حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتقرير بقلم: علي حمام
تمهيد
يحتلّ موضوع التقليد حيّزاً بالغ الأهميّة عند المسلمين، وبخاصّة في أوساط الشيعة الإماميّة، ولكنّه لم يكن مطروحًا في كلّ تفاصيله عبر التاريخ بالوضوح الذي نعرفه اليوم، بل تجاذبته كثيرٌ من الأفكار والرؤى في مختلف المراحل الزمنية. فالفكرة البسيطة التي تحدّث عنها القرآن الكريم ـ على سبيل المثال ـ وهو مفهوم سؤال الجاهل للعالم ورجوعه إليه ﴿..فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، ما لبثت أن تحوّلت بمرور الزمان إلى تقسيم اجتماعي ثنائي: إلى أقليّة مجتهدة، وأكثريّة مقلِّدة، فنمت تدريجيًّا وتطوّرت إلى أن ظهرت مؤسّسة دينيّة كبيرة وعريقة، ومن ثمّ تبلورت هذه الفكرة وتجذّرت على شكل علاقة تاريخيّة عميقة بين هذه المؤسّسة وجمهور الناس وبخاصّة منذ العصر الصفوي.
ليس بحثي هنا في جميع التفاصيل الفقهيّة المرتبطة بالتقليد وقيوده وشروطه وأحكامه وما شابه ذلك، بل ما يهمّني هو البحث في أصل فكرة التقليد: مفهومها وشرعيّتها والنقاشات حولها والإشارة إلى بعض الطروحات المستجدّة التي حاولت أن تعيد النظر في هذه الفكرة، وقد نشير ضمنيًا لبعض التفاصيل الأخرى المرتبطة بالبحث كما سيتّضح لاحقًا.
السائد اليوم بين الفقهاء هو القول بنوعٍ من الوجوب التخييري ـ إذا صحّ التعبير ـ بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، بمعنى أنّ المكلّف أمامه واحد من هذه الخيارات: إما أن يكون مجتهدًا، أو محتاطًا، أو مقلّدًا، ومن الواضح حصر الخيارات بهذه الثلاثة، ولهذا يُحتجّ عادةٍ بأنّك إذا لم تكن مجتهداً ولا محتاطاً، فكيف تبرّئ ذمّتك من التكاليف الشرعيّة الموجّهة إليك؟! فليس أمامك حينئذٍ إلا التقليد.
ومصطلح التقليد موجود منذ القديم في أدبيّات أهل السنّة والشيعة، وإن تراجع سنيّاً لاحقاً وازداد شهرةً على المستوى الإمامي يوماً بعد يوم، حتّى صار منصرفًا الى الفضاء الشيعي الإماميّ، وإلا فقد نجد اصطلاح المفتي والمستفتي شائعاً في السّابق أيضاً.
ظهر بحث المفتي والمستفتي أوّلاً في علم أصول الفقه مع إشارات له أيضاً في كتب علم الكلام، ثمّ انتقل إلى كتب الفقه مؤخّراً بعنوان بحث الاجتهاد والتقليد، وبخاصّة بعد السيد كاظم اليزدي ـ صاحب العروة ـ في مطلع القرن العشرين، وإن كان الشهيد الأوّل (786هـ) سباقاً للتعرّض له في بداية الفقه في المقدّمة الطويلة لكتابه “ذكرى الشيعة” والتي اشتملت على مطالب أصوليّة وفوائد عامّة، وأيضاً طرح البحث في مباحث القضاء كما عند دراسة شروط القاضي، وكان محطّ نظرهم فيها القاضي أكثر من الفقيه بما هو مرجع تقليد، وكذلك بُحث بعض ما يتصل بالموضوع في مباحث كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو في بعض الحقب الزمنيّة، وغيرها من الموضوعات التي ساهمت من زوايا متعدّدة في توسّع بحث الاجتهاد والتقليد وتطوّره.
وقناعتي أنّ علم أصول الفقه وُلد في بداياته من رحم علم الكلام خلافاً للسيّد الصدر، وخلافًا للوجهة السائدة التي تعتبر أنّ علم الأصول ولد من رحم الفقه، نعم فيما بعد تغذّى علم الأصول على الفقه، ولكنّ نشأته الأولى كانت من إفرازات العقل الكلامي، وهذا يعني أنّه يجب علينا أحياناً التفكير في البنية والخلفيّة الكلاميّة المحتملة لموضوع الاجتهاد والتقليد. وعلى سبيل المثال فالشيخ محمّد مهدي شمس الدين يعتقد أنّ نظريّة تقليد الأعلم انتقلت إلى الفقه عند الشيعة من علم الكلام على خلفيّة نظريّة الإمامة التي أخذ فيها شرط الأعلميّة، وإن كنتُ لا أوافقه على ذلك. وكذلك هناك من يرى أنّ شرط الحياة في المرجع جاء من فكرة الإمامة؛ لأنّ موت الإمام ينقل الحجيّة والإمامة للإمام اللاحق، فتصوّروا أنه إذا مات المرجع فيجب أن يكون هناك انتقال إلى مرجعيّة جديدة، وهكذا. ومن المعروف لاحقًا أنّ نظريّة تقليد الحيّ كان لها دور كبير في بناء العلاقة العميقة بين المؤسّسة الدينية والقاعدة الشعبيّة حتى وجدنا في العصر الصفوي تجليّاً لفكرة شرط الحياة عبر خلع صفة (مجتهد الزماني) على الفقيه، وهي عمليّة تربط ـ من وجهة نظر بعض الباحثين المعاصرين مثل رسول جعفريّان ـ الاجتهادَ بالزمان الحاضر، وتقطع صلة القاعدة بخارج الزمان، وهم الأموات؛ إذ بفتح الطريق على تقليد الميت سوف يتقلّص حجم نفوذ المراجع الأحياء بشكل تلقائي، شئنا أم أبينا.
