ) في التجريد، والمقداد السيوري (826هـ) في كتابه “اللوامع الإلهيّة”([6])، وغيرهما.
يخيّل لي أنّ المعتزليّ ـ كعادته ـ يريد بناء المنظومة الكلاميّة على العقل؛ لأنّ الأدلّة العقلية تتميّز عنده بخاصيتين: أ ـ القاطعيّة أو اليقين الحاسم. ب ـ الحتميّة.
وكلا هاتين الخاصيتين تبني علم الكلام بناء محكماً؛ فالقاطعيّة خاصيّة ايبستمولوجيّة تمنع نفوذ الشكّ والريب والاحتمال إلى النظريّة الكلاميّة، والحتميّة خاصية أنطولوجيّة تمنع إمكان تحقّق عكس ما وقع في الخارج، وبهذا يبني المعتزلي علم الكلام على ما يشبه المعادلات الرياضيّة الحاسمة.
على هذه الوتيرة، قال المعتزليُّ هنا بأنّ منطلق الخلود عقليٌّ، متجاهلاً ـ كعادته ـ عشرات النصوص القرآنيّة والحديثيّة، لا لأنّه لا تهمّه هذه النصوص بالضرورة، بل في تقديري لأنّ النصوص تبقى خاصرة رخوة وأرضاً غير صُلبة، بحيث يمكن فيها خلق فرضيات تفسيريّة هرمنوطيقيّة بديلة، الأمر الذي يُربك القاطعيّة والحتميّة، وهما عنوانا استحكام النظام الكلامي المعتزليّ، وسوف نجد لاحقاً كيف أنّ العشرات من نصوص الخلود الدينيّة، تمّ تقديم تفسير آخر لها وفقاً لمقاربات لغويّة أيضاً، والمعتزلي أكثر خبرة من غيره في خلق فرضيّات تفسيريّة في النصوص وفقاً لنظريّاته في اللغة والمجاز. إنّ المعتزلي يهتمّ بشكل كبير بأن تبنى معرفته الدينية بناءً فولاذيًّا؛ ولذلك يتجه كثيراَ إلى صناعة الأدلة العقليّة وإن كان منطلق معرفته بالقضيّة الدينية منطلقاً نصيًّا.
بناءً عليه، اعتمد المعتزلة ومن أيّدهم هنا وهناك، أدلّةً عقليّة، وأشير منها هنا لاثنين فقط:
الدليل الأوّل: وهو دليل مركّب على شكل قياس منطقي:
المقدّمة الأولى: إنّ علم العباد بدوام الثواب والعقاب يحثهم على الطاعة ويبعدهم عن المعصية، فهو لطف. فإذا طالع العبد مثل قوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) (النساء: 56) علم بأنّ الثواب والعقاب دائمان لا ينتهيان فيدفعه هذا إلى الطاعة والامتثال، خلافًا لما لو علم بأنّهما مؤقتان فيحتمل فيه أن يصاب بالإحباط والتكاسل.
المقدّمة الثانية: إنّ اللطف واجب على الله تعالى.
والنتيجة: إنّ العلم بدوام الثواب والعقاب واجب، والمفروض ضمناً أنّ هذا العلم له معلوم، وهو الثواب والعقاب الدائمين، فثبت دوامهما.
واضحٌ جداً هنا أنّ المعتزليَّ وأنصاره ـ ومنهم فيما يبدو هنا نصير الدين الطوسي ـ يريد إثبات دوام العقاب من خلال ضرورة المعرفة بدوام العقاب، ولا يريد إثبات المعرفة بدوام العقاب من خلال دوام العقاب نفسه، وبهذا يصبح الله لزاماً عليه أن يجعل العقاب دائماً، الأمر الذي يمهّد له أن يُعلم المكلّف بدوام العقاب، كي يقرّبه من فعل الطاعات؛ لقبح الكذب على الله. فهنا نرى أنّ المعتزلي قد دخل بآلياته الكلامية ـ وهي قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقاعدة اللطف التي هي ثمرة القاعدة الأولى ـ ليعالج بها الموضوع حسب قوانينه.
الدليل الثاني: وهذا الدليل مركّب أيضاً من مقدّمات:
1 ـ الثواب والعقاب يجب أن يكونا خالصَين. وهذه فكرة كلاميّة تعرّض لها المتكلّمون في بحث صفات الثواب والعقاب، بمعنى لا معنى لكون الثواب متضمّناً لنوع من الألم ولا العقاب متضمّناً لنوع من السعادة واللذّة.
2 ـ بعد ثبوت هذا القانون العام يمكن تنزيله على حالتنا، عبر القول: لو كان الثواب منقطعاً لتألّم المثاب بانقطاعه عن الجنّة، ولو كان العقاب منقطعاً لتلذّذ وسُرَّ المعاقَب بخروجه من النار، وهذا نقيض فكرة خلوّ الثواب والعقاب من الشوائب والنقائص والنقائض.
يبدو واضحاً أنّ المنطلقات العقليّة مبنيّة على تصوّرات مسبقة، وتبدو لنا اليوم غير مقنعة، ولا أُريد الدخول في مناقشاتها، لكنّها على أيّة حال محاولات لإثبات الخلود من خلال العقل الخاص.
2 ـ المنطلقات النصيّة (مجموعات النصوص القرآنية وتنوّع بياناتها)
وهذه هي المنطلقات الأكثر شيوعاً وأهميّةً هنا بين علماء المسلمين، وهي النصوص القرآنيّة والحديثيّة الكثيرة، والتي عندما نراجعها نجد فيها تنوّعاً، وسأجعلها على مجموعات ـ متداخلة بعضَ الشيء ـ مبنيّة على أساس نمط التعبير فيها (لسان النصّ)، وسأكتفي ببعض النماذج القرآنيّة بعيداً عن الأحاديث، وأضعها ضمن سبع مجموعات ترتكز بنيتها اللغوية على لغة الجلال الإلهي:
المجموعة الأولى: النصوص التي استخدمت مفهوم الخلود
مثل قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 63)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة: 161 ـ 162). وقال: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحل: 29). وقال تعالى: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: 72).
المجموعة الثانية: ما استخدم لفظ التأبيد
مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 168 ـ 169). وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (الأحزاب: 64 ـ 65). وقال تعالى: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجنّ: 23).
المجموعة الثالثة: التعبير عن أهل جهنم بأنّهم أصحابها
علىى أساس أنّ هذا يدلّ على الصحبة والملازمة وعدم الانقطاع، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 39)، وقال تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 81). وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 257). وقال سبحانه: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 47).
المجموعة الرابعة: ما جاء بتعبير نفي تخفيف العذاب
قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة: 86)، على أساس أنّ تخفيف العذاب يكون بتخفيف قوّته كما يصدق بانقطاعه. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة: 161 ـ 162). وقال تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (آل عمران: 86 ـ 88).
المجموعة الخامسة: ما جاء بلسان نفي الموت عنهم في دلالة على بقائهم في النار
قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (فاطر: 36)، وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) (طه: 74). وقال تعالى: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) (الأعلى: 11 ـ 13). وقال تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77)، حيث نفى ضمنيّاً أن يقضي عليهم الله ويُميتهم.
المجموعة السادسة: ما ورد بتعبير الإقامة فإنّه يفهم منه باللغة العربية الاستقرار والدوام
قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (المائدة: 37). وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (التوبة: 68). وقال تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) (الشورى: 44 ـ 45).
المجموعة السابعة: ما جاء فيه استخدام رفض الإخراج أو بيان عدم الخروج من النار
قال تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) (المؤمنون: 103 ـ 108). وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر: 37). وقال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالهَم حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة: 167). وقال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (المائدة: 37). بل القرآن يقدّم “سيناريو مشهدي” يشرح فيه وكأنّهم يريدون أن يخرجوا فتفشل محاولاتهم بإعادتهم إليها، وقال تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحجّ: 22). وقال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (السجدة: 20).
ويلحق بهذه المجموعة التعبير بنفي غيابهم عن النار، قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) (الانفطار: 13 ـ 16).
هذه الآيات وغيرها عندما نراجع التراث التفسيري والإسلامي عموماً نجد كيف فُهمت من قبل كثيرين على أنّها تدلّ على موضوع الخلود وأنّها تتعاضد فيما بينها.
وبهذا نكتشف أنّ فكرة الخلود في النار (أو الجنّة) عند القائلين بها لم تكن منبعثةً فقط من حرفيّة كلمة “الخلود” في النصّ الديني، بل تنوّعت البيانات اللغويّة وفقاً لفهمهم لها بما يكشف عن فكرة الخلود.
بهذه الطريقة يصبح واضحاً جدّاً أنّ النصّ القرآني دالٌّ على مسألة الخلود في العذاب، فضلاً عن الخلود في الجنّة، الأمر الذي وضع منكري خلود العذاب أمام مسؤوليّة كبيرة في محاولة اكتشاف قرائن وشواهد متصلة أو منفصلة، سياقيّة أوحاليّة، يمكنها أن تهشّم فهمنا الحرفي لفكرة الخلود القرآنيّة.
المحور الثاني: نظريّة نفي الخلود في النار/العذاب، التفاسير والمبرّرات
أعتقد بأنّنا لا نحتاج كثيراً للتوقّف عند نظريّة الخلود لوضوحها وتكرّر مستنداتها على ألسنة أصحابها في مواضع كثيرة، غير أنّ المنطقة القلقة تبقى في هذا الموضوع عند الطرف الآخر، وهم منكرو دوام العذاب.
وقد تنوّعت النظريّات هنا، ويجمعها انتهاء العذاب في النار، لكنّ هذه النهاية تختلف بينهم في تفسيرها، فكيف يتوقّف هذا العذاب؟ وما الذي يحدث؟ هنا نجد قراءات من نوع الاستلذاذ بالعذاب، وفناء النار، وأكل النار لهم وفنائهم هم، وانقطاع العذاب مع بقائهم في النار، مثل فكرة ابن الزنا، حيث ذهب المحدّث البحراني والشيخ جواد التبريزي وغيرهما إلى أنّ ابن الزنا المؤمن يثاب في النار فثوابه منها وهو فيها، وغير ذلك.
هذا يعني أنّ منكري الخلود في العذاب أمامهم أو وضعوا أنفسهم أمام تحدّيين: تحدّي أصل تبرير نظريّتهم، ومن ثمّ كيفية مواجهة هذا الكمّ الهائل من النصوص القرآنيّة والحديثيّة. وتحدٍّ أقلّ خطورة وهو استكمال الصورة لمعرفة ما الذي يحدث بعد انتهاء العذاب؟وما مصير الذين كانوا في النار؟ هل ينعمون في الجنّة لاحقاً أو يفنون أو تأكلهم النار أو غير ذلك؟ وكيف تتمّ عمليّة الانتهاء هذه؟ وغير ذلك.
بدوري أفضّل هنا الشرح التاريخي، الذي يعقبه الشرح الموضوعي أو الرسم الموضوعي للتصوّرات، فسوف أسير تاريخيّاً مع أبرز أُطروحات نفي الخلود، ثم نجمع الأطروحات من خلال فهرسة موضوعيّة، مع مقارناتٍ ومقاربات ضمن بياننا للاتجاهات المختلفة.
1 ـ نفي خلود العذاب في العصر الإسلامي الأوّل (عصر الصحابة والتابعين وأوائل المفسّرين)
في خضم الجدل المحتدم حول موضوع الخلود، تمّ ملاحظة أنّ نصوص الأثر الإسلامي الأوّل تحكي عن وجود مواقف منكرة للخلود في وسط الصحابة والتابعين أنفسهم، وقد نقلتها لنا كتب التفسير والقرآنيّات والحديث بالرغم من أنها قليلة جدًّا، ولا بأس بعرض عيّناتٍ منها، وتحليلها باختصار:
1 ـ عبد الله بن مسعود، قال: «ليأتينّ على جهنّم زمان تخفق أبوابُها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً»([7]).
يلاحَظ هنا أنّ النص وظّف آيةً اعتبرت لاحقاً من آيات نفي الخلود! فقد يكون ابن مسعود من أوائل من التفت مبكّراً إلى دلالة الآية على نفي الخلود أو أنّها قد لُفقّت إليه في النصّ لتشتدّ قيمة الاستدلال.
2 ـ عبد الله بن عباس، قال: «خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السماوات والأرض. إلا ما شاء ربّك. قال: استثناء الله. قال: يأمر النار أن تأكلهم»([8]).
3 ـ عمر بن الخطاب، قال: «لو لبث أهل النار في النار عدد (كقدر) رمل عالِج (ما تراكم من الرمل ودخل بعضه ببعض أو هو إشارة إلى منطقة شاسعة في الجزيرة العربية) لكان لهم يومٌ يخرجون فيه»([9]).
4 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «يأتي على النار زمان تخفق أبوابُها ليس فيها أحد»([10]).
5 ـ أبو هريرة، قال: «سيأتي على جهنّم يوم لا يبقى فيها أحد»([11]).
6 ـ الشَّعْبي (103هـ)، قال: «جهنّم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً»([12]).
7 ـ ويخبرنا نصّ الإمام الطبري (310هـ) في تفسيره أنّ جماعةً من مفسّري العصر الأوّل، توقّفوا عند تمييز القرآن بين عطاء أهل الجنّة وعذاب أهل النار، في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود: 106 ـ 108)، فيقول ـ الطبري ـ: «وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنّة، فعرفنا معنى ثنياه بقوله: عطاء غير مجذوذ أنّها في الزيادة على مقدار مدّة السماوات والأرض، قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة وجائز أن تكون في النقصان» ثم ينقل عن ابن زيد هذا الرأي([13]) ـ والمقصود بابن زيد الذي يتردّد اسمه في الكتب التفسيريّة عادةً هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي (182هـ)، من قدماء المفسّرين المحسوبين على مدرسة التفسير المدنيّة القديمة ـ وهي فكرة تشي بأنّ ابن زيد بدت عليه حالة الشكّ في الموضوع وأثاره التمييز القرآني في هذه الآيات بين الجنّة والنار. وهو ما رأينا لاحقاً أنّه تحوّل إلى دليل للتشكيك في الخلود.
