• الرئيسية
  • السيرة الذاتية
  • الكتب والمؤلفات
  • المحاضرات والدروس
  • المقالات
  • الحوارات واللقاءات
  • المرئيات
  • الأسئلة والأجوبة
  • لغات اُخرى
  • تطبيق مؤلفات حب الله
  • آراء
الموقع الرسمي لحيدر حب الله
العلوم الشرعية (الفقه وأصوله) الفلسفة والكلام علوم القرآن والحديث فكر وثقافة
# العنوان تاريخ الإعداد تاريخ النشر التعليقات الزائرين التحميل
29 الحوزة العلمية ومناهج الدراسات العليا – مطالعة عابرة في أساليب التعلّم والتعليم وقواعد الإدارة التعليمية 2012-12-05 2014-05-12 0 22380

الحوزة العلمية ومناهج الدراسات العليا – مطالعة عابرة في أساليب التعلّم والتعليم وقواعد الإدارة التعليمية

حيدر حب الله([1])

تمهيد

من الطبيعي أن تكون هناك صلة وثيقة بين المؤسّسات التعليمية ومناهج التدريس وفنون التعليم والتعلّم؛ لأنّ المؤسّسة التعليمية تقوم في واقع أمرها على ذلك، ولو سلبنا منها قضايا المنهج لخرجت عن عنوانها وتحوّلت إلى أمر آخر.

والمناهج التعليمية قد تولد في أيّ مؤسّسة نتيجة فعل واعٍ يقرّر بوضوح وقاطعية اعتماد منهج ما في قضايا التربية والتعليم، وقد تأتي نتيجة تراكمات جرّت إليها بطريقة غير واعية بالمعنى السابق، لكن على أيّ حال، لا يمكن أن لا يكون هناك سياق أو نسق تعليمي تقوم عليه المؤسّسة العلمية.

الحوزات العلمية والمعاهد الدينية عند المسلمين تخضع لما أشرنا إليه، فهي تعتمد منهجاً في التعليم والتعلّم يغلب عليه أنّه وليد وضع زمني تراكمي حفرته السنين والأيام، ونحن من هنا لا نوافق على أنّ الحوزة العلمية لا يوجد فيها منهجٌ درسي؛ فإنّ هذه المقولة غير صحيحة، وإنّما لها منهج مستتر، بحسب التعبير المعاصر في علم المناهج([2])، فالأصحّ أن نناقش في منهجها الدرسي المعتمد ـ ولو نتيجة وضع تراكمي غير واعٍ بالمعنى السابق ـ لا أن ننكر أصل وجوده.

ما نريد أن نطالعه في هذه الأوراق المتواضعة يرجع في روحه:

أولاً:إلى عملية توصيفية ـ تحليلية للمناهج المعتمدة في الحوزات العلمية في قضايا التربية والتعليم على مستوى حقل الدراسات العليا خاصّة (البحث الخارج والدراسات الاجتهاديّة)، وقد نضطرّ للإشارة إلى المراحل الدرسية السابقة على هذه المرحلة، وهذا بدوره سوف يطلّ بنا على:

أ ـما يتصل بمناهج التدريس والتعليم التي اتبعت حتى الآن في الحوزات الدينية (أي وظائف الأستاذ وطرائق عمله).

ب ـما يتصل بأساليب التعلّم وكسب المعرفة (وظائف الطالب أو التلميذ وطرائق عمله).

ج ـما يتصل بالجوانب التربوية عند الطالب والأستاذ، والتي تحيط أو ترافق العملية التعليمية والتعلّمية.

د ـما يرتبط أيضاً بالتربية والتعليم عموماً على مستوى غرضَيّ: كسب المعرفة، وإنتاج المعرفة معاً.

هـ ـما يتعلّق بدور الإدارة الحوزويّة في قضايا التعلّم والتعليم وتوفير المناخات المناسبة لذلك لكلّ من الأستاذ والتلميذ.

ثانياً:إلى عملية تقويمية تحاول أن تقرأ هذه المناهج المتّبعة وفق الصورة أعلاه في الحوزات الدينية (الشيعية الإمامية بالخصوص) وتشبعها نقداً أو تأييداً، وتسعى للكشف عن عناصر قوّتها وضعفها.

ثالثاً:رصد المقترحات المناهجية الرئيسة التي قدّمت حتى الآن بوصفها بدائل عن المنهج الأمّ المتبع، وتحليل جدوائيّتها وعناصر استحكامها أو ضعفها.

رابعاً:محاولة تقديم أطروحة بديلة ممكنة تقوم على جمع عناصر القوّة في المناهج كلّها من جهة وطرح عناصر الضعف كذلك من جهة ثانية، وإضافة عناصر جديدة تساعد في رقيّ التربية والتعليم في المؤسّسة الدينية ثالثة.

 

أولاً: الدراسات ما قبل مرحلة البحث الخارج

أودّ أن أشير في البداية إلى عدّة نقاط تمهيدية فرعية عامة تتصل بمرحلة ما قبل البحث الخارج، ويمكن أن تشكّل بنية تحتية لهذه الأوراق إن شاء الله تعالى، وهي نقاط متعدّدة، نقتصر منها على ما نراه الأهم، كما يلي:

 

1ـ التدوين الفقهي، مطالعة تاريخيّة موجزة

يساعد رصد تطوّر وسائل تدوين الفقه الإسلامي على استكشاف طرائق الفقهاء في تناول الفقه ونقله إلى الغير، وربما يمكّننا ـ بشكلٍ من الأشكال ـ من الإطلالة على أساليبهم البيانيّة في العلوم الشرعية.

وإذا أردنا إيجاز طرائق الفقهاء في البيان الفقهي أمكننا وضعها ضمن مجموعات ثلاث: 1ـ مجموعة الأساس الموضوعي. 2ـ مجموعة الأساس المنهجي. 3ـ مجموع الأساس البياني. وذلك على الشكل التالي:

 

 

التدوين الفقهي

 

 

1ـ الفقه المنقول

2ـ الفقه المأثور

3ـ الفقه التفريعي

4ـ القواعد الفقهية

5ـ فقه آيـــــات الأحكام (الفقه القرآني)

6ـ التدوين الحكمي

7ـ التدوين في العويص

8ـ التدوين العللي والحكمي

16ـ الفقه المنظوم

17ـ التدوين العددي

18ـ التدوين الوقتي

19ـ تدوين القسمة والحصر

20ـ الحـــــــواشي والتعليقات والشروح

21ـ التقريرات

22ـ المختصرات

23 ـ المفصّلات والمطوّلات

24ـ السؤال والجواب

9ـ فقه الخلاف

10ـ فقه الوفاق

11ـ الأشباه والنظائر

12ـ الفقه الموسوعي

13ـ الفقه المعجمي

14ـ الفقه القاموسي

15ـ الفقه الاستدلالي

 

 

 الموضوع                                      المنهج                                    العرض والبيان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1 ـ 1 ـ التدوين وفقاً للموضوع (الأساس الموضوعي)

يتنوّع التدوين على أساس الموضوع إلى:

1 ـ الفقه المنقول،ويقصد به ذلك الفقه المستبطن في كتب الحديث، حيث ألّف أصحاب أئمة أهل البيت الكثيرَ من الكتب الحديثية التي تحمل عناوين فقهية، مثل كتب الحسين بن سعيد الأهوازي، دون أن يكون هناك بالضرورة مؤشر على نصوص إفتائية منهم فيها.

2 ـ الفقه المأثور،ويقصد به الكتب الفقهية المتضمّنة نصوص الأحاديث مع حذف الأسانيد والطرق واختيار النصوص الحديثية المعتمدة للإفتاء عند الفقيه، مثل كتابي: المقنع والهداية للصدوق، وكتاب النهاية للطوسي. ويبدو أنّه قد طويت صفحة هذا الفقه تقريباً بوفاة الشيخ الطوسي (460هـ).

3 ـ الفقه التفريعي،وهو الفقه القائم على تفريع المسائل وتشقيقها، والخارج عن الالتزام بالنصوص الحديثية الحرفية. ومن مصنّفات هذا الفقه: كتاب المبسوط للطوسي، والمقنعة وأحكام النساء للمفيد، وهذه المصنّفات قد لا نجد فيها استدلالاً إلا قليلاً كالمقنعة، وقد نجد فيها استدلالاً موسّعاً كجواهر الكلام للشيخ النجفي.

4 ـ فقه القواعد الفقهية،وهو الفقه الذي يدرس الشريعة من خلال تحويلها ـ حيث أمكن ـ إلى مجموعة من القواعد، ولعلّ أوّل ظهور بارز لهذا الفقه ـ إماميّاً ـ كان مع الشهيد الأول (786هـ) في (القواعد والفوائد)، ثم تلته جهود المقداد السيوري (نضد القواعد الفقهية)، والشيخ النراقي (عوائد الأيّام)، والشيخ المراغي (العناوين)، والسيد البجنوردي في جهده القيّم (القواعد الفقهية)، وصولاً إلى المشايخ: ناصر مكارم الشيرازي، والفاضل اللنكراني، وباقر الإيرواني، وغيرهم.

5 ـ الفقه القرآني أو فقه آيات الأحكام،وهو فقهٌ متخصّص في دراسة آيات الأحكام المختلف في عددها، وكان من أبرز من كتب في هذا الفقه: الراوندي في (فقه القرآن)، وابن شهر آشوب في (متشابه القرآن ومختلفه)، وابن المتوّج البحراني في (النهاية في تفسير خمسمائة آية)، والمقداد السيوري في (كنز العرفان)، والمحقق الأردبيلي في (زبدة البيان)، وغيرهم من العلماء، وقد رتّب هؤلاء العلماء كتبهم تارةً بشكل موضوعي وفقاً لأبواب الفقه، وأخرى بشكل قرآني وفقاً لترتيب آيات الأحكام في القرآن الكريم.

6 ـ التدوين الحكمي،وهو التدوين الذي يدور حول بيان الحكم فقط ولا يهمّه التفريع ولا الاستدلال ولا غير ذلك، وقد يكون مأثوراً وقد لا يكون، ومن أبرز مصاديق هذا النوع من التدوين: الرسائل العملية، وهي ظاهرة عرفت في القرن الحادي عشر الهجري، وإن كان لها وجود بصيغها القديمة في مصنّفات الماضين، لكنّ بدايات ظهورها بشكلها المتأخّر كانت مع الرسالة العملية للشهيد نور الله التستري (1019هـ)، وهي مخطوطة، وكذلك مع (جامع عباسي) للشيخ البهائي وغيرهم، إلى يومنا هذا.

7 ـ الفقه العويص،ويقصد به التدوين في المسائل المشكلة والعويصة والمعقّدة التي تحتاج إلى جهود ضخمة للخروج منها، ويسمّى بالعويص أو المسائل العويصة، ولعلّ أوّل من ألّف فيه الشيخ المفيد (413هـ) في كتابه (مسائل العويص)، ثم أفرد له ابن البراج الطرابلسي (481هـ) فصلاً في (جواهر الفقه)، ثم (المسائل العويصة) لابن أبي جمهور الأحسائي (880هـ). وقد يذهب بعضٌ إلى أنه فقهُ فرضياتٍ ينبغي تجاهله اليوم، ولعلّه لهذا قلّ التصنيف فيه جداً أو صار يلزم استبداله بمستحدَثات العويص، أو عويص المستحدثات.

8 ـ التدوين العللي،وهو الفقه الراصد لعلل الأحكام وحِكَمِها، مثل علل الشرائع للصدوق وكتب أسرار العبادات، إذا جاز اعتبار هذه الكتب من المصنّفات الفقهيّة، إلا أنّ كثيراً من الكتب المسمّاة بالعلل يصعب الجزم بارتباطها بهذا البحث، وقد شاع هذا الموضوع، المعروف اليوم بفلسفة الأحكام، في القرن العشرين نتيجة النزعة العقلانية.

 

2 ـ 1 ـ التدوين على أساس المنهج (الأساس المنهجي)

تعدّدت ألوان التدوين انطلاقاً من الأساس المنهجي، وذلك كما يلي:

1 ـ منهج الفقه المقارن (فقه الخلاف)،وهو منهجٌ يعتمد الكشف عن نقاط الاختلاف بين المذاهب الإسلامية تارةً، كلاً أو بعضاً، أو داخل المذهب الواحد أخرى، أو المقارنة بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي ثالثة. ولعلّ أقدم كتاب في فقه الخلاف عند الإماميّة هو كتاب (تهذيب الشيعة) لابن الجنيد الاسكافي، والذي قال عنه محمد بن معد ـ كما نقل العلامة الحلّي ـ بأنه استعرض مسائل الخلاف فيه. وهكذا جاءت كتابات السيد المرتضى (436هـ) في (الناصريات) فقهاً مقارناً بين الإمامية والزيدية. وجاء الشيخ الطوسي (460هـ) في كتابه المهم (الخلاف) ليقدّم مجموعة فقهيّة كاملة في فقه الخلاف، ثم العلامة الحلي (726هـ) في (تذكرة الفقهاء) في فقه الخلاف المذهبي، وفي (مختلف الشيعة) في فقه الخلاف الداخل ـ مذهبي.

وقد توقف الفقه الخلافي المذهبي (على المذاهب الإسلاميّة) بعد العلامة الحلي تقريباً إلى الفترة المتأخّرة، حيث جاءت كتابات الشيخ محمّد جواد مغنية، والشيخ محمد إبراهيم الجناتي، وموسوعة الفقه المقارن التي يشرف عليها الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وكذلك موسوعة الفقه المقارن الأخرى التي يشرف عليها السيد محمود الهاشمي، وتصدر عن دائرة معارف الفقه الإسلامي، وكتاب (الأصول العامّة للفقه المقارن) للسيد محمّد تقي الحكيم في أصول الفقه المقارن.

أما فقه الخلاف الإسلامي ـ الوضعي، فهو ظاهرة جديدة لم نجدها إلا عند الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (1373هـ) في كتابه (تحرير المجلّة)، ثم مع بعض المعاصرين، مثل السيد كاظم الحائري في (فقه العقود)، والسيد محمد حسين فضل الله (2010م) في (فقه الإجارة) وغيرهم من الفقهاء.

2 ـ منهج فقه الوفاق،وقد كانت الكتابات في هذا الموضوع قليلة جداً أيضاً، ولعلّه يمكن أن ندرج هنا كتاب (الإعلام فيما اتفقت عليه الإمامية من الأحكام) للشيخ المفيد (413هـ) في فقه الوفاق المذهبي وغيره، وكذا (المؤتلف من المختلف في فقه السلف) لأمين الإسلام الطبرسي، و(جامع الخلاف والوفاق) للقمّي السبزواري.

3 ـ الأشباه والنظائر،وهو منهج يعتمد رصد عناصر الشبه بين عدّة موضوعات فقهية، فيربط بينها لتكون في سبك واحد، كالربط بين مجموعة أعمال تقع في وقت واحد أو في حال واحدة أو في مكان واحد، والهدف هو تحصيل صورة متكاملة عن المشهد الفقهي. وأوّل من ألّف على هذا المنهج ابن سعيد الحلي (689 أو690هـ) في كتابه (نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر)، ثم جاء ابن داوود الحلي (707هـ) في كتابه (عقد الجواهر في الأشباه والنظائر).

4 ـ المنهج الموسوعي،وهو الذي يعتمد المصطلح الفقهي وفقاً للترتيب الألفبائي، فيوسعه بحثاً في الموضوعات والآراء والمناقشات الفقهية الواردة حوله، وأبرز ما ألّف في هذا السياق (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت) والتي صدر منها حتى الآن 29 مجلداً، و(الموسوعة الفقهية الميسّرة) للشيخ محمد علي الأنصاري، والتي صدر منها 9 مجلّدات حتى الآن، وكذلك (موسوعة أصول الفقه المقارن) والتي تصدر عن مجمع التقريب بين المذاهب.

5 ـ المنهج المعجمي،وهو منهجٌ يعتمد الطريقة القاموسية في عرض المصطلح الفقهي، ويقع مختصراً جداً قياساً بالمنهج الموسوعي، بل هو مقدّمة له عادة، ومن أبرز الكتب في هذا المجال حديثِ الظهور: (معجم فقه الجواهر) في ستة مجلدات، و(المعجم الفقهي لكتب الشيخ الطوسي) في ثمانية مجلدات..

6 ـ المنهج القاموسي،ويعتمد تعريف الكلمات والمصطلحات، وتوضيح العناوين بطريقة موجزة جداً. ومن أهم ما ألّف: (معجم ألفاظ الفقه الجعفري) للدكتور أحمد فتح الله، و(الاصطلاحات في الرسائل العملية) للشيخ ياسين العاملي، و(القاموس الفقهي) للشيخ حسين مرعي و..

7 ـ المنهج الاستدلالي،وهو المنهج المتبع في المجموعات الفقهيّة البحثية عند الفقهاء الكبار، مثل (جواهر الكلام) للشيخ النجفي (1266هـ)، ومجموعة أعمال السيد أبو القاسم الخوئي (1413هـ)، و(المكاسب)، للشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) و.. ويستند هذا المنهج على الاستدلال فيرصد الأدلة ويناقشها، ويعرض النظريات ويفنّدها، ويسعى لاختيار قولٍ من الأقوال، ذاكراً أدلّته ومستنداته.

 

3 ـ 1 ـ التدوين وفقاً للأسلوب والبيان (الأساس البياني)

يتعدّد التصنيف والاشتغال الفقهي وفقاً للطرق والأساليب البيانية إلى:

1 ـ الفقه المنظوم،وهو الفقه الذي يصاغ في قوالب شعرية، إما لتسهيل الحفظ أو للتفنّن، وقد دوّنت في هذا المجال ـ حسب بعض الإحصاءات ـ 270 منظومة وأرجوزة وقصيدة، من أشهرها منظومة السيد بحر العلوم (1213هـ) المعروفة بـ (الدرّة النجفية) والتي كتبت حولها شروح وتعليقات كثيرة. وقد تنوّع الفقه المنظوم بين اللغة العربية والفارسية والتركية.

2 ـ الفقه العددي،وهو الفقه الذي يعتمد الأعداد للحصر والحفظ، مثل ألفية الشهيد الأول (ألف واجب في الصلاة)، والاثني عشرية في الصلاة لصاحب المعالم وهكذا..

3 ـ الفقه الوقتي،وهو الفقه الذي يعتمد الزمن، مثل كتاب (عمل اليوم والليلة) للشيخ الطوسي، و(مفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة) للشيخ البهائي، وكتاب (الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرةً في السنة) للسيد ابن طاووس.

4 ـ الفقه على أساس القسمة والحصر،وهو الذي يعتمد خارطة الحصر والقسمة للموضوع وضمّ أبعاده المختلفة، لتعالج بطريقة مضبوطة تستوعب الصور والحالات، وقد برز في هذا الأسلوب سلار الديلمي في كتاب (المراسم العلوية)، وابن حمزة الطوسي في كتاب (الوسيلة إلى نيل الفضيلة) و..

5 ـ الحواشي والتعليقات والشروح:الحاشية والتعليقة بمعنى واحد، وقد يميّز بعضٌ بين الحاشية والتعليقة باختصاص التعليقة بالعلوم العقلية أو بعدم استخدام الحاشية في تلك العلوم، وقد يميّز بأنّ التعليقة تنصرف إلى ما يتضمّن رأياً شخصياً، والحاشية أعمّ أو خاصّة بالشرح والإيضاح. أما الشرح فهو التوضيحات والبحوث المفصّلة المبسوطة.

والهدف من كتابة الحواشي والتعليقات اختزال الوقت والجهود على الكاتب نفسه، واختصار الأمور وعدم التكرار، ولعلّ أقدم تعليقة فقهية هو كتاب (النهاية ونكتها) للمحقق الحلي (676هـ) على كتاب (النهاية) للطوسي، في ثلاثة أجزاء، ثم تتالت بعده التعليقات والشروح كإيضاح الفوائد لفخر المحققين وغيره.

6 ـ الموسوعات الفقهية أو المطوّلات:وهي الكتب الواسعة المفصّلة المستدلّة الشاملة في الفقه والمستوعبة أبوابه أو أغلبيّتها الساحقة. ولعلّ أقدم كتاب فيها هو (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) لابن الجنيد الاسكافي، وتمثل كتب الشيخ الطوسي والعلامة الحلي والمحقّق النجفي والسيد الخوئي وأمثالهم عمدة كتب المطوّلات عند الإمامية.

7 ـ المختصرات:وهو تصنيف يقع على العكس من المطوّلات، فيؤخذ كتاب ثم تحذف زوائده أو تعاد صياغته بشكل مختصر؛ حفظاً له أو تسهيلاً لتداوله، ومن أشهر المختصرات مختصر التذكرة لابن المتوج البحراني، ومختصر مختلف الشيعة للشيخ زين البياضي النباطي و..

8 ـ التقريرات:يقصد بالتقريرات تدوين بعض الطلبة دروس أساتذتهم العليا بما يشبه الأمالي في الحديث عند القدماء، كما يقول العلامة الطهراني([3])، وقد ظهر هذا الأسلوب أواخر القرن الثاني عشر وما زال مستمرّاً إلى يومنا هذا، ودوّنت به كتب كثيرة جداً في الفقه والأصول، وفي الأصول أكثر.

9 ـ سؤال وجواب:وهي كتب تعبّر عن أسئلة دوّن الفقيه أجوبتها، ويمكن إدراج نمط الاستفتاءات المعاصر في هذا النوع من التدوين الفقهي، وأحياناً يسأل الفقيه ويجيب، وأحياناً يكون السؤال من غيره له وقد يكون الغير فقيهاً أيضاً.

ومن أبرز ما ألّف في هذا المجال ـ غير كتب الاستفتاءات المشهورة اليوم والتي يعدّ (صراط النجاة) للسيد الخوئي والشيخ جواد التبريزي وكتب العلامة فضل الله المعروفة من أكبرها ـ (السؤال والجواب عن المسائل الفقهية) للسيد محسن الأعرجي، و(جامع الشتات) للميرزا القمي، و(رسائل السيد المرتضى) وغيرها.

 

2 ـ التطوّر التاريخي للكتب الدراسية في الفقه والأصول

من الطبيعي أن يؤثر مرور الزمن وتطوّر الدرس الأصولي والفقهي على الكتب المعتمدة في التدريس في الحوزات العلمية، وهذا تماماً ما لاحظناه مع كتب الفقه والأصول منذ زمن الشيخ المفيد وإلى يومنا هذا، وسوف نحاول رصد أهمّ هذه الكتب التي شكّلت محور الدروس الحوزوية في المراحل الأولى وفي مرحلة الدراسات العليا أيضاً في جملة من الأحيان، على الشكل التالي:

 

1 ـ 2 ـ التذكرة بأصول الفقه، للشيخ المفيد (413هـ)

لعلّه يمكن عدّ هذا الكتاب من أقدم الكتب الدرسية في مادّة أصول الفقه عند الشيعة الإمامية كما يرى بعض الباحثين في تاريخ العلوم، وهذا الكتاب ألّفه الشيخ المفيد المعروف بنزعته العقلية في الفكر الإسلامي وباطّلاعه الواسع على منجزات المعتزلة والفرق الكلامية، وكذلك المذاهب المتعدّدة عند أهل السنّة، لهذا يترقّب ـ مبدئيّاً ـ أن يكون في الكتاب إطلالة على النظريات والطروحات الأصولية حتى عصره عند المذاهب الإسلامية كافّة.

إلا أنّ المؤسف أنّ الكتاب لم يصلنا، وإنما وصلنا مختصره الذي أورده الشيخ الكراجكي (449هـ) تلميذ المفيد، والمختصر يشير إلى أنّه أصول فقه موجز جداً فيه بعض الإشارات الخفيفة. ويرجّح أنّ المفيد لم يُسهب في الكتاب؛ لأنّ المرتضى والطوسي لم يشيرا عندما صنّفا كتابيهما الأصوليَّين إليه ولم ينقلا أفكاراً عنه، مما يشير إلى أنه لم يكن أساسيّاً، وقد أشار الطوسي إلى اختصار الكتاب([4])، وأعتقد أنّ الفترة لم تكن طويلة حتى ظهرت كتب الطوسي والمرتضى الأصولية لتحلّ محلّ (التذكرة)، فإذا كان كتاباً درسياً فربما اعتمد فيما بعد للمراحل الأولى.

 

2 ـ 2 ـ العدّة في أصول الفقه، للشيخ الطوسي (460هـ)

وهو كتاب أصولي موسّع اعتمدته الحوزات العلمية، ويبدو أنه أخذ كثيراً مما كتبه السيد المرتضى في (الذريعة)، وقد احتلّ موقعاً متميّزاً عند الشيعة في أصول الفقه ـ إلى جانب الذريعة ـ طيلة قرنين من الزمن، وكان محوراً في هذا المضمار.

ويمتاز كتاب العدة بـ: 1ـ بالبحث المقارن. 2ـ بالبعد العقلي التحليلي. 3ـ بالتفصيل في ذكر الوجوه والأدلّة ومناقشاتها. 4 ـ بتبويب الأصول تبويباً منهجياً غير فوضوي، يشبه طريقة المعتزلة في التنظيم.

 

3 ـ 2 ـ النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، للشيخ الطوسي (460هـ)

شكّل هذا الكتاب محوراً للتدريس الفقهي في الحوزات العلمية، وامتاز باختصار عبارته وقابليّته للحفظ والتعليق والشرح، وكذلك بقربه من النصوص الحديثية نفسها، لكنّه كان يفتقر إلى تنظيم فنّي للمسائل، حيث غلب عليه استخدام الأسلوب السردي في عرض المسائل الفقهية الواحدة تلو الأخرى، من هنا وجدناه بعيداً عن النمط التقعيدي في الفقه إلا نادراً، فكان شبيهاً بنمط التدوين الفقهي الحنبلي أكثر من النمط التدويني المعتزلي.

 

4 ـ 2 ـ معارج الأصول، للمحقّق الحلي (676هـ)

يعدّ هذا الكتاب دورةً أصوليّة مختصرة منضبطة الألفاظ مكثفة في معانيها، تمتاز بسهولة العبارة، وجودة الترتيب، وتختصر مباحث أصول الفقه حتى القرن السابع الهجري. وليس في هذا الكتاب زيادات كثيرة ـ من حيث المضمون ـ عن مرحلة الطوسي والمرتضى؛ لأنّ أصول الفقه الإمامي لم يتطوّر في هذين القرنين كثيراً.

 

5 ـ 2 ـ شرائع الإسلام والمختصر النافع، للمحقّق الحلي (676هـ)

يعدّ هذان الكتابان من أهمّ الكتب الدرسية عند الشيعة، وقد ظلّ الأول منهما معتمداً في تدريس المقدّمات والسطوح، وكذا في دورات البحث الخارج حتى يومنا هذا، والثاني مختصر الأوّل، فيما كتاب (المعتبر) يمثل توسعةً على شرائع الإسلام.

يمتاز الشرائع بـ: 1ـ ضبط متقن للعبارات. 2ـ بيان موجز للأقوال. 3ـ ترتيب فائق الجودة للأبواب والمسائل والموضوعات. 4ـ إشارات خفيفة لبعض الأدلّة. 5ـ حسم الفتوى أحياناً والتردّد أحياناً أخرى.

 

6 ـ 2 ـ المصنّفات الأصولية والفقهية، للعلامة الحلي (726هـ)

احتلّت بعض كتب العلامة الحلي محور الدرس الحوزوي، فإنّ كتبه على نوعين:

1ـ مطوّلات،مثل: تذكرة الفقهاء، ومختلف الشيعة، ومنتهى المطلب، ونهاية الوصول إلى علم الأصول.

2ـ ومختصرات،مثل: قواعد الأحكام، وإرشاد الأذهان، وتهذيب الوصول، ومبادئ الأصول.

شكّلت مختصرات العلامة الحلّي متوناً لمطوّلاته إذ جاز التعبير، فاعتمدت في المراحل الأولى من الدرس الحوزوي في نفسها، فيما اُخذت بمعونة المطوّلات موادّ للدراسات العليا.

وتمتاز كتبه عموماً بـ: أ ـ شمولية التتبع. ب ـ البُعد المقارن. ج ـ سهولة التعبير. د ـ إبراز فنّ المناقشة الفقهية وطريقتها. هـ ـ تطبيق القواعد الأصولية في الفقه بشكل أوضح أو ظهور الأصول في الفقه في مراحله الأولى. وـ وجود اضطراب في الأفكار وتذبذب وتغيير كثير نسبيّاً في الآراء.

 

7 ـ 2 ـ معالم الدين وملاذ المجتهدين، للشيخ حسن العاملي (1011هـ)

يعدّ هذا الكتاب مجموعة غير كاملة في الفقه حملت عنوان فقه آل ياسين، لكنّ مقدّمته الأصولية هي التي اعتمدت بديلاً عن كتب الطوسي والحلّيين، وتمتاز بـ: أ ـ جودة البيان. ب ـ عكسها لآخر التطوّرات الأصولية لاسيما وأنّ صاحبها عاش في بدايات الحقبة الإخباريّة وتلمّذ على المحقق الأردبيلي. ج ـ عمق المطالب والمضامين مقارنةً بما سبق. د ـ ترتيب الأصول ترتيباً متميّزاً. هـ ـ عرض الآراء ومناقشاتها باختصار مع جامعيته من حيث البيان والرصد. و ـ ظهور النزعة الفلسفية في الأصول بشكلٍ أوّلي جدّاً.

هذا، وقد كتبت على هذا الكتاب عشرات الشروح والحواشي، واعتمد متناً لدراسات بحث الخارج، وما يزال في بعض الحوزات معتمداً، وقد شهد نهاياته في العقود الأخيرة.

 

8 ـ 2 ـ الروضة البهيّة، للشهيد الثاني (965هـ)

يعدّ كتاب (الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة) من أهمّ الكتب التي عليها المدار فقهياً في مرحلة السطوح، وهو شرحٌ لكتاب (اللمعة الدمشقية) للشهيد الأول.