منطلقات نظريّة التقليد
قبل الدخول في صلب الموضوع، سأعطي فكرةً موجزة عن منطلقات الفقهاء الذين آمنوا بنظريّة التقليد بالمفهوم الذي نعرفه اليوم، فقد شاد العلماء نظريّة التقليد ـ شرعيّةً ووجوباً ـ على مجموعة أدلّة أبرزها:
1 ـ النص القرآني، ومن نماذجه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122)، ففي الآية حثّ على الحذر، وبالتالي وجوب الاستجابة للفئة المتفقّهة، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43). وهذا توجيهٌ لسؤال الذين يعلمون عند عدم العلم، فمثل هذه النصوص تؤسّس مبدأ رجوع الجاهل إلى العالم، وهذا هو التقليد. على أنّ المنطلق القرآني لمبدأ التقليد عمدته هاتان الآيتان، وقد وقعت نقاشات كثيرة في مدى دلالتهما على ذلك.
2 ـ النصّ الحديثي، ومن نماذجه خبر التفسير المنسوب للعسكريّ×: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»([2])، فذيل الخبر دالّ على مشروعيّة رجوع العوامّ للعالم، وخبر إسحاق بن يعقوب المتحدّث عن التوقيع الصادر من الإمام المهدي بحسب الرواية التي رواها لنا الشيخ الصدوق: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»([3])، ورواة الحديث هم الفقهاء الذين يعرفون الفتاوى والأحكام الشرعيّة، وكذلك النصوص التي يُرجِع فيها الأئمّة شيعتهم لأشخاص بأعيانهم ـ وهي المعروفة بنصوص الإرجاعات ـ كزرارة، ومحمّد بن مسلم، أو النصوص التي يأمرون فيها بعض العلماء من أصحابهم مثل أبان بن تغلب ومعاذ بن مسلم النحوي بالتصدّي للإفتاء في المسجد، وهذا يعني أنّ فكرة التقليد كانت موجودة وأنّ أهل البيت كرّسوها في الشريعة، أو النصوص التي تنهى عن الفتوى بغير علم، فإنّه يُفهم منها أنّ الفتوى بعلمٍ جائزة، ولا معنى لجواز الإفتاء بعلمٍ إذا لم تكن الفتوى حجّة. وبالجملة فالنص الحديثي يقف إلى جانب النص القرآني في تعزيز فكرة رجوع الجاهل إلى العالم بالصورة المأنوسة اليوم وفق هذا الاستنتاج.
3 ـ الإجماع وسيرة المتشرّعة، وقد رأينا هذين الدليلين حاضرين منذ العصور الأولى التي طرح فيها هذا الموضوع حيث استُند للأجيال الأولى من الصحابة والتابعين تارةً، ولمعاصري أهل البيت أخرى، ثمّ العلماء بعد ذلك. فالمتشرّعة بطبيعتهم كانوا يرجعون إلى الصحابة والتابعين وإلى أصحاب أهل البيت في القرون الثلاثة الأولى ليتلقّوا عنهم الأحكام الشرعيّة، وكذلك الفقهاء في القرون الخمسة الأولى اتفقوا على أنّ التقليد أحد الطرق الأساسية التي يلزم على المكلف سلوكها عندما لا يكون مجتهدًا.
4 ـ العقل أو ما يُعرف هنا أيضاً ـ في أبرز صيغه ـ بدليل الانسداد، وجوهر هذا الدليل هو تطبيق فكرة دليل الانسداد في مورد بحثنا، حيث قيل بأنّ العقل يحكم بوجوب تفريغ الذمّة عن التكاليف الشرعيّة الموجّهة إلينا، ولا سبيل لذلك ـ بعد عدم وجود علم لكلّ مكلّف بكلّ أحكام الشريعة ـ إلا أحد طرق ثلاث: الاجتهاد والاحتياط والتقليد، فمن لم يجتهد أو يحتاط يلزمه التقليد، وإلا فما هو جوابه يوم القيامة؟! فالعقل يحكم بانحصار الطرق بالثلاثة، ولا رابع لها. وحيث إنّ الاجتهاد والاحتياط متعسّران على أكثر المكلّفين، بل ويلزم من إلزام الناس بهما الحرج واختلال النظام، لهذا كان التقليد هو الخيار المتعيّن الأكثر شيوعاً.
ومن هنا قال كثيرٌ من العلماء وبخاصّة المتأخّرين أنّ الشريعة ليس فيها حكمٌ مستقلّ اسمه التقليد، فهو ليس حكمًا مستقلاً في عرض الأحكام الأخرى، بل هو وجوبٌ عقلي طريقي لتفريغ الذمّة، وبعضهم ـ مثل صاحب الكفاية ـ اعتبر المسألة حكماً فطريّاً جبليّاً. وكلّ هذه المقولات فيها كلامٌ كثير جدّاً على مستوى تحليلات العقل العملي، كما بحثه السيد عمار أبو رغيف في كتابه “الحكمة العمليّة”.
5 ـ البناء العقلائي، وهذا الدليل هو ما بات مؤخّرًا في الوسط الإمامي أهمَّ الأدلّة التي يرتكز عليها في إثبات نظريّة التقليد، حيث نوقش في الكثير من الأدلّة السابقة، وبخاصّة في دلالات النصوص القرآنيّة والحديثية فأُبقيت بوصفها مؤيّدات على هذا الدليل. وخلاصته قيام السيرة العقلائيّة على التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم، بمعنى شرعيّة الرجوع وحجيّة قول العالم، كما في التعامل مع الأطباء، فحيث يرى الناس قول الطبيب حجّة في نفسه، وسكتت الشريعة عن ذلك في مختلف المجالات، عنى ذلك حجيّة الفتوى.
إلى غير ذلك من تفاصيل الأدلّة وقضاياها والمناقشات فيها.
وتجدر الإشارة هنا أنّ المدافعين عن نظريّة التقليد يصرّون على أنّهم لا يقصدون من كلمة «الجاهل/العامي» التي يستخدمونها أيَّ معنى سلبي أو تحقيري، بل المراد هو الشخص غير المتخصّص في هذا المجال أو ذاك، أو الذي لا يملك الخبرة الكافية فيه، ولهذا فهم لا يمانعون ـ مبدئيّاً ـ من إطلاق وصف الجاهل عليهم في مثل مجال العلوم الطبيّة أو الفيزيائيّة، فتوظيف بعض الناس هذه الكلمات (الجاهل ـ العامي ـ التقليد) في سياق دلالاتٍ سلبيّة هو استغلال وسوء استفادة، وهذا أمرٌ لا داعي له، فالجاهل هنا جاهلٌ نسبيٌّ دائماً.