هذه النصوص أثارت حفيظة القائلين بالخلود، فمن جهة تعرّضت لنقد في إثباتها الصدوري وصنّفت على أنّها ضعيفة من حيث الإسناد والمصدر، وكثير منها فيه رفع وإرسال، كما فسّرت في سياق حديث هؤلاء الصحابة والتابعين وتابعيهم، عن المسلمين من أهل المعاصي وليس عن الكفّار المعاندين، وهو تأويلٌ يمكن تصوّره في بعض هذه النصوص دون بعض. وثالثة في المعقوليّة التاريخيّة لفتح موضوعٍ من هذا القبيل في تلك الفترة، وبخاصّة من شخصٍ مثل عمر بن الخطاب الذي توفّي عام 23هـ، أي في وقتٍ مبكّر، غير أنّه ليس مستبعداً ظهور تساؤلات في العقود اللاحقة من القرن الأوّل نتيجة الفتوحات، فربما كانت هناك أسئلة لدى الشعوب الأخرى، وإن كان ما يُنسب للديانات المختلفة يوحي بضربٍ من الاعتقاد بالخلود.
واللافت أنّ هناك رواية شيعيّة إماميّة ـ لو صحّت تاريخيّاً بالفعل ـ فهي تكشف عن تداول هذا الموضوع في عصر الإمام جعفر الصادق، حيث يسأله أحد أصحابه، وهو حمران، فيقول: قلت لأبي عبد الله×: إنّه بلغنا أنّه يأتي على جهنّم حتى (حين) يصطفى (تصطفق) أبوابها فقال: «لا والله إنّه الخلود» قلت: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربّك)؟ فقال: «هذه في الذين يخرجون من النار»([14]). فكأنّ الرواية تشير لتلك الكلمات التي كانت متداولة في تلك الفترة. والله العالم.
وخلاصة الموقف أنّ التثبّت من وجود كلامٍ في القرن الهجري الأوّل حول هذه القضيّة يبدو صعباً، فالمعطيات المتوفّرة قليلة وقوّتها الصدوريّة محدودة جداً، لكن يظلّ في الأمر احتمالٌ ما، وإن كان بعيداً.
2 ـ القرون الكلاميّة الأولى (الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف و..)
ما إن يطلّ القرن الهجري الثاني حتى يظهر القول بفكرة انتهاء العذاب على يد التيّارات الكلاميّة في أجيالها الأولى. ويخبرنا نصٌّ بالغ الأهميّة لأبي الحسن الأشعري (324هـ) يقول فيه: «أجمع أهل الإسلام جميعاً إلا «الجهم» أنّ نعيم أهل الجنّة دائم لا انقطاع له، وكذلك عذاب الكفّار في النار. وقال «جهم بن صفوان» إنّ الجنّة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى من فيهما حتى لا يبقى إلا الله وحده، كما كان وحده لا شيء معه. وقال «أبو الهذيل» بانقطاع حركات أهل الجنّة والنار وأنّهم يسكنون سكونًا دائماً. وقال قومٌ إنّ أهل الجنّة ينعّمون فيها وأنّ أهل النار ينعّمون فيها..»([15]).
هذا النصّ يمكن إرفاقه بنصّ ابن حزم الأندلسي (456هـ) عن بدايات الآراء الكلاميّة هنا، وفيه معلومات إضافيّة، حيث يقول: «اتفقت فرق الأمّة كلّها على أنّه لا فناء للجنّة ولا لنعيمها ولا للنّار ولا لعذابها، إلا جهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض. فأمّا جهم فقال إنّ الجنّة والنار يفنيان ويفنى أهلهما. وقال أبو الهذيل أنّ الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلها إلا أنّ حركاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحرّكون وهم في ذلك أحياء متلذّذون أو معذّبون. وقالت تلك الطائفة من الروافض أنّ أهل الجنّة يخرجون من الجنّة وكذا أهل النار من النار إلى حيث شاء الله»([16]).
تحكي مثل هذه النصوص التي توثق الآراء الكلاميّة في القرون الأولى عن ثلاث قراءات مختلفة للموضوع:
القراءة الأولى: وهي قراءة الجهم بن صفوان التِّرْمِذي (الأوزبكستاني) (128هـ)، المقتول في آخر فترة ملك بني أميّة([17]). ولعلّها القراءة التي فتحت الطريق إلى المفهوم الذي عرف لاحقاً واشتهر ومال إليه بعضٌ وحمل عنوان: فناء النار، فالعقوبة تنتهي مدّتها، وبعد ذلك لا معنى لبقاء النار، فالمشهد النهائي قائمٌ على التلاشي التامّ، وعودة الوجود إلى نقطة البداية حيث كان الله ولا شيء معه.
والفكرة الأكثر غرابة في كلام الجهم بن صفوان هو في فناء النار والجنّة من جهة وفناء أهل النار وأهل الجنّة معاً من جهة ثانية، فإنّ حديثه عن فناء الجنّة إلى جانب فناء النار يكشف لنا أنّ منطلقات الجهم لم تكن موضوع العدل الإلهي، فليس هو موضوعاً منتمياً لما أسمّيه بعلم الكلام الإنساني، بل يبدو أنّ الجهم لديه منطلقات فلسفيّة ميتافيزيقيّة لفكرة خلود غير الله، وهو موضوع تمّ تداوله بقوّة في الفلسفة الإسلاميّة وعلم الكلام، وكأنّ الجهم لا يرى المشكلة فقط في أزليّة غير الله، كما هو نزاع الفلاسفة والمتكلّمين حول قِدَم العالم، بل هناك مشكلة أخرى في أبديّة غير الله أيضاً عنده، وكأنّ هذا التأبيد يوحي بضربٍ من التشابه مع الله والاستغناء عنه، وهو ـ التشابه وتعدّد القدماء ـ ما كان دائماً مثار قلق المتكلّمين من نظريّة قِدَم العالم.
الجهم بن صفوان إذاً لديه خلفيّة مرتبطة بنظام أنطولوجي، وهو بقاء ما لا يتناهى غير الله، فالله هو الأوّل والآخر، فكيف يمكن فرض تأبيد لغيره في ضوء كونه هو الآخر؟! وواضح هنا أنّ الجهم بن صفوان ضحّى بفكرة الخلود للحفاظ على فكرة الألوهيّة؛ لأنّ العقل الكلامي الأوّل كان يبني فكرة الألوهيّة (وجود الله) على حدوث العالم وتناهيه وعلى تصوّرات خاصة في الأسماء والصفات الإلهية (صورة الله في العقل الكلامي)، فأيّ خرق لهذه القواعد سوف يهدم أصل فكرة الألوهيّة، ويعرّضها لخطر كبير جدّاً. ودائماً أقول: عندما ينكر متكلّمٌ فكرةً غاية في الأهميّة والرسوخ فابحث عن فكرةٍ أخرى كان يسعى للدفاع عنها وحمايتها. فالانسدادات التي يواجهها المتكلّم الديني أحيانًا في بعض القضايا في علم الكلام تجبره على اتخاذ هذه المواقف الجريئة.
إذن تقوم وجهة نظر الجهم بن صفوان في مسألة الخلود في النار على أساسين:
الأساس الأول: ضرورة أن تكون هناك نهاية للعالم كما كانت هناك بداية له، لأنّ إثبات وجود الله قائم على محدودية العالم، وإلا لزم من ذلك أن يتعرّض إثبات الألوهية إلى خطر شديد.
الأساس الثاني: حضور مفهومَي: الأول والآخر في النصوص الإسلامية، وهما لا ينسجمان مع خلود أهل الجنة والنار.
هذا التحليل الذي نقدّمه يُسعفنا فيه ابن أبي العزّ الحنفي (792هـ) في كتابه الكلاميّ الشهير “شرح العقيدة الطحاويّة”، فبعد أن شنّع على الجهم بن صفوان ـ كما هي العادة في التشنيع على الأقليّات الفكريّة ـ قال: «وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده، وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم التي استدلّوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى جهم أنّ ما يمنع من حوادث لا أوّل لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الربّ في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي. وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال إنّ هذا يقتضي فناء الحركات فقال بفناء حركات أهل الجنّة حتى يصيروا في سكونٍ دائم لا يقدر أحد منهم على حركة»([18]).
أمّا المفسّر النّسَفي (710هـ) ـ وتفسيره يعدّ معتبراً في الوسط الكلامي الماتريدي ـ فقال في تحليل منطلقات مذهب الجهميّةِ هذا قبل أن ينتقدها: «وفيه بطلان قول الجهميّة فإنّهم يقولون بفناء الجنّة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنّه الأوّل والآخر.. ولأنّه تعالى باقٍ وأوصافه باقية، فلو كانت الجنّة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق، وذا محال»([19]).
طبعاً يجب أن ننتبه إلى أنّنا لا نملك معلوماتٍ عن الجهم بن صفوان إلا من نصوص المتكلّمين وعلماء الملل والنحل الذي يصنَّفون عادةً معارضين له، ومن ثمّ علينا أن نحافظ على احتماليّات الاشتباه في النقل أو المبالغة، وإن كان نقلهم لأدلّته يعزّز نسبة الرأي إليه، وقد اعتبر الشيخ جعفر السبحاني أنّ غير فكرتي: الجبر (والجهميّة تعتبر من مدارس الجبريّة الخالصة) وتعطيل الصفات الإلهيّة (المعطّلة) مما نُسب إليه، مشكوك جدّاً([20])، لكنّ السبحانيَّ لم يوضح لنا: ما السبب في الشكّ في غير هاتين الفكرتين؟! وما السبب في اليقين بهما؟!
لكن ماذا يفعل الجهم بن صفوان في النصوص الدينيّة الدالّة على الخلود؟
يحكي لنا نصّ لأبي الفتح الشهرستاني (548هـ) شيئاً حول ذلك فيقول: «حمل قوله تعالى (خالدين فيها) على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة في التخليد، كما يُقال خلّد الله ملك فلان. واستشهد على الانقطاع بقوله (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) فالآية اشتملت على شريطة واستثناء والخلود والتأبيد لا شرط فيه ولا استثناء»([21]).
إذا صحّ ما نقله هذا النصّ، فنحن نشهد منذ مطلع القرن الثاني الهجري محاولات تأويليّة للنصوص، ولهذا قلنا سابقاً بأنّ المعتزلة نقلوا الاستدلال من النقل إلى العقل، تحسّباً لمشاريع تأويليّة من هذا النوع تربك فكرة الديمومة:
أ ـ فالجهميّة هنا تأخذ ـ من جهةٍ أولى ـ قرينةً قرآنية، وهو التعليق على المشيئة بوصفه مفتاحاً لفرضيات أخرى، وإلا فلا ضرورة لهذا التعليق في النصّ القرآني، بل ربما أضافوا ـ ولا ندري ـ ما طُرح لاحقاً من أنّ تركيب الآيات القرآنيّة مع بعضها يُفهمنا سبب التعليق على المشيئة في النصّ القرآني هنا، حيث قال تعالى في موضعٍ آخر: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى..) (الأحقاف: 3)، فإنّ بعضهم فهم من “الأجل المسمّى” أنّ السماوات والأرض لهما نهاية محدّدة عند الله مسبقاً، فإذا تمّ تعليق بقاء أهل الجنّة والنار على بقاء السماوات والأرض، وتمّ الكشف عن كون السماء والأرض لهما أجل مسمّى، عنى ذلك أنّ العالم له نهاية بما فيه الجنّة والنار، وعليه فلا خلود.
طبعاً، لاحقاً تمّت الإجابة عن ذلك، وأنّ الفاني هو سماء الدنيا وأرضها فيما الباقي هو سماء الآخرة وأرضها، بحجّة قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (إبراهيم: 48).
ب ـ كما تحاول ـ من جهة ثانية ـ إجهاض دلالة كلمة “الخلود“ على الديمومة، من خلال إمكانيّة استخدام هذه الكلمة في اللغة العربيّة مجازاً ومبالغةً.
وهذان المعطيان سوف نرى أنّهما ظلا حاضرين عند العديد من نقّاد فكرة الخلود، لكن مع فارق أنّ الكثير من النقّاد اللاحقين وافق على خلود أهل الجنّة ورفض خلود أهل النار، في حين أنّ هاتين الخاصيتين موجودتان في خلود أهل الجنّة أيضاً. وربما اعتمدوا على نصوص أخرى (عطاء غير مجذوذ)، وإلا فسيكون طرح الجهم بن صفوان منسجماً مع نفسه أكثر منهم.
القراءة الثانية: وهي قراءة أبي الهُذيل العلّاف المعتزلي شيخ معتزلة البصرة (235هـ)، الذي وصفه باحثون بأنّه أوّل متكلّم إسلامي تأثر بالفلاسفة، لكنّ هذه القراءة لا ترتبط كثيراً بموضوع بحثنا، رغم أنّهم استحضروها هنا؛ والسبب في ذلك أنّ العلاف فيما نقلوه عنه لا ينكر الخلود، بل ينكر خلود الحركة، فهو ينكر التصوّر التقليدي للخلود، وهذا ما أثار استهزاء نقّاده لاحقاً، إذ اعتبروا أنّ أهل الجنّة سوف يتحوّلون إلى ما يشبه التحف والأصنام التي لا حركة فيها.
وواضحٌ أنّ العلاف ينطلق هنا لا من العدل الإلهي، بل من قضايا كلاميّة مرتبطة بالحركة والحوادث وغير ذلك شبيه منطلق الجهم بن صفوان، فلا نطيل.
وهناك محاولات في تفسير فكرة العلاف بطريقة مختلفة تدفع عنها السخف والاستهزاء لا نطيل بها هنا. فهو يرى استحالة الحركة التي ليس لها نهاية لأنّ هذا يورّطنا في الكفر بالله؛ لأنّه سيضع شخصاً غير متناهٍ إلى جانب الله.