ويمتاز كتاب الروضة مع اللمعة بـ: 1ـ سهولة العبارة وفصاحتها. 2ـ بيان بعض القواعد الفقهية. 3ـ عدم وجود بحوث ذات نزعة فلسفية تحليليّة. 4ـ دورة كاملة في الفقه متساوية النسبة، تهتمّ بغير العبادات أكثر من العبادات. 5ـ رصد متوسّط للأقوال وإبراز الآراء والمناقشات. 6ـ عدم حضور البحث الرجالي أو الأصولي بقوّة.

 

9 ـ 2 ـ زبدة الأصول، للشيخ بهاء الدين العاملي (1030هـ)

يعدّ هذا الكتاب متناً مختصراً لأصول الفقه على طريقة مختصر ابن الحاجب، واختصاره يتّسم بالتعقيد، وينشأ معه الطالب على السعي لفكفكة العبارات وتحليل الإشارات المبثوثة في النصّ المكثّف. كما يتسم الكتاب بنزعة ذات طابع فلسفي تقرّب البحث الأصولي من العقليات، وقد وضع مقدّمةً في الأمور المنطقية متابعاً في ذلك الشيخ أبا حامد الغزالي (505هـ).

 

10 ـ 2 ـ الوافية في أصول الفقه، للفاضل التوني (1071هـ)

يعدّ هذا الكتاب بالغ الأهمية؛ إذ جاء في العصر الإخباري من جهة، وقدّم صاحبه تبويباً مختلفاً للأصول من جهة ثانية، وقد امتاز بنمط جديد من البحث الأصولي وطرح نظريات جديدة، لكنه ظلّ مرجع الأصوليين في عصر ضعفهم أمام الإخباريين.

 

(11 ـ 12) ـ 2 ـ القوانين المحكمة في أصول الفقه، للميرزا القمي (1232هـ)، والفصول الغروية للإصفهاني (1261هـ)

يمتاز هذان الكتابان بأنّهما: 1ـ موسّعان جداً. 2ـ مليئان بدقائق الأبحاث الأصولية. 3ـ جاءا في عصر الانسداديين. 4ـ يحملان نزعة نقدية واسعة. 5ـ فيهما متابعات كثيرة للآراء والأدلّة والأقوال. 6ـ معقّدان من حيث العبارة وصعبان من حيث البيان. 7ـ يحتويان أفكاراً غزيرة.

وقد سيطر هذان الكتابان على الحوزات العلميّة، وظلّا حتى زمن قريب مادّةً للتدريس فيما يعرف بمراحل السطوح العليا.

 

(13 ـ 14) ـ 2 ـ فرائد الأصول والمكاسب، للشيخ الأنصاري (1281هـ)

يمتاز الكتابان (وأوّلها في الأصول والثاني في الفقه) بـ: 1ـ بسط مطوّل يفوق التصوّر للأبحاث والأقوال والأدلّة والمناقشات، ربما تأثراً بصاحب الجواهر وصاحبي القوانين والفصول. 2ـ توثيق للآراء بشكل موسّع لكن أكثره بالواسطة. 3ـ دورة غير كاملة للفقه؛ لأنه في المكاسب والبيع فقط، مع أنه في أصول العقود، ودورة غير كاملة في الأصول أيضاً؛ لأنه لا يحوي مباحث الألفاظ، بل يقتصر على الحجج والأصول العملية والتعارض، وقد عُدّ ذلك نقطة نقص على المستوى التعليمي([5]). 4ـ عدم وجود تنظيم مميّز للأبحاث، بل هناك بعض الفوضى في الترتيب، وكذا في بيان تصميم البحث قبل الشروع فيه. 5ـ عدم وجود تسلسل ووضوح في نظر المصنّف، بل يقوم بشكل أكبر على الأخذ والردّ والدفاع ثم التبنّي، ثم النقد، الأمر الذي يسبّب أحياناً تشويشاً في الذهن. 6 ـ يحوي نقلاً للنصوص الحرفية؛ ولهذا فهو يشتمل على الكثير من المنقولات. 7ـ العبارات عموماً واضحة نسبياً مقارنةً بكتب أخرى كالقوانين والفصول وغيرهما. 8ـ سيطرة كاملة لمدرسة الكتابين على الحوزات العلميّة إلى يومنا هذا، حتى أنّ أغلب معايير العمق الاجتهادي توضع في ضوء هذين الكتابين، حتى اعتقد الشيخ المطهري بتشابه عصرنا مع فترة الركود التي فصلت بين عصر الشيخ الطوسي (460هـ) والشيخ ابن إدريس الحلي (598هـ).

 

15 ـ 2 ـ كفاية الأصول، للآخوند الخراساني (1329هـ)

يمتاز هذا الكتاب بـ: 1ـ إنّه دورة كاملة في الأصول. 2ـ مختصر، وغير مطوّل حتى أنه ينقل عنه أنه بدّل ثلاثين سنة كان يقضيها الطالب مع رسائل الشيخ الأنصاري بثلاث سنوات يقضيها في دراسة كفاية الأصول، وأنّ بعض تلامذته أجابه في حينه عن ذلك بأنّ السبع وعشرين سنة الباقية يقضيها الطالب في تفكيك عبارات الكفاية وإرجاع الضمائر!. 3 ـ يعتمد اتجاه تهذيب الأصول فيحذف عادةً مباحث التعريفات، وكثيراً من الأقوال، وكثيراً من الأدلّة والمناقشات. 4ـ يجلي محلّ النزاع ويوضح الفرق بين المسائل وجهات البحث فيها. 5 ـ يمتاز بعجمة لفظية وتعقيد في البيان([6])، حتى تاه العلماء في تفسير عباراته، مثل بحث وحدة القضية المتيقّنة والمشكوكة ومسألة اتصال زمان الشك باليقين في الاستصحاب. 6 ـ يركّز على إبداء رأيه أولاً ثم التعريف بغيره، بعكس منهج الشيخ الأنصاري.7 ـ الجزء الأول منه ناظرٌ في الغالب إلى الفصول والقوانين، فهو تعليقة عليهما إذا جاز التعبير، فيما الجزء الثاني ناظر إلى فرائد الأصول للشيخ الأنصاري.

 

16 ـ 2 ـ أصول الفقه، للشيخ محمّد رضا المظفر (1381هـ)

هذا الكتاب دورة أصولية غير كاملة، وتمتاز بـ: 1 ـ سهولة التعبير وجماليّته وفصاحته. 2 ـ تحرير محلّ النزاع. 3ـ ترتيب المطالب والأبحاث. 4ـ الإطلالة على بعض أبحاث الأصول السنّي كالقياس و.. 5ـ التطعيم بأمثلة وحالات تطبيقية. 6ـ أكثره انعكاس لمدرسة المحقق الإصفهاني.

 

17 ـ 2 ـ دروس في علم الأصول، للشهيد محمد باقر الصدر (1400هـ)

دورة أصولية كاملة: 1ـ تطرح منهجيةً وتقسيماً جديداً لعلم الأصول. 2ـ تمتاز بصياغات جديدة وتعابير حديثة. 3ـ تلاحظ تطوّرات الدرس الأصولي ما بعد الأنصاري والخراساني. 4ـ تمثل برنامجاً للسطوح كلّها على خلاف أصول المظفر. 5 ـ يوجد ارتباك أحياناً في بياناته وتعقيد أحياناً أخرى على خلاف أصول المظفر.

هذا، وقد حاول كثيرون تقديم نماذج ومشاريع مناهجية وألّفوا كتباً لتكون بديلاً عن كتب موجودة داخل الحوزة العلمية أو إلى جانبها، لكنّها لم تحظ بالرواج، أو حظيت بشكل محدود، مثل البداية والكفاية للشيخ محمد تقي الفقيه، وأصول الفقه في ثوبه الجديد للشيخ محمد جواد مغنية، والموجز في أصول الفقه للشيخ جعفر السبحاني، ودروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي للشيخ باقر الإيرواني، وأعمال الشيخ عبد الهادي الفضلي، والأصول العامّة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم، والكافي في أصول الفقه للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم و..

 

3 ـ أشكال الاشتغال الفقهي وتنوّع الموادّ الدرسيّة، استنتاجات وملاحظات

يمكن من خلال ما تقدّم الخروج بجملة من النتائج المفيدة، وأهمّها:

 

1 ـ 3 ـ تنوّع أشكال البحث الاجتهادي

إنّ أشكال البحث والفهم والتدوين الفقهي والأصولي ظلّت مختلفةً عبر التاريخ، ولا يمكن الحديث عن نمط واحد من النشاط الفقهي والأصولي، لا من حيث المنهج ولا من حيث الموضوعات ولا من حيث الأسلوب والبيان، وهذا الأمر يفتح على تنوّع يثري علمي: الفقه والأصول.

 

2 ـ 3 ـ ضرورات المناهج غير الاستدلاليّة في الفقه

رغم أهمية النمط الاستدلالي التفريعي في حياة الفقه الإسلامي وتطوّره، إلا أنّ هذا لا يلغي دور أشكال أخرى من تناول المسألة الفقهية، مثل فقه الوفاق والخلاف، والفقه الموسوعي، أو فقه آيات الأحكام، والقواعد الفقهية وغير ذلك، بل ربما يكون تواصل البحث الفقهي والأصولي ذي النمط الاستدلالي التفريعي دون سائر أشكال المعالجة الفقهية مما يقلّ حضوره نسبياً في الحوزات والمعاهد الدينية.. ربما يكون مؤشراً على أهمية زمنية اليوم لإقحام سائر أشكال الفقه والأصول في مناهج التربية والتعليم في هذه المعاهد؛ فإنّ غياب هذه الفروع يستدعي اليوم استحضارها مجدّداً وعدم الإيحاء لطلاب العلوم الدينية بأنها أقلّ أهمية أو أقلّ عمقاً، والأخطر هو القول بأنّها الأقل تعبيراً عن الخبروية الفقهية والأصولية.

إنّ لكلّ شكل من أشكال الدراسة الفقهية والأصولية الأربعة والعشرين المتقدّمة ميزاته الخاصّة، فدراسة قواعد الفقه تستدعي ذوقاً خاصاً وسليقة خاصة ونمطاً معيناً من تناول الأمور، ولا تتحدّد أشكال التناول هذه أو تتحجّم في واحد منها، وهذا يعني أنّ من يملك ثقافةً ميدانية في مجال الأنماط جميعها، يكون قد أخذها من مراحل التربية والتعليم، ثم عاش ممارستها التجريبية ولو فترة وجيزة في مراحل الدراسات العليا، سوف يملك خبرةً فقهية وأصولية أكبر من ذاك الذي تنحصر مجال معرفته بشكل واحد من المعالجة الفقهية.

إنّ القاعدة تقول: كلّما تعدّدت زوايا نظرك إلى الشيء امتلكت عنه صورةً أوضح. وهذه القاعدة تصلح هنا فكلّما نظرت إلى الفقه من زوايا قواعدية وآيات أحكامية وموسوعية ومقارنة واستدلالية وموادّية (مواد قانونية) و.. ارتفع مستوى وعيك الحقيقي بالفقه ولم ينخفض.

3 ـ 3 ـ عدم استجماع أنماط الاشتغال الاجتهادي لزوايا النظر العلمي كافّة

إنّ الأنماط الأربعة والعشرين المتقدّمة في الرصد التاريخي لا تعبّر تماماً عن واقع زوايا النظر إلى علوم الشريعة الإسلامية؛ لأنّ هناك زوايا أخرى قلّما تناولها الفقهاء والأصوليون أو لم تظهر إلا مؤخراً، أو عاشوها بوجدانهم دون أن ينظّروا لها تدويناً. وفتحُ بابها في مجال التربية والتعليم أمرٌ بالغ الأهمية، وسأعطي بعض النماذج على ذلك:

أ ـ تاريخ علم الفقه والأصول،فإنّ هذا الجانب من تناول علوم الشريعة ذو أهمية فائقة في توسعة أفق المتعلّم ورؤيته الشمولية لواقع العلوم الشرعية، ونظرته الواقعية لحركة هذه العلوم بما يسقط الصور الخيالية الموهومة عن بعض الأفكار والشخصيات أو المراحل الزمنية، ولعلّ أهم علم يمكنه أن يمنح الطالب بُعداً موسوعياً في قراءته للفقه ويصوّب للباحث دعاوى الإجماع والشهرة وغير ذلك، هو علم تاريخ العلوم الذي ظهر بشكله الحقيقي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، لاسيما في ظلّ نظريات هيجل في فلسفة التاريخ وكانط في المعرفة الذاتية والموضوعية أو الشيء في نفسه والشيء في مدركاتنا.

ب ـ علم الربط بين الأصول والفقه من جهة وبين القاعدة الفقهية والمسائل القانونية من جهة أخرى،إنّ واحدة من أصعب تجارب طلاب العلوم الشرعية هي تجربة الدرس الأصولي؛ لأنّ طريقة تدوين الكتاب الأصولي الدرسي أو دراسة الأصول في مراحل البحث الخارج، تقوم على الفصل شبه التام بين النظرية والتطبيق، والذي يخفّف الوطأة إلى حدّ ما هو التجربة الفقهية التي تستحضر علم الأصول أو القاعدة الفقهية أثناء ممارسة العملية الاجتهادية في مرحلة البحث الخارج أو الدراسات العليا، لكن مع ذلك تظلّ أكثر المسائل الأصولية بعيدة عن الحسّ التجربي عند الطالب، ما يحوجه إما إلى أن يكون نمط تدريس الأصول مختلفاً أو إلى تأسيس مادّة درسية على الأقل تعنى بملاحظة جوانب الارتباط بين العلوم الشرعية، لاسيما الأصول والقواعد الفقهية مع المسائل والموضوعات الفقهية.

والشيء الذي يراكم المشكلة أنّ بعض الكتب الفقهية المعتمدة في الدرس الحوزوي تعود إلى قرون سبقت، مما يعني أنّ جملة وافرة من النظريات والمقولات الأصولية لن تجد لها عند الطالب ظهوراً في الممارسة الفقهية طيلة سنوات درسه في المقدّمات والسطوح.

ج ـ علم الرجال والحديث،وهما من العلوم المهمّة التي تعدّ غير حاضرة في حياة الطالب أثناء ممارسته الفقهية، ولا يشعر باستخدام الأستاذ لها كثيراً في الدراسات العليا، ويجب الإذعان بأنّ السيد البروجردي والسيد الخوئي قد أعادا الحياة مجدّداً إلى علم الرجال، وأنّ مدرستيهما فعّلتا من نشاط هذا العلم نسبياً، وإن كان علم الحديث ما زال لا رواج له بالشكل المطلوب حتى الآن.

د ـمباحث الربط بين علم الأصول من جهة والعلوم العقلية مثل المنطق والفلسفة والكلام من جهة ثانية، وكذا بين علم الأصول وعلم اللغة وفلسفتها، إنّ حجم التداخل بين الأصول وهذه العلوم كبيرٌ جداً، وطالب العلم يأخذ المسائل الأصولية مبنيةً على أصول قد لا تكون مبرهنةً له، حتى لو صار مجتهداً أو حتى ربما غير واضحة له، ولعلّ أبرز مثال على ذلك مسألة الحقيقة والاعتبار في الفلسفة الإسلامية وتأثيرها على مجمل دراسات علم أصول الفقه.

 

4 ـ 3 ـ رصد تحليلي ونقدي للمتون الدرسيّة عبر التاريخ

لو رصدنا التطوّر التاريخي للكتب الدرسية المعتمدة، سنلاحظ مجموعة نتائج أبرزها:

أ ـ تنامٍ ممتاز للأصول المقارن في السابقمع كتب: الذريعة والعدّة ونهاية الوصول وغيرها، وتراجع واضح في هذا المجال لاحقاً، لاسيما بعد القرن العاشر الهجري، أما الفقه المقارن، فعلى صعيد المقارنة بين المذاهب ندر أن يعتمد كتاب درسي في هذا المجال، بل غاب هذا الملفّ تماماً عن الدراسات العليا، وأما على صعيد المقارنة بين الفقه والقانون فإنّ المسألة تبدو منعدمة تماماً، وهذه نقطة ضعف كبيرة في عصرنا الحاضر حيث يراد للفقه والأصول أن يثبتا حضورهما في الساحة الفكرية في العالم. ويسجّل هنا للعلامة الفضلي اهتمامه بالبعد المقارن وتنظيره لهذا الاهتمام([7]).

ب ـ ظهور أو تنامي التعقيد اللفظي، لاسيّما بعد القرن العاشر الهجري، وبالأخص في مجال أصول الفقه، وقد أدّى هذا التعقيد إلى الكثير من هدر الوقت والطاقات في فضاء الألفاظ، الأمر الذي يكون عادةً على حساب عمق التفكير في المعنى، كما أدّى إلى غياب علوم الاجتهاد الإمامي عن الحضور في الساحة الفكرية وعجز كثيرين عن التعرّف عليها، وصعوبة إدخالها في الدرس الجامعي، بل حتى التجربة المعاصرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية واجهت هي الأخرى مشكلةً في الجامعات، حيث لم يحصل نجاح ممتاز في الربط بين الفقه والقانون في ذهنية الطالب الجامعي في مجال اختصاص الحقوق والقانون والقضاء وغير ذلك، وفقاً لإقرار كبار الشخصيات في المجال الحقوقي والقضائي.

ج ـ تأثير أساليب البيان في جملة من الكتب الدرسية المتأخّرة، لاسيما في أصول الفقه على الثقافة بل والحياة اللغويةلطالب العلم، كما تحدّثنا عن هذا الموضوع في مناسبة أخرى([8])، حيث أدّى الأمر إلى تشوّه نسبي للذوق اللغوي عند طلاب الشريعة، وهو الذوق العمدة في فهم بيانات اللغة العربية في الكتاب والسنّة، ولهذا ظهرت فهوم للنصوص الدينية لا تمتّ بأيّ صلة للفهم العربي، كما رأينا تراجعاً كبيراً في قدرة طالب العلم في الحوزات على التعاطي بعفوية مع اللغة العربية لتكون ذوقاً وأسلوباً وبياناً له.

ومن أهمّ من رصد هذا الموضوع وأبدع فيه، العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي، الذي عرف بنزعته الأدبية والنقديّة اللغويّة، وألّف في هذا المضمار مجموعة من الكتب الدرسية المعنيّة بقضايا اللغة والصرف والبلاغة، وركّز كثيراً على هذا الموضوع في جهوده وممارساته العلميّة، واهتمّ باللغة والتاريخ كثيراً في تعريف الموضوعات الشرعيّة كما كانت طريقة ابن إدريس الحلي، معتمداً في ذلك على أمّهات المصادر اللغويّة([9]).

د ـ تعاني أغلب الكتب الدرسية من مشكلة أنها لم تكتب لتكون منهاجاً درسياً، وإنما دوّنها أصحابها لغير هذا الغرض، واعتمدت بتأثيرٍ من شخصيات مؤلّفيها إلى جانب امتيازات إيجابية موجودة. ومن الطبيعي أن يكون هناك فارق في التنظيم والأسلوب والبيان بين كتاب يُكتب ليكون درسياً وآخر يكتب لغرض ثانٍ فيصير درسياً، حيث سيفقد الثاني الكثير من الخصائص التي لو كان درسياً لاحتواها، مثل مراعاة ذهن الطالب، ومرحلته، والتدرّج في بيان المسائل له، وتوضيح المصطلح ومحلّ النزاع، وإجلاء العلاقات بين البحوث والأبواب، ووضع خرائط سير منتظمة وسهلة، وتيسير العبارات، وذكر مقدّمات في البدايات وخلاصات في النهايات، واستشراف للمستقبل، ورصد الجانب التربوي في المراحل الأولى ثم رفع مستوى الجانب العلمي كلما تقدّمت المرحلة، وبيان الفائدة من البحث([10])، وعرض أمثلة وتطبيقات حيث يحتاج وغير ذلك.

هـ ـ ونتيجة للنقطة السابقة، تمّ في بعض الكتب استخدام أسلوب الجدل والمماحكة المطوّلة، وأبرز مثال كتاب المكاسب، فإنّ أسلوبه يناقض أساليب التربية والتعليم من زاوية أنّه يخرج الطالب في كثير من الأحيان بطريقة لا تحسم الأمور معه، بل يبقى متذبذباً تائهاً بين المسائل، وكذلك بعض المواضع من كتاب (دروس في علم الأصول) للسيد الصدر؛ إذ لأنه لم يكن يريد أن يحسم الأمور في الحلقة الأولى والثانية على الأقلّ، علّق بعض المسائل، مع أنّ التربية والتعليم يستدعيان بعث الطمأنينة ـ وليس الدوغمائية أو الطوباوية ـ في الطالب؛ ليشعر بأنه مطمئن في رؤيته للأمور أو على الأقلّ وضعه مع نتائج متعدّدة وفقاً لبناءات متعدّدة، فتحسم له النتائج ولو انطلاقاً من بناءات تبحث في مكان آخر.

وفي هذا السياق، لا يصحّ أن يعبّر الكتاب الدرسي عن مدرسة واحدة من مدارس الاجتهاد، كما هي الحال ـ نسبياً ـ مع (أصول الفقه) للشيخ المظفر، بل المفترض أن يعرض المشهد بشكل أوسع للطالب، كما فعل السيد الصدر في الحلقات.

و ـ غياب البحث الرجالي أو الأصولي عن بعض الكتب الدرسية،فنحن لا نرى حضوراً للدراسات الرجالية والنقد السندي والتاريخي في مراحل المقدّمات والسطوح مع الروضة والمكاسب، كما لا نرى حضوراً متميّزاً للأصول في اللمعة أو الشرائع، مع أنّ من الضروري أن يعيش الطالب هذه العلوم في مراحل السطوح حتى يتهيأ لها على المستوى الميداني في مرحلة الدراسات العليا، بل كثيرٌ من دروس البحث الخارج يتسم بهذه السمة أيضاً.

ز ـيعاني كتابا الرسائل والمكاسب، وقبلهما الفصول والقوانين، من التوسعة الشديدة غير المتناسبة مع المستوى الذهني والمرحلة التعليمية للطالب، فالإفاضة في بيان الأقوال الكثيرة وتعدادها، وذكر أغلب الأدلّة والوجوه والمناقشات شيء هو للبحث الخارج مصداقٌ أكثرَ منه مصادقاً لمرحلة الدراسات الأولى أو المتوسّطة، ولهذا السبب تعدّ بعض دروس البحث الخارج أدنى من مستوى المكاسب مثلاً، بل سيأتي أنّ بحث الخارج أيضاً لا يقوم على هذا الاستقصاء المذهل.

وقد انتقد السيد محسن الأمين ظاهرة التطويل العجيب في الدروس، والتي كانت رائجة عند الميرزا حبيب الله الرشتي (1312هـ)، حتى أنه بقي ـ كما قيل ـ شهوراً في تعريف البيع، واعتبر السيد الأمين ذلك مضيعةً للعمر([11]).

ح ـ ثمّة مشكلة اليوم تعاني منها أغلب الكتب الدرسية، وهي أنها لا تراعي تطوّرات الفقه والأصول خلال الخمسين سنة الأخيرة،في حين يفترض بالكتاب الدرسي أن يكون مواكباً لتطوّر العلم نفسه، فمثلاً في ظلّ الحركة الإسلامية ظهرت الكثير جداً من الأفكار المتصلة بولاية الفقيه وفقه الدولة، وفقه النظرية، وفقه المجتمع، وقضايا الثابت والمتغير ومنطقة الفراغ، وأصول الفقه والهرمنوطيقا واللسانيات، وفي حجية الحديث والسنّة، وتاريخيّة التشريع، ودور الزمان والمكان في الاجتهاد و.. وقدّم عشرات العلماء نظريات وأفكار مفيدة، لكنّها جميعاً لا تنعكس في الكتب الدرسية، بل وحتى في بحث الخارج إلا قليلاً، فتظلّ على هامش العلوم الشرعية، مع أنها لو أدخلت لتعمّقَ البحث فيها واتسع وصارت معطياتها أكثر نضجاً وفائدة.

وهذا ما أشار إليه السيد محمد باقر الصدر، من أنّ كتب المعالم والكفاية والقوانين والرسائل لا تختزن تطوّرات الدرس الأصولي خلال القرن الأخير، مما يوقع فجوةً بين مراحل السطوح العليا ومرحلة البحث الخارج، فيظلّ الطالب أسيراً لهذه الفجوة([12]).

وهذه الملاحظة نفسها يمكن استخدامها بالمطالبة بتطوير حتى مشروع السيد الصدر نفسه في (الحلقات)، أو حتى مشروع الشيخ الإيرواني في (دروس تمهيدية)؛ لأنّ هناك الكثير من المستجدّات التي صار يلزم أن يتلقّفها الدرس الفقهي والأصولي ويضعها في صميم أبحاثه لا على هامشها، ممّا لا نجد له حضوراً حتى في مثل هذين الكتابين.

ط ـ يشير السيد الصدر إلى أن تدرّج الكتب الدرسية في أصول الفقه هو تدرّجٌ تاريخي، وليس تدرّجاً في الكمّ والكيف تستدعيه الضرورات التعليمية والتربوية،فالمعالم يدرّس أولاً؛ لأنه الأقدم، ثم القوانين ثم الرسائل ثم الكفاية، والتدرّج التاريخي يساعد على دراسة علم الأصول من مراحله البسيطة إلى المعقّدة؛ إذ بمرور الزمن حصل تطوّر في هذا العلم وتعقّد، لكنّ هذا التدرّج يفرض على الطالب ضريبةً أخرى، وهي دراسة أفكار أو موضوعات لم يعد لها اليوم موضعٌ في علم الأصول، من هنا يستبدل الصدر ذلك بطريقة التدرّج الكمّي والنوعي، ففي الحلقة الأولى يضع دليلاً، وفي الثانية دليلين، وفي الأولى يضع فكرةً مبسّطة، وفي الثانية يطرح الفكرة نفسها بشكل أكثر عمقاً وهكذا([13]).

وما أثاره السيد الصدر جيّد، ويمكن أن نعلّق هنا:

1 ـ إنّ سلامة الأسلوب الذي استخدمه السيد الصدر رهينة بأن لا تتجزّأ فكرةٌ واحدة على مراحل درسية ثلاث، مما قد يفقد الطالب قدرة استيعاب الفكرة أو النظرية من تمام زواياها بعد مرور فترة زمنية على دراسته لجزئها الأول، فلابد أن تكون عملية التقسيم بحيث لا تترك مثل هذا الأمر، وربما وقعت تجربة (الحلقات) أحياناً قليلة في مشكلة من هذا النوع.

2 ـإنّ نفس المبرّر الذي ذكره السيد الصدر يدعو اليوم لتعديلات حتى في المشاريع التجديدية في الكتب الدرسية؛ لأنّ بعض الموضوعات في أصول الفقه لم تعد لها حاجةٌ عظيمة، مثل مباحث حقيقة الوضع وحقيقة الاستعمال، بل وحتى غيرها وفق بعض الآراء، مثل المعنى الحرفي ومطوّلاته على رأي السيد على الخامنئي، كما سوف نشير لاحقاً بعون الله.

ي ـ تقوم كلّ هذه الكتب الدرسية ـ بما فيها (الحلقات) بإقرار الصدر([14])ـ على مفهوم عدم الاكتفاء بالكتاب أو نظرية محورية النصّ أو المتن الدرسي، بمعنى أنه لا يوجد كتاب درسي يمكن أن يفهمه الطالب من دون حاجة إلى الأستاذ؛ لأنّ هذا معناه ـ في الثقافة الحوزوية ـ أنه كتاب مطالعة وليس كتاباً درسياً، ولهذا السبب ترى الذهنية السائدة في الحوزات العلمية أنّ بعض العلوم لا تصح موادَّ درسية في الحوزة، مثل علم التفسير والقرآنيات والحديث والتاريخ والسيرة والأخلاق ونحو ذلك، وأحد أسباب ذلك ـ في تقديري ـ أنّ هذه العلوم لم تقدَّم للطالب ضمن متن درسي لا يقدر على فهمه دون أستاذ، بعد تشرّب الطالب بالفكرة المتقدّمة، مما جعله يصنّف هذه العلوم في عداد علوم المطالعة دون علوم الدراسة.

وقد سرت ظاهرة المتن حتى إلى جملة من دروس بحث الخارج، حيث نجد الأستاذ يشرح متن الكفاية ثم يقوم بالتعليق، إلى حدّ أن كتاب (محاضرات في أصول الفقه) للسيد الخوئي، يحوي في حدّ نفسه شرحاً لكفاية الأصول في القسم الأول منها، وربما لو استلّ من المحاضرات لكان شرحاً مستقلاً نسبياً.

ومحورية المتن في الدرس الحوزوي تقع على مرتبتين:

الأولى:ما هو السائد في غير كتاب (أصول الفقه) و(دروس في علم الأصول) وأمثالهما، حيث يحتاج للأستاذ في مرحلتين: شرح المعنى، وشرح اللفظ، فلو شرح الأستاذ الفكرة والمضمون لن يكون ذلك كافياً، بل تجده بعد شرح المعنى يخصّص وقتاً لتشريح الجمل والعبارات بغية إرجاع الضمير أو اكتشاف خبر المبتدأ أو غير ذلك.

الثانية:ما هو السائد في هذين الكتابين وأمثالهما([15])من كفاية شرح المعنى، فقبل الشرح يصعب الفهم على الطالب من مجرّد المطالعة، لكن بعد شرح المعنى يمكنه بالمطالعة أن يفهم، حيث لا يجد حينئذٍ تعقيداً أساسيّاً في البيان والعرض.