ولكنّني أعتقد بأنّ مرحلتنا الزمنيّة تحمل سياقات وبارادايمات مختلفة بحيث يصبح استعمال مثل هذه الكلمات حاملاً بطبعه لدلالات سلبيّة في العقل الجمعي قصدنا أو لم نقصد، فما دامت هذه التعابير ليست تعبديّةً توقيفيّة، فما المانع أن نتخلّى أساساً عن كلّ هذه الكلمات ونستبدلها بما يتناسب مع عصرنا الحاضر، وفي الوقت نفسه لا يضرّ بسلامة الفكرة وروحها ومضمونها. ولا بأس بابتكار مصطلحات بديلة لا تضرّ بمضمون الفكرة وتكون متناسبة مع فضاءات العقل الجمعي اليوم ما دامت تسبّب بعض الالتباسات.
وعلى هذا الأساس أيضاً يجيب الفقهاء بأنّ التقليد ليس هو الأخذ بلا دليل مطلقاً، حتى يتمّ نقد التقليد اليوم بأنّه ينشر ثقافة القطيع، فهذا المفهوم للتقليد منبوذ، إنّما هو الأخذ مع الدليل على شرعيّة هذا الأخذ، ولهذا قال جمهور الفقهاء بأنّ مسألة التقليد ليست تقليديّةً، ولا تقوم على غياب تامّ للأدلّة حتى في البنيات التحتيّة، بل لابد أن ترجع لوعي المكلّف نفسه.
مساراتٌ في بحث قضيّة التقليد
ما يهمّني في هذه الوريقات هي الإشارة إلى ثلاثة مسارات مهمّة ينطلق منها بحثنا، وهي على الشكل الآتي:
1 ـ تحليل مفهوم التقليد نفسه عبر نوع من العرض التاريخي، فالفقهاء حين يتحدّثون اليوم في دراساتهم عن تعريف التقليد يظهر بينهم اتجاهان: أحدهما يعرّف التقليد بأنّه العمل، بحيث يماهي بين التقليد والعمل، وثانيهما يعرّفه بشيء سابق على العمل يُبنى العملُ عليه، فهل هو الالتزام بفتوى فقيه معيّن، أو أخذ الفتوى للعمل بها، أو قبول قول الغير، أو هو العمل بفتواه، أو مطابقة العمل للفتوى، أو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل أو غير ذلك من التعريفات التفصيلية الموسّعة لديهم، والتي سجّلوا حولها عدّة نقاشات وبحثوا ثمراتها وفوائدها.
لكن ثمّة جانب آخر أيضاً لمفهوم التقليد، وهو تطوّر المفهوم في بنيته الذاتيّة بشكل أعمق عبر التاريخ، وهو ما يهّمنا هنا. فهل حدثت تحوّلات في هذا المفهوم بحيث كان بسيطاً وصار أكثر تعقيداً؟ هل تغيّرت الصورة الذهنيّة لأصل مفهوم التقليد عبر التاريخ؟ وهل كان لهذا التغيّر تأثيرات على نظريّة الاجتهاد والتقليد أو نظرية المفتي والمستفتي أو لا؟ وهل تغيّرُ مفهوم التقليد هو الذي أدّى لاحقاً لخلع عنوان التقليد عليه، فما كان سابقاً من مفهومٍ حول رجوع الجاهل للعالم مختلف تماماً عن مفهوم التقليد الذي هو شكلٌ آخر من أشكال رجوع الجاهل للعالم؟ وبعبارة أخرى هل التقليد هو الصيغة الحصرية لمبدأ رجوع الجاهل للعالم أم أنّ هناك صيغًا أخرى ولكن انحصر شكل رجوع الجاهل للعالم بفكرة التقليد المأنوسة اليوم لأسباب وتراكمات تاريخيّة؟ فنحن أمام مجموعة كلمات بحاجة لتحليلها من نوع: التقليد، ورجوع الجاهل للعالم، ورجوع غير العالم للعالم، والاتّباع، وسؤال غير العالم للعالم، وأخذ غير العالم من العالم وغير ذلك من العناوين. فهل هذه العناوين تعبّر عن حقيقة واحدة أو ثمّة فوارق بينها؟
2 ـ بعض أشكال النزاع حول نظريّة التقليد: النقاش في أصل شرعيّة التقليد، وهو نزاع عرفته الساحة الإسلاميّة العامّة قبل الساحة الشيعيّة، فعلى المستوى الإسلامي العام ناقش جماعة من العلماء في شرعيّة التقليد، ومن أبرزهم ابن حزم الأندلسي (456هـ) الذي خصّص فصلاً مطوّلاً لردّ التقليد وإبطاله في كتابه “الإحكام”، وفي رسالة أخرى مستقلّة له تعرّض فيه لهذا الموضوع. كما يعرف رفض التقليد أنّه مذهب ابن تيمية وابن قيم الجوزيّة والشوكاني، وأنّه مذهب جماعة من المعتزلة أو معتزلة بغداد، وغير ذلك.
وفي الساحة الشيعيّة، عرف هذا النزاع فيما نُسب لبعض العلماء، وعلى رأسهم مدرسة حلب القديمة، ومن بينهم ابن زهرة الحلبي (585هـ)، قال الشهيد الأوّل: «وعليه أكثر الإماميّة، وخالف فيه بعض قدمائهم وفقهاء حلب ـ رحمة الله عليهم ـ فأوجبوا على العوام الاستدلال»([4]). وثمّة من شكّك في كون مقصود الحلبيّين ذلك. ونُسب لآخرين قد نشير لهم لاحقاً، ويُفهم منهم أنّهم يرون أنّ العامي لا يجوز له التقليد، بل يجب عليه أن يستمع للجميع ويفهم ويرجّح بنفسه.