إنّ علينا عند دراسة المتكلّمين هؤلاء أن نفهم ما الذي كانوا يفرّون منه حتى وصلوا إلى هنا، لا أن ننظر فقط إلى نتائجهم. فهؤلاء لم يكونوا فقط يناقشون الداخل الإسلامي الذي له مسلّماته، بل كانوا يناقشون الملاحدة والزنادقة والأديان الأخرى وأصحاب النزعات الفلسفيّة، وكانوا يحلّون مشاكل جدليّة مع هؤلاء أيضاً ـ تماماً كحال الداعية الإسلامي العامل في مجتمعٍ إسلامي والفرق بينه وبين الداعية العامل في مجتمع غير إسلامي ـ فقد يضحّون بفكرة داخلية لتأمين الجبهة الخارجية.
فكرة العلاف أنّ أهمّ شيء في اللذة والألم هو الإحساس، فيمكن لله أن يوصل هذا الإحساس لنا بلا حاجة لحركة أجسادنا، أي يمكن لله أن يوجد نفس اللذة الجنسيّة ـ مثلاً ـ في داخلنا بلا حاجة لحركة، وهكذا. وهو ما طرحه العرفاء فيما بعد عندما اعتبروا أنّ اللذات والآلام داخليّة، والخارج ليس سوى مُعدّات لها. وبهذا عمل على التوفيق بين النصّ الديني في الخلود والمعطى الفلسفي حول الحركة والسكون في سياق حماية فكرة الألوهيّة وصفاتها.
القراءة الثالثة: ما نسبه ابن حزم الأندلسي إلى من سمّاهم ببعض الروافض كما تقدّم، ولكن بمقتضى تفتيشي المتواضع لم تظهر لي معطيات حولهم، ومن المراد منهم.
3 ـ التيار الفلسفي الأوّل (ما قبل ابن عربي)، أبو نصر الفارابي أنموذجاً
عندما نتحدّث عن الموقف الفلسفي المنتمي إلى ما قبل ابن عربي ونطلق عليه التيار الفلسفي الأوّل هنا، فنحن نتكلّم عن الفترة الممتدّة منذ القرن الأوّل الهجري ـ إذا صحّ التعبير ـ وحتى نهايات القرن السابع الهجري، لنرى هل ظهر بين الفلاسفة ـ كما حصل بشكل محدود بين المتكلّمين ـ من قال بنفي الخلود صريحاً أو بشكلٍ مبطّن؟
أبو نصر الفارابي والمدينة الجاهلة
قبل الحديث عن الفارابي (339هـ) لابد لنا أن نشير إلى وجود نزاع فلسفي اضطربت نسبة الموقف منه للفارابي بين العلماء؛ لوجود شيء من التضارب في كلامه. وهذا النزاع هو حول أصل خلود النفس، فصحيح أنّ القول بخلود النفس لا يلازم القول بخلود العذاب كما قلنا سابقاً، لكنّ القول بفناء النفس وعدم خلودها لابد أن يترك أثراً على الموقف هنا، ويضع بعض الفلاسفة وغيرهم ممّن أنكر خلود النفس في دائرة الشكّ في اعتقادهم بالخلود في العذاب على أقلّ تقدير.
يتحدّث أبو نصر الفارابي عن المدينة الفاضلة، لكنّ كلامه في أطروحته المشهورة، لا يقف عندها، بل يمتدّ ليدرس المدن المضادّة للمدينة الفاضلة، فيتحدّث عن عدّة مدن مضادّة في الباب التاسع والعشرين، من كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة ومضادّاتها”. فيذكر المدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدّلة، والمدينة الضالّة. وما يهمّنا هنا هو حديثه عن المدينة الجاهلة وأهلها، فهو يعرّفها بأنّها المدينة «التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم. إن أُرشدوا إليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنّما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنّها خيرات من التي تظنّ أنها هي الغايات في الحياة، هي سلامة الأبدان واليسار والتمتّع باللذات، وأن يكون مخلّى هواه وأن يكون مكرّماً ومعظّماً. فكلّ واحدٍ من هذه سعادة عند أهل الجاهلة. والسعادة العظمى الكاملة هي اجتماع هذه كلّها. وأضدادها هي الشقاء، وهي آفات الأبدان والفقر وأن لا يتمتّع باللذات، وأن لا يكون مخلّى هواه وأن لا يكون مكرّماً»([22]).
ويقسّم الفارابي هذه المدينة إلى مدن مثل: «المدينة الضروريّة، وهي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتعاون على استفادتها. والمدينة البدّالة هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيءٍ آخر، لكن على أنّ اليسار هو الغاية في الحياة. ومدينة الخسّة والسقوط، وهي التي قصد أهلها التمتّع باللذّة من المأكول والمشروب والمنكوح، وبالجملة اللذة من المحسوس والتخيّل وإيثار الهزل واللعب بكلّ وجه ومن كلّ نحو. ومدينة الكرامة، وهي التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرّمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم، ممجّدين معظّمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إمّا عند غيرهم وإمّا بعضهم عند بعض، كلّ إنسان على مقدار محبّته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه. ومدينة التغلّب، وهي التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدّهم اللذّة التي تنالهم من الغلبة فقط. والمدينة الجماعية، هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحراراً، يعمل كلّ واحد منهم ما شاء، لا يمنع هواه في شيء أصلاً»([23]).
ويميّز الفارابي بين هذه المدينة بأنواعها والمدينة الفاسقة، وهي «التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة والله عزّ وجلّ والثواني والعقل الفعّال، وكلّ شيء سبيله أن يعلمه أهل المدينة الفاضلة ويعتقدونها، ولكن تكون أفعال أهلها أفعال أهل المدن الجاهلة»([24]).
هذا النوع من المدن (المدن الجاهلة) يتحدّث الفارابي عن مصيره ليشير ـ بعد كلامٍ وتعليق ـ إلى أنّ «هؤلاء (لعلّه يقصد كلّهم أو بعضهم) هم الهالكون والصائرون إلى العدم، على مثال ما يكون عليه البهائم والسباع والأفاعي»([25]).
لكن ربما يكون نصّ الفارابي في كتابه “السياسة المدنيّة” أكثر وضوحاً وشموليّة، فبعد حديثه عن خلود نفوس أهل المدينة الفاضلة، يقول: «إذا كانت أفعال أهل مدينةٍ ما غير مسدّدة نحو السعادة، فإنها تُكسبهم هيئات رديّة من هيئات النفس. كما أنّ أفعال الكتابة متى كانت رديّة أفادت كتابة ردية. وكذلك أفعال كلّ صناعة متى كانت ردية أفادت النفس هيئات من جنس تلك الصنائع رديّة، وتصير أنفسهم مرضى، فلذلك يلتذّون بالهيئات التي يكتسبونها بأفعالهم كما أنّ مرضى الأبدان مثل المحمومين لفساد حسّهم يستلذّون الأشياء المرّة ويستحلّونها ويتأذّون بالأشياء الحلوة وتظهر مرّة في لهواتهم، كذلك مرضى الأنفس لفساد تخيّلهم يستلذّون الهيئات الرديّة. وكما أنّ في المرضى من لا يشعر بعلّته وفيهم من يظنّ مع ذلك أنّه صحيح. ومن هذه سبيله من المرضى لا يصغي إلى قول طبيب أصلاً. كذلك من كان من مرضى النفوس لا يشعر بمرضه ويظنّ مع ذلك أنّه فاضل صحيح النفس، فإنّه لا يصغي أصلاً إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوّم. فهؤلاء تبقى أنفسهم هيولانيّة غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادّة حتى إذا بطلت المادّة بطلت هي أيضاً»([26]).
هذا الموقف أوجب اضطراباً في تقويم رأي الفارابي في موضوع الخلود، فهو من جهة يصرّح في كتبه المتعدّدة بخلود النفس، لكنّه هنا يتحدّث بطريقة مختلفة عن بعض الأنفس، الأمر الذي أوجد انقساماً في تحليل موقف الفارابي.
وقد حاول صدر الدين الشيرازي تحليل هذا الموقف عبر القول بأنّ الفارابي لم يقصد فناء النفوس الجاهلة أو الشقيّة أو غير ذلك، بل قصد أنّ تلك النشأة الأخرويّة لا تحيا فيها النفوس المادية الهيولانية، بل تكون لهم روح أخرى، لأنّ هذه النفوس تنعدم بانعدام المادّة. وقد تأوّل ملاصدرا قوله تعالى: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) بأنّ المراد لا يموت موت البهائم والحيوانات والحشرات ولا يحيا حياة العقلاء السعداء([27]).
ما يُلفتنا في الفارابي:
أ ـ عدم ملاحظته النص الديني وعدم تكبّده عناء الجمع والتوفيق أصلاً، فهو فيلسوف خالص هنا.
ب ـ اقتصاره على دليل واحد وهو أنّ نفوسهم ماديّة، فتتلاشى بتلاشي المادّة والبدن.
4 ـ تيّار العرفاء والمتصوّفة وإعادة قراءة الخلود (ابن عربي بوصفه نقطة تحوّل)
عندما ندرس اللاهوت العرفاني والصوفي ونقارنه باللاهوت الأشعري أو المعتزلي، بل والعدلي عموماً، فنحن نلاحظ فوارق كبيرة، أحد هذه الفوارق يتجلّى فيما يعتبره بعض الباحثين أنّ لدينا أربعة أنواع من علم الكلام:
1 ـ كلام “الإرادة” الأشعري.
2 ـ كلام “العدل” المعتزلي والشيعي.
3 ـ كلام “الأثر” السلفي. أو علم الكلام النقلي لأهل الحديث.
4 ـ كلام “الرحمة” الصوفي والعرفاني.
ورغم أنّ كلام الإرادة والعدل منطلقان من الصفات الإلهيّة: المريد والعادل، لكنّ خلف كلام الرحمة الصوفي يظهر لنا مشهدٌ آخر:
فمن جهة ورغم أنّ جميع المتكلّمين درسوا موضوع الصفات والأسماء وكانت لهم مدارس وتوجّهات مختلفة، لكنّ العرفاء ـ من بين هؤلاء ـ كانوا أكثر الناس اهتماماً بالصفات والأسماء من حيث ظهورها وتجلّيها ورؤيتها في عالم الوجود، وبخاصّة صفة الرحمة، فنادراً ما تجد نصوصاً للمتكلّمين الأوائل حول قضيّة الرحمة، بل ثمّة نصوص من هذا النادر تشي بأنّ الرحمة ليست صفةً أصيلة في الله تعالى، لأنّها صفة فعل. كما أنّ أحداً لم يختر صفة الرحمة ليؤسّس عليها علم الكلام، وحتى اليوم لا نجد علم كلام الرحمة، على عكس لاهوت المحبّة الموجود في المسيحيّة، ربما لأنّ المتكلّم شعر بأنّ الرحمة في القرآن لها منافس لا يُستهان به، وهو الغضب والانتقام والعذاب (الوجه الجلالي لله)، وكأنّ رحمة الله منحازة لجماعة الله ومن هم معه وليست شاملة، فلم يمكنه بناء علم الكلام على جناحٍ واحد دون آخر. لكنّ العرفاء كانوا ميّالين لصفات الرحمة الإلهيّة، بل حاول بعضهم هضم صفات الغضب ضمن صفات الرحمة. ويحتاج الأمر لدراسات عن سبب غياب صفة الرحمة ومتعلّقاتها ومشابهاتها من أن تلعب دوراً محوريّاً في اللاهوت الكلامي الإسلامي.
وربما أيضاً من الأسباب هو إشكالية الانفعال والعاطفة في مفهوم الرحمة، فلم يقدر المتكلّم على منح الرحمة بُعداً مركزيّاً، بل اضطرّ لتأويلها بصفة مركزيّة أخرى، فقالوا بأنّ الرحمة هي إرادة الإنعام والإحسان (الأشاعرة)، أو بصفة فعليّة أخرى وأنّ الرحمة هو فعل العطاء والإحسان (مجاز كما يقول الزمخشري) و.. وفي الكلام المعتزلي نجد الرحمة تفريعاً غير مصرّح به عن نظريّة العدل، فالعدل هو المهيمن على الرحمة وليس العكس، وهذا التجلّي واضح في نظريّة اللطف التي تحكمها قوانين العدل لا قوانين الرحمة المتخطّية للعدل.
يخرج عن هذا السياق كلّه مدرسة العرفان والتصوّف عند بعض رموزها من جهة، والمدرسة السلفيّة في بعض رموزها من جهة أخرى، حيث سنرى موقف ابن قيم الجوزيّة لاحقاً في تمييزه بين الرحمة فهي من لوازم الذات، والغضب وهو ليس من لوازم الذات الإلهيّة.
بدايات توظيف الرحمة في قضيّة العذاب الأخروي عند الغزالي
لعلّنا نجد بداياتٍ أوّلية لتوظيف مفهوم الرحمة في مجال العذاب الأخروي عند أبي حامد الغزالي (505هـ)، في كتابه بالغ الأهميّة “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة”، وهو من الكتب المبكّرة التي درست قضيّة التكفير في الأمّة، ففي فصلٍ يدور حول عنوان سعة رحمة الله تعالى، يتوقّف الغزالي عند الحديث عن الفكرة التي تقول ـ والمستدلّة من بعض النصوص الحديثيّة ـ بأنّ الناجين هم كالواحد من الألف وكذلك حديث الفرقة الناجية وغيرها.. إنّها تقول: إنّ العذاب أوسع شمولاً من الرحمة في الآخرة، لكنّ الغزّالي يرفض هذه الفكرة، ويرى أنّ النصوص الدالّة على رحمة الله تعالى أكثر من أن تحصى بحسب تعبيره، ثمّ يتوصّل للقول: «الرحمة تشمل أكثر الأمم السالفة، وإنْ كان أكثرهم يعرضون على النار، إمّا عرضة خفيفة حتى في لحظة أو في ساعة، وإما في مدّة، حتى ينطلق (يطلق) عليهم بعث النار، بل أقول: إنّ أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى». ثمّ يستنتج الغزالي أنّ الذين وصلهم الإسلام لكنّهم عرفوه مشوّهاً بحسب تلقينهم وما ألفوه، فهم مشمولون للرحمة الإلهيّة إذ ليس المهمّ عنده هو أن يعرفوا الإسلام، بل أن يعرفوا محمّداً ببعثه وصفته (صورة محمّد في العقل الجمعي غير المسلم). ليختم بعد ذلك بالقول بأنّ الخالد في النار من الكافرين خصوص من عرف الإسلام بصفته وحججه، لكنّه جحد وكذّب. وأغلب كفّار الروم والترك في زمانه ليسوا من هؤلاء عنده، خاتماً بجملة: «فاستوسع رحمة الله ولا تزن الأمور الإلهيّة بالموازين المختصرة الرسميّة» وبهذا يؤكّد على مفهوم سبق الرحمة (سبقت رحمتي غضبي)، وهو مفهوم اهتمّ به الميّالون لمرجعيّة الرحمة في القضيّة الأخرويّة([28]).