ومن الواضح أن المرتبة الثانية أفضل من الأولى كما بيّنا سابقاً، لكن مع ذلك نرى أنّ قراءة المتن من قبل الأستاذ أو محورية المتن تظلّ لها سلبياتها، إذ تدفع الطالب إلى الارتهان للغير في فهم الكتاب الأصولي أو الفقهي. فبدل أن يكون دور الأستاذ شرح العبارة عبر شرح المعنى للطالب، فليكن دوره تشريح المعنى وتوسيعه بحيث عندما يقرأ الطالب النصّ يفهمه فهماً أعمق، دون أن يعني ذلك بالضرورة عدم إمكان فهمه في الحدّ الأدنى لو قرأه من دون أستاذ.

نعم، تظلّ هنا مشكلة، وهي الكتب التراثية ـ غير الدرسيّة ـ التي لو اعتمدنا الطريقة المقترحة لن يتدرّب الطالب على فهمها وفهم لغتها، ومن ثم ستكون هناك قطيعة بين الطالب وبين الموروث الفقهي والأصولي، وهذا ما سيخلق له إرباكات في مرحلة البحث الخارج من جهة، وفي مجال البحث والتحقيق والتأليف فيما بعد من جهة ثانية، فما هو الحلّ الذي يجمع بين حداثة الكتاب الدرسي ومرجعيّة التراث الفقهي بعد كون الفقه من العلوم التي لا يمكن في العادة ترك موروثها جانباً، خلافاً لمثل الهندسة والرياضيات والطب و.. فهو مثل علم التاريخ تماماً؟

نقترح هنا حلاً يقوم على وضع مادّة في الدرس الحوزوي نسمّيها: دراسة المتون التراثية أو نصوص التراث، ويكون لها أساتذتها الكفوئين، وتختصّ هذه المادّة التي تكون في أواخر مرحلة السطوح، برصد النصوص التراثية في مراحلها التاريخية وتشريح جملةٍ من مقاطعها، وبيان مناهج مؤلفيها، وإجراء تمرينات تطبيقية عليها. وهذه المادّة إذا انضمت إلى مادّة تاريخ العلوم بما فيها علم الفقه والأصول، فسوف تذلّل هذه العقبات أمام الطالب بنسبة كبيرة فيما نرى.

ك ـ لاحظنا في الكتب الدرسيّة الأصولية عموماً في القرون الأخيرة، حضوراً للمصطلح والمفهوم الفلسفي والمنطقي،وهذا يعني أنّه من الضروري أن يكون الطالب في هذه المرحلة من السطوح العليا ـ فضلاً عن مرحلة البحث الخارج ـ قد استوعب الدرس الفلسفي بطريقة مقبولة، حتى لا يقع في فهم سطحي للموضوعات.

وعلم المنطقيُدْرَس في الحوزات العلمية في مراحل المقدّمات، لهذا تقلّ المشكلة من ناحية فهم ما يرتبط به أو يقوم عليه في علمي الفقه والأصول، وإن كنّا نرى ضرورة أن يكون الدرس المنطقي مستوعباً للمنطق الاستقرائي أيضاً بالخصوص وأن لا يقف على المنطق الأرسطي، لاسيما بعد ظهور مدرسة السيد محمد باقر الصدر (1400هـ) التي اعتمدت ـ في غير موضع من الفقه والأصول والحديث والرجال والكلام ـ على المنهج الاستقرائي فيما عُرف بالمذهب الذاتي للمعرفة.

من هنا نقترح لكي يفهم الطالب تطوّرات الدرس الأصولي والمنطقي معاً أن يصار ـ في الحدّ الأدنى ـ إلى تدريس (الأسس المنطقية للاستقراء) للسيد الصدر، بوصفه مادّة المنطق في مرحلة السطوح العليا، بعد دراسة (المنطق) للشيخ المظفر، بوصفه مادّة المنطق في مرحلة المقدّمات أو السطوح الدنيا، إن لم نذهب ـ كما هو الأرجح ـ إلى ضرورة وضع كتاب منطقي درسي جديد، يجمع في الحدّ الأدنى بين هذين الكتابين القيّمين.

أما الفلسفة،فهي ضرورية جداً في مرحلة السطوح المضارعة لدراسة أصول الفقه، ولكن مع الأسف الشديد نحن نشهد في العقد الأخير عودةً إلى نبذ الفلسفة في الأوساط الحوزوية، ورجوعاً إلى ما كانت الحال عليه قبل انطلاقة النهضة الإسلامية الحديثة، وهذا مؤشر على بدايات تراجع المدّ العقلاني لصالح المدّ النصي الحرفي في المحافل العلمية.

كيف يمكن لعلم الأصول ـ وقد تعرّضنا لهذا الموضوع في مناسبة أخرى([16])ـ أن يحارب الفلسفة وهو يقوم اليوم على نظرياتها؟! بل لقد اتّهم بعض الأصوليين بارتكاب أخطاء نتيجة توظيف القواعد الفلسفية بطريقة خاطئة تنمّ عن عدم تخصّصهم في الدرس الفلسفي.

هذا كلّه يعني ضرورة دراسة المنطق والفلسفة إلى جانب الفقه والأصول؛ لتأمين فهم أفضل للموروث الأصولي المتأخّر.

 

5 ـ 3 ـ الجدل والمواقف من إصلاح الكتب الدرسيّة، عرض وتقويم

من مجموع الملاحظات السابقة ـ وما سيأتي بحول الله تعالى ـ يتضح أنّ الكتب الدرسية في الحوزات والمعاهد الدينية تعبّر عن مراحل تاريخية من تطوّر أو سيرورة علمي الفقه والأصول، ومن ثم فهذه الكتاب كما تشتمل على نقاط قوّة كذلك تحوي نقاطاً من الضعف، الأمر الذي يعني أنّ الدعوة إلى استبدالها أو تطويرها ليست دعوةً إلى التخلّي عن نقاط قوّتها بقدر ما هي دعوة في واقع الأمر لتجاوز نقاط ضعفها، وهي نقاط ضعف لا ترجع كلّها بالضرورة إلى ضعف كتّابها بل قد ترجع لأسباب حافّة كما تقدّم، كعدم كون هذه الكتب قد وضعت للتدريس.

ورغم ما تقدّم، ظلّت بعض الأوساط في الحوزات العلمية ترفض إجراء تعديل في الكتب الدرسية، وترى ذلك دعوةً إلى تراجع المستوى العلمي في الحوزات الدينية. ولعلّ التأمّل في الأسباب الداعية إلى تحفّظ بعضهم عن تغيير الكتب الدرسية يوصلنا إلى أمور أهمها:

الأوّل:ما أشار إليه السيد علي الخامنئي([17])، من أنّ هذه الكتب قد خرّجت العلماء والفقهاء والأصوليين الكبار، وهذا يعني أنها قد أثبتت جدارتها وفعاليتها، ومن ثم لا يصحّ لنا أن نستبدلها بأيّ كتاب قبل إثبات جدوائيّة هذا الكتاب الجديد. ويذهب الشيخ بشير النجفي المعاصر إلى أنّ كتب الفصول والقوانين والرسائل والكفاية لم يأت بديل لها حتى الآن([18]).

وقد أجاب السيد الخامنئي عن هذا التصوّر بأنّ وصول هؤلاء العلماء إلى ما وصلوا إليه لم يكن نتيجة هذه الكتب وحدها، وإنما كانت له عوامله ومؤثراته الأخرى أيضاً.

وكأنّ السيد الخامنئي يريد أن يبدّد تصوّر أنّ هذه الكتب وحدها هي التي صنعت هؤلاء، وإلا فقد يشكل المدافعون عن هذه الكتب بأنها أثبتت جدارتها في الإسهام النسبي في ظهور شخصيات رفيعة من هذا النوع، الأمر الذي لا نتأكّد من توفّره في غيرها.

وهنا يمكن القول بأنّ العقليّة المسيطرة على ذهنية هذا الدفاع عن هذه الكتب هي العقلية الاحتياطية من جهة والاستصحابية ـ كما كان يسمّيها السيد الصدر ويئنّ منها([19])ـ من جهة ثانية، أمّا أنها استصحابية فلأنّها تريد البقاء على ما كان حتى يأتي قاطع البرهان بخلافه، فيصدق عليها أنها تريد أن تؤسّس أصالة عدم التغيير. وأما أنها احتياطية فلأنها تنطلق من أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة، وهي قاعدة مثبّطة في المجال التطوّري والتغييري والمجتمعي، وتساعد على فشل المشاريع التنموية؛ لأنها دائماً تعيش حسّ القلق والخوف من الآتي بدل أن تستشعر الأمل منه، في مؤشر على فقدانها الروح الشبابية في العمل والصيرورة.

وعلى هذا الأساس، فإننا نوافق على ضرورة عدم التخلّي عن كتاب قبل إثبات جدوائيّة بدائله، لكنّ السؤال: كيف نثبت جدوائية البديل ما دمنا لا نسمح له بخوض التجربة؟ لقد عثرنا على مشاكل في الكتب القائمة نريد تفاديها: كيف يمكن أن يقع ذلك؟

إنّ توقف القبول بالكتاب الدرسي على إثباته لجدوائيّة نفسه، ثم توقف إثباته لجدوائيّة نفسه على القبول به، يلزم منه الدور، فالمفترض وضع معايير لجدوائيّة كتاب درسي، ثم عرض هذه الكتب الجديدة على هذه المعايير لقياس درجة نجاحها، ثم إحالتها إلى فترات تجريبية([20])، ثم تبنّيها. أما اتخاذ موقف سلبي مسبق من أيّ مبادرة تغييرية بحجّة أنه لم يعرفها السابقون فهذا هو الجمود عينه، فمن قال بأنه لن يظهر كتاب أفضل؟ وما هو الدليل على ذلك؟

هذا كلّه، فضلاً عن أنّ السابقين أنفسهم لم يكن عندهم هذه الكتب الدرسية ومع ذلك بلغوا ما بلغوا، إضافة إلى أنهم خاضوا تجربة تغيير الكتب الدرسيّة، فقد رأينا كيف كانت هناك كتب درسيّة هجرت في عصور لاحقة كالفصول والقوانين والرياض وزبدة الأصول والعدّة وغيرها، فلنقتدِ بهؤلاء العلماء في تغييرهم المتكرّر لما اعتمدوه من كتب درسية.

الثاني:كانت الإشكالية الأولى في أصل وجود البديل، أما الآن فإنّ الإشكالية تكمن في العجز عن التوفّر على علماء مثل الشهيد الثاني والشيخ الأنصاري والشيخ الخراساني والسيد الصدر و.. فمن يريد التصدّي عليه أن يكون أفضل من هؤلاء جميعاً، ومن أين نحصل عليه؟! فالمشكلة في المُبْدِل لا في البديل أو المُبْدَل.

وقد ألفت الإمام الخامنئي([21])النظر إلى هذه المسألة، وأجاب عنها بأنّ كثيراً من المتأخّرين قد يكون أفضل حالاً ـ من الناحية العلمية ـ من المتقدّمين، وذو ثقافة أوسع وأشمل؛ لأنهم علموا ما علمه السابقون وزيادة.

وهذا حقّ، لولا مجرّد الهالة القداسية والصور الخيالية السورياليّة التي ينسجها الطلاب بمساعدة كثير من الأساتذة حول العلماء السابقين، حتى تجد الطالب قد رُبّيَ تربيةً انهزامية استسلامية أمام هؤلاء العلماء، وهناك من يرغب على الدوام في عدم كشف نقاط ضعف العلماء والتعمية عليها، فينشأ الطالب على التعرّف على عناصر القوّة فقط، الأمر الذي يكوّن لديه صوراً غير واقعيّة، ولعلّ هذا ما يجعل الأموات عندنا أفضل وأعظم من الأحياء، فلا نتعرّف على عظمة المصلحين والمجدّدين ـ كما يقول بعض الباحثين المعاصرين([22])ـ إلا بعد وفاتهم، كما حصل مع غير واحد من كبار العلماء المتأخرين كالسيد الصدر والعلامة الطباطبائي.

وأحد أسباب ذلك غياب الدرس التاريخي الراصد لتطوّرات العلوم والنظريات، والذي يكشف عن الحجم الحقيقي للإضافات التي قدّمها هذا العالم أو ذاك، وما أخذه ممّن سبقه، وقد فصّلنا الكلام في هذا الأمر في موضع آخر([23]).

وبناءً عليه، يمكن أن نقوم بإعداد فريق عمل من العلماء، بعضهم يمتاز بعمقه ودقّته في المباحث الفقهية والأصولية، وبعضهم يمتاز بجودة بيانه وسهولة تعبيره، وبعضهم بروعة تنظيمه للموضوعات وتنسيقها بما يجعلها كتاباً درسياً، وبتعاضد هذا الفريق ثم مراجعة جملة من كبار العلماء الآخرين لما قدّم، نحصل على درجة وثوق أكبر.

الثالث:ما يمكن عدّه إشكالاً أساسياً، أطلق قبل مشروع تطوير الكتب الدرسية الأخير في حوزة قم، وتعمّق بعد خوض هذا المشروع، وهو ما أشار إليه السيد الخامنئي([24])، حيث ذكر أنّ هناك من يخشى من مشروع تطوير الكتاب الدرسي حتى لا نصنع علماء سطحيين غير متعمّقين، وقد تأكّدت هذه الإشكالية عند كثيرين بعد تجربة العقدين الأخيرين، إذ ذهبوا إلى أنّ ما سمّي بخطوات تطوير المناهج اعتمد المنهج العرضي دون الطولي، بحيث زاد من عدد الموادّ الدرسية بغية توسعة أفق الطالب، على حساب العمق الذي تأخذه كلّ مادة، ويقال لك هنا بأنه تمّ حذف كتاب كفاية الأصول لصالح كراريس صغيرة سطحية، لا تنتج اجتهاداً ولا عمقاً علمياً.

لقد أجاب السيد الخامنئي هنا ـ قبل خوض تجربة تطوير المناهج الأخيرة ـ بعبارة تمثيلية بالغة الجودة، وهي أنّ ما نريده هو صنع صفائح معدنية أرقّ من الورق لكن أقوى من الحديد. وهذا الكلام مهم وجيّد، كما أن تطبيقه صعب؛ حيث يلاحظ أنّ تجربة العقدين الأخيرين تورّطت ـ بعض الشيء ـ في هذه المشكلة، لكنّ هذا لا يعني صحّة أصل الإشكال أو الاستسلام للواقع، بل يفرض تفادي هذه المشكلات لتحقيق الغايات المنشودة.

يضاف إلى ذلك، أنّه لا تلازم بالضرورة بين تبسيط العبارات مثلاً وتسطيح المعنى، نعم إذا ظلّ العقل الحوزوي يربط بين تعقيد اللفظ وعمق المعنى ـ كما يشير بعض العلماء([25])ـ فلن يمكن إصلاح مناهج الدراسة.

إنّ أحد أسباب بعض أشكال الفشل الذي حصل في مشروع تطوير المناهج الأخير في حوزة قم، هو تخلّي كبار العلماء عن المساهمة في هذا المشروع، فلو أنّهم ساهموا وتدخّلوا وآمنوا بهذه الفكرة لما تركت المناهج الدرسيّة في يد أشخاص غير قادرين ـ بحسب وجهة نظر العلماء ـ على تقديم بدائل قويّة ومناسبة.

 

4 ـ وقفات عامة مع مرحلة السطوح (الدراسات المتوسّطة)

لا بأس أن نشير أخيراً إلى بعض الملاحظات على المناهج العامة في مرحلة السطوح، والتي تواجه أغلب طلاب العلوم الشرعية في عصرنا، وتؤثر على دراستهم في مرحلة البحث الخارج، وهي:

1 ـ المدّة الطويلة:ففي الجامعات تستغرق مراحل الليسانس والماجستير أزمنة محدودة وواضحة ومعقولة، أما في درس السطوح في الحوزة فتختلف وتتخلّف ـ تبعاً لظروف الطالب ـ بين خمس سنوات في الحدّ الأدنى إلى عشر سنوات، فهل يعقل أن يقضي الطالب ـ مع المقدّمات ـ عشر سنوات إلى ثلاثة عشر عاماً في دراسة المراحل السابقة على الدراسات العليا؟

إنّ مسألة الوقت مسألة مهمّة جدّاً؛ لأنّ الإنتاج العلمي للطالب في شبابه يظلّ ضرورة، فلا يمكن أن نصرف وقته كاملاً في التلقي في فترات ازدهار شبابه، لاسيما ضمن مدّة مفتوحة غير محدودة المعالم قلّةً وكثرة.

2 ـ مركزية الفقه والأصول:وقد تعمّدت استبدال عنوان الفقه والأصول بعنوان العلوم الشرعية لأنّ الثاني أوسع، فنحن نجد أنّ مركزية الفقه والأصول قد غيّبت علوماً بأكملها عن جملة وافرة من الطلاب، مثل علوم القرآن والتفسير والحديث والرجال والتاريخ والسيرة والكلام والأخلاق والملل والنحل والأديان والمذاهب والفلسفة والمنطق واللغة بفروعها و.. إنّ تضخّم مادة الفقه والأصول لم يترك أثراً سلبياً على المنهج الدرسي في مرحلتي السطوح والخارج فحسب، بل ترك أثراً على العقل الديني عموماً حتى صار عقلاً فقهياً، فصار الفقه يشغل من عقولنا مساحة 90% فيما لا يشكّل في كتاب الله تعالى أزيد من نصف السدس على المعروف من آيات الأحكام.

3 ـ عدم دخول الطالب في هذه المرحلة مجال كسب المهارات،مع أنّ هذا المجال ضروريّ في هذه المرحلة، كون الدراسات العليا سوف تفرّغه لمجال التخصّص في دائرة اختصاصه، ومن أبرز مجالات كسب المهارات، ما هو في مجال: الإعلام والظهور التلفزيوني، وسائل التخاطب، البرمجة الدماغية، أساليب التعليم والتدريس والتربية الحديثة، فنون المهارات الاجتماعية، فنّ العمل القضائي وفضّ النزاعات، المجال الإداري والتنظيمي، فنّ بناء الذات، فنّ الكتابة والبحث، فنّ الجدل والحوار، فنّ تحقيق التراث وتصحيحه، فنّ الترجمة، فنّ الإعلام الفكري كالصحافة الثقافية والمجلات والندوات والمؤتمرات و.. وخوض تجارب محدودة فيها لتوسيع أفقه وثقافته العامة.

4 ـ إدخال الطالب في سياق تعليمه في مجال التمرين التطبيقي،بأن يُطلب منه كتابة أبحاث أو تحقيق موضوعات، أو إعطائه تمارين تطبيقية لحلّها وفقاً للقواعد العلمية، بدل أن يظلّ حبيساً لمرحلة التلقي وشرح معاني الجمل والكلمات. وبذلك يعيش مع الأمثلة والشواهد والتطبيقات ليعينه ذلك على مراحل الدراسات العليا.

يُضاف إلى ذلك، ترشيده إلى طريقة التوصّل إلى نتائج والمشي معه بخطوات عملية لفهم كيف وصل مؤلّف الكتاب إلى هذه النتيجة أو تلك، فبدل نقل المعلومات إلى الطالب يجب تعليمه بالتدريج كيف نصل إلى المعلومات.

5 ـ التمرين على النقد العلمي وفسح المجال أمامه لنقد ما في الكتب الدرسية وعدم تخويفه من ذلك،بل منحه الثقة مع ترشيد وتوعية متواصلة، أما الأساليب التخويفية التي يمارسها بعض الأساتذة، ومنهم شخصيات كبيرة، فهي تناقض خلق حسّ الإبداع في الأجيال اللاحقة.

6 ـ خوض بعض الأساتذة، بل كثير منهم، مجال إبراز مهاراته الذاتية،عبر إغراق الطلاب بما يأتيه من الحواشي والشروح والكتب المطوّلة، مع أنّ مراحل المقدّمات والسطوح لا تحتاج إلى كثير من هذا، بل إنها تشوّش ذهن الطالب بالبسط والتوسعة، حتى يفقد السيطرة على الأفكار والمعلومات، فالمفترض بالأستاذ مراعاة حال متوسّط الطلاب ومراحلهم.

7 ـ إنّ أساليب التدريس السائدة تساعد ـ بسبب تعقيد الكتب ـ على قدرة الطالب على فهم النصوص، لكنّها تضعف من قدرته على الحفظبسبب تركيز طاقته على الفهم([26])، والحفظ ـ غير النصّي ـ ضروري في هذه المرحلة لتكون عنده أرضية جيدة لمرحلة الدراسات العليا (الخارج)؛ لأنّ تلك المرحلة تحتاج إلى ذهنيّة جوّالة في المباحث والموضوعات الفقهيّة.

8 ـ ثمّة مشكلة ظهرت في العقد الأخير، وهي أنّ الطلاب باتوا يهتمّون بالحصول على الدرجات المقبولة في الامتحانات أكثر من هضم المباحث العلمية عن رغبة وعشق،فيدرسون قبل أيام قليلة من الامتحانات، ثم يهجرون المادّة الدرسية بعد ذلك. وهذه ظاهرة لها أسبابها المتعدّدة، ولا بدّ من مواجهتها، وهي من الإفرازات السلبية لظواهر التجديد في مناهج التعليم في الحوزات العلمية والمعاهد الدينية.

 

ثانياً: الدراسات العليا في الحوزات العلمية (البحث الخارج)

مدخل إلى التعريف بدرس البحث الخارج

مرحلة الدراسات العليا (البحث الخارج) في الحوزات والمعاهد والجامعات الدينية هي المرحلة التي ينتقل فيها الطالب من الدوران حول متن محدّد وكتاب معيّن كان يُقرأ ثم يُشرح ويوضح وتفكّك عباراته وجمله.. إلى مرحلة الدراسة المتحرّرة من الكتاب، فبدل أن يضع أمامه كتاب (المكاسب) أو (الكفاية) أو (الحلقات) أو.. ليدرسه صفحةً تلو الأخرى، ها هو اليوم لا يضع أمامه إلا قلمه ودفتره ليأخذ العلم خارج الكتاب، ولهذا سمّي بالبحث الخارج، أي خارج الكتاب، وقيل: إنه سمّي بذلك لأنّ بعض العلماء الكبار، وهو شريف العلماء أستاذ الشيخ الأنصاري (1281هـ) كان يثير بعد درسه موضوعات متفرّقة تجرّ إلى جدل وبحث مع الطلاب فتطول، فسمّي هذا البحث في هذه الموضوعات بحثاً خارجاً عن الدرس الأصلي.

ويبدو أنّ مرحلة البحث الخارج ـ بصورتها المتعارفة اليوم ـ لا تعود إلى أكثر من قرنين من الزمان، وهي الفترة نفسها التي عرفت ما سمّي بعد ذلك بـ (التقريرات)، وهي دروس أساتذة البحث الخارج التي يدوّنها الطلاب في مجلس الدرس ويصوغون بها دروس أستاذهم، وقد اشتهر السيد أبو القاسم الخوئي (1413هـ) بكثرة ما دوّن له من تقريرات، فيما كان بعض الفقهاء أكثر ميلاً لتدوين أبحاثهم بأنفسهم، وهو ما عرف به السيد محسن الحكيم (1390هـ).

وتعرف مرحلة البحث الخارج في الحوزات العلمية بجملة عناصر، يمكن أن نوضحها كما يلي:

1 ـ إنها تشتهر في مجال دراسات الفقه من ناحية وأصول الفقه من ناحية أخرى، وقلّما نجد مرحلة البحث الخارج ـ بشكلها المتعارف ـ في سائر العلوم، كالقرآنيات والتاريخ والحديث والرجال والفلسفة والكلام.

2 ـإنها سعيٌ لممارسة الأستاذ ـ عملياً ـ أمام الطالب عملية الاجتهاد بشكلها الميداني، فكأنّ الأستاذ يجتهد بصوت مرتفع ويخبر طلابه عن عملية الاجتهاد هذه، وأنه كيف تمّت وجرت.

3 ـإنها تفترض ـ تبعاً ـ أنّ الأستاذ مجتهدٌ؛ لأنه إذا لم يكن مجتهداً فكيف يتمكّن من ممارسة الاجتهاد أمام طلابه؟ وبهذا يعدّ التصدّي لتدريس البحث الخارج في الحوزات العلمية شكلاً من أشكال ادّعاء الاجتهاد ولو المتجزئ.

نعم، قد يحدث أن يكون المدرّس أستاذاً فاضلاً قادراً على جمع مقولات العلماء وتنظيمها وترتيبها بطريقة جديدة غير موجودة في كتاب بعينه، مما يعطيه ميزة التدريس خارج كتاب محدّد، فمن الناحية النظرية لا يشترط بالضرورة أن يكون الأستاذ مجتهداً، وإن كان طبع الشيء يستدعي ذلك.

4 ـإنها مرحلة غير محصورة بكتاب محدّد، بل هي متحرّرة منه، تعتمد ـ في تنظيمها وترتيبها ووضع تصميمات بحثها ـ على جهود الأستاذ نفسه، فهي محاضرات حرّة.

5 ـإذا كان هدف الأستاذ هنا الكشف عن إمكاناته الاجتهادية أمام الطالب، وتدريبه على الاجتهاد بخلق أنموذج حيّ أمامه، فإنّ هدف الطالب هنا ليس هو فهم ما يقوله الأستاذ فحسب، وإنما محاولة التماهي معه ومحاكاته ليصير مثله، فهو درسٌ لا يهدف إلى تعلّم الفقه وإنما إلى تعلّم الاجتهاد فيه.

6 ـإنها مرحلة غير منضبطة بوقت محدّد حتى الآن في الحوزات العلمية، فهي مفتوحة زمنياً، فقد يظلّ بعض الطلاب عشرين سنةً في هذه المرحلة، فيما لا يشارك آخرون في أكثر من ثلاث سنوات، والسبب في ذلك يرجع إلى أنّ معيار الانتهاء من هذه المرحلة هو بلوغ مرتبة الاجتهاد أو الإعراض، وهذا الأمر عندما لا يكون مبرمجاً مسبقاً سوف يختلف من شخص لآخر. نعم، سيأتي بعون الله الحديث عن طرح التحديد الزمني لهذه المرحلة أيضاً.

7 ـلا تعرف هذه المرحلة في عُرف الحوزات العلميّة شيئاً اسمه (الامتحان أو الاختبار)، لكن في الفترة المتأخرة، قامت بعض البرامج ـ مثل ما في الحوزة العلمية في مدينة قم، لاسيما جامعة المصطفى العالمية ـ بإخضاع الطلاب لبرامج امتحانية سنوية أو أكثر من مرّة في السنة.

وأحياناً وبمبادرة من الطالب نفسه، يقوم بعرض ما كتبه على أستاذه ليقوّم له مَدَيَات فهمه للدروس وهضمه لها، أو يشارك الطالب ـ عن اختيار منه ومبادرة ـ في النقد على أستاذه حال الدرس أو بعده، الأمر الذي يمكنه أن يشكّل مؤشراً على مدى فهمه وطبيعة استيعابه وتمرّسه في مجال الفهم والنقد الاجتهادي معاً.

8 ـتعتمد هذه المرحلة غالباً ـ بسطاً واختصاراً وتوسّطاً ـ على مركزيّة الأستاذ نفسه، فحيث كان هو المركز كانت منهجيته ـ في الغالب ـ هي الإطار الذي يحكم المدّة الزمنية، بمعنى أنه قد ينهي دورةً أصولية كاملة خلال خمس سنوات وقد ينهيها خلال ستة عشر عاماً، فإذا اختار الطالب الأستاذ الأوّل أمكنه إنهاء دورة أصولية كاملة، لكن ربما لا تسنح له الفرصة لو اختار الثاني أن يحقّق هذا الغرض، الأمر الذي يحدث فوارق بين الطلاب في الموضوعات التي حضروها أو حجم التفصيل والاختصار فيها.

كذلك الأمر في اختيار الأبواب الفقهية، فقد يختار الطالب أستاذاً يدرّس في العبادات فيما يختار الآخر أستاذاً يدرّس في المعاملات، فتختلف الموادّ التي يدرسها الطلاب في هذه المرحلة تبعاً للأستاذ الذي يختارونه، لكنّ الجامع هنا هو أنهم جميعاً يكتسبون من الدرس خبرة ممارسة العملية الاجتهادية بشكلٍ ما، وسوف يأتي التعرّض لأساليب التدريس في البحث الخارج إن شاء الله تعالى.

9 ـكما في مرحلة السطوح كذلك في مرحلة الخارج، يتعارف عادةً في الحوزات العلمية أن تكون للطالب حرية اختيار الأستاذ الذي يريد التلمّذ على يديه، إما من خلال مرجّحات في الأستاذ نفسه عند الطالب كأسلوبه، أو وضوحه، أو علاقته الشخصية به، أو انسجام أفكاره، أو عمقه ودقّته، أو شموليّته وتتبّعه، أو.. أو لمرجّحات في مادّة الدرس نفسها، ككون الموضوع في فقه العبادات مثلاً والطالب يرغب في مثل هذا العنوان أو نحو ذلك.

والاختيار هنا لا يقف عند الطالب، بل يمتدّ إلى الأستاذ نفسه، فإنه حرّ أيضاً في اختيار الموضوع الذي يدرّسه والذي يراه أكثر فائدةً أو يرى نفسه فيه أكثر قدرةً ومكنة.

ولا تقف الحرية عند هذ الحدّ، بل توقيت الدرس وزمانه يمكن أن يكون بيد الأستاذ أو بيده مع الطلاب، ولا توجد جهة تلزمهم بوقت معيّن عادة، على خلاف الجامعات والأكاديميّات المعاصرة.

10 ـمن سمات البحث الخارج أيضاً ـ وهو ناتج عن تأثيرات مسألة الحرية ـ أنّ الطالب قد يداوم على حضور درس أستاذٍ واحد في الفقه والأصول طيلة فترة دراسته في البحث الخارج، وقد يجعل لكلّ مادّة درساً، وقد يتنقّل بين الأساتذة كل عام أو أقلّ أو أكثر، وهكذا قد يتغيّر طلاب الأستاذ الواحد خلال السنوات، وربما بقي منهم مجموعة مداومة لفترة طويلة..