ولكن عُرف هذا النزاع بشكل مركّز مع عددٍ لا بأس به من الإخباريّين في مقابل جمهور الأصوليّين، ففيما منع الإخباريّون التقليد، أجازه جمهور الأصوليّين. فكانت العلاقة في العقل الأصولي علاقة المجتهد الذي يمثّل الأقليّة، بالعامي المقلِّد الذي يمثّل الأكثريّة، بينما هذه العلاقة في العقل الإخباري علاقة المحدِّث بالمستمع ليس غير، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي دفع علماء الإخباريّة لرفض التقليد إلى حدّ التشدّد؟ وماذا فهموا من التقليد حتى رفضوه؟ وهل كان رفض التقليد في أساسه عند الإخباريّة نتيجاً لقلقهم وحفاظهم على نظريّة الإمامة أو نتيجةً تلقائيّة لمنظومتهم المعرفيّة في فهم الدين أو أنّ هناك شيئاً آخر يمكن التفكير فيه هنا؟
على أنّه ثمّة فروقات متعدّدة بين نقد مفهوم التقليد في كلام أمثال ابن حزم ونقده في كلمات الإخباريّين سنتحدّث عنها لاحقاً إن شاء الله.
3 ـ في العصر الحديث، وبالأخصّ في العقود المتأخّرة، بات الحديث عن التقليد أكثر جديّةً، في سياق الحريّات الفكريّة والتحرّر من السلطات المختلفة في المجتمع، وإحداها السلطة الدينيّة، وظهرت تيارات نقديّة مختلفة في هذا المجال. وفي سياق النقد والنقد المضادّ ـ وجزء منه له خلفيّات سياسية وسلطوية عميقة ـ ظهرت طروحات جديدة في الوسط العلمي تحاول دراسة مسألة التقليد بذهنيّة مختلفة، ونريد هنا أن نتعرّف باختصار على بعضٍ من هذه الطروحات.
أوّلاً: التقليد/الفكرة، التطوّر التاريخي في التنظير والممارسة
نواجه في دراسة فكرة التقليد تاريخيّاً مرحلتين: مرحلة عصر النصّ، ثمّ مرحلة ما بعد عصر النصّ، وسنتناول كلّاً منهما بصورة موجزة.
التقليد في مرحلة عصر النصّ
عندما نرجع لعصر النبيّ الأكرم‘ إسلاميّاً، ولعصر أئمّة أهل البيت شيعيّاً، فنحن نجد ظاهرة الرجوع لشخوص هؤلاء الشخصيّات وسؤالهم عن الدين في مختلف المسائل العقائديّة والتاريخية والفقهيّة وغير ذلك، إضافة إلى النصّ القرآني. ولهذا يعتقد الكثير من العلماء ـ بمن فيهم مثل السيد الخوئي ـ بوجود التقليد منذ العصر النبويّ. بل وهناك نقاش قديم حتى في الوسط السني في صحّة القول بأننا نقلّد النبيّ أو عدم صحة ذلك.
لكن في هذه الفترة وبنسَب مختلفة، نحن نلاحظ ظهور أشخاص كانت هناك دعوة لأخذ الدين منهم أو وجّهت لهم دعوة لإفتاء الناس وتعليمهم، مثل أبان بن تغلب، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير الأسدي، وعبد العظيم الحسني، والحارث بن المغيرة، وزكريا بن آدم، ويونس بن عبد الرحمن، مما يعرف بنصوص الإرجاعات. إنّ تمركز المعرفة حول هؤلاء كان يزداد بفعل التحدّيات التي كانت تظهر من جهة، وبفعل الذين دخلوا حديثاً في الإسلام من جهة ثانية، فالفتوحات التي أدخلت أمماً وشعوباً لها ثقافاتها وأنماط عيشها، فرضت تساؤلات كبرى في مختلف الموضوعات بسبب اتساع رقعة العالم الإسلامي جغرافيّاً وأمميّاً، وكان الأشخاص الأكثر اهتماماً بالكتاب والسنّة يتولّون الإجابة في العادة، وظهرت هنا مدارس متعدّدة في القرنين الأوّل والثاني، بين مدرسة الرأي ومدرسة النصّ، مما لا نخوض فيه الساعة وقد تحدّثت عنه في محلّه.
كما أنّ أسئلة الناس الذي دخلوا حديثاً في الإسلام أو حاجتهم للمعرفة فرضت علاقةً بين من يعرفون أحكام وخصوصيّات هذا الدين وبين الوافدين الجدد عليه في القرن الأوّل الهجري، وبهذا تشكّلت حالة من العلاقة بين من يملك خبرة سابقة؛ لأنّه عاش مع النبي أو مع كبار الصحابة ومن لا يملك هذه الخبرة، فبدأت رحلة انتقال المعرفة عبر الأجيال مشوارها.
إنّ ظهور جيل من العلماء في عصر الباقرَين ومن بعدهما سلّط الأنظار عليه كون الناس غير قادرة على الاتصال المباشر بأهل البيت دائماً بسبب العامل الجغرافي وأحياناً العامل الأمني، كما أنّ حركة المكاتبات لم تكن متيسّرة للجميع، فظهرت طبقةٌ وسيطة بين الناس والأئمّة، وهي التي تمثل العلماء والفقهاء، ولهذا نجد أنّ الشيخ الكشي (ق 4هـ) يتحدّث في ثلاثة مواضع من كتابه عن ثلاث مجموعات من كبار فقهاء أصحاب الأئمّة في القرن الثاني الهجري وشطر من نهايات القرن الأوّل وبدايات القرن الثالث، ممّا يعرف في علم الرجال بأصحاب الإجماع. وبرغم أنّ بعض الشواهد تفيد أنّ هؤلاء كانت لديهم أفكارهم ورؤاهم الفقهيّة واختلافاتهم فيما بينهم في بعض الأفكار، لكنّ الغالب عليهم ـ فيما وصلنا ـ أنّ مرجعيّتهم كانت في الحجم الكبير من معرفتهم بالنصوص القرآنيّة والحديثية عن النبيّ وأهل بيته، فهذا الكمّ الكبير حوّلهم إلى مراكز استقطاب لرجوع الناس إليهم في السؤال، وكانت أجوبتهم هي نصوص الأحاديث التي أخذوها من أهل البيت النبويّ في العادة. ولعلّ ما ساعد على كون أجوبتهم محض نقل الفتوى بالنصّ هو النهي عن القياس والعقل المنفصل والرأي، إذ شعر الفقيه في ذلك الزمان بأنّه أقرب لنقل النصّ منه للتحليل والإضافة عليه.
