حيدر حبّ الله([1])
بقلم: علي حمام
تمهيد
موضوع سهو النبيّ من الموضوعات التي وقع كثيرٌ من الكلام فيها داخل الإماميّة، وتنوّعت فيه المواقف والآراء. سأتناول هذه المسألة باختصار من خلال ثلاث شخصيّات لطالما ظلّ اسمها مطروحًا عند معالجة هذا البحث، حيث طرح الشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق (381هـ) نظريّته في موضوع السهو متابعًا أستاذه ابن الوليد، لكنّ الشيخ المفيد (413هـ) في رسالةٍ منسوبةٍ إليه تحت عنوان «عدم سهو النبيّ»، ردّ على الصدوق ومن ذهب مذهبه، ثمّ وفي القرن العشرين صنّف الشيخ محمّد تقي التستري (1405هـ) ـ رادًّا على المفيد ـ رسالةً مستقلّة تحت عنوان «رسالة في سهو النبيّ» أدرجت غير محقّقة في الجزء الأخير من كتابه “قاموس الرجال” بطبعة جامعة المدرّسين، ثمّ حُقّقت أخيرًا ونشرت في العدد الثاني والأربعين من مجلة الاجتهاد والتجديد في بيروت.
ما سأحاوله هنا هو تقديم مشهد توصيفيّ ـ تحليلي حول هذا الجدل الثلاثيّ الأطراف، وأستهدف من خلاله العرض والمقارنة بين منهجين مختلفين في علم الكلام التراثيّ: منهج علم الكلام العقليّ، ومنهج علم الكلام النقليّ؛ لتحليل كيفيّة تعاملهم مع هذا الموضوع، مع شيء من التعليق دون إطناب في مناقشة الاستدلالات ولا إعطاء رأي نهائيّ فيها؛ لأنّ الغرض الأساس هو تشريح الأفكار دون تقويمها.
أوّلاً: موقف الشيخ الصدوق من مسألة سهو النبيّ، عرض وتحليل وتعليق
النصّ العمدة الذي يطرحه الصدوق في هذا الموضوع هو ما جاء في كتابه “كتاب من لا يحضره الفقيه”، وهو يعلّق على صحيحة سعيد الأعرج، وهي إحدى الروايات التي تُعتمد في إثبات وقوع سهو النبيّ كما سيأتي، حيث قال: «إنّ الغلاة والمفوّضة لعنهم الله ينكرون سهو النبيّ‘، ويقولون: لو جاز أن يسهو‘ في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ؛ لأنّ الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة. وهذا لا يلزمنا؛ وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيّ‘ فيها ما يقع على غيره، وهو متعبّد بالصلاة كغيره ممن ليس بنبيّ، وليس كلّ من سواه بنبيّ كهو، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة؛ لأنّها عبادة مخصوصة والصلاة عبادة مشتركة، وبها تثبت له العبوديّة وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجل من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبيّة عنه؛ لأنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحيّ القيوم. وليس سهو النبيّ‘ كسهونا؛ لأنّ سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربًّا معبودًا دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبيّ‘ والأئمة صلوات الله عليهم سلطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون) وعلى من تبعه من الغاوين. ويقول الدافعون لسهو النبيّ‘: إنّه لم يكن في الصحابة من يقال له: ذو اليدين، وإنّه لا أصل للرجل ولا للخبر. وكذبوا؛ لأنّ الرجل معروف، وهو أبو محمّد بن عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين، وقد نقل عن المخالف والمؤالف، وقد أخرجت عنه أخبارًا في كتاب وصف قتال القاسطين بصفّين. وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ، ولو جاز أن تردَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن تردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة. وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتابٍ منفرد في إثبات سهو النبيّ‘ والردّ على منكريه إن شاء الله تعالى»([2]).
إجمال ما ذكره الصدوق يتلخّص بالقول: إنّ وقوع السهو من النبيّ‘ لا محذور فيه، وأمّا الإشكال على ذلك بأنّه يلزم منه السهو في تبليغ الأحكام الشرعيّة فلا نوافق عليه؛ لأنّه ينبغي أن نميّز بين الحالات المشتركة للنبيّ مع غيره من الناس، والحالات الخاصّة، فالصلاة من الحالات المشتركة يقع على النبيّ فيها ما يقع على غيره من الناس، وأمّا التبليغ فهو من الحالات الخاصّة؛ إذ لا مبلّغ للوحي غيره. ومن شروط الرسول عدمُ السهو في أداء الرسالة. ثمّ يوضح الصدوق بأنّ السهو الذي وقع به النبيّ ليس كسائر حالات السهو التي يقع بها الناس، فهو سهوٌ من الله لا من الشيطان الذي ليس له سلطان إلا على أتباعه الغاوين، ومحمّد‘ ليس منهم، وإنّما هو إسهاء من الله لحكمةٍ بالغة، فكما أنّ الله أنام رسوله عن الصلاة حذرًا من تأليهه ـ وهذا موضوع آخر وقع فيه خلاف أيضًا ـ حيث إنّ الله لا تأخذه سنة ولا نوم، كذلك أسهاهُ الله في الصلاة لنفي الربوبيّة عنه. ومن حكمة ذلك أيضًا بيانُ أحكام السهو للناس، ودفع التعيير عنهم بعدم قبول صلاتهم بسبب السهو كما أشارت إلى ذلك الرواية التي سيأتي التعرّض لها. ثمّ يعلّق الصدوق أخيرًا على من أنكر وقوع حادثة السهو تاريخيًّا بإنكار وجود شخصيّةٍ حقيقية لصاحب القصّة، بأنّه شخص معروف في التاريخ نقل عنه السنّة والشيعة ومن بينهم الصدوق نفسه، وبأنّ إنكار الروايات بهذه الطريقة يُفضي بنا إلى ردّ جميع الروايات في الشريعة.
من تحليل هذا النصّ يمكن ذكر الآتي:
1 ـ الصدوق ونسبة السهو للغلاة والمفوّضة
إنّ فكرة السهو ينسبها الصدوق للغلاة والمفوّضة، وليست هذه أوّل مرّة ينسب فيها شيئًا إليهم في كتبه، وأمّا تحديد من هم المفوّضة والغلاة برأي الصدوق وبرأي أستاذه ابن الوليد، ومدرسة قم في القرن الثالث الهجري؟ وما هو تعريفه لهم؟ فهذا أمرٌ آخر.
لكنّ السؤال الذي يخطر بالبال في طريقة بدء تعرّض الصدوق لهذه المسألة، بوصفه شاهدًا على عصره: هل يُعقل أن يكون جمهور الإماميّة قد تلقّوا فكرة نفي السهو وكانت واضحةً بالنسبة إليهم في كونها جزءًا أساسيًّا من عقيدتهم، كما هي اليوم كذلك، بحيث يجيبُك عنها أيّ واحد من عوام الشيعة.. هل يعقل أن يكون الأمر كذلك آنذاك ثمّ ينسب الصدوق هذا الرأي لمن أسماهم الغلاة والمفوضّة دون إشارة منه إلى وجود أحد من علماء الإماميّة قال بذلك، أو وجود أحد من الإماميّة قد تأثر برأيهم؟! هل هذا التعبير يساعدنا على افتراض شهرة إثبات السهو بين الشيعة أو على الأقلّ وجود انقسام حقيقي في الرأي بينهم؟ على الأقلّ في رؤية الصدوق للمشهد التاريخي. وهل استخدام الصدوق تعبير “الغلاة” هنا ـ بما له من دلالة إخراج عن الملّة أو عن التشيّع ـ يعني أنّه غير مقتنع بنسبة القول بنفي السهو لجمهور علماء الشيعة في زمانه أو أنّ هذا التعبير منه فيه مبالغة أو مجرّد توصيف عابر؟
ما يعزّز أنّ الصدوق يرى المشهد مختلفًا عمّا نراه نحن اليوم، بمعنى أنّه يرى نفي السهو مجرّد رأي مطروح في الوسط الشيعي، وليس منسوبًا لكبار العلماء ورموز الطائفة.. هو لعنه للغلاة والمفوّضة الذين ينسب إليهم ذلك، مع استبعاد لعنه علماء الشيعة ورموزهم. والسؤال هنا: إلى أيّ مدى يمكن أن يكون الصدوق تصوّر مشهد الرأي في زمانه بين الشيعة وفي الوقت عينه قام بلعن هؤلاء؟! وهذا يفتح الباب على احتمال أنّ نفي السهو عن النبيّ لم يكن مجمعًا عليه من وجهة نظر الصدوق، بل ليس مشهورًا، بل يُستبعد أن تكون عدّة من كبار العلماء المعتدّ بها قائلة به، وبالتالي جاءت شهرة هذه الفكرة في مدرسة بغداد التي أصّل لها المفيد لاحقاً، ثمّ تابعه المرتضى والطوسي.
ثمّة احتمال آخر في تحليل موقف الصدوق هنا، وهو أنّه يريد تشويه صورة القول بنفي السهو، ولو عبر مثل ما يُعرف في علم المنطق التطبيقي بمغالطة المنشأ، فنَسَبَه للغلاة والمفوّضة، ثمّ لعنهم، لا أنّه يقصد أنّ كل من قال بسهو النبيّ فهو من الغلاة والمفوّضة، بمعنى أنّ القول بنفي السهو قولٌ آمنت به أيضًا الغلاة، لا أنّه رأي حصريٌّ لهم، فنسبته الرأيَ للغلاة نوعٌ من محاولة تحقير هذا القول أو التخويف منه أو تشويهه، تمامًا كما لو أنّ لبعض علماء الشيعة في مسألةٍ اليوم رأيًا مخالفًا للسائد ففي مقام إبعاد الناس عنه وتحذريهم منه يقال هو رأيُ المذهب السلفي التابع لمحمد بن عبد الوهاب، ثمّ يُنتقد من باب حشر الخصوم الداخليّين في الزاوية.
هذا الاحتمال معقولٌ في تحليل عبارة الصدوق، ومعه فلا يمكن أن نستنتج أنّه يرى المشهد الإماميّ منفصلًا عن القول بالسهو، وأنّ فكرة نفي السهو من مختصّات الغلاة والمفوّضة، بل لعل ثمّة تيّاراً واسعاً من الإماميّة في زمانه قائل بنفي السهو عن النبيّ، غاية الأمر أنّ الصدوق بواسطة نسبة رأيهم للغلاة أراد تضعيف موقفهم.
غير أنّني أعتقد أنّ هذا الاحتمال ـ رغم معقوليّته ـ مرجوحٌ؛ وبخاصّة لو لاحظنا مرّةً أخرى ذيل النصّ الذي نقلناه عن الصدوق عندما تحدّث عن شيخه ابن الوليد ورأيه في أوّل درجات الغلوّ، فهذا يعني أنّ فكرة السهو هي فكرة غلاة الشيعة برأي الصدوق، وأنّه يمكن أن يكون قال بها بعضُ علماء الشيعة من غير الغلاة والمفوّضة بمعنى أنّها تسرّبت إليهم وتورّطوا بها، لكنّها تظّلّ فكرة مغالية ومنتسبة لتيار الغلوّ الذي يجب الانتباه إلى أنّه كان متغلغلًا في الشيعة وليس منفصلًا عنهم كانفصال الشيعة عن السنّة.
نعم، بعد فترة زمنيّة من وفاة الصدوق سنرى أنّ كلمات العلماء تنصّ على وجود إجماع شيعيّ على نفي السهو عن النبيّ، وهذا ليس أمرًا غريبًا بل له نظائر كثيرة في الفقه والكلام.