11 ـيقيم بعض الطلاب أحياناً جلسات مباحثة فيما بينهم فيما أخذوه من الأستاذ؛ ليتداولوه ويتدارسوه ويتقوّوا على فهمه أو ابتكار الإشكالات عليه، وهذه المباحثات تعطي الطلاب قدرةً أكبر على الفهم والتعمّق وقدرة النقد والتحليل.

12 ـلا يوجد صيغة رسمية للتخرّج من مرحلة البحث الخارج، لأنه إما أن يترك الطالب الحضور ويعود إلى بلده أو يتفرّغ للتدريس أو التبليغ أو غير ذلك، وإما أن يتقرّب أكثر ـ علمياً ـ من الأستاذ وتكون له إمكاناته الخاصّة فيحصل بعد فترة معيّنة على إجازة اجتهاد من أستاذه.

وإجازات الاجتهاد قضيّة معقّدة بعض الشيء؛ حيث تختلف من أستاذ لآخر، فبعضهم متساهل في الأمر وبعضهم محتاط جداً جداً، وليست هناك صيغة موحّدة لو وفى بها الطالب حُكم له بإجازة الاجتهاد، بل القضية تتبع شخصية الأساتذة وسليقتهم وقناعاتهم من جهة ومديات علاقات الطالب بهم من ناحية أخرى، فلو كان شخصاً انعزالياً مثلاً لربما لم يعرفوه فلا يمنحونه إجازة اجتهاد وهكذا.

13 ـ تقسّم مرحلة الدراسات العليا عالمياً إلى ثلاثة اتجاهات:

الأول:الاتجاه الذي يرى أنّ مرحلة الدراسات العليا هي مرحلة بحثية خالصة، بمعنى أنها خالية تماماً من الجانب التعليمي، ولهذا لا يطلب من طلاب مرحلة الدكتوراه أيّ حضور لأيّ درس في الجامعة، وإنما تقتصر مرحلتهم هذه على تقديم أطروحة الدكتوراه التي تعبّر عن الجانب البحثي. وقد اختارت الكثير من الدول هذه السياسة في مرحلة الدراسات العليا.

الثاني:الاتجاه الذي يرى أنّ مرحلة الدراسات العليا هي مرحلة تعليمية بامتياز وخالية من أيّ جانب بحثي، تماماً كمرحلة الليسانس والبكالوريوس، وقد يقوم الطالب فيها بكتابة بعض الأبحاث الصغيرة أثناء طيّه للفصول الدراسية، وقد اختارت بعض الدول هذه السياسة في مراحل التعليم العالي.

الثالث:الاتجاه الذي يرى أنّ مرحلة الدراسات العليا هي مرحلة جامعة بين الجانب التعليمي والجانب البحثي، فيدرس فيها الطالب لفترة، ثم تخصّص الفترة الأخرى لتدوين أطروحة الدكتوراه، وهذا ما تختاره بعض الدول أيضاً مثل الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.

وإذا أردنا أخذ دروس البحث الخارج في الحوزات العلمية، فإنّنا نراها أقرب إلى الاتجاه الثاني؛ لأنّ الطالب في هذه المرحلة يغلب عليه طابع أخذ الدروس وكسب المعلومات، وقلّما يكتب الطلاب أبحاثاً مستقلّةً لهم، نعم يمكن أن نعدّ مباحثاتهم وتدوينهم للدروس جانباً بحثياً مختصراً. كما أنّ بعض الطلاب قد يقومون بتدوين بعض الأبحاث الخاصة بهم في هذه الفترة، إما بالتنسيق مع الأستاذ أو بدون ذلك.

هذا عرض موجز للتعريف الإجمالي بواقع الدراسات العليا في الحوزات العلميّة، ولابدّ لنا هنا أن نبحث في صلب الموضوع، ونقسّم البحث إلى ثلاثة محاور هي:

1 ـ المحور التعليميالذي نتحدّث فيه عن التدريس وأساليبه وضروراته ولوازمه من جهة، وعن المعلّم وسماته وخصائصه ووظائفه وواجباته من جهة ثانية.

2 ـ المحور الدرسي التعلّمي،حيث نتحدّث عن أساليب الدراسة والتعلّم ولوازمه ومستلزماته تارةً، وعن وظائف الطالب والمتعلّم وخصائصهما تارةً أخرى.

3 ـ الإدارة التعليمية والحوزويّة،وهنا نتحدّث عن دور الإدارة الحوزوية في تنظيم عمليّة التعليم والارتقاء بالطلاب إلى مستوى أفضل، وتوفير المناخات المناسبة لهم للإنتاج العلمي والفكري والبحثي.

 

المحور الأوّل:التعليم والتدريس، الأساليب والتصدّي

قلنا بأنّ الحديث عن التعليم يقع ضمن خطوتين: إحداهما في الأساليب والطرق واللوازم، والثانية في الأستاذ وسماته ووظائفه، ونذكر ذلك بإيجاز على الشكل التالي:

1 ـ أساليب التدريس في مرحلة الدراسات العليا (البحث الخارج)

تتنوع أساليب التدريس في مرحلة البحث الخارج، تارةً من حيث الشكل والأسلوب، وأخرى من حيث المنهج والمضمون ([27])، ونحاول هنا التعرّف على هذه الأساليب باختصار.

 

1 ـ 1 ـ أساليب التدريس في مرحلة البحث الخارج من حيث الشكل

يمكن رصد أساليب التدريس في مرحلة البحث الخارج وتنوّعها لنكتشف أنها تقوم أو يمكن أن تقوم على أربعة أساليب وطرق، هي: 1ـ مركزية الطالب (المدرسة السامرائية). 2ـ مركزية الأستاذ (المدرسة التقليدية). 3ـ الجمع بين المركزيّتين المتقدّمتين. 4ـ الأسلوب الجماعي.

 

أ ـ مركزية الطالب (أو المدرسة السامرائية)

يعدّ هذا الأسلوب من الأساليب التي اتبعها الميرزا الشيرازي الكبير (1312هـ) فترة تواجده في سامراء، ويقوم على طرح المسألة الفقهية أمام الطلاب، ثم يقوم الطلاب معه بالإدلاء بدلوهم في هذه المسألة باحثين بشكل جماعي كلّ ما يرتبط بها، من هنا تتوزّع الوظائف في هذا الأسلوب بين الطالب والأستاذ، فالطالب يقوم بالبحث وإثارة الأجوبة أو الإشكاليات وتتبّع النصوص والأسانيد وتحليل الأفكار والنظريات، فيما يقوم الأستاذ في البداية بطرح المسألة، ثم يشارك بين الفينة والأخرى في رأيه مثل سائر الطلاب، ثم يقوم في نهاية الجلسة باستخلاص النتائج وإعادة تنظيم الموضوع، ومن ثمّ الخروج بالاستنتاجات والخلاصات.

وقيمة هذا الأسلوب البحثي التدريسي أنه:

أولاً:ينمّي الطالب ويعطيه الثقة بنفسه، ويشعره بأنه مساهم في إنتاج الأفكار، ويخرجه من حالة التلقّي المحض إلى حالة الفعل والتأثير، الأمر الذي ينقله من رؤية الممارسة الاجتهادية إلى مرحلة تنفيذه بنفسه لهذه الممارسة، وهو ما باتت تؤكّده وتحث عليه الدراسات النفسية والتربويّة.

ثانياً:إنّ مشاركة عدّة أشخاص في العملية البحثية سوف تساعد في التوصّل إلى معطيات ونتائج أدقّ، وسينمو الحجم الكمّي للأفكار أيضاً من خلال طرح الأفكار المختلفة ومناقشاتها وتعدّد الاحتمالات المثارة في تفسير نصٍ هنا أو فكرة هناك.

ثالثاً:إنّ هذا الأسلوب يساعد الأستاذ على تقييم مستويات طلابه من خلال مشاركاتهم؛ لأنّ أسلوب التلقين لا يعطي الأستاذ صورةً واضحة عن درجات فهم طلابه أو مستويات تحليلهم، على خلاف هذا الأسلوب هنا فإنه يساعد بشكل أكبر.

إلا أنّ هذا الأسلوب التدريسي يحتاج ـ كي يترك تأثيراته الإيجابية ـ إلى بعض التنظيم والضبط، وذلك أنّ هناك مشاكل تنجم عن استخدام هذه الطريقة في التدريس:

1 ـ إنّ الموضوع الصغير عندما يدخل في بحثه عشرون شخصاً قد يطول الحديث عنه عدّة ساعات قبل أن تحسم الأمور، ولهذا يُنقل أنّ درس الميرزا الشيرازي كان يمتدّ أحياناً لسبع ساعات متواصلة، الأمر الذي يرهق الحضور ويتعبهم، بل ربما يكون مؤثراً في حدوث فوضى في الأفكار وعدم قدرة على ضبط التحليل في خطوات محدّدة؛ لأنّ طريقة عصف الأفكار هذه قد تحكمها الفوضى في بعض الأحيان، الأمر الذي يفقد الطالب منهجية الخطوات ووضوح الرؤية.

2 ـإنّ مثل هذا الأسلوب قد ينفع لو كان عدد طلاب الدرس محدوداً، أما لو كان كثيراً بالعشرات أو المئات، فإنّ هذا الأمر سيحوّل الدرس إلى فوضى عارمة غير خلاقة، فيصبح من العسير الخروج بنتائج مفيدة فيه.

3 ـإنّ الدروس الحوزوية العليا قد يلتقي فيها ـ كما نعرف ـ أشخاص متعدّدون ومختلفون من حيث المستوى العلمي، فقد يشارك اليوم طالبٌ خرج للتوّه من مرحلة السطوح ومستواه العلمي متوسّط، وإلى جانبة طالب يدرس البحث الخارج منذ ست أو سبع سنوات، وقد يحدث أن يؤثر دخول طالب من النوع الأول في هبوط مستوى الدرس من خلال إثارة أفكار يعدّ أمرها واضحاً لسائر الطلاب، أو قد تضطرّ مشاركته لتوضيح قضايا كان يفترض أن تكون واضحة في مرحلة السطوح، كالفرق بين الحكومة والورود أو الإطلاق والعموم أو نحو ذلك، واحترام وجود مثل هذا الطالب قد يؤثر على مستوى الدرس عموماً ويظلم سائر المشاركين.

ولتفادي هذه المشاكليمكن أن يصار إلى تنظيم الجلسة العلمية الدرسية بحيث تدور الدائرة مرّتين على الطلاب لكي يدلوا بدلوهم وتعليقاتهم، مع تحديد وقت معيّن للمداخلة والحرص على عدم الخروج عن الموضوع، وهنا أيضاً يمكن أن يلعب الأستاذ دوراً أساسياً في ضبط الجلسة الدرسية، كما يمكن مسبقاً وضع وقتٍ محدّد تقسّم حصصه على المشاركين، ويمكن توزيع جوانب البحث على الطلاب قبل يوم، فيتولّى أحدهم الجانب الأصولي والآخر الرجالي و..

ومهما سجّلت الملاحظات على هذا الأسلوب الدرسي، إلا أن فوائده تظلّ تطالب به،مما يجبرنا على التفكير في طريقة تجمع إيجابياته ولا تضرّنا مع ذلك سلبياتُه، وهذا ما حاول أن يفعله أصحاب الأسلوب الثالث كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

 

ب ـ مركزية الأستاذ (أو الطريقة المدرسيّة)

هذا هو الأسلوب الذي مازال سائداً ومهيمناً على الحوزات العلمية في العالم، ومنها مدينتي: قم والنجف، ويقصد به أنّ محور الدرس الذي يتحمّل المسؤولية الكبرى هو الأستاذ، حيث يقوم بنفسه بتنظيم الدرس وتحضير مقدّماته وإعدادها، ثم يتولّى إلقاء الدرس بأكمله، ويكون هو الفاعل والمتحرّك والمؤثر فيما الطالب هنا هو المنفعل والساكن والمتأثر، وغاية ما يفعله الطالب أنه يستمع للدرس، ويكتبه أثناء إلقاء الأستاذ له.

وقد يحدث أن يشارك بعضٌ قليل من الطلاب عادةً في الإشكال على الأستاذ أثناء الدرس أو بعده مباشرةً، وهنا أيضاً تختلف طرائق الأساتذة وطبائعهم، فبعضهم يجيب على إشكال الطالب وبعضهم لا يجيب، وبعضهم يتجاوب فيما بعضهم الآخر ينهر ويقسو في الكلام، وبعضهم يستجيب ويقرّ بالإشكال وبعضهم ليس كذلك وهكذا..

ومن خصائص هذا الدرس وآثاره:

1 ـأنّ الطالب مضطرٌّ للتعامل والتكيّف مع طريقة الأستاذ ولو لم تعجبه، فقد يطيل أو يختصر أو يعقّد البيان أو ينظّم أو لا ينظم الموضوعات، وليس أمامه سوى الرضا به أو الانتقال إلى أستاذ آخر.

2 ـقد لا يفهم الطالب بعض الأمور، فيكون تدخّله لفهمها محرجاً بالنسبة إليه، مما قد يؤدّي إلى وجود ثغرات في فهمه، وهذا ما قد يمكن جبره بالمباحثات الطلابية بعد ذلك.

3 ـعدم وضوح شخصيّة كثير من الطلاب بالنسبة لأستاذهم، لاسيما إذا كان الدرس كبيراً، وعدم قدرة الطالب على الشعور بأنّ الأستاذ يربّيه؛ لأن الغالب هو أنّ الأستاذ يعطي الدرس ويخرج.

وهذه الأمور يمكن تلافي بعضها على الأقلّ بتغيير بعض الأساتذة لطرائقهم أو استشارتهم لطلابهم في نقاط قوّة الدرس وضعفه كلَّ فترة، أو إفساح المجال للأسئلة الاستفهامية بعد الدرس أو في يوم محدّد من الأسبوع، أو الاقتراب في العلاقات الشخصيّة من طلابه.

ورغم بعض الثغرات في هذا الأسلوب وإمكان تلافي جملة منها، إلا أنّ قيمته أنّه يختصر الوقت وينظّم البحث ويقدّم كمّاً أوفر من المعطيات، وقد يقوم الأستاذ بتقديم مختصرات مطبوعة لدرسه كلّ يوم أو أسبوع بما يساعد الطلاب على فهم الدرس بطريقةٍ أفضل.

 

ج ـ أسلوب الجمع بين المركزيّتين (الأستاذ والطالب)

يذهب هذا الأسلوب إلى الجمع بين مركزية الأستاذ ومركزية الطالب معاً، من خلال تحويل كلّ درس إلى حصتين اثنتين، ففي الدرس الأول تكون المحورية لصالح الأستاذ انسجاماً مع مركزيّته، وهنا يكون الهدف استبداد الأستاذ بالدرس شرحاً وتوضيحاً وتنظيماً دون أدنى تدخل من الطلاب، بحيث يتركون إشكالاتهم أو ملاحظاتهم للمرحلة اللاحقة.

أما الدرس الثاني فيخصّص للطلاب كي يقوموا بإبداء الدرس مرةً ثانية وتكراره أمام الأستاذ، وهنا يتقوّى الطالب على البيان ويعمّق فهمه أمام الأستاذ وتنجلي الصورة له تماماً، لاسيما إذا كان حاله متوسّطاً.

وقد تمّ تداول هذا الأسلوب في الحوزات العلمية على نطاق محدود؛ إذ غالباً ما كان الطلاب يستعيضون عن الجلسة الثانية هذه بجلسة المباحثة التي كانوا يعقدونها فيما بينهم بحيث يستفيدون من بعضهم، لاسيما استفادة الضعفاء أو المتوسّطين من النخبة المتميّزة، ولعلّ عدم رواج هذا الأسلوب الجامع هنا ناتجٌ عن أنه يأخذ قدراً أزيد من وقت الأستاذ، والأساتذة الكبار غالباً ما لا تكون لديهم الفرصة الكافية لذلك؛ نظراً لانشغالاتهم الكثيرة، لاسيما لو تصدّوا للشأن العام أو للمرجعيّة الدينية.

وعلى أيّ حال، فإنّ التتبع التاريخي يبيّن لنا أنّ هناك عدّة طرق استخدمت داخل هذا الأسلوب فيما يخصّ جلسته الثانية، وأهم هذه الطرق هي:

1ـ طريقة الآخوند الخراساني،حيث كان الطلاب المتميّزون يكلَّفون من قبل الأستاذ بإعادة إلقاء الدرس مرّةً أخرى على سائر الطلاب والإجابة عن أسئلتهم وإشكالاتهم، ويقال: إنّ السيد البروجردي كان يحث على ترويج هذا الأسلوب في الحوزة العلمية في مدينة قم، كما شهدت النجف تطبيقاً متفرّقاً لهذه الطريقة، منها درس الشهيد الصدر، حيث يقال بأنّ السيد كاظم الحسيني الحائري كان يلعب هذا الدور أحياناً.

في هذا الأسلوب يمكن تخفيف الضغط عن الأستاذ لاسيما المتصدّي لشؤون أخرى، بيد أنّه يحتاج إلى توفّر طلاب متميزين حقاً في الدرس كي يتولّوا هذه المهمّة.

2 ـ طريقة السيد محمد باقر الدرجئي،حيث يقال: إنه كان يلقي الدرس صباحاً في (مسجد نو) في إصفهان، ثم يعيده مرّةً أخرى في المساء.

لكنّ هذا ليس مساهمةً من الطالب إلا إذا جعل الدرس الثاني مفتوحاً للمناقشات أشبه بالطريقة السامرائيّة.

3 ـ طريقة المحقّق الإصفهاني (1361هـ)،حيث كان يقوم قبل أيّام من الدرس بكتابته وتسليمه إلى الطلاب، فيقرؤنه ويطالعونه ويفهمونه، ويكون ذلك بمثابة الدرس الأوّل، ثم لما يحين موعد الدرس يلقيه عليهم وهم فاهمون له، ليكون ذلك تعميقاً وترسيخاً للدرس في أذهانهم.

وهذه الطريقة جيدة أيضاً، حيث يأتي الطالب معها إلى الدرس وهو مهيأ للتعمّق فيه، فبدل أن يُذهب طاقاته الذهنية في التمكّن من فهم مطالب الأستاذ أثناء الدرس، ها هو الآن يبذلها في ابتكار الإشكال على الأستاذ أو فهمه فهماً أعمق.

وقد سمّيت هذه الطريقة بهذا الاسم؛ لأنه يقال بأنّ أوّل من سنّ هذا الأسلوب هو الشيخ الإصفهاني في حوزة النجف، وهناك بعضٌ قليل جداً من الأساتذة اليوم يمارسون هذه الطريقة أيضاً.

ولعلّه يمكن أن ندرج طريقةً أخرى مقترحة هنا من قبل بعض الباحثين([28])قد تكون شكلاً آخر من أشكال طريقة المحقّق الإصفهاني، باتت ميسورةً اليوم، وهي أن يقوم الطالب باستماع أشرطة الأستاذ التي ألقاها في الدورة السابقة قبل الذهاب إلى الدرس، فيكون مستعداً لفهم الموضوع أكثر والإشكال عليه.

لكنّ هذه الطريقة قد تنفع في الأصول دون الفقه؛ لقلّة تكرار الأساتذة أبحاثهم الفقهية، كما أنها تتوفّر لمن يعطي الآن دورةً ثانية، أما من يعطي دورةً أولى فيكون من العسير توفير ذلك لطلابه.

4 ـ طريقة السؤال والجواب،بحيث يعقد بعد الدرس أو في وقتٍ لاحق لقاءٌ مخصّص لتساؤلات الطلاب وإشكالاتهم، شرط أن يكون صدر الأستاذ رحباً وكبيراً، ليجيب عن مختلف أنواع الطروحات والتساؤلات التي يقدّمها الطلاب، مهما كانت بالنسبة إليه سخيفةً أو ضحلة.

5 ـ ويمكن تصوير طريقة أخرى هنا،وهي أن يطلب الأستاذ من أحد الطلاب بشكل متناوب أن يحضّر الدرس ويلقيه هذا الطالب، ثم يقوم الأستاذ بإلقاء درسه بعد ذلك أو في وقت لاحق، وإن كان هذا الأسلوب فيه بعض المصاعب من حيث إنّ بعض الموضوعات قد يحتاج في نفسه لعدّة دروس حتى يكتمل، فلو اكتفى الطالب بدرس واحد لبُتر البحث ولظهر ما يعطيه الأستاذ وفق ترتيبه الشخصي مغايراً لما يعطيه الطالب.

وعلى أيّ حال، فأسلوب الجمع بين المركزيّتين له فوائدهالتي تعطي الطالب وضوحاً في الفهم وتمكّناً من الإشكال أو تدرّباً على البيان، بحيث يؤهّله ذلك لمهنة التدريس لاحقاً، كما أنّ هذا الأسلوب يوضح ـ في بعض طرقه ـ للأستاذ أيضاً طاقات تلامذته وإمكاناتهم، ويضع الطلاب أمام مسؤوليّات جديدة.

إلا أنّ هذا الأسلوب يعاني أيضاً من بعض المشاكل والمعوقات،مثل احتياجه إلى وقت إضافي يحوي تكراراً، وربما لا تكون للأستاذ أو التلميذ الفسحة الكافية من الوقت لذلك، كما أنه يجعل الطالب المتوسّط يعتاد على تكرار الموضوع لفهمه واستيعابه، فيما نحن بحاجة إلى تدريبه على الفهم من المرّة الأولى.

د ـ الأسلوب الجَمَاعي

ويقصد بهذا الأسلوب أن يقوم مجموعةٌ من الطلاب بالبحث بشكل جَمَاعي عن مسألة فقهية أو أصولية أو.. ويناقشوا أبحاث الآخرين ويفنّدوا الأقوال، ثم يتبنّى كلّ واحد منهم رأياً، ثم يُصار إلى عرض ما أنتجوه في هذه اللقاءات البحثية على الأستاذ، لكي يقوم بتصويب ما يحتاج إلى تصويب، وبإرشادهم إلى نقاط ضعفهم وقوّتهم. وربما يصار إلى استخدام أسلوب البحث الجماعي دون حاجةٍ إلى الأستاذ.

إلا أنّ هذا الأسلوب يمكن التعليق عليه:

أولاً:إنه لا يتوفّر إلا للطلاب الذين قضوا فترةً من وقتهم في دراسة البحث الخارج، كي تكون لديهم المؤهّلات لخوض حوار علمي بحثي أو تشكيل خليّة عمل بحثية ناضجة. ومن الصعب أن يُطلب ذلك من الطلاب الذين التحقوا للتوّ بمرحلة الدراسات العليا، إلا إذا هُيّؤوا من قبلُ لذلك.

ثانياً:إنّ هذا الأسلوب قد يخسر الطالب معه الفوائد التي قد يكسبها من حضور درس الأستاذ ومراكمة الخبرة بذلك، حيث لن يشاهد أمام ناظريه حركة الاجتهاد وهي تمارَس بشكلٍ حيّ أمامه من قبل أستاذه الذي بلغ مرتبة الاجتهاد.

ثالثاً:لا يختلف هذا الأسلوب كثيراً عن أسلوب المدرسة السامرائية، بل يظهر أنّ الأسلوب السامرائي أفضل منه؛ لأنّ حركة البحث في الأسلوب السامرائي تقع أمام مرأى الأستاذ وتدخّله بين الفينة والأخرى وتصويبه الأمور، أما في الأسلوب الجماعي فإنّ الأستاذ غائبٌ عن الحضور، وهو لا يرى سوى أوراق الطلاب، ومن الممكن أن يكتب الطلاب أوراقهم بعد البحث والمداولة، كما من الممكن أن يكون بعض الطلاب أقدر من حيث البيان الشفاهي منه في مجال البيان التدويني فتختلّ رؤية الأستاذ له.

كما أنّ الأسلوب الجماعي يتطلّب من الأستاذ مطالعة البحث عينه مكرّراً مراتٍ عديدة بعدد طلابه، وهذا ما قد يستهلك وقتاً كثيراً، لاسيما وأنه قد يكون من الأساتذة الكبار أو المتصدّين للشأن العام.

من هنا، يُعتقد أنّ الجمع بين أسلوبي المدرسة السامرائية والجماعية يظلّ هو الأفضل نسبيّاً، لكن دون حاجة إلى مراجعة الأستاذ كلّ الأبحاث المكتوبة، فيجمع الطالب بين القدرة البحثية الشفوية والتدوينية، ويأخذ بالتدرّب على التصنيف الفقهي والأصولي بطريقة موسّعة واجتهادية.

 

هـ ـ الأسلوب الجامع المختار (هل يمكن الجمع بين الأساليب؟)

ومن خلال ما تقدّم، أعتقد أنه يمكن الجمع ـ إلى حدّ ما ـ بين الأساليب المختلفة المشار إليها، ونقترح هنا تقسيم مرحلة البحث الخارج إلى قسمين:

1 ـ المرحلة التعليمية،ويمكن أن تستمرّ من عامين إلى ثلاثة أعوام في الحدّ الأدنى، وتستخدم فيها الطريقة التقليديّة (مركزيّة الأستاذ)، شرط أن يطلب من الطالب فيها ـ أولاً ـ التدرّب على صياغة الأبحاث التي يلقيها الأستاذ في مجلس الدرس، إلى جانب ـ ثانياً ـ إلزامه بكتابة بحثين على الأقلّ سنوياً في المجال الأصولي والفقهي، مع إضافة ـ ثالثاً ـ تعيين بعض فضلاء الدرس العالي ـ إن لم يتمكّن الأستاذ نفسه ـ لإعطاء الطلاب المبتدئين في المرحلة العليا فرصةً أسبوعية لطرح إشكالاتهم واستفهاماتهم وملاحظاتهم التي خطرت ببالهم أثناء الأسبوع.

2 ـ المرحلة البحثية،وتتلو تلك المرحلة، ولا يلزم الطالب فيها بحضور درس الأستاذ على الطريقة المتقدّمة، وإنما يُلزم بالطريقة السامرائية (مركزيّة الطالب) ولو بدرس أسبوعي مطوّل للأستاذ من جهة، إلى جانب طريقة البحث الجماعي من جهة أخرى كما شرحنا قبل قليل.

وتستمرّ هذه المرحلة لعامين أو ثلاثة، بحيث يصبح المجموع خمس إلى ست سنوات، تتلوها أطروحة بحثية موسّعة يُلزم الطالب تقديمها وليس معها درس، ويشرف عليه فيها الأساتذة البارزون.

 

2 ـ 1 ـ أساليب التدريس في مرحلة البحث الخارج من حيث المضمون

وكما تتعدّد أساليب التدريس في الدراسات العليا (البحث الخارج) من حيث الشكل والصورة، كذلك نجد تعدّداً في الأساليب أيضاً من حيث المضمون والمحتوى، ويمكن تقسيم الدرس وفقاً لذلك إلى أقسام متعدّدة كثيرة، لكنّنا سوف نشير إلى أنّ الدرس الخارج ينقسم من هذه الزاوية إلى قسمين: الشكل الصياغي للمضمون، والمحتوى المنهجي له.

 

1 ـ 2 ـ 1 ـ الشكل الصياغي للمضمون (منهاجيات التصميم والتنظيم البحثي)

ونقصد به طريقة تنظيم الأستاذ لأبحاثه وأسلوبه في تناول الموضوعات وتقديم بعضها على بعض، وهنا نشاهد ـ استقراءً واقتراحاً ـ عدّة طرق وأساليب، أهمّها:

أ ـما يلاحظ عند بعض السابقين، كما تكشفه كتبهم التي عبّرت عن عصارة دروسهم، حيث يعتمدون على تحرير الأصل في المسألة، ثم يقومون بالتعرّض للأدلّة التي تقف على خلاف الأصل، فإذا بطلت كانت النتيجة على مقتضى الأصل، وإذا صحّت ولو بعضها كانت النتيجة لصالح ما صحّ من الأدلّة المحرزة.

والأصل هنا قد يكون أصلاً عملياً أو عدمياً لا ينتمي إلى مجال الأدلّة المحرزة، وقد يكون أصلاً لفظياً، بمعنى أنّ الأصلَ الثانوي في العقود الصحّةُ مثلاً فننظر في أنّ العقد الفلاني، هل هناك ما يوجب خروجه عن مقتضى الأصل هذا أم لا؟

ومن ميزات هذه الطريقة نزعتها التقعيدية وانطلاقها من مقتضى القواعد للنظر في الاستثناء، وهذا ما ينظّم الذهن ويوضح له أكثر فأكثر جهة البحث ومساراته، ويمكن أن نصطلح على هذا المنهج في تنظيم الأبحاث وتناولها بالمنهج البنيوي؛ لأنه ينطلق من البُنيات التحتية للموضوع.

ب ­ـما يلاحظ في طريقة السيد البروجردي وغيره، وتقع على العكس تماماً من الطريقة الأولى، حيث ينطلق الفقيه من الزاوية التاريخية للمسألة، فيعرض مسارها التاريخي والاتجاهات الفكرية التي فيها، ثم يذهب ناحية الأدلّة الاجتهادية المحرزة، فإن حُسم الموضوع في مرحلتها كان به، ولم تكن هناك حاجة للانتقال إلى المرحلة اللاحقة، وإلا تمّ الانتقال إلى بحث مقتضيات الأصول العملية والأدلّة الفقاهتية.

وميزة هذه الطريقة:

أولاً:إنّها تربّى الطالب على التتبّع التاريخي لكلّ مسألة، وتكوين وعي تاريخي بتطوّراتها وملابساتها، وتنمّي عنده حسّ الرجوع إلى المصادر الأصلية للآراء والنظريات كما يتطلّبه الدرس التاريخي في العلوم والنظريات. والبحث التاريخي له قيمته الخاصّة وفوائده الجمّة الوافرة التي تعرّضنا لها في محلّه([29]).

من هنا نختلف مع أستاذنا الشيخ باقر الإيرواني في قوله بعدم الحاجة للارتباط بالكتب التراثية، وأنّ مراجعة كتب السيدين الخوئي والحكيم كافية لتحقيق هذا التواصل([30])، فإنّ مراجعة المصادر مباشرة تخلق صورةً مختلفة عن الأمور وتجعلنا نتثبت من واقع الأفكار والنظريات.