وما يجعلني أربط هذا التحليل عند الغزالي بالنزعة الصوفيّة، تأكيده في هذا البحث على أنّ أصحاب الكشف والتجربة المعنوية وصلوا لهذه الحقيقة التي أكّدتها أيضاً النصوص الدينيّة، مما يؤكّد لنا أنّ الغزالي ينطلق في فهمه هذا من النزعة الروحية الصوفيّة في تاريخ الإسلام، وبخاصّة أنّ كتاب “فيصل التفرقة” هذا صنّفه ـ على الأرجح ـ بعد الانتهاء من موسوعته “إحياء علوم الدين”.
ورغم أنّ المنسوب للجاحظ المعتزلي (255هـ)، وللشيخ البهائي([29])، ونصّ صريح للسيد روح الله الخميني([30])، يرى فيه أنّ أغلب علماء وعوام غير المسلمين جاهلون قاصرون لا مقصّرون، فلا يشملهم العذاب لمكان حجيّة القطع وأمثال ذلك، غير أنّ طريقة مقاربة الغزّالي تختلف عنهم؛ فهم أقرب للبحث العدلي في باب القبح والحسن، في حين أنّ الغزالي كان هنا أقرب لتناول الموضوع بروح فكرة الرحمة.
ورغم أنّ الغزالي لم ينكر الخلود في النار بل قلّصه تقليصاً، لكنّه مهّد ـ بوصفه حلقة في سلسلة تاريخ التصوّف في الإسلام ـ مهّد الطريق لأمثال ابن عربي في تناول موضوع العذاب الأخروي من زاوية بعض الصفات الإلهيّة، وبخاصّة الرحمة والرضا، بعيداً عن نمطيّة العدل والإرادة في علم الكلام الإسلامي.
ابن عربي ونفي الخلود في العذاب
توقّف ابن عربي (638هـ) وغيره ـ وبخاصّة جلال الدين الرومي (672هـ) ـ في عالم التصوّف والعرفان كثيراً عند مفهوم الرحمة، وكانت له كلمات مستفيضة حول الرحمة وأنواعها وتقسيماتها، كما اهتمّ بفكرة أنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء، فكيف يمكن فهم شموليّة الرحمة ضمن مفاهيم من نوع الغضب والعذاب والانتقام الإلهي؟! يعطينا ابن عربي صورة عن المشهد من خلال أنّ الرحمةَ خلقُ الموجودات، لهذا تكون شاملة.
يبدأ ابن عربي يعطينا إشارات لفكرته في الخلود فيقول: «اتصف الحقّ بالرحمة الواسعة فوسعت رحمته جهنّم بما ملأها به من غضبه، فهي ملتذّة بما اختزنته. ورحم الله من فيها أعني في النار الذين هم أهلها فيجعل لهم من هذه الرحمة نعيماً فيها، كما نعّم جهنم بما وضع فيها من الغضب الإلهي»([31]). فالرحمة تطال جهنّم نفسها وتطال من فيها معاً.
ابن عربي يعتبر أنّ أهل النار سيبقون في النار لكنّهم سيرحمون ويتنعّمون فيها يوماً، وفي موضعٍ يطلق على هذا النوع من الرحمة الإلهيّة رحمةَ الامتنان؛ لأنّ رحمة الامتنان عنده شاملة، فيقول: «من بالذي يزيل ما استحققناه من غضب الله، فيرحمهم الله برحمة الامتنان، وهي الرحمة التي في الآية الثالثة بالاسم الرحمن فيزيل عنهم العذاب ويعطيهم النعيم فيما هم فيه بالاسم الرحيم، فليس في أمّ الكتاب آية غضب، بل كلّها رحمة، وهي الحاكمة على كلّ آية في الكتاب؛ لأنّها الأمّ، فسبقت رحمتُه غضبه، وكيف لا يكون ذلك والنسب الذي بين العالم وبين الله إنما هو من الاسم الرحمن، فجعل الرحم قطعة منه، فلا تنتسب الرحم إلا إليه..»([32]).
ويدهشنا ابن عربي بسلسلة تصوّرات تبدو غريبة عندما يقول: «.. وما عدا هؤلاء المنعوتين (يقصد الصالحين والمؤمنين) فإنّ الله يرحمهم برحمة الامتنان من غير وجود نعت، وهي الرحمة التي وسعت كلّ شيء وفيها يطمع إبليس مع كونه يعلم أنّه من أهل النار الذين هم أهلها، فلا يخرج منها، بل الله يرحمها ويرحم من فيها بوجهٍ دقيق لا يشعر به إلا جهنّم ومن فيها بإنعامٍ يليق بذلك الموطن، ومزاج يكون أهله عليه، بحيث إنّهم لو عرضت عليهم الجنّة تألمّوا بالنظر إليها تألمّ أهل الجنة لو عرض عليهم دخول النار وتحقّقوا ذلك»([33]).
ابن عربي رغم كثرة الادّعاءات في كلامه وقلّة الأدلّة أحياناً قياساً بالادّعاءات، ربما لغلبة طريقة الكشف الصوفي عليه، لكنّه هنا يحاول التماس أفكار ظريفة جدّاً، فعلى سبيل المثال يقول: «.. فيُستَرْوَح من هذا عموم الرحمة في الدارين وشمولها، حيث ذكرهما ولم يتعرّض لذكر الآلام وقال بامتلائهما وما تعرض لشيء من ذلك وهذا كلّه من سلطان قوله لعباده إنّ رحمته سبقت غضبه، فالسابقة حاكمة أبداً.. إنّ السكنى لأهل النار في النار لا يخرجون منها، كما قال تعالى خالدين فيها يعني في النار، وخالدين فيها يعني في الجنة ولم يقل فيه، فيريد العذاب، فلو قال عند ذكر العذاب خالدين فيه، أشكل الأمر، ولما أعاد الضمير على الدار لم يلزم العذاب. فإن قال قائل فكذلك لا يلزم النعيم كما لم يلزم العذاب؟ قلنا: وكذلك كنّا نقول ولكن لما قال الله تعالى في نعيم الجنة إنّه عطاء غير مجذوذ، أي عطاء غير مقطوع، وقال: لا مقطوعة ولا ممنوعة، لهذا قلنا بالخلود في النعيم والدار ولم يرد مثل هذا قطّ في عذاب النار، فلهذا لم نقل به..»([34]).
ويصرّح ابن عربي مرّةً أخرى فيقول: «وأمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم، ولكن في النار؛ إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها. وهذا نعيمهم. فنعيم أَهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين أُلقِيَ في النار»([35]). وابن تُرْكة الإصفهاني (835هـ) يوضح مراد ابن عربي هنا بأنّ الخلود في النصوص قائم على الخلود في النار لا في العذاب([36]). ويضيف داود القَيْصَري (751هـ) ـ أحد أهمّ شرّاح ابن عربي ـ: «مآل أهل النار أيضاً إلى النعيم المناسب لأهل الجحيم. إمّا بالخلاص من العذاب، أو الالتذاذ به بالتعوّد، أو بتجلّي الحقّ لهم في صورة اللطف في عين النار، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم×، ولكن ذلك بعد انتهاء مدّة العقاب، كما جاء: «ينبت في قعر جهنّم الجرجير». وما جاء نصٌّ بخلود العذاب، بل جاء الخلود في النار، ولا يلزم منه خلود العذاب»([37]).
إنّ هدف ابن عربي وشرّاحه هنا إجراء مقارنة بين أهل النار وإبراهيم توجب التمييز بين مفهوم النار والعذاب، بحيث يتمّ بذلك إجهاض دلالة النصوص على الخلود في العذاب، وهذه هي الخطوة التأويليّة الأكثر أهميّة هنا.
وفي نصٍّ دالّ أيضاً، يقول ابن عربي: «فكما طهّر الله بيت النبوّة في الدنيا بما ذكره مما يليق بالدنيا، كذلك الذي يليق بالآخرة إنّما هو الخروج من النار، فلا يبقى في النار موحّد ممن بعث إليه رسول الله‘، بل ولا أحد ممن بعث إليه يبقى شقيّاً، ولو بقي في النار فإنّها ترجع عليه برداً وسلاماً من بركة أهل البيت في الآخرة فما أعظم بركة أهل البيت..»([38]).
وفي موضع آخر يقارب ابن عربي الموضوع من زاويتَي صفة الغضب والرضا عند الله تعالى فهو يعتبر أنّ الغضب شيء مؤقّت والرضا صفة غالبة، فكلّ غضب لا بدّ أن ينتهي ويتلاشى ليحلّ الرضا محلّه، وفي ضوء فهمه لعلاقة صفة الغضب بالرضا في الذات الإلهيّة يحلّل قضيّة الخلود في العذاب فينكرها، لأنّه يعتبرها خللاً في فهم الصفات الإلهيّة هذه([39]).
الركن الآخر الذي بنى ابن عربي عليه نظريّته هنا كانت صفة الصدق في الله أو علاقة الله بالوعد والوعيد، فهو يعتبر أنّ الله يجب عليه الوفاء بالوعد لكنّه لا يجب عليه الوفاء بالوعيد، إنّه يقول: «الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهيّة تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز «فَلا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه» لم يقل ووعيده، بل قال «ونَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» مع أنّه توعّد على ذلك. فأثنى على إِسماعيل بأنّه كان صادق الوعد. وقد زال الإمكان في حقّ الحقّ لما فيه من طلب المرجّح»([40]).
وقد شرح القيصري كلام ابن عربي هنا بقوله: «أثنى الحقّ على إسماعيل× بصدق الوعد، شرع يبين في حكمته أسراره، كما بين أسرار (الرضا). والثناء عقلاً وعادة لا يكون إلا في مقابلة خيرات المثنى عليه، لا في مقابلة الشرور، إذ لا يثنى على من يحصل منه الضرّ والنقم، بل على من يحصل منه النفع والنعم. فمن وعد بالخير وأنجز وعده، يثنى عليه بذلك. ومن أوعد فلا يثنى عليه بذلك الإيعاد، إلا إذا عفا وتجاوز عن إيعاده. والذات الإلهيّة لكونها منبع الخيرات ومعدن المسرّات، تطلب بالذات الثناء من العبيد، حيث أخرجهم من العدم إلى الوجود، وكساهم بحلل الكمالات، وجعلهم مظاهر الأسماء والصفات. والشرور أمور إضافيّة لكونها عبارة عن عدم ملائمتها للطبائع. فكون الشرّ شرّاً ليس بالنسبة إلى الذات، كما نبّه النبيّ‘ بقوله في دعائه: «والخير كلّه إليك، والشرّ ليس إليك»..»([41]).
الموضوع هنا عند ابن عربي هو وجوب وفاء الله بوعده، والمفروض أنّه وعد بالتجاوز عن السيّئات وأنّه يغفر الذنوب جميعاً، فنفي الخلود واجبٌ على الله لوجوب الوفاء بالوعد، وبهذا تنقلب الصورة عنده من نفي الخلود إلى إثبات عدم الخلود. أمّا آية أنّ الله لا يغفر أن يُشرك به فإنّ تخلف الله عنها ليس تخلّفاً عن وعد، بل تخلّفٌ عن وعيد، وليس بقبيح، بل هو محكومٌ لوجوب الوفاء بالوعد. وبهذا فرّق ابن عربي بين القضيّتين وأعاد فهم مجمل نصوص القرآن بهذه الطريقة. لكن على كلامه ينبغي أن لا يكون هناك عذابٌ قطّ! فهو فهم النصوص على أنّها وعيد وليست إخباراً بالخلود.
عندما نحلّل موقف ابن عربي نكتشف أنّه يُرجع القضيّة إلى الفيض الإلهي والقابليّات، فنعيم أهل النار درجةٌ من درجات النعيم لا يستحقّون نعيماً فوقه، ولا يعني ذلك أنّ النار صارت جنّة، وبهذا نكتشف أنّ التمايز بين أهل النار وأهل الجنّة ما زال قائماً عند ابن عربي. تماماً كالتمايز بين من يلتذّ بأكل القاذورات ومن يلتذّ بأكل العسل.
يواصل ابن عربي ليجعل أحد أدلّة القائلين بالخلود دليلاً له، في عملية تأويليّة بامتياز، فأحد أدلّتهم تعبير القرآن والسنّة عن أهل النار بأنّهم أصحابها أو أهلها، كما رأينا سابقاً، وأهلُ الشيء يستأنسون بالشيء ولو أخرجوا منه لتعذّبوا، تماماً كما يتألّم الإنسان عندما يخرج من وطنه قال: «وأمّا أهل النار الذين هم أهلها ولم يقل أهل العذاب، ولا يلزم من كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا معذّبين بها فإنّ أهلها وعمارها مالك وخزنتها وهم ملائكة وما فيها من الحشرات والحيّات وغير ذلك من الحيوانات التي تبعث يوم القيامة ولا واحد منهم تكون النار عليه عذاباً، كذلك من يبقى فيها لا يموتون فيها ولا يحيون وكلّ من ألف موطنه كان به مسروراً وأشدّ العذاب مفارقة الوطن، فلو فارق النار أهلها لتعذبوا باغترابهم عما أهلوا له، وإنّ الله قد خلقهم على نشأة تألف ذلك الموطن فعمرت الداران وسبقت الرحمة الغضب ووسعت كلّ شيء جهنم ومن فيها والله أرحم الراحمين»([42]).