2 ـ تمييز الصدوق بين التبليغ والصلاة على قاعدة العموميّة والخصوصيّة
يميّز الصدوق بين سهو النبيّ في الصلاة وسهوه في التبليغ على قاعدة الاشتراك والاختصاص كما تقدّم، وهنا قد يُطرح سؤال نقدي عليه، وهو أنّ مجرّد كون الصلاة مشتركة بين النبيّ وسائر الناس دون التبليغ لا يرفع إشكال الآخرين بأنّه لو سها النبيّ في الصلاة فسوف يسهو في التبليغ؛ إذ أيّ ترابط بين العموميّة والخصوصيّة وبين موضوع بحثنا؟! ومجرّدُ خلع صفة العموميّة والخصوصيّة على نوعين من الأفعال لا يكفي لمنع عبور السهو من الأمر المشترك إلى الأمر الخاصّ! فماذا يريد الصدوق من وراء استخدام ثنائيّة العموم والخصوص في منع استدلال نفاة السهو؟!
يمكن أن يكون مقصود الصدوق شيئًا آخر، وهو أنّ التعيير الذي أشارت إليه الرواية لا معنى له في حالة التبليغ؛ إذ لن يكون هناك مبلّغ للوحي بعد النبيّ حتى إذا سها عيّره الناس، فليس للتعيير حينئذ ظروف موضوعيّة. بينما الصلاة التي هي عمودُ الدين يمكن فرض التعيير فيها من قبل الناس، وبالتالي تقبل أن يدفَع المُعيَّرُ عن نفسِه التعييرَ بسهوه في الصلاة بوقوع ذلك من النبيّ، فالصدوق طرح فكرة الخصوصيّة والعموميّة انطلاقًا من المبدأ الذي جاء في ذيل الرواية لا لمجرّد الخصوص والعموم.
وربما لا يكون هذا الكلام مقنعًا أيضًا لخصوم الصدوق؛ فدفع التعيير ليس بالضرورة أن يكون بالأمر المشترك، إذ بإمكان الناس أن ترفع التعيير بالقول بأنّ النبيَّ سها في أعظم مهمّة كُلّفَ بها، وهو التبليغ، فكيف لا أسهو أنا في الصلاة؟ بل دفع التعيير من خلال السهو في التبليغ سيكون أقوى وأجدى. وبالتالي فلا يرتفع الإشكال بمجرّد إدخال مفهوم التعيير.
والسؤال الأبرز هنا في تحليل موقف الصدوق هو أنّه لو صحّ كلامه عقلًا في إمكانيّة التفكيك بين التبليغ وغيره من الأفعال، بمنع عروض الخلل على النبيّ في التبليغ دون غيره، فإنّ تحليل الصدوق لباب العموميّة والخصوصيّة في المقام لا يسمح بحصر الموضوع في السهو فقط، وإنما يفتحه على الخطأ، فهل سيوافق في نظريّة العصمة عمومًا على تمييزٍ من هذا النوع فيقول بإمكان الخطأ على النبيّ في غير التبليغ دونه؟! وبعبارة أخرى: إذا كانت العمومية والخصوصية قد أسعفت الصدوق في تمييز السهو في الصلاة عن السهو في التبليغ، فهل يوافق على أن تسعفه العمومية والخصوصية في تمييز خطأ النبيّ في التبليغ عن خطئه في غيره؟ وهل يوافق الصدوقُ الإماميُّ على عدم العصمة في غير التبليغ في مجال الخطأ أو أنّه بهذه المحاولة الجوابية أوقع نفسه في تناقضٍ داخلي في نظريّته العامّة في العصمة؟!
لو أردت السير خلف احتمالات ما يدور في ذهن الصدوق، فربما نخمّن أنّه يرى أنّ الفرق هو في ضمانات وصول الرسالة؛ فالنبيّ في غير التبليغ لا ضرر في سهوه أو إسهائه؛ لأنّ أفعاله الإفراديّة ـ أعني كلّ فعلٍ فعل ـ ليست تبليغًا، وإنّما سنّته العامّة هو التبليغ، أو ما انضمّ من أفعاله إلى أقواله التبيينيّة، كما لو قصّر في ذي خُشُب، وانتقد الذين لم يقصروا ووصفهم بالعصاة، وفقًا لما جاء في الرواية، أمّا ما ينقله عن الله ويبيّن به شريعته ودينه فهذا لا يعقل فيه الإسهاء الموجب لصدور غير الحقّ منه؛ لكونه ناقضًا للغرض.
بل يمكن الذهاب في التفصيل هنا في مفهوم السهو والإسهاء حتى في التبليغ، بطريقة لا ندري موقف الصدوق فيها وما هو مبرّر رفضه عقليًّا وإمكانيًّا لها بعد كلامه هنا، وذلك أنّهم إذا قصدوا من السهو والإسهاء أن يغفل النبيّ عن أمرٍ فيصدر منه غيره، فهذا مضرٌّ بالتبليغ، أمّا لو أُريد منه مطلق النسيان، فأيّ مانع أن ينسى النبيّ الحكمَ الشرعي الذي أمره الله بتبيانه، فلا يقول شيئًا لأنّه ناسٍ، ثم يذكّره الله، فيُعلِم الناسَ بالحكم بعد التذكير الإلهي؟! فإذا قصد من مفاهيم السهو والإسهاء المعنى الأوّل فامتناعه مقبول مثلًا، دون الثاني؛ إذ الثاني لا يضرّ حتى بالتبليغ، فهل يقول الصدوق بذلك؟!
3 ـ الصدوق بين نظريّة السهو الشيطاني والإسهاء الإلهي
إنّ الصدوق يميّز هنا بقوّة بين السهو والإسهاء؛ ومعنى ذلك أنّ النبيَّ لا يسهو، لكنّ الله تعالى يتدخّل في بعض الأحيان فيُسهيه، لهدفٍ خاصّ ومعيّن، وغرض الصدوق هنا الحيلولة دون جعل السهو من الشيطان، فسهو الناس من الشيطان، بينما سهو النبيّ من الله، وبهذا حافظ الصدوق على حماية النبيّ من الشيطان في عمليّة السهو، وهو بذلك يريد تأكيد عصمته في الوقت الذي يؤيّد إسهاءه، والغرض الإلهي هو أن لا يتصوّر الناس في النبيّ الألوهيّة من جهة وأن يتعلّموا أحكام دينهم من جهة ثانية.
وهنا أسئلة هدفنا منها محاولة اكتشاف ما الذي يتوقّع أن يكون رأيَ الصدوق فيها:
أ ـ هل يعتقد الصدوق بأنّ السهو ـ بوصفه ظاهرة بشريّة عامّة ـ إمّا رحماني أو شيطاني ولا ثالث لهما؟ وإذا كان يعتقد ذلك فما هو الدليل عنده عليه؟
لقد نصّت بعض الآيات والروايات على أنّ الشيطان يمكن أن ينسي الإنسان، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 68)، وقال سبحانه: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: 42)، وقال تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ (الكهف: 63).
لكنّ هذه النصوص وأمثالها لا تُعطي قاعدةً عامّة حتى يكون سهو النبيّ إذا لم يكن من الله ـ بالطريقة التي فهمها الصدوق في موضوع سهو النبيّ ـ فهو من الشيطان بالضرورة، إذ هو ناشئ من الطبيعة الإنسانيّة والتركيبة الجسديّة والعصبيّة والدماغية للبشر.
يحتاج هنا نخوض أكثر في فهم تحليل الصدوق وجوابه عن هذا السؤال المفترض. لكن ثمّة ما يجعلنا نخصّص الدائرة ونطرد الاحتمالات الأخرى؛ لأنّ الصدوق يتعامل هنا مع الروايات الدالة على سهو النبيّ في الصلاة، وهنا من الممكن له أن يقول بأنّ هذا السهو حيث وقع داخل أمرٍ عبادي ـ وهو الصلاة ـ فيتقوّى احتمال أنّ مرجعه للشيطان، أو يقال بأنّ كونه من الشيطان يخالف نفي سلطنته على العباد المخلصين، أو يستعان بروايات سجود السهو وإطلاق تعبير «المرغِمتان» عليهما في الروايات ونحو ذلك، ومع انحصار الموضوع في هذين الاحتمالين نسب الإسهاء إلى الله لحماية الدائرة النبويّة.
ب ـ السؤال الآخر الذي يمكن طرحه على الصدوق في هذه الحواريّة المفترَضة هو أنّه إذا كان الصدوق يفصل بين مفهوم السهو ومفهوم الخطأ، فهذا يعني أنّ عليه أن يوافق على عروض الخطأ على النبيّ أيضًا لعين الأسباب التي برّر بها السهو عليه، كتعليم الدين ونفي تصوّرهم الربوبيّة له، فلا مانع أن يقتل النبيُّ مؤمنًا خطأ، أو يتصرّف في مال مسلمٍ عن طريق الخطأ والاشتباه بظنّ أنّه ماله، وهكذا. ولا أدري هل يوافق الصدوق على هذا أو لا؟ وهذا ما أورده عليه خصومه كما سنلاحظ بعدُ.
ليس غرضي هنا حاليًّا هو النقد، بل الذهاب مع الصدوق في تحليله، حتى إذا لم يكن يوافق على الخطأ النبويّ لزم النقض عليه به هنا؛ لنرى ما هي تصوّراته عن تفكيك المواقف.
ج ـ إنّ فكرة سهو النبيّ لأجل التعليم تبدو لي غير مفهومة، لو أخذت وحدها بصرف النظر عن المبرّر الثاني، إذ التعليم لا يحتاج لوقوع شخص النبيّ في السهو، بل يمكن أن يقع مباشرة بالتبيان أو بوقوع مؤمن من المؤمنين بالسهو فتكون حادثته بمنزلة فرصة تعليميّة لعموم المؤمنين، فلماذا يعرّض الله النبيّ نفسه للسهو بهدف تعليم الناس حكمًا شرعيًّا؟! إنّ هذا يظلّ في قائمة الاحتمالات المنطقية الخالصة، في حين نحن نفضّل أن نبحث عن العوامل الموضوعيّة التي تتطلّبها طبيعة الأشياء.
د ـ إنّ قول الصدوق بأنّه لو رُدّت الأخبار هنا للزم ردّها في مختلف المجالات، نابع في تقديري عن مقاربته للنصوص الحديثية التي وردت في موضوع سهو النبيّ من حيث الكمّ ونوعية المصادر والأسانيد، ومن حيث التعاضد. لكنّ السؤال هو أنّ الرادّ للأخبار هنا ـ وهي تزيد عن عشرين رواية بينها أكثر من خمس روايات صحيحة الإسناد ـ ينطلق في ردّه من وجود أدلّة مناقضة ولو من العقل، ولا يتوفّر هذا بسهولة في أكثر الروايات التي تستوعب الأخلاق والشريعة والتاريخ وكثير من التكوينيات والعقائديّات وغير ذلك. وبعبارة ثانية: لم ينبّه الصدوق هنا على أنّ خصومه الرافضين لسهو النبيّ لا يتعاملون مع هذه الروايات من نفس المنطلق الذي تعامل معه هو، بل يتعاملون معها على أنها روايات تخالف حكم العقل، وبخاصة أنّها جاءت في مجال البحث العقديّ لا في الفقه أو الأخلاق أو التاريخ، الأمر الذي يضعّف من قوّتها. وكان ينبغي عليه أن يفصّل بين موضوعنا هنا حيث تكون الروايات في مظنّة مخالفة حكم العقل وبين سائر الموضوعات، فلا يصح حينئذ إشكاله بأنّ ردّ الروايات هنا يستلزم ردّها في سائر الأبواب دون تفصيل بين نمطين من الروايات. فما هو موقف الصدوق من ردّ الروايات ولو الكثيرة لمناقضتها للعقل؟ ألم يقم هو نفسه بذلك في مواضع أُخَر؟ هل من المعقول أنّه لم يكن ملتفتًا للمبرّرات الموضوعيّة التي طرحوها رغم أنّه أشار لمبرّر عقلي لهم في بداية كلامه كما قلنا؟!
ثانياً: موقف الشيخ المفيد وقراءته النقديّة للصدوق
في عرض وتحليل موقف المفيد وقراءته النقديّة، تستوقفني مجموعة نقاط:
1 ـ الطعن الشخصي وتجريد الصدوق من خبرويّة البحث!