ثانياً:إنها توفّر الوقت على عكس الطريقة الأولى؛ لأنه إذا كان الدليل الاجتهادي متوفّراً فسوف يكون البحث التأسيسي في الدليل الفقاهتي تطويلاً للمسافة، وحيث إن المفترض هو البحث في الدليل الاجتهادي فإن لم يكن عدنا إلى الدليل الفقاهتي، كان الأنسب بالدرس أن يكون على هذا المنوال أيضاً، مع الإقرار بأنّ لهذا الأمر بعض الاستثناءات.

ثالثاً:إنها تربّي العقل الاجتهادي على التعامل مباشرةً مع النصوص والأدلّة، أي مع الكتاب والسنّة، بدل التعامل مع الأصول العملية والعدميّة وتحليلاتها.

ج ­ـما يلاحظ من طريقة الشيخ الخراساني والإمام الخميني والعلامة الطباطبائي وغيرهم، حيث يصار في البداية إلى معالجة الأدلّة مباشرةً بصرف النظر عن إقحام الأصل العملي وعدمه، فإذا فرغ الباحث والأستاذ من نظريّته وكوّن قناعاته، عاد هنا إلى آراء الآخرين لكي يعرّج على أهمّها ولا يضيّع الوقت فيها، فيسجّل على كلّ رأي إشكالاً أساسياً، وغالباً ما يأخذه من طبيعة استنتاجاته التي مرّت معه.

وتمتاز هذه الطريقة:

أولاً:بالاختصار الشديد مقارنةً بغيرها، وعليها بنى الشيخ الخراساني كتاب (كفاية الأصول) واختصر فيه جملة موضوعات، فهي لا تتعب نفسها بتتبّع كلّ قالٍ وقيل، ثم الردّ على هذا وذاك، وإنما تختار الزبدة وتواجه الأدلّة مباشرةً.

ثانياً:إنها تمتاز بأنّ الأستاذ فيها يحمل صفة القاطعية والموسوعيّة لو فرضنا أنّ بيان درسه مطابقٌ لكيفية وصوله إلى الفكرة، بل هي تربّى الطالب على ذلك، فهو أولاً يواجه الأدلّة ويحسم موقفه حتى قبل مطالعة نظر الآخرين، وهذه حالة لا تتوفّر للكثيرين، كما أنّ تنقّله بين الأدلّة المحتملة يحتاج إلى ذهن جوّال في الفقه لمعرفة ما يمكن أن يكون دليلاً في هذه المسألة، لاسيما لو كانت من المستحدثات ومنتميةً إلى فقه النوازل.

ثالثاً:واستتباعاً للنقطة السابقة، قد يكون من فوائد هذه الطريقة أنّ الأستاذ ـ وكذلك التلميذ لو استخدم هذه الطريقة ـ لا يتأثر بأدلّة الآخرين ووجهات نظرهم وفهمهم للنصوص والقواعد، وهذا شيء جيد يعطيه المزيد من التجرّد والموضوعية وعدم التأثّر بقول زيد أو عمرو أو فهمهما أو حتى قول المشهور؛ لأنه يبحث موضوعه حتى قبل مطالعة الاتجاهات في المسألة.

رابعاً:يعاني هذا الأسلوب من مشكلة في بعض تطبيقاته، فإنه يحاول أن يبدأ من الصفر، والحال أنّه لو أخذ جهود الآخرين وبنى عليها وتجاوزها لربما كان أفضل حتى لا يصرف طاقاته في ابتكار ما كان قد ابتُكر من قبل، هذا لو فرضنا أنّه تجرّد كلياً عن ما كتب قبل ذلك، وقليلاً ما يحصل.

كما أنه لو بني على دليل حجية الشهرة الفتوائيّة أو موهنية الإعراض أو جابرية العمل، فإنه سيكون مضطراً أثناء البحث لمراجعة الآراء والنظريات والأدلّة، كي يحسم هذا الدليل أو ذاك نتيجة هذا التتبّع، ولعلّه يمكنه تأخير هذا الدليل إلى آخر الأدلّة، فتنخفض حدّة المشكلة.

د ـما يتداول عند البعض ـ ويُعرف بها في غير مورد السيدان: الخوئي ومحمد باقر الصدر في بعض كتبهما ـ من المرور بمراحل هي:

الأولى:بيان موضوع المسألة، وتفكيك الصورة، وتحرير محلّ النزاع وتمييزه عن موضوعات ذات صلة، وربما أحياناً التعرض لفروضها وحالاتها، وهذا هو البحث التصوّري في الموضوع.

الثانية:ذكر الأقوال في المسألة وبيان الاتجاهات، والنسبة بين هذه الأقوال، وشرح عناصر الاشتراك والافتراق بينها.

الثالثة:بيان الأدلّة التي يذهب إليها كلّ فريق، وكذلك مناقشاتها وما قيل في ردّها أو تأييدها، مع تأخير الأستاذ القولَ الذي يراه هو بنفسه من بين الأقوال أو يختصّ به خارجها، سواء كانت هناك أقوال أو احتمالات.

الرابعة:بعد تفنيد الأدلّة والأصول التي استندت إليها الأقوال المخالفة لما يراه الأستاذ، يصار إلى ذكر القول المختار وبيان أدلّته، مع الشروع ـ أحياناً ـ بالضعيف منها وردّه، ثم ختم ذلك بالأدلّة القويّة المختارة.

الخامسة:بيان الإشكالات الواردة على الرأي المختار أو التي يمكن أن ترد عليه، ثم محاولة ردّها والدفاع عنه.

السادسة:بيان الثمرة العملية أو الآثار التي قد تترتّب على هذا الرأي المختار في موضوعات ذات صلة.

السابعة:تلخيص الأبحاث والخروج بنتائج ونهائيات.

وتمتاز هذه الطريقة التي قد تستخدم كلّ خطواتها أحياناً وبعضها أحياناً أخر بما يلي:

أولاً:إنها تعتمد الاستيعاب النسبي في الرصد والتتبّع للأدلّة والأقوال والآراء وتحليلها ومناقشتها، مما يجعل البحث طويلاً من حيث المدّة ومن حيث الكمّ، وهذا كما يمكن اعتباره عنصراً إيجابياً من حيث الدقّة والموضوعية والشمولية وعدم العجلة ولا الابتسار، قد يعتبر مضرّاً على مستوى التدريس؛ لما فيه من تطويل وإرهاق للطالب، لاسيما في بعض الموضوعات التي قد تطول كثيراً نتيجة غزارة الأفكار التي قدّمت فيها.

ثانياً:إنها تخلو من إيجابيات الطريقة الثانية المتقدّمة، عنيت الرصد التاريخي، فإنّ رصد الأقوال وإن كان ضرباً من الرصد التاريخي لكنه لا يطابقه؛ لأنّ المهم في التتبّع التاريخي رصد السيرورة والصيرورة والتحوّل زمناً تلو الآخر، لا عرض الأقوال إلى جانب بعضها بصرف النظر عن ملاحظتها وهي تتحوّل تاريخياً.

هـ ـمن وجهة نظري الشخصية، أميل إلى اعتماد الطريقة الرابعة مع تعديلها:

1 ـبالجانب التاريخي، كما تقدّم.

2 ـبعدم التعرّض للأدلّة التي باتت واضحة الضعف أو للمناقشات أو الردود التي يكون هذا حالها، دفعاً للتطويل والتكرار والعبثية. ومن المعروف أنّ الكثير جداً من الأدلّة القديمة باتت تُحسب اليوم واضحة الضعف، نظراً لتطوّر الفقه الإسلامي وعلومه.

وكذلك التخلّي عن الدخول في الزوائد البحثية غير الضرورية غالباً، كالغرق في التعريفات وما هو الجامع والمانع منها كتعريف الاستصحاب مثلاً، وكذلك الغرق في الفروع الجزئية غير المهمّة والتطويل فيها.

3 ـحُسن انتخاب المسائل والموضوعات للبحث أو للتدريس؛ فإنّ هذا ما يفيد في كسب الوقت واغتنامه وعدم تضييعه بموضوعات لم تعد لها فائدة أو بلوى اليوم، بل ليس فقط ترك الموضوعات غير الابتلائية كمباحث الظهار والرقيّة والعتق والكتابة والتدبير والتجارة بالعبيد والإماء أو أحكامهم وأحكام مناكحتهم مما لا يقتصر التعرّض له في المصنّفات الفقهيّة على أبوابه الخاصّة ككتاب العتق والتدبير، وإنما توجد له مسائل كثيرة مبثوتة في ثنايا الكتب الفقهية الأخرى مما ينبغي التنبّه له، ومباحث العبيد في كتاب المكاسب وفقه التجارات مثلاً كثيرة جدّاً يمكن استخراجها من (المكاسب) للشيخ الأنصاري على سبيل المثال..

ليس هذا فقط، بل المطلوب هو حاكمية منطق الأولويات أيضاً، فمباحث الدماء الثلاثة مهمّة وابتلائية، لكن الأهم اليوم هو مباحث الفقه السياسي، وفقه الأسرة، وفقه الاجتماع، وفقه الدولة، ووفقه النظم الاقتصادية والجزائية والجنائية وغير ذلك.

وهكذا الحال في علم الأصول أيضاً، فإنّ بعض أبحاثه لم يعد محلّ ابتلاء المجتهد في الفقه والشريعة وإن كان في حدّ نفسه مفيداً، كالبحث عن تحديد هويّة الواضع للغة، وحقيقة الوضع وأنواعه، وجملة من مباحث حجيّة القطع، وموضوع علم الأصول، ومباحث الأمر بين الأمرين والجبر والتفويض والبداء والطلب والإرادة، وتعريف علم الأصول، والتجرّي، والانسداد([31])، و..

ولو كان محلّ ابتلاء فالمطلوب اليوم رصد ما هو محلّ أولوية، فإنّ عنوان محلّ الابتلاء محكومٌ لعنوان محلّ الأولوية، مثل: مباحث التعارض، وحجية الأخبار، ونظرية مقاصد الشريعة، والنظريات الجديدة في تفسير النص، وأصول فقه النظرية، ومباحث الثابت والمتغيّر، وقاعدة ما من واقعة إلا ولها حكم مع بيان شكل الشمول التشريعي، ودور العقل في الاجتهاد، وغير ذلك.

كما أنّ جزءاً من مشكلة هذه الموضوعات أنّ الكتب الأصوليّة مثلاً وقع فيها استطرادات، ينافي وجودها البحث العلمي الرصين، على حدّ تعبير بعض العلماء([32]).

ومعايير الأولوية عدّة أمور:

المعيار الأوّل: أن يكون الموضوع محلّ ابتلاء في هذا العصر، مقابل ما لا ابتلاء به، أو مبتلى به بشكل نادر جداً كفروع العلم الإجمالي المبحوثة في الفقه في كتاب الصلاة، فهذه يندر الابتلاء بها نسبيّاً.

المعيار الثاني:أن يكون الموضوع مهجوراً في البحث الفقهي منذ زمن طويل، وقد طرأت عليه مصاديق ومستجدّات صارت تفرض إعادة النظر في الموضوع كلّه، كفقه الجهاد، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقه القضاء.

المعيار الثالث:أن يكون الموضوع في نفسه جديداً ومستحدثاً ولم يتم تناوله مطلقاً أو تمّ تناوله دون الحدّ المطلوب، مثل مباحث فقه البنوك والصرافة، وفقه البورصة، وفقه المستحدثات الطبية، وفقه العلاقات والقوانين الدولية، وفقه الشركات الحديثة و..

المعيار الرابع:أن يكون الموضوع قديماً أو يكون جديداً وبُحث فيه كثيراً، لكنّ للباحث والأستاذ رأيٌ جديد فيه يخالف الإجماع أو المشهور أو السائد أو يقدّم فيه إضافةً نوعيّة متميّزة غير موجودة في جهود من سبقه، إنّ هذا ما يعطي هذا الموضوع أولويّته في أن يطرح في الأوساط العلمية، كي يتم تناوله بالبحث والتقويم والنقد والمراجعة، بما يوجب ثراء الدراسات الفقهية والأصوليّة.

المعيار الخامس:أن يكون الموضوع إشكاليّاً سجّلت فيه انتقادات على الشريعة، مما يفرض إعادة تناوله مجدّداً مع استعراض هذه الانتقادات ضمن البحث العلمي، ليجاب عنها بطريقة علمية تتعالى عن المنطق الجدلي أو الخطابي أو التعبوي.

4 ـوانطلاقاً من ذلك كلّه، يغدو من الضروري إجراء تحوّلين في تدريس البحث الخارج:

أحدهما:عدم الدوران حول متن معيّن، بحيث تُجَرّ جميع الأبحاث لانتهاج تبويب واحد وتقسيم واحد ومسار واحد لكلّ علم الفقه وأصوله؛ لأنّ هذا يعطّل إمكانية إبداع الأساتذة في مجال الهيكلة وتنظيم الموضوعات من جديد، آخذين بعين الاعتبار تطوّراتها في ذاتها وتطوّرات علم المناهج وأساليبها كذلك.

ثانيهما:عدم البقاء أسرى مفهوم الدورة الأصولية الكاملة فضلاً عن الدورة الفقهية؛ لأنّ منطق الأولويات يستدعي إمكانية أخذ ملفّات أصولية مهمّة اليوم وتطويرها دون حاجة إلى تناول كلّ الأصول من قبل الجميع على المستوى التدريسي، بل توزّع الملفات على اهتمامات الأساتذة.

5 ـتطعيم البحث بعناصر المقارنة، ليس فقط على مستوى الآراء الفقهية في المذهب الواحد، بل لدى المذاهب الفقهية والأصولية الإسلامية المختلفة من جهة ومذاهب الفقه الوضعي والقوانين العصرية العلمانية من جهة ثانية؛ فإنّ ذلك يفتح الأفق أولاً، وقد يجرّ إلى الاستفادة مما طرحه الآخر، أو إلى حضورنا في أوساطه بتناولنا ما طرحه بالنقد والتحليل ثانياً، مما يعيد الفقه إلى أروقة البحث الأكاديمي على جميع مستوياته.

 

2 ـ 2 ـ 1 ـ البُعد المنهجي للمضمون (المضمون من حيث المحتوى والمنهج)

نقصد بهذا العنوان المنهجية المتّبعة في تدريس بحث الخارج من حيث خلفيّتها المضمونية والفكرية، وقيامها على رؤية اجتهادية في طريقة معالجة الموضوعات، ويمكن تقسيم الطرائق هنا بعدّة تقسيمات لا مجال لحصرها ونكتفي بأبرزها:

 

التقسيم الأول: المضمون بين المنهج الفلسفي والمنهج العرفي

تنقسم مباحث الأصوليين والفقهاء باعتبار المنهج إلى قسمين:

أ ـفبعضهم يميل إلى النظر إلى المباحث ـ لاسيما الأصولية ـ بعينٍ فلسفية عقلية دقيّة، ويطبّق فيها مناهج البحث الفلسفي والعقلي القائم على محاكمة الأمور الحقيقية، ويعرف المحقق الخوانساري (1099هـ) صاحب كتاب (مشارق الشموس) بأنه من أوائل من أقحم القضايا الفلسفية والنزعة الفلسفية في الدرس الاجتهادي، وقد شهد هذا الاتجاه تطوّراً في عهد الشيخين: الخراساني والأنصاري، وبلغ ذروته مع المحقّق الإصفهاني.

وقد تعرّض هذا المنهج لانتقادات جوهرية عدّة لسنا بصددها الآن، لكن من أبرزها ما طرحه العلامة الطباطبائي، من أنّ الفقه والأصول من شؤون عالم الاعتبار، فيما القواعد الفلسفية من شؤون عالم الحقائق، ومن الخطأ المنهجي تطبيق قواعد أحد المدارين في مجال المدار الآخر. وكذلك الانتقادات التي سجّلها غير واحد كالعلامة السيّد محمد حسين فضل الله (2010م) والشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي والشيخ الأستاذ باقر الإيرواني على مباحث الألفاظ في علم الأصول وعلى الفهم الهندسي للنصوص، حيث لا يمكن في مجال اللغة تطبيق قواعد عقلية ورياضية.

ب ـولأجل هذا النقد وغيره، مال فريقٌ آخر إلى اعتماد المنهج العرفي والعقلائي في معالجة الموضوعات الأصولية وفهم النصوص الدينية والابتعاد عن التفكيكات الذهنية الدقيقة.

ونلاحظ في دروس بحث الخارج تنوّعاً، ففيما نلاحظ شوقاً إلى نمط المعالجة العقلية عند بعض الأساتذة، نجد تأكيداً على منهج الفهم العفوي والعرفي عند آخرين.

ومن أكبر الأخطاء التي تعرّضتُ إليها في محلّه([33])أن يصار إلى احتكار مفهوم الدقّة العلمية، حيث يصوّر للطلاب أنّ المنهج غير الفلسفي هو منهجٌ سطحي وغير متعمّق ويفتقد إلى الدقّة والتركيز، وأنّ محل اجتهاد الفقيه هو ممارسته هذه الأساليب، مع أنّ أنصار الفريق العرفي إنّما لا يمارسون المنهج الدقي قناعةً، وليس ضعفاً بالضرورة.

وهكذا الحال على المقلب الآخر؛ حيث يجري التشكيك في أعمال أنصار المنهج الفلسفي، واتخاذ موقفٍ منها لمجرّد الإحساس بشكل من أشكال التدقيق فيها، مع أنّ في جهودهم الكثير من الفوائد والإيجابيات.

التقسيم الثاني: المضمون بين المنهج القرآني والمنهج الحديثي

تسود في أوساط دروس البحث الخارج طريقة الاجتهاد القائم على الحديث الشريف، حيث تكون الروايات هي المهيمنة والحاضرة بقوّة وفاعلية على الدوام، وإذا لم تكن موجودة فإنّ المهيمن هو الأصول العملية والعدميّة.

وتستخدم بعض الدروس القليلة منهج الاجتهاد القائم على القرآن الكريم، حيث تحاول أن تحصل على أكثر المعطيات من النصّ القرآني أو تحاول تحكيمه دائماً في البحث الفقهي والأصولي.

ويرجع هذا الخلاف في الحقيقة إلى أواسط القرن العشرين، حيث ظهرت حركةٌ فكرية تنادي بالاهتمام المضاعف بالقرآن الكريم، وتتحدّث عن تغييبه في أكثر من مجال، وقد دعا هؤلاء العلماء إلى المزيد من تنشيط الدرس القرآني عموماً في الحوزات العلمية. وممّن قاد هذه الحركة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (1981م)، وكان لهذه الحركة أعلامها ورجالاتها مثل الشيخ محمد جواد مغنية (1979م)، والسيد محمد باقر الصدر (1400هـ)، والسيد محمود الطالقاني (1980م)، والشيخ الصادقي الطهراني (2011م)، والشيخ مرتضى مطهري (1399هـ)، والسيد محمد حسين فضل الله (2010م)، والسيد علي الخامنئي، والشيخ محمد مهدي شمس الدين (2001م)، والشيخ محسن قرائتي وغيرهم.

ونتيجة هذه النهضة العظيمة، بدأ الفقه يتأثر بالموضوع القرآني، وكانت هناك مطالبات بالمزيد من استحضار النصّ القرآني في الاجتهاد الفقهي، وبالمزيد من الاهتمام بمجال فقه القرآن وآيات الأحكام([34]).

وقد كتبت في الفترة الأخيرة جملة من الكتب في مجال فقه القرآن، منها ما كتبه العلماء والباحثون: محمد اليزدي، وباقر الإيرواني، وعباس علي عميد الزنجاني، ومحمد باقر البهبودي، وكاظم مدير شانه جي، ومحمد سعيد اللاهيجي، ومحمد باقر ملكي الميانجي، وغيرهم.

كما حاول بعض العلماء جعل الفصول الأولى من أبحاثهم الفقهية مخصّصة لرصد الفقه القرآني في الموضوع الذي يبحثونه، ليكون هناك إطلالة على الموقف القرآني والصورة القرآنية منذ البداية بغية تحكيمها على سائر الأدلّة من الحديث والإجماع ونحو ذلك، ومن النماذج التي استخدمت هذه الطريقة ما جاء في كتاب (فقه الحج)([35])للسيد محمد حسين فضل الله، وقد حاولنا فعل ذلك في كتابنا المتواضع (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)([36]).

وأعتقد أنّ المنهج القرآني هو الصحيح، انطلاقاً من آراء جادّة في مرجعية القرآن في الاجتهاد الفقهي، وضماناً للمزيد من سلامة العملية الاجتهادية، شرط عدم الهدر غير المبرّر لسائر المصادر الاجتهادية من السنّة والعقل.. فلا إفراط ولا تفريط.

التقسيم الثالث: المضمون بين المسائل والقواعد والنظم والمقاصد

يختلف منهج دروس البحث الخارج ـ ولو نظرياً ـ على أربعة أنواع، هي:

1 ـ منهج فقه المسائل:وهو المنهج الغالب في دروس البحث في الحوزات العلمية منذ انطلاقة هذا النوع من الدروس، ويعتمد هذا المنهج على معالجة الموضوعات الفقهية بطريقة تجزيئية تلاحق الفقه والأصول مسألةً مسألة، وتمتاز هذه الطريقة بالدقّة وملاحقة الجزئيات الصغيرة، وتتبّع التفاصيل والإحاطة بها.

2 ـ منهج فقه القواعد:وبالارتفاع قليلاً، يخرج الفقيه من دائرة التفاصيل الموردية إلى دائرة القواعد الفقهية التي تتسم بشيء من الكلّية والانطباق في الحالات والموارد المتعدّدة. وكان أوّل ما ظهر فقه القواعد ـ إماميّاً ـ بطريقة مستقلّة مع الشهيد الأول في القرن الثامن الهجري، لكنه ظلّ مهمّشاً لتُبحث بعض قضاياه داخل الفقه التجزيئي للمسائل، إلا أنّه ظهرت في القرن الأخير علامات اهتمام مجدّد بهذا النوع من مطالعة الفقه، حيث رصد تدوين عدد لا بأس به من الكتب في هذا السياق، مثل ما كتبه السيد البجنوردي، والشيخ الفاضل اللنكراني، والشيخ باقر الإيرواني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد المصطفوي، وآخرون.

إنّ مقتضى هذا المنهج أن نفهم الفقه بوصفه قواعد عامّة، وبعد تكوين مجمل القواعد يصار إلى ملاحقة بعض التفاصيل الجزئيّة التي تمثل استثناءات أو حالات منفردة، وهذه الذهنيّة تختلف عن حالة فهم الفقه من البداية بوصفه مسائل منفردة متفرّقة أشبه بجزر منعزلة عن بعضها.

3ـ منهج فقه النظريات والنُظُم:وهو المنهج الذي اقترحه السيد محمد باقر الصدر، ومارسه في كتاب (اقتصادنا)، إنّه منهج يرتفع بنا أكثر لمطالعة الفقه وفهم قضاياه، حيث يقوم بتجميع المسائل والقواعد معاً ليكوّن منها كلاً له أجزاء؛ ويمكن تسمية هذا المنهج بالمنهج التوحيدي والموضوعي مقابل المنهج التفكيكي والتجزيئي المعتمد في فقه المسائل.

ومما يؤسف له أنّ الحوزات العلمية لم تتلقّ أطروحة فقه النظرية كما يجب في مستوى الدروس العليا، ولعلّ من بين الأسباب صعوبة تدوين هذا النوع من الفقه وتدريسه، وعدم تكيّف الطلاب معه بعدُ، وحاجته إلى ذهنية ابتكارية في مجال التصميم البحثي تعيد هيكلة الموضوع وربط أجزائه المبعثرة في الفقه. كما أنّ هذا الفقه يتطلّب إعادة تقسيم الفقه كلّه وتبويبه، وقد تحدّثنا في مناسبة أخرى([37])عن ضرورة التطوير في تبويب الفقه والرسائل العملية تبعاً لتطوّرات المعرفة والواقع معاً، فلا يصحّ جعل مستحدثات المسائل وقضايا البنوك مثلاً على هامش الرسائل العمليّة!

4 ـ فقه المقاصد والأهداف،وهو الفقه الذي يحاول أن ينطلق من تحديد الأهداف والمقاصد التي وضعت لها التشريعات، ليحاكم سائر البنود التشريعية وفقاً للفهم المقصدي، وهو يعتقد بأنّ بالإمكان اكتشاف المصالح والغايات التي من أجلها شرّعت التشريعات في غير مجال العبادات، وأنّ فكرة غياب الملاكات والجهل المطبق بها يمكن تعقّلها في المجال العبادي أكثر منه في مجال المعاملات وقضايا العلاقات الشخصية والعامة، ويعدّ العلامتان محمد مهدي شمس الدين (2001م) ومحمد حسين فضل الله (2010م) من أبرز الداعمين لهذا الفقه إلى جانب سائر أشكال الدرس الفقهي، وإن كانت تطبيقاتهما له محدودة، كما أنّهما لم يقدّما نظريّة شاملة في هذا السياق، وإنّما مقترح ورؤية أوليّة تحتاج للمزيد من التنظير.

وإذا أردنا الإخلاص لهذا المنهج الفقهي، فلابد في كل بابٍ فقهي من مراجعة النصوص القرآنية والحديثية التي تتحدّث أو يُفهم منها الغايات التي جاءت الأحكام هنا لبيانها، أو تحليل ذلك تحليلاً عقلانياً، ليُصار بعد ذلك إلى الاجتهاد في المسائل أو القواعد أو النظريات، فيكون الهدف فكرةً حيّةً حاضرة دوماً في ممارسة العملية الاجتهادية.

وهناك جدل وإشكاليات فكريّة تواجه فقه النظريّة وفقه الأهداف والمقاصد معاً، من أبرزها ظهور بعض أشكال التنافي بين فقه النظرية وفقه المسألة؛ لأنّ فقه النظرية يحتاج إلى نتائج فقه المسائل بحيث تكون منسجمةً مع بعضها، وقد يتوصّل فقيهُ المسائل إلى نتيجة ـ تبعاً للدليل ـ تُحدث خرقاً في الصورة الكلّية التي يريد فقيهُ النظرية التوصّل إليها، وقد انتبه السيد الصدر إلى هذه المشكلة، وحاول ردم الثغرات من خلال ـ مثلاً ـ الاعتماد على فتاوى الفقهاء الآخرين ولو كانوا أمواتاً، لأخذ ما يناسب سائر أجزاء الصورة الكبيرة منها.

وبصرف النظر عن المشاكل التي تواجه مثل هذه الحلول على الصعيد الاجتهادي، وتورّط المجتهد في ازدواجية العمل النظري، وأنّ مثل هذه الحلول تنفع وليّ الأمر أكثر مما تنفع المجتهد المكتشف للنظرية الإسلامية.. بصرف النظر عن ذلك إلا أنّ هذا يكشف لنا عن أنّ فقه النظرية عند السيّد الصدر جاء تالياً لفقه المسألة، بمعنى أنّه من تجميع نتائج فقه المسألة يولد فقه النظرية، فيكون هذا الفقه محكوماً لذاك الفقه، ومن ثم لا يبتعد كثيراً عن أسلوب الفقه الاجتهادي السائد.

أما فقه الأهداف فهو يختلف هنا؛ لأنه يحاول أن يحكم نفس عملية الاجتهاد في فقه المسألة وفقه القاعدة وفقه النظرية؛ لأنه يشكّل مساعداً في فهم النص والحكم معاً، ولهذا صاغ العلامة شمس الدين فقهه ـ نظرياً ـ بطريقة معاكسة لطريقة السيد الصدر، حيث ذهب إلى أنّ أدلّة الشرع على قسمين: أدلّة تشريعية عليا، وأدلة تفصيلية عادية، وأنّ الأولى تحكم الثانية، ففي المرحلة الأولى نحن نكتشف في الباب الفقهي أو في الفقه كلّه الأحكامَ الحاكمة المهيمنة ذات الطابع الكلّي غير المخصّص أو المقيّد، وهي التي تحدّد أساسيات الأهداف الضابطة لحركة التشريع، مثل مبادئ: الأخوّة الإسلامية، والعدل، والدفاع عن المجتمع الإسلامي و.. ثم نجتهد في سائر الأبواب والمسائل مستحضرين تلك الأدلّة العليا الكاشفة عن الأهداف، لتصويب حركة الاجتهاد في التفاصيل، فلو جاء الاجتهاد التفصيلي بتشريع عدم الحقّ الجنسي للزوجة أمكننا تصويبه بطرح مستنده عرض الجدار؛ كونه يخالف الأدلّة العليا للتشريع والتي تعلن العدل أساساً، بعد فرضنا أنّ هذا الحكم التفصيلي يعدّ ظلماً من الناحية العقلائيّة والعقلانية للمرأة وهكذا.

وبهذه الطريقة نحن نهبط من الأعلى إلى الأسفل، على عكس طريقة السيد الصدر في فقه النظرية، ولهذا ترتفع من أمام الشيخ شمس الدين مشاكل الثغرات المشار إليها آنفاً، وذلك عبر ردمها بهذا الأسلوب.

لكن تبقى أمام فقه الأهداف والأدلّة العليا مشكلة التمييز بين أنواع الأدلّة الحاكمة والمحكومة، فما هي معايير التمييز؟ وكيف نعرف أنّ هذه الأهداف أو الأدلّة غير قابلة للتخصيص أو التقييد؟ وما هي الأسس التي نبني عليها مبدأ إمكانيّة اكتشاف الملاكات؟ وغير ذلك من الإشكاليّات والمنزلقات التي تحتاج نظرية فقه الأهداف ـ كما فقه النظرية من قبل ـ لتفاديها، ووضع حلول علميّة متوازنة لها.