ورغم موافقة الملاصدرا الشيرازي على نظريّة عدم الخلود، لكنّه ناقش ابنَ عربي في استدلاله هذا، فقال: «هذا استدلالٌ ضعيف مبنيٌّ على لفظ الأهل والأصحاب، ويجوز استعمالهما في معنى آخر من المعاني النسبية كالمقارنة والمجاورة والاستحقاق وغير ذلك، ولا نسلّم أيضاً أنّ مفارقة الموطن أشدّ العذاب، إلا أن يراد به الموطن الطبيعي، وإثبات ذلك مشكل»([43]). وإشكال الملاصدرا صحيح فهذه التعابير لا تنفع لا النافي للخلود ولا المؤمن به، فليست دليلاً أيضاً على الخلود.
ابن عربي لا يمثل هنا نفسه فقط بل يمثل مجموعة من أتباعه عبر التاريخ، شرحوا أو وافقوا على مضمون كتبه في الجملة. وبالمناسبة هناك نقاشٌ في ذهاب السيد الخميني إلى موافقة ابن عربي أو لا، ففي تعليقته على فصوص الحكم يظهر منه ما يحتمل عدم معارضته لكلام ابن عربي على قانون أنّ آخر الشفعاء هو “أرحم الراحمين”([44]). وفي دروسه الفلسفيّة يظهر منه ضربٌ من تأويل مفهوم الخلود في النصّ الديني إلى معناه العرفي وهو طول المدّة([45]). لكنّ نصوصاً أخرى له في مختلف كتبه قد يُفهم منها اعتقاده بالخلود.
كما أنّ هناك نصّاً للشيخ حسين علي المنتظري يطرح فيه احتماليّة استعذاب العذاب للخالد في النار بوصفها احتماليّة قائمة، فهو عندما يتحدّث عن الخالد في النار يقول: «ربما تناله رحمة الله ويتصل به عزّ وجلّ، بل قد يستعذب عذاب الله.. بحكم مسانخته لذاته»، ويَعْتَبِر أنّ هذا الكلام يمكنه حلّ إشكاليّة عدم تناسب الجرم والعقوبة([46]).
بهذا نقف على سلسلة من الأصول القريبة لنظريّة ابن عربي وأهمّها: مبدأ غلبة الرحمة. ومبدأ غلبة الرضا. ومبدأ تقدّم الوعد على الوعيد. ودلالة الأهل والأصحاب على ذلك وغير ذلك.
قد تعجبنا أُطروحة ابن عربي، وقد نستغربها جدّاً ونراها متكلّفة ضعيفة بائسة، لكن على أيّ حال علينا أنّ نعرف أنّ المذاهب والأفكار لا تولد مكتملة النموّ، بل تولد ولادة أوّليّة، ثمّ تنمو بالتدريج، لهذا يجب النظر في الأفكار الأولى بطريقة تراعي وضعها الزمني، ورصد تطوّرات مثل هذه النظريّة لاحقاً وبخاصّة على يد أمثال صدر الدين الشيرازي وبعض من أتباع مدرسته، كما سيأتي، ثم نعمد للحكم عليها.
5 ـ ابن قيم الجوزيّة ومسألة فناء النار
يذهب ابن قيّم الجَوزيّة (751هـ) ـ كما ينقله عنه ابن الموصلي في “مختصر الصواعق المرسلة” ـ إلى أنّ صفة الرحمة ملازمة للذات الإلهيّة، فيما الغضب غير ملازم لها، فهو ليس بصفة ذات، كما أنّ الله كتب على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب، ولهذا فأسباب وجود الرحمة في الله دائمة لا تزول بينما أسباب وجود الغضب عنده ذات طابع مؤقّت فلا يدوم. وتتقدّم عنده المغفرة على العقوبة والرحمة على الغضب. ورحمته من منطلق ذاته وعقابه من منطلق الفعل فهو مخلوق له، كما أنّ ابن القيم رفض التأويلات المجازيّة لصفة الرحمة الإلهيّة منتهجاً مسلك السلفيّة وأهل الحديث في تناول موضوع الأسماء والصفات. بل هو يعتبر أنّ صفة الرحمة صفة إلهية تحظى بأولويّة على صفة الإرادة؛ لأنّ النصّ الديني وصف الله بالرحمن الرحيم ولكنّه لم يصفه بالمريد. من هنا فهو يرى كلّ الظواهر الكونيّة والحوادث الوجوديّة تعابير عن الرحمة الإلهيّة وبها ظهرت كلّها.
إنّ الذي يليق بالله عند ابن القيم هو أن يخلق الخلق ليرحمهم ولا يليق به أن يخلقهم ليعذّبهم، ومن قال ذلك فهو مصداق لـ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..) (الأنعام: 91)؛ لهذا فالنار عنده دارُ تطهيرٍ تزيل الأوساخ عن الإنسان، وليست داراً أبديّة. وطول مدّة البقاء في النار تابعٌ لمدى قذارة هذا الإنسان وحاجته للتطهير. فالرحمة والعفو أحبّ إليه من الانتقام والعذاب.
يعتبر العديد من الباحثين أنّ ابن القيم كانت له ميول روحيّة معنويّة رغم سلفيّته وحنبليّته وتلمّذه على ابن تيمية أكثر من خمس عشرة سنة، كشف عنها كتابُه “مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين”، لكنّه ظلّ منتهجاً بإخلاص مسلك شيخه ابن تيمية الحراني. ورغم إشاراتٍ هنا وهناك لدى دراسته موضوع الخلود في النار توحي بمنطلقات ذات نزعة صوفيّة، لكنّه قارب الموضوع في الغالب بطريقة سلفيّة مبنيّة على الحديث والنصوص الدينيّة.
كان هذا هو الإطار الذي يحكم تفكير ابن القيّم، لكن لكي ندخل في رحلة مختصرة معه في موضوع بحثنا يجب أن نراجع أكثر الباب السابع والستين من أبواب كتابه “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح“، والذي يعتبر هو وكتابه “شفاء العليل” من الكتب التي مال فيها لفناء النار، على خلاف كتب أخرى له يُفهم منه فيها عدم فنائها.
في هذا الباب من حادي الأرواح أطال ابن القيم في دراسة مسألة الخلود، ومصبّ بحثه هو أبديّة الجنّة؛ لأنّ كتابه هذا كلّه عرض وشرح مفصّل للجنّة وقضاياها، لكنّ أبديّة الجنة واضطراره لمناقشة الجهم بن صفوان فيها، جرّه للبحث المفصّل في أبديّة النار أو في فناء النار أو ما يعبّر عنه بعض الفلاسفة والعرفاء المتأخّرين بتسرمد العذاب.
يفتتح ابن القيم بحثه بعرض مطوّل نسبيّاً للاستثناء الوارد في الآية (إلا ما شاء الله)، متحدّثاً فيه عن خلود أهل الجنّة، ثمّ وبهذه المناسبة يعقد فصلاً حول المواقف الثلاثة بين المسلمين في مسألة الخلود، بين قائل بالخلود في الجنّة والنار، وقائل بعدمه فيهما وهو الجهم بن صفوان، وقائل بالتفصيل بالخلود في الجنّة دون النار. ويبتدئ ابن القيم بنقد فكرة الجهميّة ويستفيض في ذلك متعرّضاً بالضمن لمقولة أبي الهذيل العلاف، ليخلص إلى أنّ فكرة عدم أبديّة الجنّة وفنائها بدعةٌ ابتُدعت لا قائل بها في الإسلام.
هنا يجد ابن القيم نفسه في حوار مع فكرة أبديّة النار، فيفتتح كلامه بأنّ هذه المسألة فيها قولان معروفان عن السلف والخلف ناقلاً ذلك عن ابن تيمية، غير أنّ ابن القيم يصحّح فيما يبدو لابن تيمية عندما يقول بأنّ الآراء في هذه المسألة سبعة وليست اثنين، وبهذا يمتاز القول بفناء الجنة عن فناء النار، ففناء الجنّة فكرة مرفوضة لم يقل بها أحد من وجهة نظر ابن القيم، فيما قضيّة فناء النار حصل انقسام حولها إلى سبعة آراء وإن كان بعضها هو الجهم والعلاف!
وهذه الآراء السبعة هي: 1 ـ خلود كلّ من دخل النار ولو لحظة، وهذا قول المعتزلة والخوارج، فلا يوجد شيء اسمه خالد في النار وغير خالد. 2 ـ تحوّل العذاب فيها إلى ما هو عذبٌ ومستعذَب وهذا قول ابن عربي. 3 ـ قول بانتهاء العذاب على من فيها فيخرجون فيأتي بعدهم قوم آخرون وهكذا. وينسبه لليهود. 4 ـ إنّ من فيها يخرجون منها وتبقى ناراً خالية. 5 ـ قول الجهم بن صفوان أنّها تفنى بنفسها. 6 ـ قول أبي الهذيل العلاف في فناء الحركة. 7 ـ إنّ الله يُفنيها بعد مدّة. والأخير منقولٌ عن بعض الصحابة والتابعين، وهو يحشد النصوص فيما يتصل بهذا الموضوع على طريقته الاستقصائيّة في التتبّع والجمع.
وينتقد ابن القيم الآراء الستة الأولى، أمّا الرأي السابع فيستأنف بحثاً في مبرّرات القول بالخلود في العذاب، فيراها:
1 ـ الإجماع.
2 ـ النص القرآني.
3 ـ السنّة الشريفة.
4 ـ إجماع أهل السنّة والجماعة.
ونحو ذلك.
وينتقد ابن القيم ـ وهو يعرض مسلك القائلين بالفناء ـ ادّعاء الإجماع، فيرى أنّ القضيّة خلافيّة، وقد كشفنا عنها من خلال النصوص التي ترجع لعصر الصحابة.
وعندما يأتي للنصوص القرآنيّة ـ وهي بتقديري العمدة عنده وسائر الأدلة تؤول إليها ـ فهو يقول بأنّ جميع هذه النصوص تؤكّد خلود أهل النار في النار وعذابها، ولكن السؤال ليس في خلودهم في النار، بل في خلود النار نفسها، وهذا يعني أنّ الحديث عن الخلود في النار مرتهنٌ لخلود النار نفسها، وليس دالاً على خلود النار نفسها، فيكون معنى أنّ هؤلاء خالدون في النار هو: ما دام هناك نار فهم فيها، فلا توجد لحظة تكون فيها نار ولا يكونون فيها.. وهذه المحاولة التأويليّة يعود إليها ابن القيم لردّ كلّ الأدلّة التي من الكتاب والسنّة والإجماع وقول أهل السنّة والجماعة وغير ذلك، فمثلاً يقول: الإجماع أو إجماع الصحابة أو إجماع أهل السنة على خلودهم في النار لا على خلود النار، ليختم هذا المقطع بنفي قدرة العقل على البتّ في هذا الموضوع، ورفض أن يكون العقل وسيلة يمكنها إثبات الخلود، وكأنّه هنا يغمز من قناة من وظّف العقل لإثبات الخلود مثل المعتزلة، مميّزاً بين قدرة العقل على إثبات مبدأ الثواب والعقاب وقدرته على إثبات خلود النار.
رغم أنّ مسار البحث يبدو فيه ابن القيم مائلاً لطرف فناء النار، غير أنّه لا يصرّح بذلك بشكلٍ واضح هنا في جملة مستقلّة، فيحاول مرّة أخرى عقد فصلٍ لاحق للتمييز بين دوام الجنة والنار شرعاً وعقلاً، فيضع مميزات تصبّ لصالح فناء النار، وعددها خمس وعشرون أمراً ـ بينها الكثير من التداخل ـ نشير لبعضها ضمناً، منها:
1 ـ إنّ الله أخبر بعدم انقطاع نعيم أهل الجنّة، لكنّه لم يخبر عن عدم انقطاع جحيم أهل النار، كلّ ما أخبر به هو خلود المجرمين في النار والعذاب، لا خلود العذاب والنار.
2 ـ ثمّة في القرآن شواهد على عدم أبديّة النار، مثل العطاء غير المجذوذ لأهل الجنّة دون النار، وتعليق الأمر على المشيئة، وكذلك قوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) (النبأ: 23 ـ 24)، والأحقاب هي المدد الزمنيّة الطويلة غير المحدّدة، ولا معنى لهذا التوصيف لو كان الأمر فيه خلود النار ومن فيها([47]).
3 ـ الجنّة من موجب الرحمة الإلهيّة، والنار من موجب الغضب، وقد سبقت رحمته غضبَه، وفي رواية نبويّة غلبت الرحمة الغضب. وإذا كان مفهوم الغلبة هنا قائماً فدعوى التساوي بين الغضب والرحمة يوم القيامة عبر خلود النار والجنّة معاً تقع على خلاف مفهوم السبق والمفاضلة والغلبة، أي سبق الرحمة وغلبتها ومفاضلتها على الغضب.
4 ـ إنّ ما هو مقصودٌ بالرحمة فهو لذاته، وما هو مقصودٌ بالعذاب فهو لغيره، فلا يعذّب الله أحداً لذات التعذيب. وهنا يركّز ابن القيم على فكرة الغاية من وراء العقاب، فالله لا يعاقب لحاجة للمعاقبة، أو لمنفعة، كما لا يعاقب عبثاً، فلا بدّ من فرض غاية ومصلحة من وراء العذاب، وليس إلا مصلحة الأشقياء أنفسهم؛ إذ لا مصلحة للمؤمنين في الجنّة في أن يعاقب الله الكافرين إلى ما لا نهاية، وبهذا يقلب ابن القيم العذاب من غاية إلى وسيلة، ويحدّد الوسيلة بالصلاح والإصلاح فيتحقّق له ما يريد.