في الرسالة المنسوبة للمفيد في نفي السهو، وهي رسالة مختصرة جدًّا، يظهر لنا المفيد عنيفًا أيضًا في التعامل مع الشيخ الصدوق، ففي بداية الرسالة، وبعد عرضه كلام الصدوق، قال: «وسألت ـ أعزّك الله بطاعته ـ أن أثبت لك ما عندي فيما حكيته عن هذا الرجل، وأبين عن الحقّ في معناه، وأنا مجيبك إلى ذلك، والله الموفّق للصواب. إعلم، أنّ الذي حكيت عنه ما حكيت، مما قد أثبتناه، قد تكلّف ما ليس من شأنه، فأبدى بذلك عن نقصه في العلم وعجزه، ولو كان ممّن وفّق لرشده لما تعرّض لما لا يحسنه، ولا هو من صناعته، ولا يهتدي إلى معرفة طريقه، لكنّ الهوى مودٍ لصاحبه، نعوذ بالله من سلب التوفيق، ونسأله العصمة من الضلال، ونستهديه في سلوك منهج الحقّ، وواضح الطريق بمنّه»([3]).
لا يحتاج الموقف إلى تعليق، وليست هذه أوّل مرّة يتعامل فيها المفيد مع خصومه داخل المذهب، فضلًا عن خارجه، وبخاصّة مع الصدوق، بهذه الطريقة المألوفة في تلك القرون! وقد فَعَلها مع ابن الجنيد وغيره. لكنّ السؤال: لماذا هذا التمهيد بالطعن في “الرجل”؟
لأنّ هذه هي وسائل إسقاط الأفكار عبر إسقاط الرجال، فكما طعن الصدوق في نفاة السهو طعنًا غير مباشر عبر إقحام الغلاة والمفوّضة مستخدمًا أسلوب اللعن، في نوع من الاغتيال الاجتماعي والفكري، جاءه الردّ على طريقةٍ مشابهة، ليتّهمه بأنّه لا يملك خبرة في مثل هذه القضايا، ولا يمكنه الاعتماد على خبراته الناقصة وعلمه المحدود.
وغالب الظنّ أنّ المعركة هنا هي معركة أهل الحديث مع أهل العقل، أو معركة المعتزلة مع أهل الحديث، فالمفيد ينظر للصدوق على أنّه لا خبرة له في مجال علم الكلام، بل هو رجلٌ محدّث راوية، وعلمُ الكلام يحتاج لأدواته العقليّة المعروفة؛ لأنّ مفهوم علم الكلام عند مثل المفيد متقوّم بالنزعة المعتزلية العقليّة والجدليّة، كما سنرى هنا أيضًا في هذه الرسالة نفسها.
2 ـ نقد مرجعيّة أخبار الآحاد، مدخل منهجي
الخطوة المنهجيّة الأولى التي يشرع بها المفيد هنا ترتبط بعدم حجيّة خبر الواحد، حيث عرفنا أنّ الصدوق ينطلق من ذهنيّة المحدّثين المشتغلين على مرجعيّة الأخبار في تناول القضايا الكلاميّة، بينما ينطلق المفيد من ذهنيّة المتكلّمين الذين يأسّسون بحثهم على مرجعيّة العقل والنصوص الكبرى في الكتاب والسنّة، وليس على أخبار الآحاد. لذلك يقول نافيًا مرجعيّة خبر الواحد: «الحديث الذي روته الناصبة، والمقلّدة من الشيعة، أنّ النبيّ‘ سها في صلاته، فسلّم في ركعتين ناسيًا، فلما نبّه على غلطه فيما صنع، أضاف إليها ركعتين، ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علمًا، ولا توجب عملًا، ومن عمل على شيء منها فعلى الظنّ يعتمد في عمله بها دون اليقين، وقد نهى الله تعالى عن العمل على الظنّ في الدين، وحذّر من القول فيه بغير علم ويقين.. وإذا كان الخبر بأنّ النبيّ‘ سها من أخبار الآحاد التي من عمل عليها كان بالظنّ عاملًا، حرُم الاعتقاد بصحّته، ولم يجز القطع به، ووجب العدول عنه إلى ما يقتضيه اليقين من كماله‘ وعصمته، وحراسة الله تعالى له من الخطأ في عمله، والتوفيق له فيما قال وعمل به من شريعته، وفي هذا القدر كفاية في إبطال مذهب من حكم على النبيّ‘ بالسهو في صلاته، وبيان غلطه فيما تعلّق به من الشبهات في ضلالته»([4]).
والمفيد هنا يعمل على وفق القاعدة التي كرّرها مرّاتٍ كثيرة في كتبه من عدم حجيّة خبر الواحد، لا في علمٍ ولا في عمل، أي لا في عقائد وأمثالها ولا في فقهٍ وأخلاق وشرائع، وبالتالي فنقده لكلام الصدوق يصبّ في أصل المنهج المعرفيّ الذي اعتمد عليه لإثبات سهو النبيّ.
ونحن نوافق المفيدَ في أصل المنهج والقاعدة، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا اعتبر المفيد أخبار السهو آحاديّةً ظنيّة مع أنّه يتعامل مع غيرها من الروايات التي وردت بهذا الكمّ والكيف معاملة موثوق الصدور؟!
في تحليلي يوجد منطلقان محتملان هنا:
المنطلق الأوّل: إنّه رصد الموروث الحديثيّ المتّصل بقضية سهو النبيّ، فرأى أنّها أخبار آحاد قليلة العدد لا ترقى بتعاضدها إلى مرتبة اليقين ولا يطمأنّ بصدورها، فطبّق عليها قاعدته المنهجيّة في عدم الأخذ بأخبار الآحاد.
المنطلق الثاني: أنّه اطّلع عليها ووجدها وافرة العدد ولكنّه رآها معارضة لما دلّ باليقين على العصمة من العقل والنقل جميعًا، فوصفها بأنّها آحاد لسقوطها بالمعارضة عن قوّة الاحتمال إلى درجة الظنّ وأمثاله، وهو ما قد تشير إليه عبارته حول العدول من الظنّ إلى اليقين.
إذا أخذنا بالمنطلق الأوّل وهو محتمل هنا ولو احتمالًا بدويًّا؛ لأنّ المفيد يُفرد عبارة “الرواية”، وفي مطلع الرسالة يتحدّث عن خبرٍ آحادي وهو صحيحة سعيد الأعرج([5])، التي جاء تعليق الصدوق في الحقيقة عليها في كتاب “الفقيه”.. إذا أخذنا هذا المنطلق فمن الواضح أنّ المفيد:
أ ـ إمّا أنّه لم يطّلع على روايات سهو النبيّ عند الشيعة، وظنّ أنّ الرواية ليست إلا صحيحة الأعرج، وهذا يكشف عن قلّة تتبّعه في نصوص السهو، وإن كان سيظهر منه أنّه مطّلع على غير خبر سعيد الأعرج.
ب ـ أو أنّه اطّلع عليها، ولكنّه أراد إيهامنا ـ لغرض النقد الجدليّ ـ بأنّها ليست إلا أخبارًا آحاديّة، مع أنّها تزيد عن عشرين رواية عند الشيعة فقط، فضلًا عما عند أهل السنّة، ووردت في الكتب الأربعة، وفيها أكثر من خمس روايات صحيحة الإسناد، وعليه فليس للمفيد الحقّ في عمليّة الإيهام هذه، بل هو تصرّف غير مبرّر لو كان قد قصده، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الدوافع قد احتملها السيّد محمّد رضا السيستاني عند الحديث عن قيمة توثيقات الشيخ المفيد الرجاليّة وعلّقنا عليها في محلّه من كتابنا “منطق النقد السندي”، فراجع.
ج ـ أو أنّه يعتبر أنّ هذا العدد من الروايات أيضًا خبر آحادي لا يرقى لمستوى اليقين، وهذا أمر معقول منه، لكنّ السؤال هو أنّ المفيد في عشرات المواضع من كتبه عمل بما هو أقلّ عددًا من هذه الروايات، والمفروض أنّه يعتمد على العلم واليقين. ما لم نقل بأنّ الإجماع والشهرة مع مثل هذا العدد من الروايات هما اللذان كانا يسعفانه في تحصيل الوثوق بصدور تلك الروايات، أما هنا فليس الموضوع إجماعيًّا ولا مشهورًا فلعلّه لذلك رفض الروايات.
إذن نحن أمام احتمالات متعدّدة في تحليل موقف المفيد من آحاديّة روايات السهو، واللافت هنا أنّه نسب هذه الرواية في السهو إلى النواصب ومقلّدة الشيعة. ولعلّه يريد من النواصب أنّ رواية السهو من أهل السنّة فعبّر عنهم بالنواصب! وإلا فإنّ خبر سعيد الأعرج ليس في سنده أيّ من النواصب، بل عمدة روايات السهو الشيعيّة لا نجد في أسانيدها أحدًا متهمًا ولو برائحة النصب، بل كثير منها رواته شيعة، وصحيحة الإسناد حتى على معايير خبر العدل. ولعلّه فعل هنا كما فعل الصدوق حين استخدم مغالطة المنشأ لينبّه على أنّها جاءت من النواصب ثمّ بعد ذلك وُضعت الأحاديث من قبل غيرهم تأثّرًا بهم.
أمّا إذا أخذنا بالمنطلق الثاني، فهو أكثر منطقيّةً على قواعد النقد المتني، لكن لا يحسن التعبير هنا بأنّها أخبار آحاديّة من جهة الاصطلاح، بل ليس تعبيرًا متعارفًا، بل ينبغي أن يقال في مثل هذه الحالات بأنّها أخبار كثيرة غير أنّنا نطرحها أو نكِل علمها إلى أهلها؛ لكونها مخالفة للمقطوع به من الكتاب والعقل مثلًا، فإقحام مفهوم خبر الواحد غير صحيح على هذا التقدير وفقًا لأدبيات التعابير التراثيّة.
3 ـ النقد المتني على أخبار السهو النبويّ
الخطوة الثالثة التي يمارسها المفيد هنا هو النقد المتنيّ على أخبار السهو النبويّ، يفنّد فيها سيناريو أحداث الروايات وتفاصيلها، ويبرز فيها نقاط الضعف والخلل لينتهي إلى عدم إمكان الاعتماد عليها بوجهٍ من الوجوه، فيقول: «على أنّهم قد اختلفوا في الصلاة التي زعموا أنّه‘ سها فيها، فقال بعضهم: هي الظهر. وقال بعضٌ آخر منهم: بل كانت عشاء الآخرة. واختلافهم في الصلاة ووقتها دليلٌ على وهن الحديث، وحجّة في سقوطه، ووجوب ترك العمل به وإطراحه. على أنّ في الخبر نفسه ما يدلّ على اختلاقه، وهو ما رووه من أنّ ذا اليدين قال للنبيّ‘ لما سلّم في الركعتين الأولتين من الصلاة الرباعيّة: أقصرت الصلاة يا رسول الله، أم نسيت؟ فقال على ما زعموا: “كلّ ذلك لم يكن”. فنفى‘ أن تكون الصلاة قصرت، ونفى أن يكون قد سها فيها. فليس يجوز عندنا وعند الحشويّة المجيزين عليه السهوَ، أن يكذب النبيّ‘ متعمّدًا ولا ساهيًا، وإذا كان قد أخبر أنّه لم يسهُ، وكان صادقًا في خبره، فقد ثبت كذب من أضاف إليه السهو، ووضح بطلان دعواه في ذلك بلا ارتياب»([6]).