 

التقسيم الرابع: المضمون بين الفقه المذهبي والفقه الإسلامي

الفقه السائد عند المسلمين ـ السنّة والشيعة ـ اليوم ومنذ زمن بعيد هو الفقه المذهبي، وهو الفقه المهيمن على دروس البحث الخارج أيضاً، ويعتمد هذا الفقه على رصد النظريات الداخل ـ مذهبية، وتتبع آراء علماء المذهب وأدلّتهم ومناقشاتهم، وأحياناً نادرة يعرّج على آراء فقهاء المذاهب الأخرى.

وقد اقترح بعض العلماء في الفترة المتأخّرة أن تصبح الدراسات الفقهية ـ ومن ثم دروس البحث الخارج ـ أوسع نطاقاً، بحيث يعالج الفقيه أو الأصولي أيّ مسألة من المسائل واضعاً أمامه التراث الإسلامي بمذاهبه. وكان من الروّاد الذين نظّروا أو مارسوا هذه الطريقة، كلٌّ من العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين (2001م) والعلامة الشيخ محمد إبراهيم الجناتي والعلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي.

ولا يعني هذا المنهج أو الطريقة قبول ما في المذاهب الأخرى، وإنما إدخالها في المضمون الرئيس للدرس الفقهي والأصولي، ومناقشتها وتقويمها وتصويب ما صحّ منها، وإبطال ما يراه الفقيه والأستاذ باطلاً.

ونحن بدورنا نرجّح هذه الطريقة للبحث العلمي ولدروس البحث الخارج، وقد تحدّثنا عنها في مناسبة أخرى، ورأينا أنها تُطَوّر الفقه وتنمّيه وتوسّع أفقه بشكل جيّد.

ونكتفي بهذا القدر المختصر من الحديث عن أساليب التدريس في مرحلة الدراسات العليا (البحث الخارج) في الحوزات العلمية، سواء منها الحاصل والواقع عملياً، أم المرجوّ والمنشود والمقترح نظريّاً.

 

2 ـ وظائف أستاذ البحث الخارج، وأدواره وخصائصه

بعد أن انتهينا من الحديث عن أساليب التدريس في مرحلة البحث الخارج، من الضروري إكمال هذا السياق عبر الحديث عن المدرِّس نفسه في خصائصه وصفاته وأدواره ووظائفه التي لها علاقة بالجانب التدريسي، ولها تأثيرها المباشر وغير المباشر على الدرس والتدريس.

والحديث عن صفات الأستاذ ووظائفه يمكن أن يقسّم وفقاً لما يلي:

 

2 ـ 1 ـ الخصائص والمؤهلات

لابدّ أن تتوفّر في أستاذ الدراسات العليا بعض المؤهلات، وأهمّها:

أ ـ الكفاءة العلمية،فإنّ الأستاذ غير المتمكّن من المادّة التي يقوم بتدريسها سوف يسبّب ضرراً على طلابه، وعلى الطلاب الانتباه لتوفّر هذا الشرط في الأستاذ الذي يريدون اختياره، ومجرّد التصدّي لتدريس البحث الخارج لا يُثبت أنّ الأستاذ مؤهّلٌ لذلك، فقد يعتقد أنّه مؤهل فيما لا يكون في واقعه كذلك، سواء كان اعتقاده ناجماً عن مقدّمات تعذره فيما توصّل إليه وإن كان مخطئاً أم عن غير ذلك بحيث لا يكون معذوراً، لاسيما في ظلّ حركة الفوضى النسبية الموجودة اليوم في التصدّي لتدريس البحث الخارج، نتيجة فوضى التقويم وإشكاليات التقدير وإعطاء الشهادات اللازمة، حيث لا يوجد معايير واضحة ودقيقة ومجزّئة ومفروزة يمكن التقدّم من خلالها لتحصيل شهادة المؤهّلية العلمية للتدريس في مرحلة البحث الخارج.

وللخروج من هذا المأزق في ظلّ الوضع الراهن، يمكن اختبار أكثر من أستاذ لمدد زمنية بسيطة ومعقولة، ليتمكّن الطالب من المقارنة التي تسمح له باختيار الأستاذ، مضافاً إلى استشارة أهل الخبرة من الاتجاهات الفقهية المختلفة؛ لأنّ استشارة من هم منتمون إلى اتجاه واحد قد تُفقد الإنسان الوثوق؛ لأنّ التقديرات والتقييمات تتبع في بعض الأحيان الموقف من الشخص نفسه، فإذا انتمى إلى تيار فكري معيّن فمن الممكن أن يتمّ تشويه صورته أحياناً قربةً إلى الله تعالى، ولعلّ الطرفان يكونان معذورين أمام الله سبحانه.

ب ـ المهارة في التعليم والتدريس،وهذه نقطة جديرة أيضاً؛ إذ قد يكون الإنسان عالماً في نفسه لكنّ أساليبه في التربية والتعليم فاشلة تماماً، فقد يؤدّي اضطرابه في البيان إلى تشويش الطلاب، وقد تؤدّي سلبية أخلاقه إلى تضعيف همّتهم وإحباط عنفوانهم وهكذا. وهنا على الأساتذة الخضوع باستمرار لدورات تأهيلية مفيدة، للأخذ بأسباب العصر في طرائق نقل المعلومات للآخرين وتربيتهم علميّاً.

ج ـ المؤهلات الأخلاقية والسلوكية:حيث لا تكفي المؤهلات العلمية والتدريسية، بل لابدّ أن يكون الأستاذ ذا أخلاق حميدة، لا أقلّ بما يتصل بقضايا التربية والتعليم، من الحلم وسعة الصدر مقابل الغضب والانفعال، ومن المحبّة والمودّة والابتسامة مقابل العبوس وتقطيب الحاجبين، ومن منح الثقة للآخرين بدل تحطيم ثقتهم بأنفسهم لإبراز نفسه أو غير ذلك، وتقبّل النقد والانفتاح عليه حتى لو كان من تلامذته بدل العناد والتعصّب والاستبداد بالرأي، وأن يملك أخلاقية البحث العلمي من الإنصاف والموضوعية وعدم التحيّز السلبي والعدل في الحكم والتماس العذر للآخرين، وعدم التكبّر أو الغرور والعجب بالذات حتى كأنّه لا يضاهى، فلابد أن يكون متواضعاً منكراً لذاته، كما لابدّ أن لا يميّز بين طلابه بطريقة غير موضوعية كاستخدام الأساس الأسري أو العشائري أو القبلي أو المناطقي أو الوطني أو القومي أو المذهبي أو السياسي أو الثقافي أو غير ذلك، واعتماد منطق الكفاءة في التقويم بدل منطق (الولاءات قبل الكفاءات)، الذي يفسد علاقات الطلاب ببعضهم أيضاً وينمّي الحسد بينهم، بل عليه أن يخلق في وسطهم جوّاً من المشاركة في قاعة الدرس وخارجها.

إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق، كمصادقة طلابه ومساعدتهم خارج قاعات الدرس حيث يمكن، وأن يكون رحيماً ولا يكون جباراً عنيداً، يحبّه الطلبة ولا يخشون منه إلا لخشيتهم من الحقّ، وعليه أن يدرك أنّه ـ بوصفه أستاذاً ـ للتلامذة، لا أنّ التلامذة له.

ومن الموارد الأخلاقية اللازمة، احترام ما يطرحونه من أفكار أو تساؤلات، وعدم تحطيم معنوياتهم بالاستهزاء بما يقولون أو تسخيفه، فإنّ كلّ سؤال هو محاولة للتفكير تستحقّ الاحترام والتقدير.

 

2 ـ 2 ـ الأدوار والوظائف

تتعدّد أدوار الأستاذ ـ غير دوره التعليمي وما تقدّمت الإشارة إليه ـ نذكر منها بإيجاز:

أ ـ فهم الطلاب وتمييزهم،وهذه نقطة جديرة أيضاً حيث يمكن تحقيقها. ونقصد بها معرفة مستويات الطلاب الذهنية والفكرية ومديات رشدهم ونقاط قوّتهم وضعفهم، لكي يتمكّن من مخاطبتهم بالطريقة التي تستوعب اختلافهم أو ليتمكّن من مساعدتهم عبر كشف إمكاناتهم.

والنقطة المفيدة هنا هي أنّ إشراك الأستاذ للطلاب في الدرس عبر طريقة الجمع بين مركزية الطالب والأستاذ معاً، ستوفّر له معرفة مزاياهم خلال فترة الدراسة الطويلة، وعليه أن ينتبه إلى أنّ الذكاء ليس له شكلٌ واحدٌ محدّد يمكن اختباره فقط بعلوم مثل الرياضيات أو أصول الفقه مثلاً، بل لقد اكتُشفت له أشكال متعدّدة كالذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي، وعلى الأستاذ احترام هذا التنوّع، فقد يجد طالباً قويّاً في البحث الفقهي دون الأصولي أو في العقليات دون النقليات، والعكس صحيح، وهنا عليه أن يوجّهه بما ينمّي ويستثمر طاقاته الإبداعيّة، ولا يصرّ عليه في أن يبدع في غير الجهة التي يملك فيها ذكاءً وشوقاً.

ب ـ تحصيل الاستعداد للتغيير وامتلاك جهوزية التجديد،بمعنى أنّ التدريس يتطوّر مضموناً وشكلاً، وإذا لم يواكب الأستاذ هذا التطوّر ولم تكن عنده جهوزية التغيير في أساليبه، وكان متكبّراً على ذلك، فإنه سوف يراوح مكانه وسيفرض على الذين يحضرون حلقة درسه ذلك. إنّ التعليم ـ مثل الطبابة والصناعة ـ مهنةٌ أو مهارة تتطوّر باستمرار، وعلى الأستاذ أن يسير مع هذا التطوّر الصحيح والعقلاني، ويكيّف نفسه معه لينمو وينمو معه غيره، ولا يعطّل حركة التقدّم والرقي، ومع الأسف فمازال الكثيرون في معاهدنا الدينية يرفضون هذا الأمر، ويقدّسون الطرائق القديمة، ويحكمون بالموت على الجديدة حتى قبل أن يطّلعوا عليها.

نحن لا ندّعي ضرورة اللحاق بكل أشكال التطوّر، بل لابد من درسه بتأنٍّ وعلمية، دون انحياز مسبق لا سلبي ولا إيجابي، لنتمكّن من تطوير ذواتنا نحو الأحسن دون تبعيّةٍ لأحد، وهذا يتم بالتعرّف على كلّ جديد وتطبيقه حيث يمكن، والخضوع لدورات المهارات وبناء الذات كلّ فترة؛ لمواكبة ما يستجدّ في العالم.

ج ـ إن ميزان نجاح الأستاذ يمكن تتبّعه فيما يلي:

1 ـ القدرة على جذب الطلاب لشخصه ولفكره.

2 ـالقدرة على إدارة الصفّ وتوجيه التلامذة.

3 ـالقدرة على إيجاد القدرة لدى الطلاب على السير في خطى الوصول إلى هدفهم.

4 ـامتلاك المهارات التعليميّة.

5 ـخلق السعادة والشوق في نفوس الطلاب بدل الكسل واليأس.

6 ـأن يملك رؤية جامعة تطلّ على الصف كلّه، وتلاحق الطلاب فرداً فرداً، كما تقدّم لهم أنموذجاً جذاباً في سعة العلم وحسن البيان وبناء الذات([38]).

د ـ التركيز على صنع القدرة الفكرية عند الطلاب أكثر من مراكمة معلوماتهم كمياً؛فالأستاذ الأفضل هو من يخلق في طلابه التفكير أكثر مما يضع فيهم العلم أو يفكّر عنهم، من هنا نحتاج في مرحلة الدراسات العليا أن نفكّر في إعطاء الطالب مفاتيح الاجتهاد وامتلاك الرأي والإبداع في المجال الذي يتخصّص فيه، وهذا يحتاج إلى أسلوب خاصّ يجمع بين تقديم الفكرة وتثوير ذهن الطالب للتفكير فيها، ولا يصحّ مجرّد البحث النظري هنا، بل يحتاج الأمر إلى توجّه الطالب ناحية الجوانب العملية للأفكار وتطبيقاتها ليخلق في ذاته وعياً أكبر بها.

هـ ـ استخدام أسلوب المدح الذي يشجّع الطالب ويمنحه الثقة بنفسه،وأن يكون هذا المدح منطلقاً من إدراك موضوعي للأمور لا من مجاملات خادعة قد تضرّ بالطالب بدل أن تنفعه، وأما الذمّ فهو ضروري لكن بطريقة خاصّة ظرفاً ومكاناً وأسلوباً.

وفي هذا السياق تأتي إجازات الاجتهاد، حيث لابدّ من ضابط موضوعي لها يبتعد عن التساهل ولا يقترب من التشدّد، فالاجتهاد مكانةٌ علمية مرموقة ومقدّرة لكنها ليست نبوّةً ولا إمامة، فلا يصحّ الضنّ بهذه الشهادات عن أهلها أو إخضاعها لشبكات العلاقات والتوازنات السياسية والفكرية والاجتماعية.

 

المحور الثاني:التعلّم والدرس، الأساليب والوظائف

1 ـ أساليب الدراسة في مرحلة الدراسات العليا (البحث الخارج)

التربية والتعليم عنوانٌ عام لا يقف عند فعل التدريس من قبل المعلّم، بل يحتاج لكي يكتمل إلى فعل الدرس والتعلّم من جانب الطالب والمتعلّم، وقد تحدّثنا فيما سبق عن التدريس والمدرّس، ونحاول هنا أن نتحدّث باختصار عن التعلّم والمتعلّم، ونشرع ـ بحول الله تعالى ـ بالحديث عن طرق الدرس وأساليب الدراسة التي لابدّ أن يعرفها الطالب ويمارسها، ويمكن تقسيم أساليب الدراسة إلى أشكال متعدّدة، أبرزها:

 

1 ـ 1 ـ الدراسة المسبقة القبليّة

نقصد بهذا النوع من الدراسة أنّ الطالب يركّز جهوده قبل حضور الدرس، لكي يكون الدرس بالنسبة إليه مساحةً للتفكير والتعمّق أكثر منه للفهم والاستيعاب فقط، وذلك كما يلي:

أ ـالمراجعة المسبقة للموضوع الذي سوف يتداوله الأستاذ في الغد أو في الأسبوع المقبل، فيقوم الطالب بتتبّع الموضوع في مصادره، لاسيما تلك التي يعتمدها الأستاذ عادةً، ويحاول فهم الموضوع واستيعابه لوحده، بل وتكوين قناعة فيه.

ب ­ـفي بعض الأحيان، قد لا يتمكّن الطالب من الاكتفاء بالمراجعة المسبقة، فيحتاج إلى عقد لقاء طلابي يومي لمدارسة ما سوف يأتي من الدروس، وتكون هذه المباحثة المسبقة بمثابة المُعين للطالب على المزيد من التعمّق في الموضوع.

ج ­ـقد يحتاج الطالب لحصر الموضوع إلى تدوين ما توصّل إليه أو حلّله، ولو على شكل (رؤوس أقلام)؛ كي يكون الموضوع تحت هيمنته.

د ـحضور الدرس بشكل واعٍ نتيجة المراحل الثلاث المتقدّمة، أو لا أقلّ أولاها، ومن ثم سيكون الدرس بنفسه مادّةً لتأمّلٍ جديد، فيسجّل فيه الإشكالات ويخوض في المناقشات مع أستاذه.

هـ ـإعادة تقييم الذات بعد الدرس، عبر المقارنة بين ما كتبه الطالب مسبقاً وما قدّمه الأستاذ بعد ذلك من عرض ونقد وتحليل.

و ـكتابة الدرس مدوّناً فيه رأي الأستاذ وإضافات الطالب أيضاً، سواء كان متفقاً عليها بين الطرفين أم موضع خلاف.

هذه الطريقة في الدرس يمكن تقويمها على الشكل التالي:

أولاً:إنها قد تكون صعبةً لطلاب السنة الأولى، لكنّها ستكون أكثر سهولة فيما بعد؛ لأنّ الطالب سيكون قد خَبُر كيفية البحث والمراجعة واطّلع على المصادر والمنجزات في موضوعات البحث، وهنا تظهر قيمة التطوير في مرحلة السطوح، فكلّما كانت مواكبةً للعصر استطاعت تهيئة الطالب لمثل هذه المرحلة.

ثانياً:قيمة هذه الطريقة أنها تدرّب الطالب على فعل البحث والتحقيق والاجتهاد، دون أن يسبقه ما يراه من أستاذه، والأفضل في الأمر هو عنصر المقارنة حيث سيقارن الطالب بين ما أتى به بنفسه من ملاحظات وتحليلات وفهوم وانتقادات، وما رآه بعد ذلك في مجلس درس الأستاذ، فكلّما اقترب من الانتباه مسبقاً لما أثاره الأستاذ بعد ذلك ازداد إحساسه بالثقة بالنفس وتقديره لإمكاناته الذاتية.

ثالثاً:التدرّب على الكتابة وإتقان أساليب التدوين الفقهي والأصولي و.. سواء ما يدوّنه قبل حضور الدرس أم بعده.

رابعاً:تنشيط القدرة النقدية في الدرس، بدل خمول الذهن بالاعتماد على حالة الفهم والتلقّي، وهذا ما سيرتدّ إيجاباً على الدرس كلّه وعلى سائر الطلاب، بل إنّ الفائدة التي سوف يجنيها الأستاذ نفسه من قبل هذا الطالب قد لا تقلّ أحياناً عن الفائدة التي يحصل عليها الطالب من الأستاذ. والقدرة النقدية أو مهارة النقد الاجتهادي بالغة الأهمية، كما هو جليّ.

ولعلّ هذه الطريقة في الدراسة هي أفضل الطرق أو من أفضلها، وقد نصح بها جمعٌ من العلماء، منهم الإمام روح الله الخميني، حيث ينقل الشيخ محمد المؤمن أنّ الإمام الخميني كان يقول لطلابه في درسه الذي كان يلقيه في مسجد (سلماسي) في مدينة قم: لو أنكم تحضرون هذا الدرس عشرين عاماً بهذا الشكل فإنكم لن تصلوا إلى أيّ نتيجة، إلا إذا طالعتم الدرس مسبقاً واخترتم أحد الآراء فيه([39]).

وإذا ما واجه الطالب الجديد في مرحلة الدراسات العليا صعوبةً في البداية، فبالإمكان أن يستعين بمباحثة مسبقة أو بأفاضل الطلاب معه في الدرس أو قد يستعين بالأستاذ نفسه، وبإمكان الأستاذ هنا ـ بل من الضروري له ـ أن يرشد الطلاب بدايةَ كلّ محور إلى مواضعه ومصادره وعناوين الأبحاث القادمة، حتى يتسنّى لهم تطبيق هذا الأسلوب في دراستهم.

 

1 ـ 2 ـ الدراسة الموازية

نقصد بهذه الطريقة ما يمارسه بعض الطلاب في مرحلة الدراسات العليا، من عدم حملهم قبل شروع الأستاذ في الدرس أيّ صورة تُذكر عن الموضوع؛ لأنهم لم يحضّروا الدرس قبل الحضور في مجلس الأستاذ، غاية ما في الأمر أنهم يحضرون الدرس، وبعضهم قد يكتبه أثناء إلقاء الأستاذ للدرس وبعضهم قد لا يكتب شيئاً أيضاً ويكتفي بالسماع أو الاستماع.

وهذه الطريقة هي أسوأ الطرق في دراسة البحث الخارج، ويمارسها بعض الطلاب الذين إما أن يكونوا كسولين من البداية أو يعانون من إحباط وفقدان الشهية إزاء الدرس عموماً لأيّ سببٍ كان. ومشكلة هذه الطريقة أنها تفتقر إلى متابعة من الطالب قبل الدرس وكذلك بعده، فهو لا يقوم بمراجعة ما كتب أو المباحثة فيه أو نحو ذلك، وكأنّ الدرس هو لحظة زمنية محدودة تنتهي في وقتها المعيّن، ولذلك لا يبقى في ذاكرة الطلاب هنا أيّ شيء يذكر، كما أنّ الطالب لا يستفيد بهذه الطريقة من فنّ الاجتهاد والنظر.

وحتى لو قدّم الطلاب امتحاناتهم آخر السنة مثلاً، فإنّ مراجعاتهم للنصوص التي كتبوها لن يكون لها كثير فائدة؛ لأنها مراجعات مستعجلة تهدف لترسيخ الأفكار بشكل مؤقّت، أي إلى أن ينتهي موعد الامتحانات، ومن ثم لا يبقى شيء يُذكر بعد ذلك.

ولمواجهة هذا النمط المستشري في الوسط الطلابي الحوزوي ـ وكذلك الجامعي في البلدان الإسلاميّة على مستوى العلوم الإنسانية على الأقلّ ـ يمكن الاشتغال على رفع المعوقات أمام الطلاب وتوفير سياسة تشجيعية أمامهم، ووضع مشرف أسبوعي لمتابعة دروسهم معهم، الأمر الذي يضطرّهم إلى أخذ الأمور بجدّية أكبر، والأستاذ هنا نفسه يلعب دوراً في هذا المجال. لكن الأهم هو وضع سياسات استراتيجية لرفع حماسة الطلاب للمشاركة في الدرس وعشقه والميل إليه.

 

1 ـ 3 ـ الدراسة اللاحقة البَعديّة

يكاد هذا الأسلوب في الدراسة يكون هو الشائع بين الطلاب في الحوزات العلمية، وهو يقوم على عدم وجود أيّ جهود من الطالب تسبق الدرس، لكنّه أثناء الدرس يهتمّ به ويكتبه، ثم يكمل اهتمامه هذا بعد انتهاء الدرس.

وتختلف طرق الطلاب فيما يقومون به بعد انتهاء درس الأستاذ، وذلك كما يلي:

أ ـفبعضهم يقوم بمراجعة ما كتبه في المنزل كلّ يوم، ويكتفي بذلك.

ب ­ـوبعضهم الآخر يضيف إلى المراجعة إجراءَ مباحثة طلابية في متن الدرس المكتوب لديهم والذي أخذوه صباحاً مثلاً، وغالباً ما يكون الهدف من هذه المباحثة تعميق الطلاب لفهمهم ما جاء في درس أستاذهم، وفي بعض الأحيان يتعدّى الأمر إلى مجال النقد والإشكال أو مراجعة بعض الكتب والمصادر حيث يلزم.

ج ­ـويترقى فريقٌ ثالث، فيضيف إلى المراجعة والمباحثة، رجوع الطالب إلى المصادر التي اعتمدها الأستاذ وتحقيقه في الموضوع، ووصوله إلى رأي يختاره في المسألة، قد يدّونه على هامش درس الأستاذ الذي كتبه.

وهذا الأسلوب في الدراسة أفضل بكثير من الأسلوب الثاني؛ لكنّ مقارنته بالأسلوب الأوّل تؤدّي إلى ترجيح ذاك عليه، والسبب في ذلك أنّ الطالب في هذا الأسلوب (الثالث) مهما فعل سيظلّ غير قادر على التعرّف على ذاته من خلال المقارنات التي أشرنا إليها سابقاً، كما لن يعطي لنفسه فرصة البحث والتنقيب دون معونة الأستاذ، وكذلك سيكون حضوره للدرس هناك حضوراً واعياً نقّاداً فيما سيظلّ حضوره هنا للفهم والأخذ والتلقّي.

ويمكن لنا اقتراح طريقة جديدة تقوم على التفصيل، وهي:

 

1 ـ 4 ـ الطريقة الجامعة

ونقصد بها الأسلوب الذي يختاره الطالب بما يتناسب مع ما اخترناه في الأسلوب الأرجح في التدريس، بأن نقسّم البحث الخارج إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: تعليمية،يستخدم فيها أسلوب الدراسة اللاحقة البَعدية بأعلى مراتبها، مع الإلزام بكتابة بعض الأبحاث في كلّ سنة. وتستمرّ هذه المرحلة إلى ثلاث سنوات كحدّ أقصى.

المرحلة الثانية: بحثية،وتستخدم فيها الدراسة المسبقة القبلية، والتي يكون الطالب قد تأهّل لها، لتستمرّ معه ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام.

 

مستلزمات الطريقة الجامعة

وحيث إنّ أساليب الدراسة تحتوي ـ كما رأينا ـ على بعض الطرق المستخدمة في مرحلة البحث الخارج، كان لابدّ لنا من تناول هذه الطرق، وهي: كتابة الدرس، والمباحثة.

 

أ ـ كتابة الدرس (أو التقرير)

كتابة دروس أساتذة البحث الخارج من قبل الطلاب من الظواهر المشهورة في الحوزات العلمية، حتى عدّت مبدأً في حفظ الدروس، فقيل: ما كتب قرَّ، وما لم يُكتب فرَّ. وهناك من يرى أنّ أوّل من استخدم هذه الطريقة هو السيد جواد العاملي ـ صاحب كتاب مفتاح الكرامة ـ والمتوفى عام 1226هـ، حيث قام بكتابة دروس أستاذه السيد بحر العلوم (1212 أو 1213هـ).

وتعدّ طريقة التقرير هامّة جداً بالنسبة للطالب في المراحل الأولى ـ بالحدّ الأدنى ـ من دراسته العليا؛ إذ تنمّي فيه قدرة البيان الفقهيّة والأصوليّة، وتنشّط ذاكرته وتمكّنه أكثر فأكثر من هضم المطالب الواردة في الدرس. كما أنها مفيدة جداً للأستاذ عندما لا تتوفّر له الظروف لكتابته لأبحاثه ونشرها، ولهذا يعود الفضل في اشتهار ونجاح وقوّة مرجعيّة السيد الخوئي (1413هـ) إلى جملة من أفاضل طلابه الذين ساهموا في نشر فكره عبر عشرات المجلّدات التي احتوت تقريرات درسه. نعم، بعض الأساتذة يحبّ أن يكتب بحوثه بنفسه، وقد اشتهر بذلك المغفور لهما السيد محسن الحكيم (1390هـ) والشيخ جواد التبريزي (1427هـ).

وهناك عدّة طرق في كتابة الدروس، أو ما يعرف بظاهرة التقريرات، وهي:

الطريقة الأولى: أن يكتب الطالب تمام الدرس أثناء إلقاء الأستاذ، وهنا إذا كان الأستاذ بطيئاً في الكلام أمكن للطالب تغطية درس الأستاذ بأكمله عادةً فيكون أشبه بالشريط (الكاسيت) الذي يضبط كلّ ما يقوله الأستاذ. أما إذا كان الأستاذ سريعاً فإنه يصبح من العسير على الطالب تغطية كلّ ما يقوله الأستاذ، فيستعجل في الكتابة، وقد يوجب ذلك تشوّشاً في تدوين الدرس.

هذه الطريقة غير مجدية كثيراً رغم أنها الطريقة السائدة في الحوزات العلمية؛ لأنها:

أولاً:تحوّل الطالب إلى متلقٍّ يستعجل لكي يضبط ما يقوله الأستاذ.

ثانياً:إنها تقدّم لنا في الغالب نصّاً خطابياً عندما تنقل بيانات الأستاذ، وهذا النصّ الخطابي يجب أن نحوّله إلى نصّ كتابي لكي يصبح وثيقة مدوّنة.

ثالثاً:إنها توجب الاضطراب في العادة، لاسيما إذا كانت للأستاذ استدراكات على ما مضى.

ولعلّه من هنا ينقل عن الشيخ محمد الفاضل اللنكراني (1428هـ) الاعتقاد بعدم جدوائيّة هذه الطريقة، وكذلك هو رأي الشيخ بشير النجفي([40]).

الطريقة الثانية:أن يقوم الطالب في مجلس الدرس بتدوين أساسيات الأفكار ورؤوسها التي يطرحها الأستاذ، على شكل خلاصات مكثفة وموجزة، مما يسمح له بالوقت الكافي للتفكير فيما يقوله الأستاذ.

وهذه الطريقة أفضل من سابقتها، غير أنها لوحدها تفقد الطالب قدرة صياغة التقريرات والبحوث بشكل مدوّن قابل للنقل إلى الآخرين، مع أنّ هذا الأمر يظلّ حاجة ماسّة عندما لا يتوفر للأستاذ مجال نشر دراساته، فيقوم الطلاب بمساعدته في ذلك من خلال نشر تقريرات درسه، الأمر الذي لا تكفي معه مدوّنات الاختصار التي يكتبها الطالب أثناء الدرس.

نعم، هذه الطريقة تكفي لإجراء ما تقدّمت الإشارة إليه من مقارنات بين ما حقّقه الطالب من بحوث قبل الدرس وما ألقاه الأستاذ.

الطريقة الثالثة:أن يقوم الطالب بكتابة الدرس كاملاً بعد عودته إلى المنزل، وذلك من خلال طرق أربعة:

أ ـالاعتماد على حفظه فقط، فيقوم بإعادة تشغيل شريط ذاكرته ليستذكر كلّ ما جاء في الدرس ثم يقوم بصياغته في منزله.

ولكنّ هذه الطريقة، التي سمعنا استخدامها من بعض تلامذة السيد الشهيد الصدر ممّن كتب تقريرات بحوثه الأصولية، تعاني من خطر كبير، وهو عدم الدقّة وفوات بعض الأفكار التي يمكن أن يكون قد أثارها الأستاذ وتحظى بأهميّة فائقة رغم كونها جزئية وتفصيلية. إلا إذا كان الطالب فائق الذكاء وعجيب الحافظة.

ب ­ـالاعتماد على الخلاصات التي كتبها في الدرس، لتكون مثيراً لذاكرته في إعادة صياغة البحث صياغةً نهائية تدوينية.

وهذه الطريقة من أفضل الطرق التي تسمح للطالب بكسب وقته وإمكاناته في الدرس وبعده.

ج ­ـالاعتماد على ما كتبه رفاق الدرس من خلاصات أو مدوّنات، ليعيد الطالب صياغتها، دون أن يكتب شيئاً بنفسه من البداية.

وهذه الطريقة غير سليمة من ناحية الأمانة ما لم يصرّح بالمصدر، لاسيما أيضاً عندما لا تكون تلك المدوّنات مضمونة الدقة والوضوح، كما أنّها تفقد الطالب قدرة ضبط أصول الأفكار في مجلس الدرس.