من هنا يجب علينا دائماً أنّ نحلّل ما هي هويّة رجوع الناس إلى هؤلاء العلماء في تلك الفترة؟ هل كلّ رجوع إلى عالمٍ يساوي التقليد بالمفهوم الذي نعرفه اليوم أو لا؟ هذا ما سوف يتبدّى تدريجيّاً في سياق بحثنا إن شاء الله. فالشيخ المفيد يقول: «فأمّا الممتحَن (أي المبتلى) بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه فقد وجب عليه أن يرجع في ذلك إلى العلماء من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم بما استودعوه من أئمّة الهدى المتقدّمين..»([5])، فمثل هذا النصّ يتحدّث عن الرجوع، لكنّه ليس واضحًا في أنه يتكلّم على التقليد؛ لأنّه يُنهيه إلى العلم.
التقليد في مرحلة ما بعد عصر النصّ
لم يتغيّر هذا الوضع فيما يُعرف بعصر الغيبة الصغرى؛ لأنّ السفراء لم يكونوا مرجعيّات معرفيّة لمعرفة الدين، بل كانت لهم أدوار ذات طابع تواصلي ومالي وإداري أكثر من كونهم على معرفة بالعلوم الدينيّة، ويشهد لذلك أنّك لا تجد لهم ذكراً في علم الحديث ولا المصنّفات والفهارس ولا غير ذلك، بل النوبختي يرسل بعض الكتب إلى علماء قمّ ليعرف مدى صحّة الكتاب وعدم صحّته. ففي تقديري لم يتغيّر شيء كثير في الغيبة الصغرى بوجود ما سُمّي بالسفراء الأربعة، وإذا كان لهم دور فهو في استمرار مسيرة المكاتبة التي باتت تعرف بالتوقيعات. ولعلّ خبر إسحاق بن يعقوب المتحدّث عن التوقيع الصادر من الإمام المهدي يشير لهذا الأمر حيث جاء فيه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»([6])، إذ قد يقال بأنّ استخدام مفردة “رواة الحديث” لها دلالة على أنّ العلم كان بمقدار المعرفة بالحديث، ولهذا لا نستخدم نحن اليوم هذه المفردة بحقّ الفقهاء.
وبدخولنا مرحلة ما بعد عصر النصّ، تبدأ مرحلة ما أسمّيه عصر المحدّثين أو العصر الإخباري الأوّل، أو عصر (المحدّثين ـ الفقهاء)، وأعني بذلك المرحلة التي كان أهمّ رجالها على مستوى قضايا الشريعة هم المحدّثون من أمثال محمد بن الحسن الصفار، وعلي بن إبراهيم القمي، ومحمد بن مسعود العياشي، ومحمد بن يعقوب الكليني، وعبد الله بن جعفر الحميري، وأحمد بن محمّد بن خالد البرقي، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وأبي جعفر الصدوق، وغيرهم، وفي هذه المرحلة لا نجد مفهوم التقليد في غير معنى نشر العلم والمعرفة وأخذ الدين من هؤلاء، ويُلفت نظرنا في أدبيّات هذه المرحلة التي تنتهي عند الربع الثالث من القرن الرابع الهجري أنّه بالكاد نجد إشارات تتعلّق بفكرة التقليد، فلا يوجد بحث الاجتهاد والتقليد أو المفتي والمستفتي بوضوح هنا. وأوّل ما نجد ظهور هذا الموضوع بجديّة مع السيد المرتضى (436هـ) في القرن الخامس الهجري، وهذا يرجّح أنّ فكرة التقليد بما لها من مفهوم اليوم في الاجتماع الشيعي لم يكن لها وجود واعٍ، بمعنى أنّه لم تكن هدفاً في الرؤية أو موضوعاً للتفكير فيه، بل كانت الأمور تسير بشكل تلقائي عفوي، وظلّ التركيز على النشاط الحديثي بوصف التراث الحديثي هو المرجع المعرفي، ولهذا وجدنا أنّ أكثر الكتب هنا في مجال الأمور العمليّة ـ على الأقلّ ـ تعتمد مرجعيّة النقل وذكر الروايات، فظهرت الكتب الأربعة وما قبلها وما معها.
في القرنين الرابع والخامس نشهد ظاهرةً جديدة بالغة الأهميّة، وهي كتب الفتاوى الجوابية أو شبه الجوابيّة، فهذه الكتب تكشف لنا عن علاقة مستجدّة ظهرت بين الفقيه وأهل منطقة أو جماعة من أهل العلم في منطقة أو بعض المستفتين في منطقة معيّنة، وعلى سبيل المثال نجد كتب جوابات المسائل البصريات، وجوابات المسائل القزوينيات، وجوابات المسائل الكوفيات، وجوابات المسائل المصريات، وجوابات المسائل الواسطيّة، والرسالة الثانية إلى أهل بغداد في معنى شهر رمضان وجواب مسألة في الطلاق وردت إليه من المدائن وجواب مسألة نيسابور..
والظاهرة الأخرى التي نراها في هذه الفترة ـ أعني القرن الرابع وشطراً من القرن الخامس ـ هو ظهور الكتب الفقهية الفتوائيّة التي بُنيت على نسق نقل مضمون الحديث دون نقل ما يوحي أنّه حديث أو نقل السند أو نحو ذلك، وعمدة ما نجده هنا مثل كتاب الشرائع للصدوق الأوّل، وكتابي: الهداية والمقنع للشيخ الصدوق الثاني، ولهذا عبّر السيد البروجردي عن هذا النمط من التأليف الفقهي بالفقه المأثور أو الفقه المنقول، كما صنّفت نصوصُ هذه الكتب لدى بعض العلماء على أنّها فتاوى، وفي الوقت عينه هي نصوص روايات ومحكومة بالإرسال.