5 ـ يطرح ابن القيم موضوعاً مهمّاً هنا وهو أنّ النار مطهرة للعباد، إنّه يرى أنّ الله خلق الخلق على الفطرة، لكنّهم بدّلوا فطرتهم وغيّروها، فأرسل لهم الأنبياء والشرائع لإعادة الأمور لنصابها، فلم يتحقّق من ذلك نتيجة إلا عند بعضهم، لهذا وضع النار كي تقوم بتطهير البعض الآخر الذين لم يتقبلوا دعوات الأنبياء في الدنيا لكي يعودوا للفطرة، بهذه الطريقة يفلسف ابن القيم أصل فكرة العذاب. إنّه يراه محاولةَ الكَيِّ الأخيرة لإصلاح نفوسهم، فهو يقع في سياق الإصلاح، فلا فرق بين النبوّات والنار، كلّ ما في الأمر أنّ النبوّات في الدنيا والنار في الآخرة وهدفهم واحد، وهو عودة الإنسان لفطرته السليمة.
هنا تماماً يتعرّض ابن القيم لمقولة كثيراً ما حضرت في أدبيّات التبرير لفكرة الخلود في النار، وهو أنّ هؤلاء خبثت نفوسهم حتى صار الخبث ذاتيّاً لهم، وأنّهم لو أعيدوا للدنيا لفعلوا نفس ما فعلوه، قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الأنعام: 27 ـ 28). فهم يعاقبون:
أ ـ إمّا على الخبث الذاتي فيهم، والذي لا ينفكّ عنهم، فما دام موجوداً فالعقاب موجود، وهذا ما قاله من قبل بعض المشائين ـ وبقي عليه كثيرون إلى اليوم ـ حيث ربطوا فكرة الخلود بتحوّل ذات الإنسان لتصبح شرّانيّة، فالعلاقة بين الذات الشريرة والعذاب، لا بين الأفعال والعذاب حتى يقال بعدم تناسب الجرم والعقوبة.
ب ـ أو على بقاء النيّة والعزم عندهم، كما توحي به الآية المتقدّمة، وهو ما ذكره بعضٌ آخر من المبرّرين هنا، ووردت فيه بعض الأحاديث في كتب السنّة والشيعة.
هنا يرفض ابن القيم ذلك، إنّه يقرّ بكلّ ما جاءت به النصوص القرآنيّة والحديثيّة، لكنّ سؤاله هل هذا يحوّل انحرافهم لأمرٍ ذاتيّ لهم؟ إنّ هذا غير معقول، والله نفسه أخبرنا بأنّ خلقته لنا هي خلقة توحيديّة حنيفيّة، فالتوحيد هو الكامن في أعماق ذواتنا جميعاً. إنّ هذه النصوص تتحدّث عن حالهم قبل التطهير، أمّا بعد التطهير فلا تحكي هذه النصوص عن ذلك، والعذاب صفة تطلق على الحدّ كما في حدّ الزانية والزاني، حيث وصفه الله بالعذاب، فصفة العذاب لا تعني إخراجه عن دائرة كونه عقوبة تطهيريّة إصلاحيّة، غاية الأمر أنّ معالجة هذا المريض تحتاج ـ بعد فشل محاولات العلاج في الدنيا ـ إلى الكَيّ الشديد.
6 ـ إنّ ابن القيم يركّز على حديث «الشرّ ليس إليك»، ليقول بأنّ الشرّ لا يمكن أن يُنسب لله تعالى، وهذا يعني أن الشرّ مخلوق، وليس صفة لله، فمنشؤها ذنوب العباد، فلو قدّر الله شرّاً فهو لخيرٍ وراءه، فكيف يمكن في هذا السياق فهم بقاء النار؟! وكذا سعة الرحمة الإلهيّة لكلّ شيء، كيف يمكن فهمها في سياق الخلود في النار مطلقاً لا لغايةٍ إصلاحيّة بعد ذلك. إنّ ابن القيّم يرى أنّ خلق الناس ليعذّبهم أبد الآباد ليس من الحكمة. كما يستشهد بروايةٍ صحيحة حول رحمة أرحم الراحمين بعد كلّ الشفاعات يوم القيامة.
7 ـ ويستشهد ابن القيّم بآيات قرآنيّة وأحاديث دلّت على الخلود، لكنّنا نجزم بأنّه لا خلود فيها، مثل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)، مع أنّنا نعلم أنّه لو كان موحّداً فهو يخرج منها بعد العذاب، الأمر الذي يمكنه أن يُفهمنا أنّ هذا التركيب القرآني لا يعطي هذه النتيجة التي فهموها.
8 ـ كما يستند ابن القيم لعين ما قاله ابن عربي من أنّ الله لا يجب عليه الوفاء بوعيده، فلا نعيد([48]).
ابن القيم يوجّه البحث نحو هذه النتيجة دون أن يصرّح، لكن الكثيرين فهموا منه التبنّي مثل المُناوي (1031هـ) حيث قال: «وقد زلّت قدم ابن القيّم فذهب إلى فناء النار»([49]).
وقد تبع ابنَ القيم في مقولته (فناء النار مع القول بدوام العذاب ما دامت النار) بعضُ المعاصرين مثل الشيخ محمود شلتوت([50])، والشيخ محمد رشيد رضا.. وسنرى أنّ بعضاً آخر يحتمل جدّاً أنّهم استفادوا من طروحاته وبخاصّة في الوسط الإمامي.
6 ـ صدر الدين الشيرازي ومسألة الخلود
يعتبر صدر الدين الشيرازي (1050هـ) من أجيال الفلاسفة الذين حاولوا ـ على طريقتهم ـ التوفيق بين النص الديني والمعطيات الفلسفيّة والعرفانية، ولكن تبدو في بعض بحوثه هنا أشكال من الغموض والعبارات التي تفتح على احتمالات، ولعلّه كان متعمّداً لذلك والله العالم، ومع الملاصدرا نحن نواجه ظاهرتين:
الظاهرة الأولى: اعتقاده ـ وفقاً لبعض نصوصه ـ بما ذهب إليه ابن عربي في نظريّة العذاب العَذْب، فهو يقول ـ بعد ردّ استدلال ابن عربي بكلمة أصحاب النار وأهل النار محاولاً التماس دليل أفضل لصالح نظريّة ابن عربي ـ: «والأولى في الاستدلال على هذا المطلب أن يُستدلّ بقوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس الآية، فإنّ المخلوق الذي غاية وجوده أن يدخل في جهنّم بحسب الوضع الإلهي والقضاء الرباني لا بدّ أن يكون ذلك الدخول موافقاً لطبعه وكمالاً لوجوده؛ إذ الغايات كما مرّ كمالات للوجودات. وكمال الشيء الموافق له لا يكون عذاباً في حقّه وإنّما يكون عذاباً في حقّ غيره ممن خلق للدرجات العالية»([51]).
وقال الملاصدرا: «إنّ الكون في الجحيم غير مستلزم للعذاب الأليم، فإنّ الزبانية و السدنة من سكّانها ليسوا معذّبين بها كما مرّ ذكره آنفاً، والقول بانتهاء مدّة التعذيب للكفار وإن كان باطلاً عند جمهور الفقهاء والمتكلّمين وبدعة وضلالة لادّعائهم تحقّق النصوص الجليّة في خلود العذاب ووقوع الإجماع من الأمّة في هذا الباب، إلّا أنّ كلّا منها غير قطعيّ الدلالة بحيث تعارض الكشف الصريح أو البرهان النيّر الصحيح»([52]).
الظاهرة الثانية: فكرة الخلود النوعي، فالملاصدرا يقرّ بالخلود في الجنّة والنار، لكنّه يفسّر خلود أهل الجنّة بطريقة مختلفة عن خلود أهل النار. إنّه يقول: «أمّا الرحمة العامّة فهي التي وسعت كلّ شيء كما قال تعالى: عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء. وعندنا أيضاً أصول دالّة على أنّ الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها، كما أنّ الجنّة ونعيمها وخيراتها دائمة بأهلها، إلا أنّ الدوام لكلّ منهما على معنى آخر»([53]).
يبدأ هذا التغاير في المعنى يظهر عند الملاصدرا عندما يقول: «فإن قلت: هذه الأقوال الدالّة على انقطاع العذاب عن أهل النار ينافي ما ذكرته سابقاً من دوام الآلام عليهم. قلنا: لا نسلّم المنافاة؛ إذ لا منافاة بين عدم انقطاع العذاب عن أهل النار أبداً وبين انقطاعه عن كلّ واحد منهم في وقت»([54]).
معنى هذا الكلام أنّ الملاصدرا يؤمن بأصل ظاهرة الخلود للعاصين إلى ما لا نهاية، لكنّ هذا لا يعني أنّ كل فردٍ فرد من هؤلاء خالد في العذاب؛ وهنا تبدأ رحلة التحليلات في تفسير هذه الفكرة التي تفتح على احتمالات ونجد قدراً من الغموض، فيفهم من الفيض الكاشاني([55]) أنّ وجود النار والمعذبين فيها أمر دائم، لكن ليس كل فرد يعذّب بشكل دائم.
يقول الملاصدرا: «ولك أن تقول: إنّ الذي بقي من الإشكالات المتعلّقة بهذا المقام، والعقود المفصلة الغير المنحلّة إلى الآن عند جمهور العلماء وأهل النظر والكلام، إلّا من نوّر الله بصيرته بنور الكشف، إعضال خلود الكفار في النار بالعذاب الدائم، فإنّ شيئا ممّا ذكر من الأسباب الفاعلة والمدبّرات العالية لا يوجب ذلك؛ لأنّها مبرّأة عن الشرور والنقائص؛ ولا شيئاً من القوابل المادية يحتمل التعذيب الدائم والانفعال الغير المتناهي ـ كما بيّن في مقامه ـ والرحمة الإلهيّة التي وسعت كل شيء تنافي التعذيب الدائم كما مرّت الإشارة إليه. عند قوله تعالى: غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين. وهذه إحدى المسائل التي من مواضع الخلاف بين علماء الكشف وعلماء الرسوم، بل هي موضع الخلاف بين علماء الكشف بعضهم مع بعض أيضاً؛ فإنّهم اختلفوا هل يسرمد العذاب عليهم إلى ما لا نهاية له، أو يكون لهم نعيم بدار الشقاء فينتهي عذابهم إلى أجل مسمّى؟ مع الاتّفاق للجميع على عدم خروج الكفّار من دار البوار ومحلّ الأشرار، وأنّهم ماكثون. قلنا: كلّ ما ذكرت في باب الاستحالة في صدور التعذيب الأبدي والإيلام السرمدي وقبولهما من الجهات الفاعلة والقابلة ومخالفة ذلك للرحمة والعناية المقتضيتين لحفظ النظام وإقامة القوام وإبقاء الأنواع بالديمومة السرمديّة بتعاقب الأفراد و توارد الأعداد، إنّما يقتضي الاستحالة والامتناع إذا كان المعذّب واحداً شخصيّاً على صورة واحدة واستعداد واحد لقابل واحد. وأما إذا كانت الصور متواردة على قابل واحد والاستعدادات متعاقبة لمادّة واحدة ضعيفة الوحدة واهنة الوجود ما بين صرافة الوجود والفعليّة ومحوضة العدم والقوّة كما يفصح عنه قوله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى، فتوارد العقوبات الإلهيّة وتعاقب التعذيبات والنقمات الجبّارية على حسب توارد الصور المستقبحة وتعاقب الاستعدادات الظلمانيّة في أزمنة متمادية إلى ما لا نهاية له، كما قال تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ مما لا ينافي شيئاً من الأصول الحكميّة والقواعد العقليّة والسمعيّة..»([56]).
يتّضح من خلال النصّ أنّ الملاصدرا يتعاطى مع قضيّة الخلود على أساس نظريّته في الحركة الجوهريّة.
أمّا أدلّة الملاصدرا على ذلك فهي متعدّدة:
1 ـ المحذور العقلي على قواعد التحسين والتقبيح وقوانين الإفاضة العليّة
إنّ ملا صدرا يصرّح في تفسيره بأنّ الخلود في العذاب يواجه مشكلة كبيرة وبخاصّة على قواعد التحسين والتقبيح وأمثالها، فإنّ العذاب الأبدي ينافي هذه الإفاضة والإيجاد والعطاء الإلهي الدائم الذي يصدر من العلّة للمعلول([57]). إنّه يقول: «إنّ نظام الدنيا لا ينصلح إلا بنفوسٍ جافية وقلوبٍ غلاظ شداد قاسية، فلو كان الناس كلّهم سعداء بنفوس خائفة من عذاب الله وقلوب خاضعة خاشعة لاختلّ النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ العتاة كالفراعنة والدجاجلة وكالنفوس المكاره كشياطين الانس بجربزتهم وجبلتهم وكالنفوس البهيمية الجهلة كالكفار وفي الحديث الرباني إنّي جعلت معصية آدم سبب عمارة الدنيا. وقال تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين. فكونها على طبقة واحدة ينافي الحكمة كما مرّ.. فلا يتمشى النظام إلا بوجود الأمور الخسيسة والدنيّة المحتاج إليها في هذه الدار التي يقوم بها أهل الظلمة والحجاب.. فوجب في الحكمة الحقّة التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات في القوّة والضعف والصفاء والكدورة، وثبت بموجب قضائه اللازم النافذ في قدره اللاحق الحكم بوجود السعداء والأشقياء جميعاً. فإذا كان وجود كلّ طائفة بحسب قضاء إلهي ومقتضى ظهور اسم ربّاني فيكون لها غايات حقيقيّة ومنازل ذاتيّة. والأمور الذاتية التي جبلت عليها الأشياء إذا وقع الرجوع إليها تكون ملائمة لذيذة وان وقعت المفارقة عنها أمداً بعيداً وحصلت الحيلولة عن الاستقرار عليها زماناً مديداً بعيداً، كما قال تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ثمّ إن الله تعالى يتجلّى بجميع الأسماء والصفات في جميع المراتب والمقامات كما حققناه في مباحث العلم وغيره فهو الرحمان الرحيم وهو العزيز القهار وفي الحديث القدسي: لولا أن تذنبون لذهب وجاء بقوم آخر يذنبون»([58]).