د ـالاعتماد على وسائل ضبط الصوت التي تسمح بإعادة استماع الدرس مرةً أخرى لتكون كتابة التقرير في المنزل دون الدرس.

وهذه الطريقة، رغم أنها توفّر الدقة حيث يمكن التحكّم، لكنها توجب الخمول للذهن والذاكرة حيث تعوّدهما على الاستماع مرّتين للفكرة بغية هضمها وتدوينها، كما أنها تحوّل المتن المكتوب إلى أشبه بالنصّ الحرفي وإن أمكن تفادي المشكلة الأخيرة، كما أنها توجب تضييع الوقت بالاستماع مرّتين للدرس، وإن كانت جيّدة في المراحل الأولى حيث يشعر الطالب بصعوبة التقرير المباشر.

الطريقة الرابعة:أن يقوم الطالب بتدوين خلاصات الدرس في المنزل دون تدوين أيّ شيء في أثناء الدرس نفسه.

وقد اتضح حال هذه الطريقة ممّا أسلفناه في الطرق السابقة.

الطريقة الخامسة الجامعة:من هنا، فنحن نرجّح للطالب في السنة الأولى أن يستخدم الطريقة الأولى، مستعيناً بأدوات ضبط الصوت، ثم يعمد إلى اعتماد طريقة الخلاصات في الدرس والتدوين الكامل في البيت، ونرى أنّه يمكنه التحرّر من التقريرات نهائياً بعد تجربة أربع سنوات إذا أثبتت نجاحها، ليكون تفرّغه الرئيسي لمدوّنات نفسه وبحوثه.

هذا، ولابد في كتابة التقرير من الانتباه لبعض الأمور:

1 ـ تخريط البحث وتصميمه، حيث قد يتمكّن الطالب من هيكلة دراسة سنة كاملة هيكلة تقترب من النمط التدويني على شكل فصول ومباحث، لاسيما عندما يبتعد الأستاذ عن ذلك باعتماده على متن لا يفي بهذه الحال، مثل كثير من مواضع متن العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ).

إنّ تخريط البحث وتصميم هيكلٍ جديد له يوسّع أفق الطالب وينظّم تفكيره ويخلق عنده قدرات إبداعية.

2 ـالتوثيق، فعلى الطالب أن يراجع المصادر حيث يحيل الأستاذ، فلو ذكر الأستاذ رأياً للميرزا النائيني (1355هـ) مثلاً، فعلى الطالب البحث للوصول إلى مظانّ هذا الرأي ومطالعته بنفسه، ليقارن بين فهمه لنصّ النائيني وفهم أستاذه، وقد تختلف النتائج وقيمة الإشكالات تبعاً لاختلاف فهم نظريات الآخرين. وهذا ما سوف يمرّن الطالب على الرجوع للكتب والمصادر والمراجع، وتوثيق مدوّناته وتقريراته في الهوامش بشكل دقيق.

3 ـنقل بعض العبارات للفقهاء الآخرين حيث يحتاج الأمر، ولو لم يقم الأستاذ بذلك في أثناء الدرس، لكن بشرط عدم الإكثار من ذلك، وعدم كون العبارة المنقولة مطوّلة تبلغ عدّة صفحات.

4 ـالتصرّف في درس الأستاذ بالتقديم والتأخير حيث يحتاج الأمر؛ لاسيما عندما يقوم الأستاذ باستدراكات على مطالب قالها قبل أيّام.

5 ـتحويل اللغة الخطابية للأستاذ إلى لغة كتابية، وهذه مسألة مهمّة جداً.

6 ـتدوين الطالب تعليقاته النقدية أو إضافاته في هامش الكتاب ـ التقرير، شرط الإشارة إلى أنّها منه حتى لا يحدث خلط، كما حصل في بعض تقريرات دروس السيد محمّد باقر الصدر، على ما يُنقَل شفاهاً.

7 ـيُنصح الطالب بتقديم تقريراته إلى أستاذه مرّةً كلّ عام في الحدّ الأدنى والاستفادة من ملاحظاته، أو تقديمها لمن يساعده ويرشده لأخطائه من أفاضل الطلاب والأساتذة، كما ينصح بأن لا يتردّد في نشرها عند موافقة الأستاذ.

8 ـعلى الطالب، لو تقرّر نشر الكتاب ـ التقرير، أن يوفّر له مقدّمةً منه شخصياً، وكذلك فهرساً للموضوعات وآخر للمصادر في الحدّ الأدنى.

9 ـاستخدام أساليب الوضوح في العرض والبيان، والتنظيم في الانتقال من فكرة إلى فكرة، ووضع عناوين فرعيّة للبحوث تساعد على فهم ما في داخل الكتاب بطريقة سليمة ومعبّرة.

 

ب­ ـ المباحثة (العصف الجماعي المنظّم للأفكار)

تتميّز الحوزات العلمية برواج ظاهرة المباحثة فيها أكثر من سائر المؤسّسات والمراكز التعليمية التي تعرف أسلوب المباحثة، لكنه لا يعدّ عندها أساساً معمولاً به في النظام التعليمي والتعلّمي.

وتعني المباحثة ـ بمعناها العام ـ إعادة دراسة الطلاب معاً لدرس الأستاذ وتداوله والحديث فيه، وهو أسلوب قديم فيما يبدو عرفته المؤسّسة الدينية الإسلاميّة.

وللمباحثة فوائد كثيرة، أهمّها:

أ ـإنها ترسّخ المعلومات في الذهن نتيجة تكرارها وتداولها وسماعها أكثر من مرّة.

ب ­ـإنها تجلي المفاهيم والموضوعات، حيث يمكن رفع الكثير من نواقص الفهم بهذه الطريقة، فعبر تداول الطلاب هذا الأسلوب تزول مجموعة إبهامات عندهم وتتضح الصور أكثر.

ج ­ـإنها تنمّي في الطالب القدرة على تقديم الموادّ الدرسية العليا لغيره، وتؤهّله بالتدريج لممارسة التعليم في هذا المضمار، فإذا انضمّت إليها طريقة كتابة الدرس كانتا عوناً للطلاب في مرحلة الاجتهاد وتحصيل ملكته.

د ­ـإنها تساعد الطالب على التفكير وتخلق فيه الحسّ النقدي، وتدرّب المجموعة على استخدام عصف الأفكار وتنشيط القدرة التحليلية.

هـ­ ـإنها تساعد على خلق اللحمة الاجتماعية بين الطلاب أو ترسيخ هذه العلاقات الاجتماعية، وما يتركه ذلك من أثر إيجابي على الجسم والمؤسّسة التعليمية عموماً.

وتوجد عدّة طرق مقترحة ومستعملة للمباحثة في مرحلة الدراسات العليا أهمها:

 

أولاً: طريقة المباحثة اللاحقة

والأشكال المتبعة في هذه الطريقة هي:

1 ـ قراءة التقرير،وهذه الطريقة تقوم عملياً بتحويل المباحثة في هذه المرحلة إلى شكلها السابق في مرحلتي المقدّمات والسطوح، فكأنّ الطلاب لم يستطيعوا الخروج نفسياً وذهنياً من أجواء تلك المرحلة، لهذا يعمدون إلى تحويل ما كتبوه في مجلس الدرس إلى متن، ليقوموا بمطالعته وشرحه والحديث حوله.

وقد ذكر بعضهم أنّه أجرى إحصاءً لطلاب الحوزة العلمية في مدينة قم فرأى أنّ 45% منهم يعتمدون هذه الطريقة([41])، ولا أدري مدى دقّة هذا الإحصاء واشتماله على الشروط العلمية للإحصاءات الصحيحة.

وهذا الأسلوب ينمّ عن ضعف أو عن عدم قدرة الطالب على الاستقلال والنموّ؛ فهو يكرّس مفهوم مركزية المتن، ويحوّل الطلاب إلى مفكّكين للجمل يهدفون بشكل مركّز على فهم الفكرة، وكأنّ المباحثة معينٌ لفهم الدرس وعامل مساعد لتوضيح أفكاره ومعطياته.

2 ـ إعادة الإلقاء مستقلاً،وهذه الطريقة أفضل من سابقتها، لكن يمكن أن تظهر على شكلين:

أحدهما:أن يقوم أحد الطلاب متناوباً بإلقاء الدرس مرةً ثانية دون أن يستعين بالنصّ المكتوب بل يستقلّ عنه، ويستمع بقية الطلاب إليه. وهذا الشكل يقترب من نمط المباحثة للفهم كالشكل السابق.

ثانيهما:أن يصار إلى العملية نفسها، لكن لا يقتصر على بيان الدرس، ولا يكون الهمّ هو الفهم فقط، بل يفترض الباحثون أنهم فهمو الدرس وراجعوه قبل الإتيان إلى المباحثة أيضاً، بل يقصد النقد والتعليق والتحليل والتثبّث من كلام الأستاذ، فتراجع المصادر لهذا الغرض، ويتمّ التداول في صحّة كلام الأستاذ وعدمه، ويسعى الطلاب لمحاولة التفكير والتحرّر من سطوة النصّ أو الخطاب الذي تركه الأستاذ في نفوسهم، وهذا كلّه ينمّي في ذهن الطلاب قدرة النقد وإمكانية الاجتهاد، ويعمّق في الوقت نفسه الفهم ويوسّع نطاق الاستيعاب.

 

ثانياً: طريقة المباحثة السابقة

وهذه الطريقة من أفضل الطرق وأحسنها، وهي تقوم على استباق الدرس بالقيام بتحضيره من قبل الطلاب كافّة، ثم تصدّي أحدهم بالمناوبة لإلقاء البحث، وكأنّه يلقي درس الخارج محاولاً الاجتهاد فيه، ثم يقوم البقية بمناقشته والنقد عليه والتعليق ومراجعة المصادر وهكذا، ثم إذا حضروا مجلس الدرس كانت آفاقهم الذهنية مفتوحة وقدرتهم الاستيعابية والتحليلية أقوى.

وقد أجرى بعض الباحثين الموقّرين إحصاءً لطلاب الحوزة العلمية في مدينة قم، فوجد أن 34% منهم يستخدمون هذه الطريقة([42])، وهذه نسبة جيدة إذا كانت دقيقة؛ لأنّ الانطباع العام للمتابع لا يبلغ به حدّ هذه النسبة؛ لقلّة ما نصادف مثل هذا الأسلوب في المباحثة.

 

ثالثاً: الطريقة الجامعة التفصيلية (الطريقة المقترحة)

ونقصد بهذه الطريقة ما يتناسب مع ما أسلفناه سابقاً عند الحديث عن أساليب الدراسة والتدريس، من تقسيم المباحثة إلى مراحل ثلاث، هي:

المرحلة الأولى:وتستمرّ منذ بداية الالتحاق بدرس البحث الخارج وحتى ثلاثة أشهر أو ستة أشهر فقط، وتعتمد فيها طريقة المباحثة اللاحقة بشكلها الأول (قراءة التقرير)؛ لأنّ الطالب مازال جديداً على هذه المرحلة، وقد يتوه في تفاصيلها، فيحتاج في البداية إلى ضبط فهمه والإحساس بالثقة بالنفس، وهذه الفترة تعدّ كافيةً لتحصيل ذلك.

المرحلة الثانية:وتستمرّ منذ انتهاء المرحلة الأولى إلى العامين الأوّلين من دراسة البحث الخارج، وتعتمد فيها طريقة المباحثة بشكلها الثاني (إعادة الإلقاء مستقلاً)، لتتحوّل بالتدريج من مجرّد إعادة بيان إلى لقاءٍ نقدي وتعليق.

المرحلة الثالثة:وتستمرّ بعد انتهاء المرحلة الثانية لمدّة عامين على الأقلّ، وتعتمد فيها طريقة المباحثة السابقة على الدرس؛ لأنّ الطالب يكون قد نما ذهنياً وصار مستعدّاً لمثل هذه الخطوة.

 

اللوازم التنظيميّة للمباحثة

ثمّة توصيات ضرورية للطلاب في هذا المجال، نجد أنّ ذكر بعضها لا يخلو من فائدة، وهي:

1 ـ ضبط مدّة المباحثة،فالعديد من الطلاب عندما يجلسون للمباحثة قد تطول بهم جلستهم هذه الساعات أو يقضون سهرةً ليلية كاملة، وهذا الأفق المفتوح له سلبياته وإن كانت له بعض الإيجابيات، لهذا فالمفترض وضع وقت محدّد تنتهي عنده المباحثة ليتدرّب الملقي وغيره على التكيّف مع الوقت، وكي يكون للطلاب أنفسهم فسحة من وقتهم لسائر اهتماماتهم العلمية والشخصيّة.

2 ـ ضبط توقيت المباحثة وحُسن اختياره،حيث لابدّ أن يكون في وقتٍ لا يكون فيه المشاركون متعبين، بل تكون لديهم حيويّتهم الكاملة، وهو أمر نسبيٌّ لابد من الاتفاق عليه بين المشاركين.

3 ـ ضبط عدد المشاركين،بمعنى أن لا يكون العدد بحيث تلزم الفوضى وضياع فائدة المباحثة في مداخلات كثيرة قد تشوّش الذهن، وتحديد العدد قلّةً وكثرة أمرٌ تابع للأمزجة وطرائق تنظيم مجلس المباحثة.

4 ـ ضبط نوعية المشاركين،حيث لابدّ من الانسجام الروحي والنفسي بينهم ولو ضمن الحدّ الأدنى منه، كما لابدّ أن تكون شخصياتهم منسجمةً في مجال أخذ المباحثة بجدّية واعتبارها نشاطاً علمياً جاداً لا مجلساً للتسلية وتناقل الحديث كيفما كان أو تمضية الوقت. ومن الجيد أن يكون المشاركون مختلفين في المزاج الفكري والمنهجي، فبعضهم ذو نزعة عرفية وآخر ذو نزعة دقيقة تحليلية وبعضهم ذو ميول سندية وآخر صاحب ميول متنية، وبعضهم ناقد وآخر مدافع، حتى يكون في تضارب الرأي الناتج عن هذا الاختلاف فائدة للجميع.

5 ـ توفّر المصادر على مقربة من المشاركين،ولو عبر أجهزة الكمبيوتر حيث يسهل الوصول إليها لإنجاح خطوات المباحثة جميعها.

6 ـ تقييم المباحثة دورياً أو القيام بمراجعة،بمعنى أن يُصار إلى تقييم مجلس المباحثة كلّ ثلاثة أشهر، أي كلّ فصل دراسي، لمتابعة عناصر نجاحها وضعفها بهدف تطويرها باستمرار.

7 ـ نقد المستمعين للمُلقيفي خصوصيات إلقائه وطريقته في العرض والبيان، بهدف تنمية قدراته البيانية في هذا الصدد.

8 ـ مشاركة الأستاذ حيث يمكنفي مجلس المباحثة؛ لإعطاء ملاحظات أو تقديم مقترحات أو تشجيع أو نحو ذلك.

9 ـ تأمين المكان المناسب مادياً ومعنوياًبحيث يعطي مجالاً للتركيز والتأمّل، ولا يكون ـ مثلاً ـ مليئاً بالضجيج وما يوجب تشويش الذهن وتشتّت العقل. ولو كان هذا المكان هو بيوت الطلاب بنحو المناوبة فمن الضروري أن تراعى الضوابط الأخلاقيّة، وأن لا يثقل على زوجة صاحب البيت وأهله في الإعداد للوازم هذا الأمر، أو جعل الوقت غير مناسب لهم؛ بل يستعان أيضاً بأخفّ أنواع الضيافة حتى لا يشعر أحد المشاركين غير المتمكّنين مادياً بالحرج أمام البقية، أو تجهيز صندوق مشترك بين الجميع.

10 ـ تنظيم المشاركات في المباحثةحتى لا تقع فوضى تشوّش الذهن وفي الوقت عينه يصل التناوب للجميع، وهذه قضية تختلف باختلاف الأمزجة، ولها سُبُل كثيرة.

11 ـ تشكيل أمانة سرّهدفها تدوين تقريرٍ مختصر جداً عن كلّ لقاء مباحثة كي يبقى في الذاكرة، وقد يحتاج لعرضه على الجهات الإدارية والتعليميّة، حيث تضبط فيه أعداد المباحثات وموضوعاتها وبعض النقاط السريعة فيها.

 

 

2 ـ الطالب (التلميذ)، مواصفاته ووظائفه

كما كانت للأستاذ والمعلّم خصائص وسمات ووظائف وواجبات، كذلك الحال في التلميذ ـ الطالب، حيث ينبغي له أن يتحلّى بمجموعة صفات ويقوم بمجموعة وظائف في هذه المرحلة بالذات.

وأبرز ما يمكننا أن نشير إليه هنا سريعاً؛ لأنّ هذا الموضوع طويلٌ وأساس في حدّ نفسه، ما يلي:

أ ـ البناء الذاتي الأخلاقي،حيث يكمن رصيد طالب العلوم الدينية في تربيته الأخلاقية والروحية، إن على المستوى الذاتي أو على المستوى العلائقي الاجتماعي، ومن أهم ما ينبغي أن يتحلّى به الطالب قصد القربة إلى الله تعالى فيما يفعل ويبحث ويدرس ويدرّس وغير ذلك، وكذلك تجنّب كلّ أشكال الحسد والضغينة والكيد لأقرانه، وحُسن الظن، والحمل على الأحسن، وتجنّب الغضب وسرعة الانفعال، والتماس العذر للمسلم، ورفع حسّ التعاون بينه وبين أقرانه، والاعتراف بالخطأ والنقص حيث يلزم، وعدم العناد على رأيه وفكره، وغير ذلك من محاسن الأخلاق ومساوئها.

والناس يهمهم سلوك طالب العلم أكثر ـ أحياناً ـ من علمه، ويحسن هنا مراجعة ما كتب في هذا المضمار عند علماء الأخلاق، لاسيما كتاب (منية المريد في أدب المفيد والمستفيد) للشهيد الثاني (965هـ)، وكتب: (الجهاد الأكبر)، و(الأربعون حديثاً)، و(جنود العقل والجهل)، للسيد الخميني (1410هـ)، وغيرها من الكتب.

ب ـ كسب المهارات،كما ألمحنا سابقاً في مرحلة السطوح، وذلك في مجال التخطيط الاستراتيجي، والتواصل، وبناء الذات، والنشاط الإعلامي، والإدارة، وأساليب التربية والتعليم، والمهارات الاجتماعية، وفنّ الكتابة والبحث، وفنون الجدل والحوار، وفنّ الترجمة، وفنّ تحقيق التراث، وغير ذلك..

ج ـ البرامج العلميّة المساعدة،بمعنى أن لا يكون الطالب أسير علمَي: الفقه والأصول وإن كانا تخصّصاً له، بل يضع لنفسه برنامجاً يومياً لتنمية معلوماته في مجالات مثل: القرآنيات، والتفسير، والحديث، والرجال، والتاريخ، والسيرة، والعقليات كالمنطق والفلسفة بمعناهما العام، وعلم الكلام القديم والجديد، والقانون الوضعي، والملل والنحل والأديان والمذاهب، وتاريخ العلوم، وعلم الاقتصاد، وعلم الفلك، وعلم النفس، وعلم الاجتماع.. ولا يُطلب منه أن يكون متخصّصاً فيها، بل أن يطّلع عليها. وكذلك أن يتابع جديد الفكر والثقافة ممّا يخصّ الدين وقضاياه، مثل ما يكتبه الغربيون والنقّاد والتيارات العلمانية النقدية، وأن يكون مواكباً لآخر الإصدارات في مجال الكتب والمجلات والصحف الثقافيّة وغير ذلك.

د ـ الإحساس بالجدّية في طلب العلم،وأن لا يعيش الهزال وتمضية الوقت فقط في رحلته العلمية، وأن يدرك بالوجدان أنّ العلم لا يعطيك بعضه إلا أن تعطيه كلّك، فإذا أعطيته كلّكَ فأنت من إعطائه لك بعضه على خطر، ومن مظاهر الجدّية التزام الحضور للدرس والمباحثة، والإحساس بالمسؤولية تجاه ذلك.

هـ ـ احترام الأستاذ وتقديره وشكره وذكر فضله عليه، والدعاء له بالحفظ أو الترحّم عليه والترضّي، والتصرّف بأخلاقية كاملة معه،لكنّ ذلك لا يعني التقديس أو أن يصبح الطالب فاقد الوعي أمام أستاذه يديره كيفما شاء، بل المطلوب أن تكون للطالب شخصيّته التي تميّزه عن غيره ويبنيها بنفسه.

و ـ التصدّي للتدريس ولو أثناء الدراسة؛لتقوية ذاته حيث يكون مؤهلاً لذلك، لأنّ في التدريس بناءً لشخصيته العلمية والذاتية، شرط أن يملك الحدّ الأدنى من الفهم والعلم والمهارة والبيان، وإلا شملته الحكمة التي تقول: من تصدّى قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه([43])، مضافاً إلى تأثيره السلبي على عملية نقل المعلومات والخبرات إلى الجيل اللاحق([44]).

ز ـ التزام الجدّية في التحصيل الواقعي لا الظاهري،بمعنى أن لا يكون المهم لديه تحصيل الدرجات العالية في الامتحان فقط، أو الحصول على الشهادات والإفادات الرسميّة، بل إنّه يقصد ـ إلى جانب ذلك ـ هضم المطالب واستيعابها وفهمها واقعاً، وأن يدرك أنّ هذا هو المعيار في صدق كونه طالباً للعلم، فضلاً عن صدق كونه عالماً فيما بعد.

ح ـ وضع جدول زمني لنفسهفي برامجه العلميّة، وعدم ترك الأمور مفتوحةً على المجهول.

ط ـ اعتبار تدوين رسالة الماجستير أو بحث تخرّج البكالوريوس أو أطروحة الدكتوراه فرصةً ذهبيةثمينة لتنمية طاقاته الذهنية والكتابية، وعدم التعامل معها بوصفها مجرّد وظيفة يؤتى بها لكسب درجة معيّنة، ثم وضعها في أدراج مكتبه بلا نشر ولا فائدة، لهذا عليه اختيار الموضوع المفيد والمنتج.

ي ـ التصدّي للشأن العام بشكل منظم وضمن حدود،وعدم الغياب لفترات طويلة عن الواقع، والعيش مع الناس وهمومهم وتساؤلاتهم وإشكالاتهم؛ لأنّ للعزلة مخاطرها الخاصّة لاسيما الفكرية منها، والاندماج الإيجابي بالمجتمع يوضح الصورة ويركّز الاهتمامات الصحيحة عند طالب العلم.

ك ـ عدم الاستعجال في التصدّي للشأن العامقبل تحصيله حداً متوسّطاً من العلم والتجربة، ولهذا لا ينصح بلبس اللباس الرسمي لعلماء الدين (العمامة) قبل ذلك، لاسيما في مثل أعصارنا هذه، كما أنّ ثقافة العقدة من اللباس الديني ليست صحيحة، خلافاً لما نراه عند البعض، فلا إفراط ولا تفريط، وخير الأمور أوسطها.

 

المحور الثالث:الإدارة الحوزوية والدراسات العليا (البحث الخارج)

ما أسلفناه سابقاً كان حديثاً عن التعليم والتعلّم، وعن المعلّم والمتعلّم، من حيث الأشكال والأساليب والأهداف والخصائص والوظائف والواجبات والحقوق وغير ذلك، لكنّ النظام التعليمي لا يقوم على هذين الركنين فقط: المعلّم والمتعلّم، بل هناك ركنٌ ثالث رئيس، هو الجوّ والمحيط التعليمي الذي تمسك الإدارة التعليمية بزمامه؛ لهذا لابدّ لنا من أن نتحدّث باختصار شديد عن الواجبات والضرورات التي تقع على كاهل إدارة الحوزات الأم خصوصاً، وسائر الحوزات الفرعية كذلك، ونشير هنا إلى بعض الأمور:

1 ـ الإشراف والرقابة

تلعب الإدارة الحوزوية دوراً رئيسياً في الإشراف والمراقبة على سير العملية التعليمية، فترصد أداء الطالب والأستاذ وتراقب نشاطهما في الميدان التعليمي، لتقوم بدورها في النقد والتقويم، وملاحظة عناصر القوّة والضعف، ووضع خطط سنويّة لتنظيم الدروس والموادّ.

وفي هذا السياق، تأتي ضرورة رصد الحضور والغياب للأستاذ والطالب معاً، والسعي لتخفيف العُطَل الكثيرة التي ابتليت بها بعض الحوزات العلمية؛ للوصول إلى مستوى جيّد ومعقول من الدرس السنوي، حيث يجب في تقديري على إدارة الحوزة السعي لمحاربة ظاهرة العطل العشوائية والاستنسابية ووضع نظام واضح وجلي في هذا المضمار.

وفي هذا السياق أيضاً، يأتي موضوع نظام القبول والانتساب وشروطه([45])، مع فتح المجال واسعاً للحوزات النسائيّة، ومسألة الامتحانات التي ندافع عن وجودها وقوننتها ووضع معايير واضحة لها، في الوقت الذي نرى أنه من الخطأ اعتبارها النهاية أو الغرض الأقصى.

وفي هذا السياق كذلك، تأتي مسألة منح الشهادات ليكون للطالب المقدرة على العمل في بلده من موقع رسمي قويّ.

وفي سياق الإشراف، هناك ضرورة للإشراف النفسي والتربوي على الطلاب؛ ليكونوا في وضعٍ نفسي وروحي سليم، وترويج ثقافة الاهتمام بهذا الجانب وعدم الخجل منه، خلافاً لما هو السائد في ثقافتنا العامة في بلاد المشرق. إنّ الإشراف التربوي والنفسي منذ المراحل الأولى للدراسة يساعد على كشف الميول والطاقات، فيرشد كلّ طالب إلى حيث ينبغي أن يكون في التخصّص والعمل.

 

2 ـ الإشراك في القرار

فيما يخصّ الحوزات الكبرى التي ينضوي تحتها عددٌ وافر من الطلاب والأساتذة من مختلف البلدان والدول، كجامعة المصطفى العالمية في مدينة قم، والحوزة العلمية في مدينة النجف، من الضروري إشراك الجاليات في القرارات الإدارية ذات الطابع الاستراتيجي؛ لأنّ ذلك حقٌ طبيعيّ لهم، ويوفّر الوقت في وضع الخطط الناجعة.

 

3 ـ مبادئ التغيير الحوزوي المناهجي والعام

تقوم عملية التطوير الحوزوي المناهجي العام، وكذلك التخطيط الكلّي([46])، على مبادئ يجب أن تأخذها الإدارة بعين الاعتبار وأهمها:

أ ـ الأهداف،حيث ينبغي وضع أهداف استراتيجية واضحة، وأخرى مرحلية كذلك، فهل نريد تخريج مجتهدين أم لا؟ وهل نريد فلاسفةً أم لا؟ وهل نريد دعاةً ومبلّغين أم لا؟ وهل نريد منتجين علميين أم مستهلكين لمنتج علمي ناجز في مكان ما؟ وهكذا.. فهذه الأسئلة يجب وضع أجوبةٍ واضحة جليّة فيها، وقد يختلف جوابها من جاليةٍ إلى أخرى في الحوزات الكبرى كما في قم والنجف، فقد يحتاج الإفريقي ما لا يحتاجه العراقي والعكس قد يكون صحيحاً، كما لابدّ من رصد مديات الحاجة، فإلى أيّ مدى نحن بحاجة إلى فقهاء أو إلى متكلّمين أو إلى دعاة أو إلى فلاسفة أو مفكّرين سياسيين أو اجتماعيين..؟ فتعيين الأهداف ورصدها، وترتيبها وفق الأولويات، وتحديد مدياتها ومساحاتها، ضروريٌّ للغاية وفي نهاية التأثير.

ب ­ـ الإمكانات،ففي الإدارة الحوزوية يجب الكشف عن الإمكانات التي نملكها من الناحية المادية والمعنوية، وعلى مستوى الطاقات البشرية، لنتحرّك واقعياً وفقاً لما يتوفّر لنا، لتكون الأهداف متناسقةً مع الإمكانات، فلا نضع أهدافاً خياليّة نأسر أنفسنا فيها كدودة القز، فتترك فينا بعد العجز عن تحقيقها شعوراً بالإحباط والفشل.

بل من الضروري العمل على خلق إمكانات وتوفير طاقات إذا كان هناك نقصٌ في هذا المجال، ووضع خطط لهذا الأمر بخصوصه، كتوفير عددٍ من الأساتذة في التخصّصات المختلفة.

وفي مجال الإمكانات يجب أن ندرك أنّ رصد الواقع ضرورة بالغة، فالمناهج والخطط التعليمية لا توضع للأذكياء المتفوّقين فحسب، كما نجد في بعض الكلمات هنا وهناك، بل توضع للحالات دون المتوسّطة بقليل في الحدّ الأدنى وصولاً إلى الحالات المتفوّقة([47]).

ج ­ـ العوائق والتهديدات،حيث لابدّ لنا أن نحدّد ما هي المشاكل التي تواجه المشروع الحوزوي؟ مثلاً، هل تشكّل الجامعة العصرية تهديداً للحوزة العلمية؟ هل يشكّل الوضع السياسي تهديداً كذلك؟ هل تشكّل الأحزاب الدينية تهديداً أم فرصة؟ كيف يمكن التعاطي مع هذه التهديدات؟ وما هي الأحجام التي تلعبها هذه العوائق على مستوى الخطورة؟ هل المناخات الحوزوية الخاصّة والخلافات الداخليّة تشكّل تهديداً وكيف نتعامل معه؟

د ـ المدد الزمنية،حيث لابدّ في الإدارة الحوزوية من التفكير بعقلية المدد الزمنية لأيّ مشروع، بحيث يتمّ اختباره وتجربته وفقاً لهذه المدد المعقولة؛ فلا يصحّ فتح ساعة الزمان إلى ما لا نهاية، بل إنّ وضع إطار زمني معقول لكلّ مشروع ورصد النتائج بعد هذه المدّة الزمنية يظلّ ضرورياً في هذا المضمار، للكشف عن مديات النجاح والفشل واستغلالاً للوقت أيضاً.