هذا كلّه يعني أنّنا إلى أواسط أو أواخر القرن الرابع الهجري، نلاحظ وجود هيمنة لنصّ الحديث على النصّ الفقهي، فالفتوى هي نصّ حديثي، وكتب الفتاوى هي نصوص الأحاديث إمّا بأسانيدها أو بحذف الإسناد تماماً، ولم يكونوا ليتداولوا كثيراً نصّاً فقهيّاً بمعزل عن الأدبيّات الحديثيّة. ويعني أنّ بداية التحوّل كانت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري مع كلّ من مدرسة القديمَين: ابن أبي عقيل العماني وابن الجنيد الإسكافي من جهةٍ أولى، ومدرسة بغداد بأعلامها الثلاثة: المفيد والمرتضى والطوسي من جهة ثانية، ففي عزّ العصر البويهي نشهد هذا التحوّل الكبير، حتى أنّ الطوسي في مقدّمة كتاب المبسوط يصرّح بأنّهم كانوا يستثقلون الابتعاد في أدبيات الإفتاء والتدوين الفقهي عن نصوص الأحاديث، فيقول: «كنت على قديم الوقت وحديثه متشوّق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وشغلني [تشغلني] الشواغل، وتضعف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطايفة فيه، وترك عنايتهم به؛ لأنّهم ألفوا [ألقوا] الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتى أنّ مسألة لو غيّر لفظها وعبر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا [تعجبوا] منها وقصر فهمهم عنها، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصولها من المسائل وفرقوه في كتبهم، ورتبته ترتيب الفقه وجمع من النظائر، ورتبت فيه الكتب على ما رتبت للعلة التي بينتها هناك، ولم أتعرض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظايرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك..»([7]).
لا أريد أن أدخل في قصّة ابن الجنيد التي تحدّثت عنها بالتفصيل في كتابي “الاجتهاد المقاصدي”، والذي أعتقد بأنّه قضت عليه مدرسة بغداد، وأرجعت له بعض الاعتبار متأخّراً مدرسةُ الحلّة، وكان ابن الجنيد بدايات التحوّل في التفكير الإمامي، لكن على الأقل مدرسة بغداد نفسها حاولت أن تكون وسطاً ـ إذا صحّ التعبير ـ بين التفكير الجنيدي والتفكير الحديثي، فبدأ ما يمكن اعتباره عصر الاجتهاد والتقليد عند الشيعة بمفهومٍ جديد، ومعنى المفهوم الجديد أنّ الجاهل كان يرجع للعالم في الزمن الأوّل ليحصل منه على نصّ حديثي، وقد يسأل شخصاً آخر فيحصل على نصّ حديثي آخر، فالفقهاء وسائط في النقل مع شرح وتفسير، وقيمة علمهم تكمن في قدرتهم على معرفة الحديث وجمعه وتمييزه ونقله بجودة أعلى، وتفسيره وشرحه، بينما في العصر الجديد أي في بدايات القرن الخامس انقطعت الصلة فيما يبدو بين العامّي والنصّ الأصليّ الذي هو الكتاب والسنّة، وظهر شخصٌ في الوسط هو العالم نفسه، وصارت أفكاره هي المحور، لكنّ النصّ الأصلي ظلّ حاضراً بشكل جزئي، وبدأ يختفي تدريجيّاً بمرور الوقت، حتى لا نكاد نراه اليوم في الفقه المعروض للتداول بين الناس، والمسمّى بالرسائل العمليّة وكتب الفتاوى. هذا موضوع مهمّ للغاية. ومن هنا يعرّف التقليد في الأدبيات الإسلاميّة بأنّه أخذ مذهب الغير من غير معرفة الدليل أو هو قبول قوله من غير حجّة.
توجد أسباب كثيرة لهذا التحوّل من النسق الحديثي إلى النسق الاجتهادي بهذا المعنى، ومن هذه الأسباب ظهور علوم وسيطة صارت في حدّ نفسها موضوعاً دراسيّاً، مثل علم أصول الفقه، فلم يعد يمكن اللجوء إلى نصوص الحديث فقط، بل بدأت هذه العدّة المعرفيّة تزداد يوماً بعد آخر، وأحياناً بسبب كثرة الفروض والوقائع الفقهيّة التي لا يوجد جواب مباشر عليها في النصّ، كما نلاحظ هذا الأمر مع كتاب “المبسوط” للطوسي، على خلاف كتاب “النهاية” له والذي هو على نسق الفقه الحديثي، ليصبح هناك تراكم معرفي فتكون الفتوى حصيلة النصّ الحديثي مضافاً له العدّة العلمية التي أفرزت التراكم المعرفي هذا. وبهذا يمكنني ادّعاء أنّ هناك علاقة طرديّة وعكسيّة بين وجود العلوم الوسيطة البشريّة، وبين ظاهرة الاجتهاد المنتجة للفتوى بالمعنى الذي يجعل العامي على صلة بالفتوى دون النصّ الأصل، ولهذا سوف نجد لاحقاً أنّ علماء الإخباريّة الذين سجّلوا أشدّ الانتقادات على عدد من هذه العلوم الوسيطة كعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلم الحديث وعلم تفسير القرآن بغير الحديث الشريف ونحو ذلك، هدموا هذا الفاصل، وأعادوا مفهوم الاجتهاد إلى سابق عهده البسيط من وجهة نظرهم، الأمر الذي أعاد النظر في قضيّة التقليد أيضاً بما لها من مفهومٍ جديد.
إذا سألتك: ما حكم الله في مصافحة الرجل للمرأة؟ فقد تجيبني: قال الصادق كذا وكذا، وقد تجيبني هو حرام، ويختفي قول الصادق خلف الفتوى، وهذا ليس امتيازاً شكليّاً في عمليّة الاستفتاءات، بل هو بالتدريج حصيلة تكوين جديد لعلاقة العامّي بالمجتهد يفترض وجود جسر بين النصّ الأصليّ وعامّة المكلّفين. وبهذا تظهر علاقة وطيدة بين تطوّر مفهوم الاجتهاد وتطوّر مفهوم التقليد، فكلّما تطوّر وتعقّد مفهوم الاجتهاد اتخذ التقليد مفهوماً جديداً وازداد حضور المرجع الوسيط بين العامّي والنص الأصلي.