ثمّ تابع المفيد سلسلة مقارباته النقديّة على المتن قائلًا: «ومما يدلّ على بطلان الحديث أيضًا اختلافهم في جبران الصلاة التي ادّعوا السهوَ فيها، والبناء على ما مضى منها، أو الإعادة لها. فأهل العراق يقولون: إنّه أعاد الصلاة؛ لأنّه تكلّم فيها، والكلام في الصلاة يوجب الإعادة عندهم. وأهل الحجاز ومن مال إلى قولهم يزعمون أنّه بنى على ما مضى، ولم يُعد شيئًا قد تقضى، وسجد لسهوه سجدتين. ومن تعلّق بهذا الحديث من الشيعة يذهب فيه إلى مذهب أهل العراق؛ لأنّه متضمّن كلام النبيّ‘ في الصلاة عمدًا، والتفاته عن القبلة إلى من خلفه، وسؤاله عن حقيقة ما جرى، ولا يختلف فقهاؤهم في أنّ ذلك يوجب الإعادة. والحديث يتضمّن أنّ النبيّ‘ بنى على ما مضى (ولم). وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في هذا الحديث أدلّ دليل على بطلانه، وأوضح حجّة في وضعه واختلاقه»([7]).
والحاصلُ أنّ في متن هذه الروايات اضطراباتٍ متعدّدة تمنع من الأخذ بها، وهي باختصار: الاختلاف في تحديد الصلاة التي وقع فيها السهو ففي بعض الروايات صلاة الظهر وفي بعض آخر العشاء الآخرة؛ لزوم نسبة الكذب فيها إلى النبيّ‘؛ لأنّها جمعت بين نفيه لوقوع النسيان والسهو منه ونفيه لنزول حكم القصر في الصلاة حيث قال‘: “كلّ ذلك لم يكن” مع أنّ ذلك غير صحيح؛ لأنّ الأمر دائر بين وقوع السهو منه أو نزول الحكم بوجوب قصر الصلاة. ونسبة الكذب إلى النبيّ‘ لا يقول به أحد ويتنافى مع جميع الفرق حتّى مع الحشويّة الذين نسبوا إليه السهو؛ وأيضاً اشتمالها على ما لا يمكن الموافقة عليه ممّا يخالف مرتكزات الفقه الجعفريّ في وجوب إعادة الصلاة وهو مذهب أهل العراق، حيث إنّ الروايات نصّت على أنّه‘ بنى على ما مضى وسجد سجدتي السهو ولم يعد، مع أنّ الأدلّة قائمة على بطلان الصلاة في مثل هذه الحالة، وغير ذلك ممّا سيأتي لاحقًا. وهذا التهافت كاشفٌ ـ بتقدير المفيد ـ عن ركاكة الحديث بل دالّ على وضعه واختلاقه.
وربما يناقش كلام المفيد هنا من جهات متعدّدة:
أوّلًا: إنّ اختلاف الروايات في تحديد الصلاة ـ لو سلّمنا أنّه موجودٌ في الرواية الشيعيّة أيضًا وليس فقط في الرواية السنّيّة ـ لا يوجب إبطال الحديث؛ لأنّ إمكانيّة سهو الراوي في روايةٍ هنا أو هناك على مستوى تفصيل أنّها صلاة الظهر أو صلاة العشاء، لا يوجب الشكّ فيه أو الطعن بالوثوق في نقله أو ادّعاء اختلاق الرواية، إذ غاية ما يمكن أن يقال بأنّ الحادثة وقعت غير أنّ تحديد نوع الصلاة غير مؤكّد لاختلاف الروايات ولا يلزم من ذلك سقوطها عن الحجيّة والاعتبار، فإنّ مثل هذه الاختلافات الطفيفة كثيرٌ للغاية في مختلف روايات المسلمين، وفي الكثير جدًا من الروايات الشيعيّة التي يعمل بها المفيد وغيره. ويتضح هذا الأمر بسهولة عندما ندرك أنّ الناقل المشتبه في هذا التفصيل الصغير ليس هو الراوي الأوّل حتّى نقول بأنّه لا يُعقل أن يسهو عن نوعيّة الصلاة، بل قد يكون الراوي الثاني أو الثالث الواقعَين في سلسلة السند، وأيّ ضيرٍ في ذلك؟! كيف وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين في مجال علم الحديث أنّ نسبة الاختلافات اللفظيّة والزيادة والنقيصة في حديث الثقلين في المصادر الشيعيّة فقط بلغت 234 اختلافًا متنيًّا([8])، وهو ما ينشأ في العادة عن النقل بالمعنى أو السهو الطفيف أو ما شابه ذلك، بل لعلّه يمكننا ادّعاء أنّ بناء الرواية في التراث الحديثي الإسلامي هو على ذلك.
ثانيًا: إنّ إشكال المفيد على الرواية التي وردت فيها صيغة: “كلّ ذلك لم يكن”، غايته سقوط هذه الرواية بهذه الصيغة عن الحجيّة والاعتبار؛ لكنّ أغلب الروايات الشيعيّة والسنيّة ليس فيها هذا التعبير أساسًا، فلا يصحّ لمبرّر وجود إشكال على صيغة محدّدة من صيغ نقل الرواية، إسقاطُ الرواية برمّتها عن الاعتبار في صيغها كلّها، وهذا واضح.
ثالثًا: إنّ الذي يقول بسهو النبيّ في الموضوعات لا يمكن أن نُشكل عليه بإشكاليّة الكذب هذه؛ لأنّ الكذب فيه قبحٌ فعليّ وقبحٌ فاعلي، والقبح الفعلي تابعٌ للكذب خارجًا ولا ينسب للفاعل إلا مع قصده أو تقصيره، أمّا القبح الفاعلي فهو بحاجة للقصد والالتفات من الفاعل حتى يُتهم به، والقائل بسهو النبي في الموضوعات إنّما ينفي عنه القبح الفاعلي في الكذب، أمّا القبح الفعلي في الكذب، والذي يكون أحد مصاديقه الاشتباه والخطأ، فهذا إنّما يرفضه القائلون بالعصمة مطلقًا، بخلاف القائلين بعدم العصمة في الموضوعات الخارجيّة ـ وهنا جوابُ النبيّ متصلٌ بموضوعٍ خارجيّ، وهو أنّه صلّى بهذه الطريقة أو تلك ـ فلا يُشكل عليهم بصدور الكذب من النبيّ بهذا المعنى، بل قاعدةً يفترض بمن يرى سهو النبيّ أن يوافق على أنّه لو سُئل حال كونه ناسيًا أن يجيب بما لا يطابق الواقع، وإلا فلن يكون ناسيًا، فإشكال المفيد غير عامّ، بل يتوجّه ضدّ من يرى العصمة عن الخطأ مطلقًا، أمّا من لا يراها، كبعض متكلّمي وفقهاء وأصوليّي أهل السنّة، فلا.
رابعًا: إنّ إشكاليّة الموقف من إعادة الصلاة وعدمها في هذه الحال أقصى ما فيه هو أنّ الأدلّة والروايات الدالّة على إعادة الصلاة في مثل هذه الحال، نتيجة الالتفات عن القبلة أو الكلام مع الآخرين بكلام الآدميين ونحو ذلك.. تعارض روايات سهو النبيّ، لا أنّها تثبت بطلان هذه الروايات، فنحن لا نستطيع أن نثبت وجوب إعادة الصلاة في مثل هذه الحالات قبل أن نحسم موضوع روايات السهو نفسها فهي من أدلّة عدم وجوب الإعادة، وحينئذ فالروايات الدالة على وجوب الإعادة تكون معارضة لروايات السهو لا أنها راجحة عليها رأسًا؛ لأنّ لها دورًا في حسم الحكم بالوجوب، ومن ثمّ فبعد المعارضة يجب علينا النظر في أيّ من المجموعتين ينبغي ترجيحه؟ وهل يمكن الجمع العرفي بينهما أو لا؟ لا أنّ ذلك يوجب سقوط روايات السهو عن الحجيّة وبطلانها واختلاقها كما عبّر المفيد، فهذا من نوع اتخاذ حكمٍ مسبق، ثمّ محاكمة الأدلّة المعارضة على وفق الحكم المسبق، مع أنّ هذا غير صحيح منطقيًّا.
ولعلّ الطرف الآخر يقول بأنّ ما دلّ على وجوب إعادة الصلاة في هذه الحال يخصَّص بغير حال سهو إمام الجماعة؛ لأنّ النسبة هنا هي بين المطلق (أدلّة الإعادة) والمقيّد (روايات سهو النبيّ)، أو ربما يقول بأنّ فعل النبي تمّ نسخه بعد هذه الحادثة، أو غير ذلك، فالاستعجال بالحكم مباشرة على روايات السهو النبويّ غيرُ صحيح.
4 ـ إلحاق المفيد روايات السهو بالروايات القادحة في الأنبياء و..
يطرح المفيد فضاءً حديثيًا نقليًّا في الوسط الإسلامي، ويرى أنّ روايات السهو النبويّ تنتمي لهذا الفضاء، ومن ثمّ يلزم الصدوق أن يؤمن بهذا الفضاء كلّه حتّى لا يكون مغاليًا بحسب دعواه! فيقول: «إنّ الرواية له من طريقي الخاصّة والعامة، كالرواية من الطريقين معًا: أنّ النبيّ‘ سها في صلاة الفجر وكان قد قرأ في الأولى منهما سورة النجم، حتى انتهى إلى قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)، فألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) ثمّ تنبّه على سهوه فخرّ ساجدًا، فسجد المسلمون، وكان سجودهم اقتداءً به. وأمّا المشركون فكان سجودهم سرورًا بدخوله معهم في دينهم. قالوا: وفي ذلك أنزل الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنِيَّتِه) يعنون في قراءته، واستشهدوا على ذلك ببيتٍ من الشعر وهو:
تمنّى كتاب الله يتلوه قائمًا
وأصبح ظمآنًا وقد فاز قاريا
وليس حديث سهو النبيّ‘ في الصلاة أشهر في الفريقين من روايتهم أنّ يونس× ظنّ أنّ الله تعالى يعجز عن الظفر به، ولا يقدر على التضييق عليه، وتأوّلوا قوله تعالى: (فظنّ أن لن نقدر عليه) على ما رووه واعتقدوه فيه. وفي أكثر رواياتهم أنّ داود× هوى امرأة أوريا بن حنان، فاحتال في قتله، ثم نقلها إليه. وروايتهم أنّ يوسف بن يعقوب ـ عليهما السلام ـ همّ بالزنا، وعزم عليه. وغير ذلك من أمثاله. ومن رواياتهم التشبيه لله تعالى بخلقه، والتجوير له في حكمه. فيجب على الشيخ ـ الذي حكيت أيّها الأخ عنه ـ أن يدين الله بكلّ ما تضمّنته هذه الروايات، ليخرج بذلك عن الغلوّ على ما ادّعاه، فإن دان بها، خرج عن التوحيد والشرع، وإن ردّها ناقض في اعتلاله، وإن كان ممن لا يحسن المناقضة، لضعف بصيرته، والله نسأل التوفيق»([9]).
وحاصل ما يريد المفيد أن يقوله: إنّ روايات السهو النبويّ تنتمي إلى هذه المجموعة من الأحاديث القادحة بمنزلة الأنبياء، ولا فرق بينها وبين أمثال رواية الغرانيق التي عبّرت عن النبيّ أنّه سها فخرج منه هذا الكلام، وبالتالي فلا يصحّ أن نفصّل فنأخذ بروايات السهو ونترك ما عداها، بل إذا قبلت واحدةً من هذه المجموعة فعليك أن تقبل الباقي وهذا خروج من الملّة، وإلّا فجميعها مرفوض مردود.
ويمكن التعليق على كلام المفيد بتوليفة ملاحظات مجتمعةً:
أوّلًا: إنّ رواية الغرانيق من باب سهو النبيّ في مقام التبليغ، وهو مرفوض عند الصدوق الذي يميّز بين الحالات المشتركة والحالات الخاصّة كما تقدّم في تحليل مطلع كلامه، ففي مقام التبليغ وبخاصّة تبليغ القرآن لا يمكن السهو عليه، ولا الخطأ؛ لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من عصمة النبيّ المطلقة، فيما الذي نحن فيه لا علاقة له بالتبليغ وبيان الدين في الصلاة، وبخاصّة أنّ النبيّ لم يكن في مقام تعليمهم كيفيّة الصلاة، وإنّما كان يصلّي على الشريعة التي بيّنها لهم من قبل. فلا يلزم أن يتّحد الموقف في التعامل مع الروايتين.