هـ­ ـ بناء الكادر الإداري والتعليمي،وهذه من أعقد مشاكل الحوزة العلمية، حيث يتولّى الإدارة فيها أحياناً من لا خبرة له بالإدارة وعالمها وفنّها وطرقها وأساليبها، فيقوم بالتدرّب على العمل الإداري ويتخذ غيره مختبراً له يتدرّب به؛ لهذا من الضروري أن يُرسَل كادر كبير فاهمٌ بالوضع الحوزوي وخصوصياته ليدرس ويتدرّب ويتمرّن على العمل الإداري وفنونه وأشكاله في الجامعات أو في أيّ بلد إسلامي وغير إسلامي، وبعد تكوينهم الخبرة الكافية يصار إلى الإفادة منهم لوضع الخطط والبرامج وغير ذلك داخل الحوزة العلمية، بما يتناسب مع خصوصياتها ووضعها الخاص.

وفي هذا السياق، لا بأس بذكر مثال ليس بعيداً عن الموضوع، وهو أنّ الحوزة العلمية في مدينة قم في إيران، ورغم دخولها مشروع الرسائل الجامعية وبحوث التخرّج (بكالوريوس ـ ماجستير ـ دكتوراه)، إلا أنّ الكادر المتوفّر من الأساتذة المشرفين أو المعاونين على هذه الرسائل، بعضهم إما لا يؤمن بأصل هذا المشروع أو لا يملك خبرة الكتابة الأكاديمية، فيكون أستاذاً لمادّة لا يعرف عنها الكثير، وهذا ما كان أحد الأسباب في خروج عدد ليس بالقليل من الرسائل الجامعية الحوزوية مما لا يحوي قيمةً هامّة، أو يشتمل على سرقة فاضحة من نصوص ومقالات وكتب موجودة، أو أغلبه جمع ولصق هو أقرب لتجميع البطاقات المقمّشة منه إلى صياغة علمية جامعة، وقد كان من الضروري ـ لو أمكن ـ أن يصار إلى تدريب الأساتذة في المرحلة الأولى، ليمكن لهم الخدمة الفاعلة والمنتجة في هذا المضمار فيما بعد.

و ـ المراجعة الدائمة،والتي تقضي بضرورة نقد الذات كلّ مدّة، والتشاور في هذا الأمر، وتفعيل هذا النقد على المستوى العام، وقيام علاقاته مع الكادر التعليمي على أساس الاحترام، ليشعر من هو في إدارة الحوزة أنّه في غير مأمن من الناس إذا أخطأ أو قصّر أو قصرت طاقته، مما يلزمه بتحسين وضعه أو التنحّي، بدل أن يبقى في موقع السلطة والنفوذ ولا يُزحزح من مقامه إلا بما لا يرضاه له أحد.

إنّ هذه العناصر الستة تظلّ أساسيةً في التخطيط العام، ومن ثم لابدّ من تجاوز المقولة المكرورة التي كانت تنادي بأنّ نظم الحوزة في عدم نظمها، أو أنّ خراب الحوزة في عمارها، فإنّ هذا لو تجاوزنا تناقضه وما يحويه من مفارقة، لم يعد ينفع في أيّامنا هذه، حيث صار تنظيم الحوزة ضرورة لا ينبغي تركها، على حدّ تعبير السيد الصدر([48]).

 

4 ـ مجالات التغيير والتطوير

لا يمكن تحقيق المشروع التغييري في الحوزات العلمية إلا بإجراء تغييرات في الفرد والجماعة، تشمل عدّة أمور أبرزها ما يلي:

أولاً: القناعات،فما لم تتغيّر القناعات والفهوم والأفكار، من الصعب إجراء تغيير عملي، مثلاً يجب تغيير الفكرة التي تقول بأنّه لا مشكلة في الحوزة، فلو بقيت هذه الفكرة فلن يمكن إجراء إصلاح مناهجي. ويجب تغيير الفكرة التي تقول بأنّ الحوزة أفضل من أيّ مؤسّسة علمية أخرى في العالم بحيث لا تحتاج إلى أحد. ويجب تغيير الفكرة التي تقول بأنّ كلّ المشاكل يمكن حلّها بالرجوع فقط إلى الآيات والروايات دون مساعدة العقل الإنساني في وضع الخطط والبرامج، إلى غيرها من عشرات الأفكار التي تعشعش في الوعي الحوزوي العام، رغم تراجع الكثير منها في العقود الأخيرة.

إنّ الكثير من الفشل يكمن ـ أحياناً ـ في وجود مفاهيم معيقة للتقدّم، ولهذا يكون الإصلاح الفكري مقدّمةً لزحزحة هذه المفاهيم، كي يمكن بعد ذلك السير في خطى التقدّم والرقي. وربما يكون هذا هو ما قصده الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، من ذهابه إلى أنّ إصلاح الثقافة الحوزوية الشائعة يجب أن يسبق إصلاح النظام التعليمي([49]).

ثانياً: الاهتمامات،فما لم تصوّب اهتمامات الطلاب والأساتذة والكادر العام، من الصعب إجراء تغيير حقيقي، مثلاً الاهتمام الفقهي والأصولي إذا سيطر على اهتمامات الحوزويين شكّل كارثة؛ لأنه سوف يتسبّب بتلاشي العلوم الدينية والإنسانية الأخرى كالفلسفة والكلام والأخلاق والعرفان والتاريخ والسيرة والمنطق والحديث والتفسير والرجال والقرآنيات، وغير ذلك، فضلاً عن الدراسات الجديدة. كما أنّ تركيز كلّ الاهتمام على الصراع مع تيّار بعينه في الأمّة ـ كالتيار السلفي مثلاً ـ يوجب ضمور طاقاتنا إزاء سائر الجبهات كالتيار العلماني مثلاً، فمن الضروري رفع مستوى الاهتمامات والطموحات من جهة، وإيجاد تنويع فيها وتوزيع للأدوار، بحيث تقدر الحوزة نتيجة ذلك على تغطية مساحة أكبر من الواقع.

ثالثاً: القدوات،وهذه نقطة خطيرة ولها حساسيتها الداخلية. يجب أن نحدّد للطلاب والأساتذة القدوة التي ينبغي العمل للسير خلفها ونحوها ـ ومن ثم تخطّيها ـ من العلماء عبر التاريخ، وإن كان جميعهم خيراً لنا إن شاء الله، لكنّ تعويم بعض خاص ليكون قدوةً لنا في هذا العصر قد يشكّل خطراً كبيراً ما لم نحدّد زاوية الاقتداء ومركزه، فالقدوات المطلقة هم المعصومون لا غير، وكلّ من سواهم يكون الاقتداء به مقيّداً، ولا أريد أن أدخل في أمثلة هنا؛ لأنّ ذلك قد يكون مثيراً للبعض، لكن ما أريده هو تعويم أكثر لقدوات نافعة لنا في هذا العصر، مثل ـ من وجهة نظري ـ الإمام الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد صادق الصدر، والشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ مرتضى المطهري، والدكتور علي شريعتي، والسيد محمد حسين البهشتي، والعلامة محمّد حسين الطباطبائي، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والشيخ أحمد الوائلي، والسيد موسى الصدر، و.. لأننا نحتاج هذا الأنموذج اليوم.

ولا يعني جعله قدوةً أنه لا يخطئ، أو أنّنا لا نختلف معه في بعض أفكاره أو في كثير منها، أو أنّ ما أتانا به ـ علماً وعملاً ـ صار كافياً لنا، بل هذه من الأفكار الخاطئة التي ينبغي تغييرها في عقولنا، وإنّما نقصد اعتباره أساساً صالحاً للانطلاق للمزيد من التطوير والتقديم. والخطأ في تحديد القدوة قد يوقع في مشاكل بالغة الخطورة.

كما لا يعني ما قدّمناه من ترجيح قدواتٍ بعينها إلى إهانة قدوات أخَر أو سلبها حقّها في الحضور بما يتناسب مع حجمها العلمي والعملي، فالجميع محترمون محفوظةٌ حقوقهم علينا كافّة.

رابعاً: المهارات،كما أشرنا من قبل، إنّ الحوزة اليوم بحاجة إلى ثورة في المهارات على مختلف الصعد ذات الصلة بعملها ونشاطها، للخروج بجيلٍ فاعل ونشط وحركيّ وفيّاض بالعمل والإنتاج، فتغيير المهارات من مبادئ التطوير ومن مجالاته أيضاً.

خامساً: العلاقات،حيث ينبغي إحداث تغيير في شبكة العلاقات، فبدل أن تظلّ علاقات الطلاب منحصرةً ببعضهم، لاسيما في مرحلة تصدّيهم للبحث والدراسة في الحواضر العلمية الكبرى التي يسافرون إليها مثل مدينتي: قم والنجف، يجب على الدوام مدّ جسور العلاقات مع شرائح علمية مختلفة من الجامعيين وأهل الشعر والأدب والفنّ والتجربة لتتسع مداركهم وعقولهم، وكذلك سائر الحوزات في العالم.

وقد لاحظنا في الفترة المتأخرة، ومع الأسف الشديد، كيف أنّ طالب العالم صار يبني شبكاته الاجتماعية على أساس الانتماءات السياسية والفكرية والثقافية، فتقلّصت علاقاته حتى في الداخل الحوزوي، وهذا ما يساعد على المزيد من ضيق الأفق و..

من هنا، من الضروري للإدارة الحوزوية أن توفّر للطلاب والأساتذة على الدوام رحلات علمية وثقافية يسافرون فيها للتعرّف على حواضر علمية أخرى داخل العالم الإسلامي وخارجه، أو يَفِدون عليهم ـ عبر المؤتمرات ـ بشخصيات من الخارج تختلف عنهم نمطاً وفكراً وعلماً، فتحصل أشكال التواصل الاجتماعي والثقافي الذي يمكن أن يستمرّ لاحقاً من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالشبكة العنكبوتية (الانترنت) والتلفون وغير ذلك.

إنّ السفر إلى خارج محيطنا ضرورةٌ بالغة، فكم هي فائدة أن نوفّر للطلاب بشكل متناوب أسفاراً للتعرّف على الأزهر([50])أو جامعات ماليزيا أو تركيا أو الشمال الإفريقي وغير ذلك، فتتفتح الأذهان ويتواصل المسلمون فيما بينهم، وهكذا إلى سائر مراكز العلوم الدينية في الغرب، فيكتسب الطالب المزيد من المعرفة ويثبت في المقابل حضوره حيث يذهب.

سادساً: التخصّصات والموادّ الدرسية،وذلك يكون عبر إضافة موادّ جديدة إلى الدرس الحوزوي، لا تقف عند الفقه والأصول، بل يضاف إليهما علوم القرآن، والحديث، وعلم التفسير، وعلم الرجال، وعلم التاريخ، وعلم السيرة، وتاريخ العلوم الاسلامية، وعلم المنطق والفلسفة بمعناهما الواسع الشامل للفلسفة الوجودية والمعرفية وللفلسفة المطلقة والمضافة، وعلم الكلام والعقيدة الجديد والقديم، وعلم الملل والنحل والأديان والمذاهب، وعلم الأخلاق، وعلم العرفان والتصوّف، وغير ذلك، لتكون هذه الموادّ الدرسية مع الطالب بحيث يمكن التخصّص فيها، وتقام لها في الحوزات مراحل الدراسات العليا والبحث الخارج أيضاً.

إنّ فتح مجال التخصّص في الدراسات الدينية بالغ الأهمية، وقد أخذت الحوزة العلمية منذ عقد من الزمن بالتوجّه نحو هذا المشروع الكبير، وهي تواجه مشاكل متعدّدة في هذا السياق، كفقدان الكتب الدرسية المخصّصة لهذا العلم أو ذاك، وفقدان العدد الكافي من الأساتذة لتغطية عدد الطلاب المنتمين إلى هذا الفرع الدرسي أو ذاك.

إننا نؤمن بالتخصّص أن يطال الفقه وعلومه أيضاً، فهناك مجالات في الفقه نفسه تحتاج إلى تعمّق وتخصّص كالفقه السياسي، وفقه الدولة، والفقه الاجتماعي، والقواعد الفقهية، وآيات الأحكام (الفقه القرآني)، وتاريخ علم الفقه والأصول، وعلم الفقه والقانون والحقوق العصرية، والفقه والأصول المقارن داخل المذاهب والأديان وبين الإسلامي والوضعي، وغير ذلك.

والتخصّص لا يعني أن يصير الإنسان جاهلاً بالمجالات الأخرى، فهذا المفهوم نعارضه في الدرس الحوزوي؛ لخصوصية الملفات البحثية الدينية، بل يعني أن يحمل الإنسان في حياته ملفّات يركّز جهده عليها، ويتناول البقية بطريقة أخفّ.

وإلى جانب ذلك، هناك الموادّ المساعدة التي أشرنا إليها من قبل، والتي تساعد الباحثين على تحقيق موضوعات الأحكام وغيرها، مثل علوم الفلك، والطبّ، والرياضيات، وقضايا البنوك، والبيئة، وغير ذلك، ممّا كان العلماء المتقدّمون ـ كما يقول بعض المعاصرين([51])ـ يهتمّون به ويدرسونه كالهيئة والرياضيات والطب وغيرها، ممّا يحتاج بعضه إلى دورات سريعة وبعضه إلى برامج سنويّة أو نصف سنويّة كاللغات.

 

5 ـ مشاريع الدعم والتشجيع (خلق الحوافز وتوفير الإمكانات)

الدعم والتشجيع وخلق الباعث وتوفير الحوافز من أولى مهمّات الإدارة الحوزوية الناجحة، ويمكن أن يتمّ ذلك عبر أمور كثيرة، نذكر منها باختصار:

أ ـ إقامة المؤتمرات والملتقيات التكريميةكلّ عام، لتكريم أفضل الأساتذة، وأفضل الكتّاب، وأفضل الخطباء والمنبريين، وأفضل المبلّغين في الخارج، وأفضل التلامذة، وأفضل الناشطين الثقافيين و.. فإنّ هذا التكريم عندما تتمّ تغطيته إعلامياً بالشكل المطلوب، ويقدّم فيه الدعم المادّي للطالب على شكل جوائز وهدايا، سوف يبعث على التشويق والتشجيع ويخلق الشعور بالرضا في النفوس، وكذلك إقامة المسابقات العلميّة.

وقد أجادت جامعة المصطفى العالمية والحوزة العلمية في مدينة قم خلال العقدين الأخيرين في هذا المجال، فجزاهم الله خيراً.

ب ­ـ دعم نشر الطلاب لأعمالهم العلمية المرئية أو المسموعة أو المكتوبة.. في بلدانهم وغيرها،حيث قد يصعب عليهم نشرها وتوزيعها، من هنا من المميّز أن يصار كلّ عام إلى انتخاب أفضل الأطروحات في مرحلة الدراسات العليا مثلاً لتبنّي طباعتها ونشرها وتكريم كتّابها وإجراء احتفالات توقيع لهم.

ج ­ـ التعريف بالطلاب والأساتذة إعلامياً،من خلال توفير المجال المناسب لهم للظهور في وسائل الإعلام أو على أوراق الصحف والمجلات، والسعي لحثهم لخوض هذه المجالات بجدارة.

د ـ تسهيل مشاركة الطلاب والأساتذة في مؤتمرات أو ملتقيات في الداخل والخارج؛لكسب الفائدة وإثبات الحضور معاً.

هـ ـ التواصل مع الخرّيجين بعد عودتهم إلى ديارهم؛لدعمهم حيث يلزم ويمكن، وإخبارهم بكلّ المستجدات في الحوزة العلمية التي درسوا فيها ولو عبر نشرات خبرية علمية ترسل على الانترنت على شكل مجلات الكترونية، ليبقى الطالب على صلة بالمنجزات والوقائع في الحوزة العلمية.

و ـ توفير الإمكانات الماديّة،بأن تتولّى الإدارة الحوزوية قدر استطاعتها توفير الإمكانات للجسم الحوزوي للتقدّم والاستمرار في البحث والدرس والنهوض، وذلك من خلال توفير الإمكانات المادية: بمساعدة الطلاب مادياً حيث يحتاجون، وتأمين المكتبات العامة وشبه العامة لهم من ذات النسخ الورقيّة إلى المرئيّة والمسموعة. وكذلك تأمين التقنيات العلمية الحديثة بين أيديهم، مثل البرامج الكمبيوترية العلمية والحوزوية (بنوك المعلومات). وكذلك توفير ما يمكن لهم؛ لراحة نفوسهم من خلال الرحلات الترفيهية والبرامج العائلية ونحو ذلك.

وهكذا الحال على خطّ توفير الإمكانات البشرية، من خلال وضع برامج لتأمين الأساتذة المختصّين بالمجالات المختلفة المشار إليها سابقاً، وكذلك الكادر الإداري كما شرحنا من قبل.

ز ـ الدفاع عن الطلاب، عبر حملهم على الأحسن حيث يمكن، ومساندتهم في مشاكلهم القانونية والقضائية، وحماية حقّهم في الرأي والفكر وإبداء النظر والاختلاف، والدفاع عن منجزاتهم من خلال منع سرقتها من قبل أيّ كان. وقبل كل شيء الدفاع عنهم أمام أنفسهم أيضاً وحمايتهم من الانحراف السلوكي والأخلاقي والروحي، وإصلاح ذات البَيْن.

 

6 ـ الحفاظ على كيان الحوزة العلمية

يمكن أن يتمّ الحفاظ على كيان الحوزة العلمية، بوصفه مؤسّسة تعليميّة وبحثيّة إنسانيّة، عبر:

أولاً: استقلالها الفكري وعدم تبعيّتها،لا بمعنى عدم الاستفادة من سائر المؤسّسات التعليمية والبحثية، بل بمعنى أن تسعى إدارة الحوزة أن لا تجعل من الحوزة مجرّد صدى للآخرين، تتبع تطوّرهم العلمي وتستنسخ تجاربهم، وهذا لا يكون إلا بتقدّم الحوزة علمياً وإدارياً لتبلغ هذه المرحلة إن شاء الله.

ثانياً: ومن نتائج استقلالها الفكري أن يصار إلى حفظ خصوصيّتها،فنحن وإن كنّا ندعم تنظيمها ووضع خطط وبرامج لها، لكن ينبغي أن لا يصار إلى التعامل معها دون أخذ بعين الاعتبار لخصوصيتها وطبيعة علومها وتراثها وتاريخها، ونرى أنّ تحويلها إلى النمط الجامعي تماماً واستعارة المناهج الجامعيّة استعارةً حرفيّة، قد أثبت فشله خلال العقدين الأخيرين، فلابدّ من الجمع بين خصوصيّاتها وبين النمط الجامعي السائد، حيث يخشى من أن يصيّرها التنميط الجامعي أقلّ عمقاً ورسوخاً.

ثالثاً: استقلالها في قرارها، بمعنى أن تكون متعاليةً عن التبعية السياسيةلحزب أو تنظيم أو دولة ولو كانت هذه الدولة هي الدولة الإسلامية، كما يذهب إلى ذلك حتى الإمام الخميني والسيد الخامنئي([52])؛ لأنّ ذلك ـ كما يرى السيد الخامنئي ـ يرهن مصيرها للحكومات، ويشلّ من قدرتها على تحقيق أهدافها.

لكنّ هذا الاستقلال لا يعني ـ بالضرورة ـ عزلة الحوزة عن الحياة الاجتماعية والسياسية، أو مجافاتها الدولة الإسلاميّة، بل يعني أن تلعب دور المرشد والموالي والداعم والناقد حيث يتطلّب الأمر، كما لا يعني معاداة الدولة الإسلامية، بل هو بعينه الخدمة لها في تأمين الحرية الفكرية والدينية.

رابعاً: استقلالها في قرارها، بمعنى أن تكون متعاليةً عن التبعية المالية،سواء لقوّة سلطوية قائمة أم لسلطة الناس أنفسهم بوصفهم المؤدّين للخمس والزكاة، وهذه العلاقة قد أفاض فيها المفكّران الشهيدان: مرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر، فلا نطيل.

ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن الركن الثالث (الإدارة الحوزوية)؛ نظراً لحاجته إلى كلام طويل ومفصّل، ليس مقامه هنا.

وبهذا ننتهي من هذا العرض الموجز والمتواضع لمسألة التعليم والتعلّم في مرحلة الدراسات العليا وما يسبقها بقليل، وكذلك ما يتصل بذلك من قضايا إدارية وتربوية وغير ذلك، سائلين المولى تعالى أن يوفّق القيمين لكلّ ما فيه الخير والتقدّم والنجاح، إنّه وليّ قريب.


([1]) نشر هذا البحث في الجزء الرابع من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، بعد أن ألقاه في محاضراته على طلاب الدراسات العليا في جامعة آل البيت العالميّة في مدينة قم عام 2012م.

([2]) انظر: محمود العيداني، تأملات في هندسة التعليم الحوزوي، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 35: 225 ـ 226.

([3]) الطهراني، الذريعة 4: 366.

([4]) انظر: الطوسي، العدّة في أصول الفقه 1: 3 ـ 4.

([5]) انظر: باقر الإيرواني، في حوار أجري معه، ونشر في مجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 192.

([6]) أشار لمسألة التعقيد العديدُ من العلماء، أذكر منهم: محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، في حوار أجرته معه مجلة (حوزة وبجوهش) الفارسية، في عددها الخاص حول النجف الأشرف: 110 ـ 111.

([7]) راجع: الفضلي، الحوار الذي أجراه معه حسين منصور الشيخ، والذي نشر في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 200، نشر اللجنة الدينية بالقارّة، الأحساء، الطبعة الأولى، 2008م.

([8]) انظر: حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 26 ـ 34.

([9]) راجع: عبد الغني العرفات، فنّ ومنهج الكتابة عند العلامة الفضلي، وهو مقال منشور في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 166 ـ 167؛ ومقال: تجربة المنهجة في مبادى علم الفقه، للشيخ جعفر الشاخوري، المصدر نفسه: 241 ـ 243.

([10]) راجع حول بيان الفائدة واستشراف المستقبل والتدرّج في البيان: العلامة الفضلي، حوار أجراه معه حسين منصور الشيخ، ونشر في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 195 ـ 196، 203؛ وانظر: عبد الجبار الرفاعي، جدل التراث والعصر: 99 ـ 101، دار الفكر المعاصر ودار الفكر، بيروت ودمشق، الطبعة الأولى، 2001م.

([11]) انظر: محسن الأمين، أعيان الشيعة 5: 421.

([12]) الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى: 10 ـ 12، دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري، الطبعة الأولى، 1978م.

([13]) راجع: المصدر نفسه: 11 ـ 12.

([14]) انظر: المصدر نفسه، الحلقة الأولى: 27.

([15]) اعتقادي أنّ »الحلقات«وسطٌ بين هاتين المرتبتين، وإن كان السيد الصدر قد حاول أن يجعله من المرتبة الثانية بحسب ترتيبنا في المتن.

([16]) حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 77 ـ 79.

([17]) انظر: مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية، خطاب الإمام الخامنئي نموذجاً: 124 ـ 125، تدوين مراجعة وترجمة: معهد الرسول الأكرم العالي للدراسات الإسلاميّة، نشر مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى.

([18]) راجع الحوار الذي أجرته معه مجلّة (حوزة وبجوهش) الفارسية، في عددها الخاص حول النجف الأشرف: 128.

([19]) محمد باقر الصدر، ومضات: 452 ـ 454، ج17 من موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية، إيران، الطبعة الأولى، 1430هـ.

([20]) حول الإخضاع للتجربة، راجع: الفضلي، في الحوار الذي أجراه معه حسين منصور الشيخ، ونشر في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 205.

([21]) مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية: 125.

([22]) راجع: خالد توفيق (جواد الكسار)، كتاب الأسبوع (دروس في فقه الإماميّة)، وهو مقال منشور في كتاب: قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 76.

([23]) راجع: حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وملاحظات: 91 ـ 124، وبالخصوص: 113 ـ 116، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.

([24]) مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية: 127.

([25]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، الحوار الذي أجري معه، ونشر في مجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 174.

([26]) محمد علي رضائي، أساليب الدراسة في الحوزات العلمية، مجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 261، عام 2004م.

([27]) راجع حول الأساليب: محمّد علي رضائي، أساليب الدراسة في الحوزات العلمية، عرض وتقويم، مجلّة فقه أهل البيت^، العدد 35: 257 ـ 280.

([28]) المصدر نفسه: 265.

([29]) انظر: حيدر حب الله، مسألة المنهج في الفكر الديني، وقفات وملاحظات: 91 ـ 124.

([30]) راجع الحوار الذي أجري معه، ونشر في مجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 187.

([31]) أشار لعدم ضرورة البحث في الانسداد بعض العلماء، مثل الشيخ محمد إسحاق الفياض، في حوار أجرته معه مجلة (حوزة وبجوهش) الفارسية، في عددها الخاص بحوزة النجف الأشرف: 100؛ كما جعل الشيخ محمّد إبراهيم الجناتي من الموضوعات التي لا فائدة منها أو هي قليلة الفائدة، كلاً من مباحث الشرط المتأخر والمشتق والاشتراك والحقيقة الشرعيّة ومقدّمة الواجب وبحث الضدّ واجتماع الأمر والنهي وأحوال الوضع واعتبارات الماهيّة والانسداد والوضع للمركّبات والمعاني الحرفيّة وغير ذلك، فانظر له: راهبردها وموانع بيشرفت نظام آموزشي وبجوهشي حوزه، مجلة فقه، العدد 45: 40 ـ 43.

([32]) انظر: محمد اليعقوبي، المعالم المستقبليّة للحوزة العلميّة: 20، نشر دار جامعة الصدر، العراق، الطبعة الأولى، 1429هـ.

([33]) حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 18 ـ 26؛ وانظر: علي المحمد علي، منهج التأليف الأصولي عند العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي، مقال منشور في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 223.

([34]) ممّن انتقد غياب القرآن عن الحوزات العلميّة: العلامة الطباطبائي، والإمام الخميني، والسيد الخامنئي، والشيخ المطهري، والشيخ الصادقي الطهراني، والشيخ السبحاني، والسيد فضل الله، وغيرهم، فانظر ـ على سبيل المثال ـ: الميزان في تفسير القرآن 5: 276؛ ومجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 155 ـ 156؛ والفرقان في تفسير القرآن 1: 33 ـ 35؛ وده كفتار: 220؛ وصحيفه امام 21: 78، 394، 395.

([35]) محمد حسين فضل الله، فقه الحج 1: 11 ـ 68، بقلم: جهاد عبد الهادي فرحات، دار الملاك، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.

([36]) حيدر حب الله، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 31 ـ 134، دار الفقه الإسلامي المعاصر، الطبعة الأولى، 2011م.

([37]) انظر، حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 53 ـ 54.

([38]) حول النقطة الأخيرة، راجع: روش تدريس: 119 ـ 135، نشر سازمان حوزه ها ومدارس علمية خارج از كشور، إيران، ط1، 2002م.

([39]) انظر: محمد علي رضائي، أساليب الدراسة في الحوزة العلمية، مصدر سابق: 275.

([40]) راجع الحوار الذي أجرته معه مجلّة (حوزة وبجوهش) الفارسية، في عددها الخاص حول النجف الأشرف: 130.

([41]) انظر: محمد علي رضائي، أساليب الدراسة في الحوزة العلمية، مصدر سابق: 277.

([42]) المصدر نفسه.

([43]) انظر: المناوي، فيض القدير 1: 201، و6: 338؛ والذهبي، سير أعلام النبلاء 17: 208.

([44]) راجع: مختار الأسدي، الإخفاقات في الدراسات الفقهيّة، الأسباب العوامل والمعالجات، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد11 ـ 12: 171 ـ 172، عام 2008م.

([45]) راجع: محمد اليعقوبي، المعالم المستقبليّة للحوزة العلميّة: 39، 52.

([46]) انتقد السيد علي الخامنئي بشدّة غياب التخطيط عن الحوزات العلمية، فانظر له: الحوزات العلمية وتطوير البرامج والخطط التعليمية، مجلة فقه أهل البيت، العدد 35: 152.

([47]) أشار لهذه النقطة الأخيرة الشيخ محمّد إبراهيم الجناتي، فانظر له: راهبردها وموانع بيشرفت نظام آموزشي وبجوهشي حوزه، مجلة فقه، العدد 45: 14، عام 2005م.

([48]) محمد باقر الصدر، ومضات: 386، ج17 من موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

([49]) انظر: الحوار الذي أجري معه، ونشر في مجلة فقه أهل البيت 35: 171 ـ 172.

([50]) تبادل الزيارات بين النجف والأزهر فكرةٌ قدّمها قبل عقود الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في مشروعه الإصلاحي لتنظيم الحوزة العلمية، فانظر الملحق الثالث من كتاب جدل التراث والعصر: 140.

([51]) انظر: محمد اليعقوبي، المعالم المستقبليّة للحوزة العلميّة: 28 ـ 29، 32.

([52]) انظر: مشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية: 105 ـ 106.

إرسال

you should login to send comment link

جديد الأسئلة والأجوبة
  • تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
  • مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
  • استفهامات في مسألة عدم كون تقليد الأعلم مسألة تقليديّة
  • كيف يمكن أداء المتابعة في الصلوات الجهرية حفاظاً على حرمة الجماعات؟
  • هل يمكن للفتاة العقد على خطيبها دون إذن أهلها خوفاً من الحرام؟
  • كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
  • هل دعاء رفع المصاحف على الرؤوس في ليلة القدر صحيحٌ وثابت أو لا؟
الأرشيف
أرسل السؤال
الاشتراك في الموقع

كافة الحقوق محفوظة لصاحب الموقع ولا يجوز الاستفادة من المحتويات إلا مع ذكر المصدر
جميع عدد الزيارات : 35812122       عدد زيارات اليوم : 17667