وربما هذا كلّه يفسّر لنا ما قاله ابن حزم الأندلسي من أنّ التقليد لم يكن له وجود قبل أواسط القرن الثاني الهجري، وأنّه شاع بعد القرن الثاني، وذلك في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام”، فلم يعرف الصحابة والتابعون وتابعو التابعين مفهوم التقليد، بل الحجّة عندهم قول الله والرسول لا قول زيد أو عمرو، بل إنّ ابن قيم الجوزيّة اعتبر أنّ مفهوم التقليد لم يُعرف إلا في القرن الرابع الهجري وهو ما كان ذكره أيضاً ابن حزم في كتابٍ آخر له.
هذا السياق يولّد موضوعيّةً لرأي الفقيه، ويخلق كينونة خاصة به، فرأي الفقيه وتحليله ليس طريقاً أو ممرّاً لفهم العامي لحكم الله، بل العامي بعد فتوى الفقيه لا يعرف حكم الله وإنما هو متعبّد بالفتوى، وبخاصّة أنّ الفقيه أساساً لم يبيّن له الدليل، مما يعني أنّ هناك حجيّة قائمة بنفسها، وموضوعُها فتوى الفقيه التي يبني عليها العاميّ أعماله وهو منقطع الصلة عن الكتاب والسنّة. وأيّ تغيير في هذا المفهوم يمكنه أن يحافظ على مبدأ رجوع الجاهل للعالم دون تحقّق فكرة التقليد بمفهومها هذا، سوف يقلب المعادلة رأساً على عقب. وربما يضيء لنا هنا النقاش الموجود في بعض الكتب الشيعية والسنيّة معاً حول صحّة تسمية الأخذ من النبيّ تقليداً فهل أنا أقلّد النبيّ أو لا؟
على هذا الصعيد الجديد الذي يجعل رأي المفتي أو المقلَّد أو المرجع ذا موضوعيّة قائمة بنفسها في الحجيّة، انطلقت مسيرة التنظير الشيعي على يد السيد المرتضى في كتاب “الذريعة إلى أصول الشريعة”، فانتقد الرافضين للتقليد، معتمداً في تبرير التقليد على الإجماع الإسلامي، فقال تحت عنوان صفة المفتي والمستفتي: «اعلم أنّ في الناس من منع من الاستفتاء، وزعم أنّ العامي يجب عليه أن يكون عالماً بأحكام فروع الحوادث، وإنّما يرجع المستفتي إلى المفتي لتنبّهه (تنبيهه) على طريقة الاستدلال، ويعتمد على أن تجويز المستفتي على المفتي الخطأ يمنع من قبول قوله، لأنّه لا يأمن أن يكون مُقدِماً على قبيح. وربما قالوا: لو جاز أن يقلّده في الفروع جاز مثل ذلك في الأصول.. والذي يدلّ على حسن تقليد العامي للمفتي أنّه لا خلاف بين الأمّة قديماً وحديثاً في وجوب رجوع العامي إلى المفتي، وأنّه يلزمه قبول قوله، لأنه غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث، ومن خالف في ذلك كان خارقاً للإجماع»([8]). ثمّ يشرع المرتضى لاحقاً بالبحث حول شروط المفتي ومنها شرط الأعلميّة.
ويكرّر المرتضى في كتابه “جوابات المسائل الرسيّة الأولى” موضوع البحث، ويرى أنّ العامي لا يجب أن يفهم المسألة ويحصل له العلم، بل يكفيه أن يعلم بحجيّة قول الفقيه، وهو ما يعود ويكرّره الطوسي لاحقاً انطلاقاً من عدم قدرة العامي على الاجتهاد، فيقول الطوسي: «والذي نذهب إليه أنّه يجوز للعاميّ الذي لا يقدر على البحث والتّفتيش تقليد العالم. يدلّ على ذلك أنّي وجدت عامّة الطَّائفة من عهد أمير المؤمنين “ع” إلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها، ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا أحداً منهم قال لمستفتٍ: لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت، ولا أنكر عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمّة عليهم السّلام، ولم يحك عن واحد من الأئمة النّكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه»([9])، وقد كرّر دعوى الإجماع المحقّق الحلي والعلامة الحلّي والشهيد الأوّل([10]) وغيرهم لاحقاً.
ومن الواضح جداً أنّ عجز العامي الذي ظهر بعد تطوّر الاجتهاد فتح الطريق للتنظير لنظريّة التقليد، حتى أنّنا وجدنا نقاشات حول العلوم التي لها دور في بناء الاجتهاد عند الإنسان، بحيث أخذت تتسع يوماً بعد آخر، وهو موضوع قائم بنفسه ما زال يبحث حتى اليوم في بعض الرسائل الأصوليّة، وليس آخرها ما طرحه السيد الخميني في رسائله، وكان للسيد فضل الله شرح وتفصيل عليه، حتى أنّ بعض العلماء أقحم الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وأمثال ذلك في مثل شروط الاجتهاد الأمر الذي يجعل الفاصلة بين العامي والاجتهاد كبيرة جدّاً. ونحن نعرف أنّ بعض العلماء مثل الشهيد الثاني انتقد جدّاً إقحام بعض هذه العلوم، واعتبر أنّ هذه هي طريقة العجم أو “قيل وقال العجم”، حسب تعبيره، وانتقدها بعنف شديد حتى اعتبرها خذلاناً.
قال الشهيد الثاني: «وأعْظَمُ مِن هذا مِحْنَةً، وأكبرُ مصيبةً، وأوجَبُ على مرتكِبِه إثماً، ما يتداوَلُه كثير من المُتّسِمينَ بالعلمِ من أهلِ بلادِ العجم، وما ناسَبَها من غيرهم في هذا الزمان حيث يصرِفُون عمرَهُم ويَقْضون دهرَهُم على تحصيل علوم الحكمة، كعلمِ المنطقِ والفلسفة وغيرهما، ممّا يَحْرُمُ لذاتِهِ أو لمنافاتِه للواجب، على وجهٍ لو صَرَفوا جزءاً منه على تحصيلِ العلمِ الديني الذي يَسألُهُمُ اللهُ تعالى عنه يومَ القيامةِ سؤالًا حثيثاً، ويُناقِشُهُم على التفريط فيه نِقاشاً عظيماً لحَصّلوا ما يجِبُ عليهم من علمِ الدين. ثمّ هم مع ذلك: «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»، بل يَزْعُمونَ أنّ ما هم فيه أعظمُ فضيلةً وأتَمّ نفعاً. وذلك عينُ الخِذلانِ من الله سبحانه والبُعدِ عنه. بل الانسلاخُ من الدين رأساً أنْ يُحْيِيَ من يَزْعُمُ أنّه مِن أتْباع سيّد المرسلين محمّدٍ وآله الطاهرين دينَ أرسطو ومَنْ شاكَلَه من الحكماء، ويُهْمِلَ الدينَ الذي دانَ اللهُ به أهلَ الأرضِ والسماء. نعوذ بالله من هذه الغَفلةِ ونَسألُه العفوَ والرحمةَ»([11]).