بناءً عليه، نجد أنّ الملاصدرا يقف في الطرف المقابل لنظرية المدينة الفاضلة، فهو يعتبر نقيضها أمرًا ضروريًّا ولا يكتفي باعتبارها وهمًا، فلا بدّ من أن يتوفّر في الناس طبقات اجتماعية مختلفة.
2 ـ العلاقة بين العذاب الأبدي والرحمة الشاملة
قال الملاصدرا: « إنّ ذاته محض الرحمة والخير والنور. وكلّ ما يصدر عنه يجب أن يكون من باب الجود واللطف والكرم، ووجود العاهات والشرور إنّما يكون عنه بالعرض وعلى سبيل الشذوذ والندور؛ ولأنّه «سبقت رحمته غضبه» فإنّ الرحمة ذاتية، والغضب أمر عارض، والعرض الاتفاقي لا يكون دائميّاً كما حقّق في مقامه»([59]).
وقال في موضعٍ آخر: «إنّ جميع الحركات الطبيعيّة والانتقالات في ذوات الطبائع والنفوس إلى الله وبالله وفي سبيل الله، والإنسان بحسب فطرته داخل في السالكين إليه، وأمّا بحسب اختياره وهواه فإن كان من أهل السعادة فيزيد على قربه قرباً وعلى سلوكه الجبليّ سعياً وإمعاناً وهرولة، وإن كان من الكفّار الناقصين المختوم على قلوبهم الصمّ البكم الذين لا يعقلون فهو كالدواب والبهائم لا يفقه شيئاً إلا الأغراض الحيوانيّة، وإنّما الغرض في وجوده حراسة الدنيا وعمارة الأبدان وما له في الآخرة من خلاق، فله المشي في مراتع الدواب والسباع فيحشر كحشرها ويعذب كعذابها ويحاسب كحسابها وينعم كنعيمها وإن كان من أهل النفاق المردودين عن الفطرة الخاصّة المطرودين عن سماء الرحمة فيكون عذابه أليماً لانحرافه عما فطر عليه وهويه إلى الهاوية بما كسبت يداه فبقدر خروجه عن الفطرة ونزوله في مهاوي الجحيم يكون عذابه الأليم، إلا أنّ الرحمة واسعة والآلام دالّة على وجود جوهر أصلي يضادّ الهيئات الحيوانيّة الردية والتقاوم بين المتضادّين ليس بدائم ولا بأكثري كما حقق في مقامه، فلا محالة يؤول إمّا إلى بطلان أحدهما أو إلى الخلاص. ولكنّ الجوهر النفساني من الإنسان لا يقبل الفساد، فإمّا أن يزول الهيئات الرديّة بزوال أسبابها، فيعود إلى الفطرة ويدخل الجنّة إن لم تكن الهيئات من باب الاعتقادات كالشرك، وإلا فتنقلب إلى فطرة أخرى ويخلص من الألم والعذاب، وهذا هو المراد من مذهب الحكماء أنّ عذاب الجهل المركب أبدي يعنى صاحب الاعتقاد الفاسد الراسخ في جهله وعتوّه لا يمكن عوده إلى الفطرة الأصليّة فيصير من الهالكين المائتين عن هذه النشأة وعن الحياة العقليّة، ولا ينافي ذلك كونه حيّاً بحياة أخرى نازلة دنيّة..»([60]).
3 ـ مبدأ أنّ القسر لا يدوم (القسر لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً)
يقول الملاصدرا: «اعلم أنّ الأصول الحكميّة دالة على أنّ القسر لا يدوم على طبيعة، وأنّ لكلّ موجود من الموجودات الطبيعيّة غاية ينتهى إليها وقتاً، وهي خيره وكماله، وأنّ الواجب جلّ ذكره أوجد الأشياء على وجه تكون مجبولة على قوّة ينحفظ بها خيرها الموجود وتطلب بها كمالها المفقود، كما قال تعالى: هو الذي أعطى كل شيء خَلْقَه ثم هدى، فلأجل ذلك يكون لكلّ منها عشق للوجود وشوق إلى كمال الوجود وهو غايته الذاتية التي يطلبها ويتحرّك إليها بالذات. وهكذا الكلام في غايته وغاية غايته حتى ينتهى إلى غاية الغايات وخير الخيرات إلا أن يعوق له عن ذلك عائق ويقسر قاسر، لكنّ العوائق ليست أكثريّة ولا دائمة كما سبق ذكره، وإلا لبطل النظام وتعطّلت الأشياء وبطلت الخيرات ولم تقم الأرض والسماء ولم ينشأ الآخرة والأولى ذلك ظنّ الذين كفروا من النار، فعلم أنّ الأشياء كلّها طالبة لذاتها للحقّ مشتاقة إلى لقائه بالذات وأنّ العداوة والكراهة طارية بالعرض، فمن أحبّ لقاء الله بالذات أحبّ الله لقاءه بالذات، ومن كره لقاء الله بالعرض لأجل مرض طار على نفسه كره الله لقاءه بالعرض فيعذّبه مدّة حتى يبرء من مرضه ويعود إلى فطرته الأولى أو يعتاد بهذه الكيفيّة المرضية زال ألمه وعذابه لحصول اليأس ويحصل له فطره أخرى ثانية، وهي فطرة الكفّار الآئسين من رحمة الله الخاصة بعباده. وأمّا الرحمة العامة فهي التي وسعت كل شيء كما قال تعالى: عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء..»([61]).
فالملاصدرا يحلّ مشكلة “القسر لا يدوم” عبر تبدّل الطبيعة إلى طبيعة ثانويّة، وبخاصّة على نظريّته في الحركة الجوهريّة، فلا يكون قسرٌ بل طبيعة.
هل تراجع الملاصدرا عن نظريّته في الخلود؟
المتداول بقوّة بين الباحثين في فلسفة الملاصدرا أنّه تراجع في آخر حياته عمّا قاله في الخلود، وذلك في نصّ له في كتاب «العرشيّة» والذي يعتبرونه من آخر كتبه التي صنّفها قبل وفاته، وهو مخصّص لدراسة مسألة المبدأ والمعاد، فقد قال هناك ما نصّه: «وصاحب الفتوحات المكيّة أمعن في هذا الباب وبالغ فيه في ذلك الكتاب. وقال في الفصوص وأمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم؛ إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها وأمّا أنا والذي لاح لي بما أنا مشتغل به من الرياضات العلميّة والعمليّة أنّ دار الجحيم ليست بدار نعيم وإنّما هي موضع الألم والمحن وفيها العذاب الدائم، لكنّ آلامها متفتة (متفننة) متجدّدة على الاستمرار بلا انقطاع والجلود فيها متبدّلة وليس هناك موضع راحة واطمينان؛ لأنّ منزلتها من ذلك العالم منزلة عالم الكون والفساد من هذا العالم»([62]).
جلال الدين الآشتياني (2005م) يدلي هنا بدلوه ـ وهو من المناصرين الأشدّاء لفكرة الخلود، وفاقاً للمشهور ـ فيقول في تعليقاته على الشواهد الربوبيّة: «.. بعض كلمات المصنّف (قدّس سره) متشابهة، ولكنّ كلامه في رسالته المسماة بالحكمة العرشيّة محكم، فليُردّ المتشابه إلى المحكم، وهي آخر مصنّفاته ـ ثم ينقل نصّه الآنف الذكر ـ»([63]). وعلّق الآشتياني أيضاً فقال: «مسألة خلود الكفار وانقطاع العذاب عنهم لا يلائم القواعد العقليّة والآثار الواردة عن حملة الوحي عليهم السّلام. وقد عدل عن هذا القول المصنّف العلامة. ونحن قد ذكرنا تفصيل الاستدلال على بقاء الكفار في النار وعدم انقطاع العذاب وتخفيفه عن الكفرة؛ لأنّ قوّة العصيان ومخالفة الحقّ والملكات الحاصلة عن تكرر أفعال السيّئة بالحركات الجوهرية والتحولات الذاتية إذا رسخت بنيانه واستحكمت أساسه في النفس بحيث صارت داخلة في جوهر النفس لا تزول إلا بزوال النفس. والنفس دائميّ وما وقعت في باطن وجوده دائمي بدوام النفس»([64]).
غير أنّ بعض الباحثين المعاصرين ـ مثل الشيخ محمّد حسن قدران قراملكي ـ يرفض فكرة رجوع الملاصدرا عن رأيه في الخلود، ويرى أنّ ما قصده في العرشية ليس إلا تركه لفكرة العذاب العذب فقط والتي آمن بها ابن عربي([65]). ولعلّ ما يسعف هؤلاء أنّ الملاصدرا في نفس كتاب العرشية سعى لذكر أدلّة على عدم الخلود.
أمّا الفيض الكاشاني فعباراته يظهر منها متابعة ابن عربي والملاصدرا. وغالبا ما يعتمد على أقوالهما في كتابه “أصول المعارف”.
موضوع التبدّل الجوهري والهيئات النوعية تبريراً للعذاب يراه الكثير بعد ملاصدرا وليس آخرهم الطباطبائي والآشتياني، وكذلك موضوع النيّة السوء والعزم. ويعدّ الطباطبائي والآشتياني ـ رغم نزعتهم الفلسفية الصدرائية ـ من أكثر من انتقدوا مؤخّراً مسلك العرفاء والفلاسفة الذين أنكروا الخلود واستبدلوه بنظريّةٍ هنا وهناك([66]).
7 ـ محمد جواد مغنية ومداخلة في مسألة الخلود
يرفض الشيخ محمّد جواد مغنية (1979م) الخلود في العذاب فيقول: «وليس من شك أنّ الله بموجب عدله لا يعذب إلا من يستحقّ العذاب، وأنّ عذابه يختلف شدةً وضعفاً على حسب الجريمة والمعصية.. ومع هذا لنا أن نتساءل: إنّ في خلود الإنسان في النار إلى ما لا نهاية.. هل هذا الأليم العظيم من العذاب لهذا العاجز الضعيف يلتئم مع ذات اللَّه التي هي محض الخير والرحمة، والكرم والامتنان، واللطف والإحسان؟!.. أمّا هكذا أبداً ودائماً فمحلّ تساؤل.
وإذا قال قائل: وأيّ عذاب مهما كان نوعه، وطال أمده يكثر على قاتل الحسين بن علي×، أو على من ألقى قنبلة ذرية أو هيدروجينية على شعب فأفناه بكامله، أو على من سنّ سنة سيئة طال أمدها، وكثرت مفاسدها؟ قلنا في جوابه: أجل، لا يكثر على من ذكرت أي أليم من العذاب.. ولكن السؤال لم يقع عن هؤلاء ومن إليهم بل عن تخليد من هو دونهم بمراتب ومراتب. وتقول: وماذا تصنع بنصوص القرآن والسنة النبوية على التخليد بالنار؟ وأجيب لا شيء منها يرفض التأويل ويأباه([67]). وتقول ثانية: كلّ ما جاء به النصّ، وكان الأخذ به ممكناً يجب بقاؤه على ظاهره، وتخليد بعض العصاة في النار ليس محالاً في ذاته. وأقول: أجل، ولكن حمل الخلود على طول الأمد دون الأبد جمعاً بين النصّ وبين أدلة الرحمة لا تأباه الصناعة، ولا يرفضه الشرع والعقل. وتقول مرّة ثالثة: إنّ الفقهاء لا يرتضون هذا الجواب، لأنّهم لا يجيزون حمل اللفظ على غير ظاهره إلا بأسباب ثلاثة : قرينة عرفية.. الجواب أوّلاً: أحسب أنّ الفقهاء الذين اطّلعوا على أدلة رحمة اللَّه تعالى يوافقونني على أنّها تصلح لصرف أدلّة الخلود في النار عن ظاهرها بالنسبة إلى بعض العصاة.. «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً » . إذا عطفنا روايات الرحمة على هذه الآية تشكل لدينا قرينة قطعيّة على صرف أدلة الخلود في النار عن ظاهرها واختصاصها ببعض العصاة. ثانياً: نحن نتكلّم في الأمور العقائدية القطعيّة، لا في المسائل الفرعية الظنية، والفقهاء على ورعهم وقوة ايمانهم فإنهم علماء بأحكام اللَّه الشرعية، لا بالأمور العقائديّة، بل إنّ الكثير منهم بمنزلة المقلّدين فيما يعود إلى صفات اللَّه وأفعاله.. ثالثاً: إنّ العقل يستقبح الخلف بالوعد دون الوعيد.. سؤال رابع وأخير: بماذا تؤول آيات الخلود في النار؟.. الجواب: يمكن حملها على طول الأمد، لا على الأبد، أو على البقاء في النار من غير عذاب.. ويعزز هذا ما جاء في بعض الأحاديث أنّ بعض أهل النار يتلاعبون بجمراتها كالأُكْرَة، ويقذف بها بعضهم بعضاً. وليس من شك أنّ هذه اللعبة لا تجتمع أبداً مع خفيف العذاب فضلاً عن شدّته، وليس على اللَّه بعزيز أن يجعل النار برداً وسلاما على غير إبراهيم..»([68]).