ثانيًا: إنّ روايات التشبيه والتجسيم وقصص يونس وداود ويوسف لا علاقة لها ببحث السهو أصلًا، لأنّها تنتمي إلى مسألة توحيد الله تعالى وصفاته أو مرتبطة ببحث العصمة عن الذنوب والآثام وما أشبه ذلك، وأيّ ربط بين الأمرين حتى نعيّر الصدوق بها؟!
ثالثًا: لعلّ المفيد ـ وهو راجحٌ من كلامه ـ يقصد أنّ الصدوق إذا أراد العمل بروايات أهل السنّة في مسألة سهو النبيّ، فعليه أن يعمل برواياتهم في قصص الأنبياء وفي التشبيه والتجسيم أيضًا، فالكلّ رواية لهم فلماذا يعمل بهذه دون تلك؟!
ولكنّ هذا الإشكال من المفيد في غاية الغرابة؛ وذلك أنّ الرجل يعمل بروايات الشيعة هنا وليس بروايات السنّة، وهذا ما يجعلنا حائرين ـ كما قلنا سابقًا ـ في أنّ المفيد يعرف الروايات الشيعيّة أو لا يعرفها أو يتجاهلها أو يمارس نقدًا جدليًّا فقط هنا أو نحو ذلك؟! ثم لو فرضنا أنّ الصدوق عمل بالرواية السنّية في موضوع السهو، فلماذا يجب عليه أن يعمل بجميع الروايات؟ إذ من الممكن أن لديه أدلّة قطعيّة على نفي الذنوب مطلقًا عن الأنبياء وكذلك على نفي التجسيم، فيردّ روايات أهل السنّة الواردة في ذلك، وليس لديه نافٍ لروايات سهو النبيّ فلا يردّها.
والأغرب من ذلك أنّ كتب المفيد في الأمالي والإرشاد وغيرهما مليئةٌ برواياتٍ غير شيعيّة، بل مصادرها كلّها كتب الحديث والتاريخ والرواة السنّة، فلماذا يجوز له الأخذ وتداول هذه المرويّات ولا يجوز للصدوق ذلك؟!
بل توجد روايات تفتح الطريق على الأخذ من مصادر أهل السنّة، نذكر بعضها بصرف النظر عن سندها، ولعلّها مستند الصدوق هنا في أخذه بروايات سنيّة، وقد تعرّضنا لها بالتفصيل في بعض كتبنا، فراجع([10]):
منها: مرسل الطوسي في العدّة، عن الإمام جعفر الصادق أنّه قال: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنّا، فانظروا إلى ما رووا عن عليّ× فاعملوا به»([11]).
ومنها: خبر هشام بن سالم، قال: قلت لأبي عبد الله×: جعلت فداك، عند العامة من أحاديث رسول الله$ شيء يصحّ؟ قال: فقال: «نعم، إنّ رسول الله‘ أنال وأنال وأنال، وعندنا معاقل العلم وفصل ما بين الناس»([12]).
5 ـ المفيد وإشكاليّة الإنامة
تعرّض المفيد أيضًا لقضيّة النوم النبويّ، وقارنها بقضيّة السهو، فقال: «والخبر المرويّ أيضًا في نوم النبيّ× عن صلاة الصبح من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة، وإنّه من أخبار الآحاد التي لا توجب علمًا ولا عملًا، ومن عمل عليه فعلى الظنّ يعتمد في ذلك دون اليقين، وقد سلف قولنا في نظير ذلك بما يغني عن إعادته في هذا الباب. مع أنّه يتضمّن خلاف ما عليه عصابة الحقّ؛ لأنّهم لا يختلفون في أنّه من فاتته صلاة فريضة فعليه أن يقضيها أيّ وقت ذكرها، من ليل أو نهار ما لم يكن الوقت مضيّقًا لصلاة فريضة حاضرة. وإذا حرم على الإنسان أن يؤدّي فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضًا قد فاته، كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى. هذا مع الرواية عن النبيّ× أنّه قال: «لا صلاة لمن عليه صلاة». يريد أنّه لا نافلة لمن عليه فريضة. ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في أوقات الصلوات حتى تخرج، فيقضوها بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص؛ لأنّه ليس ينفكّ بشرٌ من غلبة النوم؛ ولأن النائم لا عيب عليه، وليس كذلك السهو، لأنّه نقص عن الكمال في الإنسان، وهو عيب يختصّ به من اعتراه. وقد يكون من فعل الساهي تارةً، كما يكون من فعل غيره، والنوم لا يكون إلا من فعل الله تعالى، وليس من مقدور العباد على حال، ولو كان من مقدورهم لم يتعلّق به نقص وعيب لصاحبه لعمومه جميع البشر، وليس كذلك السهو؛ لأنّه يمكن التحرّز منه. ولأنّا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم وأسرارهم ذوي السهو والنسيان، ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبه النوم أحيانًا، كما لا يمتنعون من إيداعه من يعتريه الأمراض والأسقام. ووجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذو السهو من الحديث، إلا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي التيقّظ، والفطنة، والذكاء، والحصافة. فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه»([13]).
وهنا تعليقات:
التعليق الأوّل: مسألة عدم إمكان الإتيان بالنافلة مع وجود القضاء، مسألةٌ خلافيّة بين فقهاء الشيعة أنفسهم، وكثيرون لا يقولون بها إلى يومنا هذا، وغايته أنّ رواية الإنامة هنا تكون ضمن المجموعة الدالّة على الجواز، فلابدّ من حلّ التعارض، لا افتراض القضيّة محسومةً مسبقًا، ثمّ الحكم على روايات الإنامة بعد ذلك.
التعليق الثاني: إنّ دعوى أنّ النوم من الله والسهو ليس كذلك مطلقًا، لم يُقم عليه المفيد دليلًا، وقد تحدّثنا عن هذا الموضوع سابقًا فلا نعيد. وسيأتي عند تعليق المفيد على تمييز الصدوق بين الإسهاء الشيطاني والإسهاء الرحماني كلامٌ، فاصبر.
التعليق الثالث: إنّ طريقة مقاربة المفيد لموضوع السهو تحتوي مغالطةً واضحة، فإنّ هناك فرقًا بين السهو والسهو الكثير، والأمثلة التي أتى بها المفيدُ ترتبط بكثير السهو والنسيان وقليل الضبط والحفظ، وإلا فأين عيّر البشر بعضهم بالسهو من حيث المبدأ؟! فالبشر لا يعيّرون بعضهم بمبدأ السهو، كما لا يعيّرون بعضهم بمبدأ غلبة النوم. وكما يعيّرون بعضهم بكثرة السهو أو السهو غير المبرّر، كذلك يعيّرون بعضهم بكثرة النوم أو النوم غير المبرّر، كما لو نام قبيل الفجر حيث يعتبرونه تهاونًا بالصلاة.
وعليه فلو صحّ من إشكالات المفيد شيءٌ هنا، فلعلّه الإشكال المنهجي؛ لقلّة عدد روايات الإنامة ـ بعكس روايات السهو ـ واندراجها في أخبار الآحاد الظنيّة.
6 ـ السهو النبويّ واللوازم الفاسدة
يفتح المفيد البابَ على اللوازم الباطلة التي يمكن أن تجرّنا إليها فكرة سهو النبي. إنّه يقول: «ولو جاز أن يسهو النبيّ‘ في صلاته، وهو قدوة فيها، حتّى يسلّم قبل تمامها وينصرف عنها قبل كمالها، ويشهد الناس ذلك فيه ويحيطوا به علمًا من جهته، لجاز أن يسهو في الصيام حتّى يأكل ويشرب نهارًا في رمضان بين أصحابه، وهم يشاهدونه ويستدركون عليه الغلط، وينبّهونه عليه، بالتوقيف على ما جناه، ولجاز أن يُجامع النساء في شهر رمضان نهارًا ولم يؤمَن عليه السهو في مثل ذلك حتى يطأ المحرّمات عليه من النساء وهو ساهٍ في ذلك ظانّ أنهم أزواجه، ويتعدّى من ذلك إلى وطي ذوات المحارم ساهيًا. ويسهو في الزكاة فيؤخّرها عن وقتها ويؤدّيها إلى غير أهلها ساهيًا، ويخرج منها بعض المستحقّ عليه ناسيًا. ويسهو في الحجّ حتى يجامع في الإحرام، ويسعى قبل الطواف ولا يحيط علمًا بكيفيّة رمي الجمار، ويتعدّى من ذلك إلى السهو في كلّ أعمال الشريعة حتى يقلبها عن حدودها، ويضيّعها في أوقاتها، ويأتي بها على غير حقائقها، ولم ينكر أن يسهو عن تحريم الخمر فيشربها ناسيًا أو يظنّها شرابًا حلالًا، ثم يتيقّظ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها، ولم ينكر أن يسهو فيما يخبر به عن نفسه وعن غيره ممن ليس بربّه بعد أن يكون مغصوبًا في الأداء. وتكون العلّة في جواز ذلك كلّه أنّها عبادة مشتركة بينه وبين أمّته، كما كانت الصلاة عبادة مشتركة بينهم، حسب اعتلال الرجل ـ الذي ذكرتَ أيّها الأخ عنه ما ذكرت من اعتلاله ـ ويكون أيضًا ذلك لإعلام الخلق أنّه مخلوق ليس بقديم معبود. وليكون حجّة على الغلاة الذين اتخذوه ربًّا. وهذا ـ أيضًا ـ سببًا لتعليم الخلق أحكام السهو في جميع ما عددناه من الشريعة، كما كان سببًا في تعليم الخلق حكم السهو في الصلاة، وهذا ما لا يذهب إليه مسلمٌ ولا مليّ ولا موحّد، ولا يجيزه على التقدير في النبوّة ملحدٌ، وهو لازم لمن حكيت عنه ما حكيت، فيما أفتى به من سهو النبيّ “ص”، واعتلّ به، ودالٌّ على ضعف عقله، وسوء اختياره، وفساد تخيّله. وينبغي أن يكون كلّ من منع السهو على النبيّ‘ في جميع ما عددناه من الشرع، غاليًا كما زعم المتهوّر في مقاله أنّ النافي عن النبيّ‘ السهوَ غالٍ، خارج عن حدّ الاقتصاد. وكفى بمن صار إلى هذا المقال خزيًا»([14]).
وبالجملة، فإنّ المفيد يرى أن القول بإمكان سهو النبيّ يلزم منه القول بإمكان وقوع جميع المنكرات منه حتّى يقلب الشريعة رأسًا على عقِب، وكفى بذلك دليلًا على بطلان القول بالسهو.
ويمكن التعليق على كلام الشيخ المفيد بالآتي:
أوّلًا: إنّ هذا الإشكال:
أ ـ إذا كان الخطابُ موجّهًا فيه إلى الصدوق نفسه، فهو لم يناقش في الاحتمالات العقليّة الصرفة وإنّما ما يهمّه هو الذي وقع خارجًا مع النبيّ لا الذي كان يمكن أن يحدث معه؛ فقد يقول الصدوق بعدم امتناعِ سهو النبيّ في جميع هذه الموارد، ولكن هذا كلّه في عالم الإمكان دون أن يقول بأنّه ثبت ذلك خارجًا ووقع من النبيّ، وذلك لأنّ الله تعالى حماه وعصمه، ولا يخرج عن ذلك إلا ما ثبت بالنصّ أنّه سها فيه، وسيجيء توضيح لذلك أكثر في كلام الشيخ التستري.
ب ـ وإن كان الخطابُ موجَّهًا للعموم فهذا أقرب للتحريض الإعلامي منه للنقاش العلميّ.
ثانيًا: ثمّة إشكال نقضي يمكن تسجيله هنا، وهو أن نطبّق عين ما قاله المفيد على غير المعصومين من الفقهاء والعلماء عبر التاريخ، فنقول بأنّهم ما داموا غير معصومين عن السهو، إذًا فيمكن أن يصدر منهم سهو في تبيين الدين والرأي الفقهي، فبدل أن يقولوا: يحرم الزنا، يقولون: يجوز الزنا، سهوًا، بل يمكن أن يسهوا جميعهم أيضًا في مختلف أمور حياتهم. وتصوّروا إذا كان مجموع العلماء واقعين في هذا السهو فترى كلّ واحدٍ منهم كلَّ أسبوع أو أسبوعين يسهو، فيزني وهو لا يعرف، ويقتل وهو ناسٍ أنّه قتل الأخ المؤمن حرام، ويبول في الطريق أمام الناس عاريًا ناسيًا الحكم الفقهي والأخلاقي هنا، وهكذا.. فهل يقبل المفيد هذه الصورة الإمكانيّة؟! بل هو وافق على غلبة النوم فهل يمكنه أن يقول بأنّه من الممكن أن ينام النبيّ طيلة حياته؟!
إنّ مشكلة المفيد هنا تكمن في بارادايم الإمكان المنطقي، فلو خرج من هذا البارادايم نحو بارادايم إمكانات الوقوع احتماليًّا، فسوف تنتهي المشكلة عنده. وجليّ جدًّا أنّ الصدوق بنى مقاربته الكلاميّة على النقل، بخلاف المفيد الذي بناها على العقل وهذا يساهم بشكل كبير في محاولة الكشف عن الفوارق الرئيسة في المنهج الكلاميّ لكلِّ منهما.
7 ـ إبطال المفيد تمييز الصدوق بين السهو الشيطاني والإسهاء الرحماني
قبل أن يختم المفيد رسالتَه يتعرّض لفكرة منشأ السهو من الله أو الشيطان، فيقول: «ثمّ من العجب حكمه على أنّ سهو النبيّ‘ من الله، وسهو من سواه من أمّته وكافّة البشر من غيرهم من الشيطان بغير علم فيما ادّعاه، ولا حجّة ولا شبهة يتعلّق بها أحدٌ من العقلاء، اللهم إلا أن يدّعى الوحي في ذلك، ويبين به ضعف عقله لكافّة الألبّاء. ثمّ العجب من قوله أنّ سهو النبيّ‘ من الله دون الشيطان؛ لأنّه ليس للشيطان على النبيّ‘ سلطان، وإنّما زعم أنّ سلطانه على الذين يتولّونه، والذين هم به مشركون، وعلى من اتّبعه من الغاوين. ثم هو يقول: إنّ هذا السهو الذي من الشيطان يعمّ جميع البشر ـ سوى الأنبياء والأئمّة ـ فكلّهم أولياء الشيطان وإنّهم غاوون، إذ كان للشيطان عليهم سلطان، وكان سهوهم منه دون الرحمن، ومن لم يتيقّظ لجهله في هذا الباب، كان في عداد الأموات»([15]).
والحاصل أنّ الصدوق لم يبيّن لنا كيف عرف أنّ السهو المزعوم الذي وقع فيه النبيّ كان من الله، فيما سواه من السهو الذي يقع من سائر الناس هو سهو من الشيطان، فكلّ من هو غير معصوم حينئذ سيكون من الغاوين ومن أتباع الشياطين! من أين جاء بهذا الادّعاء؟
وأيضًا يمكن التعليق على المفيد هنا:
أولًا: إنّ كلام المفيد غريبٌ جدًّا، فالروايات نفسها ـ ومنها خبرا سعيد الأعرج ـ تصرّح بأنّ الله هو الذي أسهاه رحمةً للأمّة، فكيف يُشكل عليه بأنّه لا معرفة له بذلك إلا من طريق الوحي ينزل عليه؟! فإمّا أنّ المفيد لم يطّلع فعلًا على الروايات كلّها أو أنّه سها هنا، وهذا واضح بمراجعة صحيحة سعيد الأعرج، التي نقلها الكليني هذه المرّة، قال ـ الأعرج ـ: سمعت أبا عبد الله× يقول: «صلّى رسول الله‘ ثمّ سلّم في ركعتين، فسأله من خلفه: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذلك؟ قالوا: إنّما صلّيت ركعتين، فقال: أكذلك يا ذا اليدين؟ وكان يُدعى ذا الشمالين، فقال: نعم، فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعًا. وقال [أي أبو عبد الله]: إنّ الله هو الذي أنساه رحمةً للأمّة، ألا ترى لو أنّ رجلًا صنع هذا لعيّر، وقيل: ما تقبل صلاتك، فمن دخل عليه اليوم ذاك قال: قد سنّ رسول الله‘ وصارت أسوة، وسجد سجدتين لمكان الكلام»([16]).
فكون سهو النبيّ قد جاء من الله هو ما صرّحت به النصوص ولم يتبرّع به الصدوق من عنده.
ثانيًا: إنّ المفيد فهم كلام الصدوق بطريقة عكسيّة، فالصدوق لم يقل ـ أو على الأقلّ يمكن تفسير كلامه بأنّه لم يقل ـ بأنّ كلّ من هو غير معصوم فهو من أولياء الشيطان، بل قال بأنّ المعصوم ليس من أولياء الشيطان، وهذه عبارته التي نقلناها سابقًا: «وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم سلطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون) وعلى من تبعه من الغاوين».
فذكره للآيات لا لكي يُثبت أنّ كلّ من هو غير معصوم فهو مشرك غاوٍ بالضرورة؛ إذ هذا لا يُتوقّع أن يشتبه به مثل الصدوق، بل يمكن القول بأنّ الصدوق يرى أنّ كلّ من يسهو سهوًا غير رحماني، فهو أسير للشيطان ولو بدرجةٍ ما، وللشيطان على سائر الناس من غير المعصومين سلطنة ولو بدرجات متفاوتة، فما الإشكال في ذلك؟ بل هذا من استدلالات الإماميّة على عصمة الأنبياء بمثل آية المخلَصين وأمثالها هنا، فراجع.
ثالثًا: لنفرض أنّه ليس أمام الصدوق دليلٌ مباشر من الروايات على التمييز في السهو، لكن يكفيه أن يثبت عدم كون سهو النبيّ من الشيطان بآيات نفي سلطنته على مثل النبيّ، بصرف النظر عن سلطنته على غير المعصومين أو لا. نعم يلزمه هنا أن يُثبت أنّ الشيطان له طريق لإسهاء بني آدم، وهذا في الجملة ثابتٌ بالنصوص القرآنيّة، كما تقدّم سابقًا.
8 ـ المفيد ودعواه أنّ ذا اليدين شخصيّة وهميّة
يختم المفيد رسالته بادّعاء اختلاق شخصيّة ذي اليدين، فيقول: «فأمّا قول الرجل المذكور: إنّ ذا اليدين معروف، وأنّه يقال له: أبو محمّد، عمير بن عبد عمرو، وقد روى عنه الناس. فليس الأمر كما ذكر، وقد عرّفه بما يدفع معرفته من تكنيته وتسميته بغير معروف بذلك، ولو أنّه يعرف بذي اليدين، لكان أولى من تعريفه بتسميته بعمير. فإنّ المنكر له يقول: من ذو اليدين؟ ومن هو عمير؟ ومن هو ابن عبد عمرو؟ وهذا كلّه مجهول غير معروف. ودعواه أنّه قد روى الناسُ عنه، دعوى لا برهان عليها، وما وجدنا في أصول الفقهاء ولا الرواة حديثًا عن هذا الرجل، ولا ذكرًا له. ولو كان معروفًا كمعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأمثالهم، لكان ما تفرّد به غير معمول عليه، لما ذكرناه من سقوط العمل بأخبار الآحاد، فكيف وقد بيّنا أنّ الرجل مجهولٌ غير معروف، والخبر متناقضٌ باطل بما لا شبهة فيه عند العقلاء. ومن العجب بعد هذا كلّه، أنّ خبر ذي اليدين يتضمّن أنّ النبيّ‘ سها، فلم يشعر بسهوه أحدٌ من المصلّين معه من بني هاشم، والمهاجرين، والأنصار، ووجوه الصحابة، وسراة الناس، ولا فطن لذلك وعرفه إلا ذو اليدين المجهول، الذي لا يعرفه أحد، ولعلّه من بعض الأعراب. أو شعر القوم به فلم ينبّهه أحد منهم على غلطه، ولا رأى صلاح الدين والدنيا بذكر ذلك له إلا المجهول من الناس. ثمّ لم يستشهد على صحّة قول ذي اليدين فيما خبّره به من سهو إلا أبا بكر وعمر، فإنّه سألهما عما ذكره ذو اليدين، ليعتمد قولهما فيه، ولم يثق بغيرهما في ذلك، ولا سكن إلى أحد سواهما في معناه. وإنّ شيعيًّا يعتمد على هذا الحديث في الحكم على النبيّ‘ بالغلط والنقص وارتفاع العصمة عنه من العناد (العباد) لناقصُ العقل، ضيف (ضعيف) الرأي، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل»([17]).
وعليه فما أجاب به الصدوق في محاولته لتعريفنا بهذه الشخصيّة المختلقة لم ينفع في تعريفها! بل حتّى لو كان بمنزلة كبار الصحابة فإنّنا لا نأخذ بمتفرّداته لأنّه من أخبار الآحاد، وما يزيد الشكّ في أمر هذا الرجل أنّه هو الوحيد الذي تنبّه لوقوع النبيّ في السهو من بين جميع الناس وبينهم بنو هاشم، وأنّه ينقل لنا أنّ النبيّ لم يستشهد على صحّة كلامه إلا أبا بكر وعمر؟ ألا يقرّبنا ذلك من كونها رواية مختلقة لدواعٍ مذهبيّة؟!
ويمكن التعليق هنا:
1 ـ سأؤجّل الحديث عن شخصيّة “ذو اليدين” لما سيأتي من كلام الشيخ التستري، لكن لديّ تعليق على طريقة المفيد في نقد الصدوق، فهو قال: من هو ذو اليدين؟ فيجاب بأنّه عمير بن عبد عمرو، فإذا كان الناس لا يعرفونه بكنيته فكيف سيعرفون اسمه؟! وإذا لم يثبت وجوده بكنيته فكيف ثبت باسمه؟!
وهذه طريقة غير دقيقة في النقد؛ لأنّ الذي يذكر اسم ذي اليدين يقصد بذلك أنّ هذه الكنية تعرّض لها الباحثون والعلماء منذ القرون الأولى، وذكر أهل التراجم والرجال والفهارس اسم صاحبها بالتفصيل، فلسنا أمام «ذو اليدين» الذي لا يُعرف أصله ولا اسمه ولا نسبه، فهذا هو مقصود الصدوق هنا، وهذا طبيعي، فأنت تسأل مثلًا: من هو القلانسي؟ فيجيبك شخصٌ بأنّه الحسين بن المختار، ويقصد بذلك أنّ الشخص معروف، وأنّك لو راجعت كتب الحديث والرجال والتراجم ستجد تفصيلًا عنه وعن هويّته، فذكر الصدوق لهذا التفصيل ليس عبثيًّا في هذه الحال، إذ ليس هذا من التعريفات المنطقية حتّى يورد عليه بأنه تعريف بالأخفى.