8 ـ الصادقي الطهراني ومسألة انقطاع العذاب
يقارب الشيخ محمّد الصادقي الطهراني (2011م) موضوع الخلود على طريقته، وذلك في كتابه التفسيري الكبير “الفرقان” وكذلك في كتابه “عقائدنا”، فهو رجل قرآني معروف بنزعته القرآنية، إنّه يرى أنّ نظريّة الخلود في العذاب باطلة جملة وتفصيلاً، ويقيم ذلك ـ عبر بحث مفصّل يؤسف أنّه لم يلقَ اهتماماً كما لقيت قراءات الطباطبائي اهتماماً هنا فقد كُتب حوله القليل ـ على عدّة أسس، أبرزها:
1 ـ يحلّل الصادقي الطهراني مقولة الخلود على قواعد اللغة العربيّة، ويرى أنّ الخلود يعني المدّة الزمنيّة الطويلة وأنّ هذا ما تعطيه القراءة المعجميّة العربية من جهة والمعجم القرآني نفسه من جهة أخرى. إنّه يعتبر أنّ تفسير الخلود بمعنى البقاء الطويل الأمد هو الدلالة الأصليّة في اللغة العربيّة، وهو المعنى الحقيقي، فالعرب تفهم هذه الكلمة بهذه الطريقة، ليس هذا فحسب، بل هناك شواهد من وجهة نظره في القرآن على ذلك:
أ ـ قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (الأعراف: 176). وقال تعالى: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة: 3). ولا أحد يظنّ بأنّ المال يخلد الإنسان.
ب ـ استخدام لفظ التأبيد مع لفظ الخلود في بعض النصوص دون بعض في القرآن شاهد على أنّ الخلود منه تأبيدي ومنه غير تأبيدي، وهذا يكشف أنّ الخلود لا يعني التأبيد المطلق في لغة العرب.
ج ـ مقابلة الخلود في النار مع الجنّة في بعض النصوص القرآنيّة يكشف عن عدم التأبيد في خلود النار، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البيّنة: 6 ـ 8).
2 ـ يميّز الطهراني بين خلود النار والخلود في النار، فخلود النار يعني أنّ الكفار يعذّبون عذاباً لا نهاية له، أمّا الخلود في النار فلا يلازم خلود النار، وعليه فلو فنت النار يصحّ أنّ الكافرين كانوا مخلّدين في النار؛ لأنّ عدم وجودهم في النار في فرض عدم النار هو سالبة بانتفاء الموضوع، وهي لا تضرّ.
وبهذا يختلف الطهراني عن غيره، فهو يرى الخلود في النار غير دالّ، في حين حاول غيره أن يجعلوا الخلود في النار دالاً ويتحرّرون من خلود النار نفسها.
فلو لاحظنا قوله: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) (الأعلى: 13)، لوجدناه حديثاً في ظرف وجودها نتيجة كلمة “فيها”، ولو لاحظنا: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77)، لرأينا أنّه دالّ على البقاء فيها، وهكذا (..كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا..) (السجدة: 20)، فهم لا خلاص لهم من النار في ظرف وجود النار.
3 ـ يسأل الصادقي الطهراني نفسه عن مصير الكافرين إذاً، فيطرح احتمالين:
الاحتمال الأوّل: إنّهم سوف يموتون ويتلاشون بعد فناء النار.
الاحتمال الثاني: إنّهم باقون بعد فنائها لكن لا في عذاب ولا في رحمة.
ويرجّح الطهراني الاحتمالَ الأوّل فيراه أليَقَ بالمعطيات القرآنية؛ لأنّ بقاءهم أحياناً يوجب سلب العذاب عنهم مع أنّ القرآن يعطينا أنّهم ما داموا فالعذاب غير مسلوب عنهم، ففناء النار ـ حيث لا دليل على بقائها ـ ينتج عنه فناء أهل النار.
لكن لماذا ذهب الصادقي الطهراني هذا المذهب وما هي أدلّته على ذلك:
الدليل الأوّل: عرض نظريّة الخلود على قوانين العدل الإلهي التي ينبّه الطهراني إلى كونها مذكورة في القرآن، حتى أنّه يشير لقوله تعالى (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا) (النبأ: 25 ـ 26)، فالجرم لا بدّ من توافقه مع العقوبة، وهذه التبريرات التي يذكرونها غير مقنعة.
ويحاول الصادقي ردّ بعض التبريرات هنا من أنّ سبب الخلود هو عبارة عن أنّ الذي عصيناه هو الله غير المحدود، لكنّه يقول: إنّ هذا التحليل غير منطقي، فالجرم يرتبط بالفعل والفاعل لا بالمفعول به أو تجاهه. وإلا للزم كون كلّ المعاصي من الكبائر؛ لأنّها معاصي لله غير المتناهي، بل إنّ القرآن نصّ على التوافق قائلاً: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا..) (الشورى: 40)، دون أن يأخذ بالحسبان مكانة الشخص المعتدى عليه. وقال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الأنعام: 160)، وقال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) (غافر: 40).
الدليل الثاني: الرحمة الإلهيّة، فلو راجعنا النصوص القرآنيّة والحديثيّة الهائلة حول الرحمة وسعتها وشموليّتها والتركيز عليها ـ وهو ما غاب كثيراً عن أدبيّات المتكلّمين والعلماء ـ لوجدنا أنّ الخلود في العذاب لا يتناسب مع تلك الصورة الرحيمة التي قدّمها القرآن لله سبحانه.
الدليل الثالث: الحكمة الإلهيّة، فالصادقي يرى أنّه لا حكمة من وراء التخليد، وإذا أمكن لشخص تقديم حكمة فليعرضها علينا، فالعاقل الحكيم لا يعاقب عقاباً أبديّاً على معاصي موقّتة محدودة.
الدليل الرابع: فلسفة وجود النار، إنّ الصادقي يرى فلسفة وجود النار متماهية مع فلسفة وجود العقوبة في الدنيا متبعاً مسلك ابن قيم الجوزيّة هنا، فالنار مطهرة كالعقوبات الدنيويّة التي تطهّر الفرد والمجتمع، فالخلود منافٍ لفلسفة وجود العقاب الأخروي.
الدليل الخامس: مقولة الأحقاب التي وردت في القرآن، فهي تعني المدّة الطويلة غير المحدّدة (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) (الكهف: 60)، وهذا يعني أنّ اللبث في النار هو لبث لمدّة طويلة، فلا تكون أبديّة في هذه الحال.
على وفق هذه الأسس والمقاربات لا ينسى الصادقي الانتباه للنصوص الحديثية، فهو يرى أنّ الخلاصة التي وصل إليها تجعله يحكم على هذه النصوص الدالّة على الأبديّة بالوضع والجعل؛ لكونها مخالفة للعقل والقرآن الكريم.
بهذا يمكننا حساب الصادقي على القائلين بنظريّة فناء النار والتي رأينا ظهورها منذ قديم الأيّام ولم يكن آخر من قال بها الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد رشيد رضا وقبلهما ابن قيم الجوزيّة بل بالتأمّل يمكننا القول بأنّ أكثر ما طرحه الصادقي موجود في أعمال ابن القيّم وأمثاله.
خاتمة وكلمة أخيرة
عندما ندرس قضية نفاة الخلود نلاحظ عناصر أشبه بالمشتركة تقريباً:
1 ـ العدل الإلهي.
2 ـ الرحمة الإلهيّة.
3 ـ إمكان تأويل النصّ القرآني بوجود فسحة لغويّة.
4 ـ وجود قرائن وشواهد في النص القرآني والحديثي.
5 ـ وجود الكثير من التكلّف في قراءة الموضوع واختراع فرضيّات لا يبدو من السهل هضمها موضوعيّاً.
ويفترقون عن بعضهم:
أ ـ بعضهم انطلق من مقدّمات فلسفية أو عرفانيّة (ملاصدرا) وبعضهم لاحظ النصوص أكثر (ابن القيم).
ب ـ بعضهم انطلق من مقدمات عقليّة كلامية (الجهم بن صفوان والعلاف ومغنية) وبعضهم اعتبر أإنّ مفاد هذه المقدّمات موجود في النصوص، فالعلاقة نصيّة ـ نصيّة.
وختاماً أعتقد بأنّه لم يكتب حتى اليوم ـ في حدود اطّلاعي ـ دراسة شاملة مفصّلة جادّة معياريّة تدرس قضيّة الخلود على الصعد العقليّة والفلسفيّة والصوفيّة والقرآنيّة والحديثيّة على وفق مناهج متعدّدة، وتضع تفسيرات غير تأويليّة متكلّفة، بل انسيابيّة ومعقولة للنصوص الدينية، والتي قلنا بأنّها الأصل في قضيّة الخلود، فالمهم أن لا نقع في إحدى مشكلتين:
أ ـ مشكلة تطويع النصوص بطريقة فجّة وكأنّنا نتصوّر أنّنا في ورطة مع النصّ القرآني الذي نجتهد بتأويله، وكأنّنا أصبحنا ضحيّة النصّ القرآني الذي أحرَجَنا، ونريد بأيّ طريقة الافتكاك من ظواهره. يجب أن لا نقع في ما يعرف في علم النفس بـ “داء إرضاء الآخرين”.
ب ـ أن لا نطلب تغيير المفاهيم حول الخلود ونصرّ على الحفاظ الكامل على تمام القواعد والمعايير الكلاسيكيّة أو نمتنع عن دون مناقشة المشهور، فإنّ هذا في كثير من الأحيان ضرب من الخيال والوهم.
([1]) هذا تقرير لثلاث محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ (24 ـ 31 ـ 7) كانون الثاني وشباط ـ 2023م، وقد قام بكتابتها وتحريرها فضيلة الشيخ حسن الخرس.
([3]) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 561 ـ 562.
([6]) انظر: اللوامع الإلهيّة: 646.
([7]) الطبري، جامع البيان 12: 154.
([9]) العسقلاني، فتح الباري 11: 363؛ والسيوطي، الدرّ المنثور 3: 350.
([10]) المناوي، فيض القدير 5: 409.
([13]) المصدر نفسه 12: 154 ـ 155.
([14]) الحسين بن سعيد الأهواز، الزهد: 98؛ والحرّ العاملي، الفصول المهمّة 1: 373 ـ 374؛ وبحار الأنوار 8: 346.
([15]) مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين: 474.
([16]) الفِصَل في الملل والأهواء والنحل 4: 84؛ وانظر: البغدادي، الفَرق بين الفِرَق: 194.
([17]) أحد الآراء التاريخية تعتبر أنّ هشام بن الحكم كان جهميّاً قبل أن يصبح شيعياً. هذا ويشار إلى أنّ وصف الجهمي أحد أكثر الأوصاف شتماً في الأدبيّات الكلاميّة، لهذا اتّهم المعتزلة بالجهميّة في آرائهم بل أطلق عليهم هذا الاسم أحياناً، وقد تبرّؤوا منه.
([18]) شرح العقيدة الطحاويّة: 480 ـ 481.
([19]) مدارك التنزيل وحقائق التأويل 1: 31 ـ 32.
([20]) بحوث في الملل والنحل 3: 194.
([21]) الملل والنحل 1: 87 ـ 88.
([22]) آراء أهل المدينة الفاضلة ومضادّاتها: 127 ـ 128.
([23]) المصدر نفسه: 128 ـ 129.
([26]) كتاب السياسة المدنيّة: 93.
([27]) انظر: الحكمة المتعالية 5: 351 ـ 352؛ والشواهد الربوبيّة: 318؛ وتفسير القرآن الكريم 5: 281.
([28]) انظر: فيصل التفرقة: 100 ـ 108.
([29]) راجع: الخوانساري، روضات الجنّات 7: 67.
([30]) راجع: المكاسب المحرّمة 1: 200.
([31]) الفتوحات المكيّة 3: 386.
([38]) الفتوحات المكيّة 2: 127.
([39]) انظر: فصوص الحكم 1: 172.
([41]) شرح فصوص الحكم: 658 ـ 659.
([42]) الفتوحات المكيّة 3: 25.
([43]) الحكمة المتعالية 5: 352.
([44]) انظر: الخميني، التعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس: 75 ـ 76.
([45]) تقريرات فلسفه 3: 608، بقلم: السيد عبد الغني الأردبيلي.
([46]) المنتظري، من المبدأ إلى المعاد في حوار بين طالبين: 243.
([47]) لاحقاً انتقد العلماء توظيف هذه الآية، فقال بعضهم، مثل السيد كاظم الحائري في كتابه: (أصول الدين: 371): إنّ الآية دلّت على بقائهم أحقاباً ولم تحدّد هذه الأحقاب، فلعلّها كثيرة بحيث لا نهاية لها.
([48]) يمكن مراجعة كلام ابن القيم كلّه في حادي الأرواح: 718 ـ 792؛ وابن الموصلي، مختصر الصواعق المرسلة: 359 ـ 371.
([49]) فيض القدير شرح الجامع الصغير 5: 109.
([50]) راجع له: الإسلام عقيدة وشريعة: 43 ـ 44.
([51]) الحكمة المتعالية 5: 352.
([52]) تفسير القرآن الكريم 4: 315 ـ 316.
([53]) الحكمة المتعالية 5: 347 ـ 348؛ وانظر: الشواهد الربوبيّة: 314؛ وتفسير القرآن الكريم 1: 349.
([54]) الحكمة المتعالية 5: 350.
([55]) انظر: أصول المعارف: 176.
([56]) تفسير القرآن الكريم 1: 348 ـ 349.
([57]) المصدر نفسه 4: 313 ـ 314.
([58]) الحكمة المتعالية 5: 348 ـ 349.
([59]) تفسير القرآن الكريم 4: 314.
([60]) الحكمة المتعالية 5: 351 ـ 352؛ وانظر: الشواهد الربوبيّة: 317 ـ 318.
([61]) الحكمة المتعالية 5: 347 ـ 348.
([63]) التعليقات على الشواهد الربوبيّة: 777 ـ 778؛ وانظر: تعليقة الخواجوئي على تفسير القرآن الكريم للملاصدرا 4: 321.
([64]) الشواهد الربوبيّة: 319، الهامش.
([65]) انظر له: جهنّم چرا: 260 ـ 266.
([66]) فانظر للآشتاني كتاب: شرح بر زاد المسافر، ومقدمة أصول المعارف؛ وانظر للطباطبائي: الميزان 1: 412 ـ 416.
([67]) ولعلّه يمكن هنا إضافة: إذا جاز لكم التأويل في آية (لما خلقت بيديّ) وغيرها، فما المانع من التأويل في هذا الموضوع؟!.