2 ـ إنّ المفيد وضعنا أمام خيارين: إمّا أن يكون ذو اليدين مثل معاذ بن جبل في المعروفيّة أو لا وجود له، وهذا نوعٌ من المغالطات المعروفة بمغالطة الثنائيّات، فلا يدّعي أحدٌ شهرته بهذا الحدّ، بل غايته أنّ مثله مثل كثير من الصحابة والرواة الذين ذكروا بعض المرّات القليلة لكنّهم لم يكونوا معروفين جدًّا، وأنا أسأل المفيد: ما هو الموقف من سليم بن قيس الهلالي؟ وهل يوافق عليه؟ فأين ذكر هذا الرجل؟ وما تاريخ علاقته بأمير المؤمنين؟ وأين قاتل وحارب؟ لا أحد يكاد يعرف عنه شيئًا إلا كتابه المتناقل، ومع ذلك وافق عليه المفيد والنجاشي وأمثالهم، وعلى مثل هذه المعيار فإنه لا يكفي أن نتأكّد من وجود الراوي حقيقةً حتى لو ذكره العلماء باسمه ونسبه وكنيته وسائر أوصافه، بل لو صحّ إشكال المفيد ـ في المقارنة بينه وبين معاذ بن جبل ـ للزم طرح آلاف من الرواة والأسماء، لأنّ أغلبهم ليس بمثل هذه المنزلة.
هذا كلّه، مع تسليمي بمبدأ إمكانية فتح الحديث عن اختلاق أسماء كثيرة في التاريخ، لا وجود لها أصلًا، سواء من الصحابة أم غيرهم.
3 ـ ما يلفت النظر في كلام المفيد ـ ويرجّح مرّةً أخرى أنّه لم يطّلع على مجمل روايات سهو النبيّ ـ هو قوله بأنّه لماذا لم يلتفت الصحابة وبنو هاشم؟! فالروايات جملة منها واضحة في أنّهم كانوا ملتفتين، غاية الأمر أنّه قد سبق إلى التكلّم مع النبيّ ذو اليدين، ولعلّه كان قريبًا جدًّا منه، فأيّ غرابة في ذلك؟! وهذا يحدث بالفعل في المساجد أحيانًا كثيرة، حيث يسهو الإمام فيلتفت العديدُ من المصلّين لكنّه عادةً يتكلّم أو يتنحنح أحدهم أو اثنان منهم، يكونان قريبين منه أو نحو ذلك. فراجع الروايات لترى كيف أنّ النبي سألهم فأكّدوا له قول ذي اليدين! وأمّا موضوع أبي بكر وعمر، فهو وارد في عدد قليل من هذه الروايات لا في جميعها، ومن الطبيعي في تاريخ الحديث أنّ تكون هناك رواية، ثم يأتي الآخرون فيضيفون أسماء أو جزئيّات تنفعهم، ولعلّ هذا منها. بل إنّ سؤال النبيّ لأبي بكر وعمر ليس من الضروري أن يكون تخصيصًا لهما؛ إذ الحادثة غير متكرّرة عشرات المرّات حتى نفهم ذلك، فلعلّهما صادف أن كانا قريبين منه، فسألهما، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّ النبيّ لا يثق بغيرهما.
4 ـ إنّ كلام المفيد أنّ ذا اليدين غيرُ مشهور فلا يُعتمد على ما تفرّد به؛ لكونه من أخبار الآحاد، هو سهوٌ منه رحمه الله؛ وذلك أنّ روايات السهو النبويّ لم يروها ذو اليدين حتى نُسقط رواياته بالآحاديّة هذه، بل رواها في الغالب غيرُه، وأخبروا أنّه هو ـ أعني ذا اليدين ـ الذي تكلّم مع النبيّ، فحصل خلطٌ من قبل المفيد بين الراوي والشخص الذي كان جزءًا من الحادثة المرويّة من قبل الراوي.
وأختم هنا بأنّ اللافت للنظر أنّ المفيد لم يستعن بالإجماع الشيعي، كما هي عادة المتقدّمين في أمثال ذلك، مما قد يكشف عن وجود انقسام، وإن كانت عبارة الطوسي في تفسير قوله تعالى: ﴿وإمّا ينسينّك الشيطان﴾، تفيد نقل الجبائي (أبو علي 303هـ ـ وأبوهاشم 321هـ) عن الرافضة نفي السهو، غير أنّ الطوسي والطبرسي رفضا ما قاله الجبائي عن الشيعة، وخصّصا نفي السهو بالتبليغ.. بل المرتضى في تنزيه الانبياء ذكر أنّ الشيعة تقول بنفي السهو في خصوص التبليغ وهو ما فهمه العلامة المجلسي بأنّه ظاهر في عدم وجود إجماع.
ثالثاً: موقف المحقّق التستري وقراءته النقديّة للمفيد
صنّف الشيخ محمّد تقي التستري (1405هـ) رسالةً في إثبات سهو النبيّ‘ تضمّنت نقد تعليقات المفيد على الصدوق في رسالته المنسوبة إليه، وقد شرع فيها بنقل أمّهات الأفكار التي قالها المفيد، وأعقب ذلك بتعليقاته عليه، وأغلبها ينتمي إلى مجال تخصّصه بوصفه رجاليًّا وخبيرًا في الحديث والتاريخ.
ولكي نتوقّف قليلًا عند هذه الرسالة، يمكننا الحديث عنها من خلال عدّة نقاط:
1 ـ رفع الطعن عن الصدوق
توقّف التستري عند قول المفيد بأنّ الكلام في موضوع السهو ليس من صنعة الصدوق، فقال: «إنّه ليس كلّ مَنْ لم يعرف اصطلاحات المتكلِّمين لا يعرف الكلام في شيء، كيف وقد أشار إليه الحجّة صلوات الله عليه في الرؤيا ـ ورؤيانا للمعصوم من النبيّ والإمام× من الرؤيا الصادقة، حَسْبَ ما نطقت به أخبار الصادقين صلوات الله عليهم أجمعين ـ بتصنيف كتاب في الغيبة ردًّا على المخالفين، كما صرَّح به في أوّل [كتاب] إكمال الدين. وقد ولد رضوان الله عليه بدعاء الحجّة، وهو صاحب ثلاثمائة مصنَّف، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حَدَث السنّ، وكان وجه الطائفة بخراسان، وكان جليلًا، حافظًا للأحاديث، بصيرًا بالرجال، ناقدًا للأخبار، لم يُرَ في القمِّيين مثله، في حفظه وكثرة علمه. واستناده في تأليفاته وإنْ كان في الأكثر إلى الأحاديث، إلاّ أنّ كلمات المعصومين ـ عليهم السلام ـ في الأحاديث لمّا كانت ككلمات الله تعالى في آيات الكتاب، متضمِّنةً للحجج العقليّة، اقتصر عليها، مع أنّه تعلَّق بها كثيرًا في كتبه»([18]).
ورغم أنّ كلام التستري من حيث المبدأ مقبول، وبخاصّة أنّ للصدوق مداخلات كلاميّة متعدّدة متفرّقة في كتبه، لكن يمكن التعليق على ما ذكره:
أوّلًا: لو سلّمنا أنّ كلّ من رأى المعصوم في المنام فقد رآه حقيقةً، فإنّ مجرّد رؤية الصدوق في المنام أنّ الإمام يدعوه لتأليف كتاب “كمال الدين” لا يعني أنّه صار خبيرًا في علم الكلام، وبخاصّة أنّ الكتاب في معظمه روايات ونصوص حديثيّة، في حين أنّ إشكال المفيد كان على خبروية الصدوق الكلامية بالمعنى الخاصّ لها في ذلك العصر.
بل لو لاحظنا ما ذكره الصدوق في مقدّمة كمال الدين فسنرى أنّ الإمام يريده ذكر الغيبة من خلال غيبة الأنبياء السابقين، وبالتالي اللجوء إلى المرويّات التاريخيّة والتركيز على النقل لرفع الحيرة بين الشيعة بنقل الأخبار لهم كما كان يفعل الصدوق([19]).
ثانيًا: كون الصدوق ـ كما أخبرنا هو ـ قد ولد بدعاء الحجّة لا يصحّح مقولاته ولا يجعله خبيرًا في علم الكلام، والمدح الذي ذكره فيه التستري من كونه وجهًا بخراسان أو بصيرًا بالرجال وغير ذلك لا علاقة له بنقد المفيد، فالمفيد يركّز نقده على الجانب الكلامي والخبرة الكلاميّة في تناول موضوعٍ كلاميّ بامتياز، فما علاقة ذلك بحشد امتيازات للصدوق خارج هذا السياق؟!
ثالثًا: مجرّد اشتمال كلمات النبيّ وأهل البيت على حجج عقليّة، لا يعني أنّ الصدوق عالم بعلم الكلام، ولا دليل على كونه اقتصر على الروايات لأجل ذلك، بل ربما الأقرب أنّه محدِّث يكتفي بنقل الأحاديث ويتعبّد بمضمونها، وأين هذا من أن يكون خبيرًا في علم الكلام؟! بل إنّ العديد من الأحاديث يتصل بقضايا فلسفيّة في مضمونها أيضًا فهل هذا يعني أنّ الصدوق فيلسوف؟!
فالجواب الأساس الذي يمكن تسجيله على المفيد هو أن نؤكّد له أنّنا لو استخرجنا المحاججات الكلاميّة التي تضمّنتها جملة من كتب الصدوق، كفى ذلك في إثبات أنّ له خبروية في علم الكلام، ولو لم يكن مسلكه ـ بالتأكيد ـ مسلك المتكلّمين العقليّين الناهجين نهج المعتزلة، كما هي الحال مع المفيد والمرتضى.
2 ـ النقد على كون أخبار السهو آحاديّة
يعلّق التستري على المفيد في أنّ أخبار السهو آحادية روتها الناصبة ومقلّدة الشيعة، فيقول: «إنّه روى ذلك من الشيعة: سماعة بن مهران، والحسن بن صدقة، وسعيد الأعرج، وجميل بن درّاج، وأبو بصير، وزيد الشحّام، وأبو سعيد القمّاط، وأبو بكر الحضرميّ، والحرث بن المغيرة النصريّ. وكلّهم من الثقات والأجلاّء، وبعضهم ممَّنْ أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، والإقرار له بالفقه. وجميل أفقه الستة الثانية من أصحاب الصادق×. وقد اعترف نفسه، في عدديّته، في بعضهم، كزيد الشحّام وسماعة بن مهران، بكونهما من فقهاء أصحاب الصادقين، الذين لا مطعن فيهم أصلًا. فكيف عدَّهم مقلِّدةً، وأخباره أكثر من كثير من الأخبار التي ادُّعي التواتر فيها في الفقه؟! وعقد الكلينيُّ لها بابًا، فقال: (باب مَنْ تكلَّم في صلاته أو انصرف قبل أن يتمّها)..» ثم ينقل اثني عشر حديثًا في السهو مؤكّدًا تصحيح أربعة منها، وواحد حسن([20]).
وإشكالات التستري هنا محكمة، وسننقل بعد قليل شطرًا آخر من كلامه ذا صلة بهذه القضيّة، وقد تكلّمنا على هذا الموضوع سابقًا فلا نعيد. لكنّ تعليقنا هو أنّ عدد الأحاديث أكبر من ذلك وعدد الصحيح منها أكبر، وقد قلنا ذلك سابقًا، فلا نعيد.
3 ـ مرجعية الحديث عند الصدوق والتستري
يركّز التستري في أكثر من موضع على أنّ ما دفع الصدوق للقول بسهو النبيّ هو ورود الدليل على ذلك، فلا يمكنك أن تفرض عليه لوازم لم يرد بها دليل، فما ذكره المفيد ممّا نقلناه عنه سابقًا من جهة الملازمة بين إمكان سهو النبيّ وإمكان نسبة المنكرات له، هو إلزام بشيء لم ترد فيه نصوص أصلًا ولم يدلّ عليه دليل، ومعه كيف يُشكل عليه بالالتزام بذلك؟
وهذا يكشف عن اختلاف الباراديم بين الصدوق والتستري من جهة، والمفيد من جهة ثانية؛ لأنّ المفيد ينطلق من الإمكان للإبطال، بينما ينطلق المحدّثان من الوقوع التاريخيّ للإثبات كما مرّت الإشارة إلى ذلك.
4 ـ نقد التستري لقضيّة جهالة ذي اليدين
يعلّق التستري مطوّلًا على ما ذكرناه عن المفيد من جهالة ذي اليدين وعدم اكتفائه بما ذكره الصدوق، بأن ذلك يجري في جميع أحوال الرجال الذين لم ينقلوا بالتواتر، فكلّ راوٍ لم تُعرف تفاصيله بالتواتر يمكن أن نشكّك في أصل وجوده حينئذ على رأي المفيد! وهذا يلزم منه ردّ جميع الأخبار التي رواتها من هذا القبيل، ثمّ إن تشكيك المفيد برواية الصدوق عن ذي اليدين مخالف لما صرّح به الصدوق نفسه، «فقد صرّح بأنّه أخرج بنفسه عنه أخبارًا في كتاب وصف قتال القاسطين بصفين، وليس الصدوق ممَّنْ يكذب، فكان عليه أن يراجع ذاك الكتاب».
ثمّ يعرض التستريّ مسردًا مطوّلًا يبيّن فيه التفاصيل الشخصية لذي اليدين، فيقول: «مع أنّ الرجل معروفٌ باسمه، وأسماء آبائه، وعشيرته، وحليفه، وأخيه العقديّ، وباسم أمّه، واسم أمّ أمّه، وجدّ أمه، وعشيرة أمّه، وأحواله من شهادته يوم بدر، وقاتله. ذكره محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، من معاصري المنصور، أوّل مَنْ ألَّف في السِّيَر، على نقل ابن عبد البرّ، في عنوان ذي الشمالين. وذكره مصعب بن الزبير، من معاصري مروان (هارون)، في نسب قريشه. وذكره ابن قتيبة في معارفه في الصحابة. وذكره الطبريّ في ذيله، وابن عبد ربّه في عقده، وابن عبد البرّ في استيعابه، والمبرّد في كامله. وذكره قبل الجميع الزهريّ. فهل شهرةٌ ومعروفية فوق هذا؟.. فتلخّص أنّ الرجل كنيته أبو محمد، واسمه عمير، وأبوه عبد عمرو، وهو من خزاعة، وأجداده إلى خزاعة، وفوقها معلومون، وله لقبان: ذو الشمالين؛ وذو اليدين، وهو حليف لبني زهرة، وأمّه من بني زهرة نعمى بنت عبد الحارث بن زهرة، وأخته ريطة، وزينب بنت مظعون زوجة عمر ابنة اخته، وابن عمير وحفصة زوج النبيّ| ولدا ابنة أخته، وأخوه العقديّ يزيد بن حارث الخزرجيّ، وهو من شهداء بدر كأخيه العقديّ، وقاتله أسامة الجشميّ. والصحيح أنّه الراوي لحديث السَّهْو، كما قاله الصدوق منّا، والمبرّد، كما مرّ كلامه، والزّهريّ من العامّة».
ثمّ يعلّق التستري بعد ذلك على جملة من كلمات العلماء الذين توقّفوا حول بعض كلمات الصدوق وناقشوه فيردّها ويُشكل عليها ولا نطيل بذكرها.
5 ـ الموقف من ردّ الاخبار لمنافاتها العقل
يحاول التستريّ بعد ذلك أن يقوّض ما يعيق الاستدلال بهذه الروايات من قبل نفاة السهو ـ بعد الفراغ عن تماميّتها وسلامتها عن التشكيك التاريخيّ ـ بدعوى معارضتها للعقل تارة، أو بدعوى أن نسبة السهو للنبيّ نقص، وبالتالي سقوطها عن الحجيّة والاعتبار.
وخلاصة ما ذكره في المقام، أنّ ردّ هذه الأخبار رغم صحّتها بحجّة مخالفتها للعقل أمر مرفوض، لأنّ «المسلَّم من دلالة العقل منع سَهْوه‘ في تبليغ الأحكام، الذي هو وظيفة النبيّ من حيث هو نبيٌّ، دون أداء العبادات التي هو أحد المكلَّفين بها، مثل أمّته» ومعه فلا يمكن الالتزام بممانعة العقل عن القبول بهذه الأخبار طالما أنّها لم ترد في شأن التبليغ.
وكذلك لا يمكن ردّ هذه الأخبار بحجّة أنّ السهو مطلقًا ولو في غير مقام التبليغ هو نقص في النبيّ، والنقص لا ينبغي للنبيّ، وذلك لأنّ السهو قد يعرضه وجه حسن، إذ كثيرًا ما يعرض لما هو قبيح في نفسه ونقص في ذاته ما يرفع قبحه ونقصه، فالكذب على سبيل المثال قبيح، ولكن قد تقارنه مصلحة كإصلاح ذات البَيْن وغيره فترفع قبحه، وكالنسيان فهو نقصانٌ، ولكن في بعض الموارد قد يكون لُطْفًا. قال الصادق‘ للمفضَّل: «وأعظمُ من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمةُ في النسيان، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبته، ولا انقضت له حسرةٌ، ولا مات له حقدٌ، ولا استمتع بشيءٍ من متاع الدنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلةً من سلطان، ولا فترةً من حاسد».
هذا، وقد نصّت الأخبار في المقام على وجوه المصلحة في إسهائه‘، من عدم اتّخاذه إلهًا وتعليم الناس أحكام السهو، وعدم تعيير أحد أحدًا بوقوع السهو منه، وقد علّقنا على ذلك كما تقدّم.
6 ـ عباراتٌ أخيرة للتستري حول المفيد
يذكر التستريّ تقويمه النهائيّ لما ذكره المفيد في رسالته محاوِلًا أن ينصفه في سائر كتبه ومصنّفاته، فيقول: «وبالجملة فكلامه في هذة الرسالة في غاية الاختلال، وإنْ كانت سائر مصنَّفاته ثمينة نفيسة، ممتازة من كتب سائر الأصحاب بجودة التقرير والتحرير، فإنّ أكثر الموضوعات التي كتب فيها قد بلغ فيها الغاية والنهاية. ومن خصوصيات مؤلَّفاته أنّه لايبقي فيها مجالًا لمخالفٍ، مليًا كان أو طبيعيًا، حيث إنّه يشفع دعاواه ببراهين عقلية ونقلية، لكنّ الجواد قد يكبو، والصارم قد ينبو، والمعصوم مَنْ عصمه الله».
ثمّ يبيّن التستريّ أنّ موقفه من هذه المسألة ليس دفاعًا عن الصدوق وإيمانًا منه بأنّه لا يخطئ، بل على العكس، ثم ذكر بعض مآخذه على الصدوق.
7 ـ التستري خاتماً ببعض النتائج
وقد أنهى التستري بحثه بذكر ثلاث نتائج:
النتيجة الأولى: إنّ وقوع السهو من النبيّ ممّا لم يمنع منه العقل، ودلّ عليه النقل، فلا مناص من الالتزام به.
النتيجة الثانية: إنّ القول بجواز سهو النبيّ في صلاته كان مسألة إجماعيّة عند الشيعة الإماميّة ولم يختلف في جوازها أحد قبل المفيد، وأوّل من منع منها هو الشيخ المفيد.
النتيجة الثالثة: لا يضرّنا أنّ القول بعدم سهو النبيّ صار من ضروريّات المذهب، كما في عدد من المسائل نظير جزئيّة الشهادة بالولاية في الأذان، ونظير مشروعيّة الصلاة والصوم الاستيجارتين وفق رأيه، طالما أنه لم يقم عليها دليل مقنع فالحقّ أحقّ أن يُتّبع.
بهذا ينهي التستري موقفه من نزاع الصدوق والمفيد.
([1]) هذا تقرير لثلاث محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ (12 ـ 19 ـ 26) ـ 10 ـ 2022م، وقد قام بتحريرها وتنظيمها الشيخ علي حمام، ثمّ راجعها وأضاف عليها الشيخ حبّ الله.
([2]) كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 359 ـ 360.
([3]) المفيد، عدم سهو النبيّ: 20، تحقيق: محمّد رضا الجلالي، نشر دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م.
([4]) عدم سهو النبيّ: 20 ـ 22.
([5]) الكافي 3: 357؛ وتهذيب الأحكام 2: 345.
([6]) عدم سهو النبيّ: 22 ـ 23.
([8]) انظر: مهدي مهريزي، حديث پژوهى 1: 193 ـ 194، وقد نقل هذه الإحصائيّة عن عليرضا برازش، في “طرح جامع الأحاديث”.
([9]) عدم سهو النبيّ: 25 ـ 27.
([10]) الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 168 ـ 174.
([11]) العدّة في أصول الفقه 1: 149 ـ 150.
([12]) بحار الأنوار 2: 214. وانظر روايات شبيهة بهذه، في: المصدر نفسه 2: 214 ـ 215؛ والاختصاص: 307 ـ 308.
([13]) عدم سهو النبيّ: 27 ـ 28.
([16]) الكافي 3: 357؛ وتهذيب الأحكام 2: 345.
([17]) عدم سهو النبيّ: 31 ـ 32.
([18]) رسالة في سهو النبيّ، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 68.
([19]) قال الصدوق: «إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا، أنّي لما قضيت وطري من زيارة عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليه رجعت إلى نيسابور وأقمت بها، فوجدت أكثر المختلفين إليّ من الشيعة قد حيّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقائيس، فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحقّ وردّهم إلى الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم، حتى ورد إلينا من بخارا شيخٌ من أهل الفضل والعلم والنباهة ببلد قم، طالما تمنيت لقاءه واشتقت إلى مشاهدته لدينه وسديد رأيه واستقامة طريقته، وهو الشيخ نجم الدين أبو سعيد محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن علي بن الصلت القمي ـ أدام الله توفيقه ـ وكان أبي يروي عن جدّه محمّد بن أحمد بن علي بن الصلت ـ قدّس الله روحه ـ ويصف علمه وعمله وزهده وفضله وعبادته، وكان أحمد بن محمد بن عيسى في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي ـ رضي الله عنه ـ وبقي حتى لقيه محمد بن الحسن الصفار، وروى عنه، فلما أظفرني الله تعالى ذكره بهذا الشيخ الذي هو من أهل هذا البيت الرفيع شكرت الله تعالى ذكره على ما يسّر لي من لقائه وأكرمني به من إخائه وحباني به من ودّه وصفائه، فبينا هو يحدّثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيّين كلامًا في القائم عليه السلام قد حيّره وشكّكه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره، فذكرت له فصولًا في إثبات كونه عليه السلام، ورويت له أخبارًا في غيبته عن النبيّ والأئمة عليهم السلام سكنت إليها نفسه، وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشكّ والارتياب والشبهة، وتلقّى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم، وسألني أن أصنّف (له) في هذا المعنى كتابًا، فأجبته إلى ملتمسه ووعدته جمع ما ابتغى إذا سهّل الله لي العود إلى مستقرّي ووطني بالريّ. فبينا أنا ذات ليلة أفكّر فيما خلفت ورائي من أهل وولد وإخوان ونعمة إذ غلبني النوم فرأيت كأنّي بمكّة أطوف حول بيت الله الحرام وأنا في الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه وأقبّله، وأقول: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة. فأرى مولانا القائم صاحب الزمان ـ صلوات الله عليه ـ واقفًا بباب الكعبة، فأدنو منه على شغل قلب وتقسّم فكر، فعلم عليه السلام ما في نفسي بتفرّسه في وجهي، فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، ثم قال لي: لم لا تصنّف كتابًا في الغيبة حتى تكفي ما قد همّك؟ فقلت له: يا ابن رسول الله قد صنّفتُ في الغيبة أشياء، فقال عليه السلام: ليس على ذلك السبيل آمرك أن تصنّف (ولكن صنّف) الآن كتاباً في الغيبة واذكر فيه غيبات الأنبياء عليهم السلام. ثم مضى صلوات الله عليه، فانتبهت فزعًا إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى إلى وقت طلوع الفجر، فلما أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلًا لأمر ولي الله وحجّته..» (كمال الدين: 3 ـ 4).
([20]) رسالة في سهو النبيّ، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 68 ـ 72.