وقد اعتبر الفقهاء منذ الطوسي والمرتضى وإلى يومنا هذا، ممن آمن بالتقليد، أنّ التقليد له مفهوم محدّد في ظل هذا السياق، وهو مرجعيّة الفتوى موضوعيّاً بنحو التعبّد في عرض الاجتهاد والاحتياط بعيداً عن فهم الحكم وأدلته. وفي مقابلها الأخذ بقول العالم عن بيّنة. واللافت للنظر أنّ كثيرًا من العلماء عبر التاريخ رفضوا التقليد في العقائد في الوقت الذي نظّروا فيه للتقليد في الفقه، وعلى قاعدة عدم إمكان الاجتهاد في الفقه تمّ إلزام العامي بالتقليد بمحوريّة فتوى الفقيه، لكنّهم لم يقولوا شيئاً مثلَ هذا عن صعوبة الاجتهاد في علم الكلام! ولهذا أسبابه.
بمرور الزمان وبالانتقال الى مدرسة الحلّة منذ ابن إدريس الحلّي (598هـ) وصولاً للعلامة وتلامذته ومن جاء بعدهم، نلاحظ نسقاً واحداً من المواقف تجاه قضيّة التقليد، مع تشابه المبرّرات كالإجماع الذي نصّ عليه غير واحد كالمحقّق الحلّي في “معارج الأصول”، لكنّ الفروع الفقهيّة لقضية التقليد بدأت تأخذ مساحة أكبر مثل الشروط والحالات، وهو ما يلاحظ بوضوح أنّه أُخذ من الكتب السنيّة عندما نقارن أعمال العلامة الحلي هنا بأعمال الفخر الرازي في “المحصول” وغيره، ونلاحظ هنا تطوّر بعض التفاصيل مثل عدم جواز تقليد الميّت وحالة فقدان وجود المجتهد، وهي المسألة التي برز فيها اسم العلامة الحلّي بشكلٍ كبير جداً متشدّداً ضدّ تقليد الميت.
مع بداية العصر الصفوي يتخذ موضوع التقليد أبعاداً أخرى، وسوف أتحدّث عن النقاش الإخباري الأصولي بعدُ، لكن ما يهمّني ليس ما يتصوّره بعضهم أنّ فكرة التقليد بدأت في العصر الصفوي، فهذا غير صحيح، فالفكرة بين السنّة والشيعة أسبق من ذلك بكثير، وإنّما أريد الإشارة إلى أنّه منذ ذلك العصر شهدت بعض موضوعات التقليد معدّلات مرتفعة جدّاً، وبخاصّة أصل مسألة التقليد ومسألة شرط الحياة، وبانتصار الأصوليّين الذين ناضلوا حتى النهاية في الدفاع عن نظريّة التقليد التي حملوها بوصفها منظومة هذه المرّة وليس مسألةً فقط ـ حيث تعاظمت تدريجياً قضايا شروط المفتي والمرجع ـ دخل التقليد في مرحلة جديدة مع عصر الوحيد البهبهاني (1205هـ)، الذي يصنّفه بعض المؤرّخين على أنّه الحلقة الفاصلة بين النسخة القديمة للمرجعيّة والتقليد بين الشيعة والنسخة الجديدة، فبتنا نعرف منذ ذلك العصر ـ وبالأخص مع الجيلين اللاحقين كالشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن النجفي ـ صورةَ المرجع العامّ التي نعرفها اليوم، حتى أنّ العديد من المؤرّخين يصنّفون مرجعيّة النجفي على أنّها الأولى التي تتسم بطابع العالميّة والنفوذ والمركزيّة والاستقطاب. وإن وجدت نماذج شبيهة أو قريبة منها سابقاً، ربما المجلسي أو الشهيد الأوّل والثاني.
وعليه فكلما ازدادت شروط المقلَّد اقتربنا أكثر من المركزيّة والاستقطاب، وهذا ما حصل بالتدريج منذ العصر الصفوي.
من خلال هذه المسيرة المختصرة، نلاحظ أنّنا أمام ظاهرتين، ولسنا أمام ظاهرة واحدة:
الظاهرة الأولى: الرجوع إلى شخص عالم لسؤاله عن حكم شرعي فيقوم العالم بشرح الحكم له ويبين الدليل من الكتاب والسنّة، فأفهم أنا الحكم من خلال نصّ الكتاب والسنّة، وحيث إنّني أقتنع بما قاله فإنّني أعمل بذلك، فهذا نسقٌ من الرجوع. وهذا يسمّى حقيقةً أخذ العلم من العالم، فالمأخوذ علمٌ يحصل عند المكلّف، لا علم برأي العالم فقط. ولو فرضنا حصول اختلاف بين العلماء فإنّني استمع للاثنين، والذي اقتنع به آخذ به ولا ضير في ذلك، تماماً كالذي اقتنع بأنّه الأعلم آخذ بفتواه. وليس من الضروري أن أكون مجتهداً حتى أحكم هنا، بل إنّني حيث لست مجتهداً ولا محتاطاً، فإنّ أقرب الطرق هي هذه الطريقة، ولا سيما أنّني لا أخرج عن نظر أحد العالمَين عمليّاً، ولو ترجّح لي رأي من عندي لا يقول أحدٌ به فليس بحجّة؛ لأنّني لست مجتهداً.
وهذه الظاهرة هو ما يسمّى في أدبيات كثيرين بالاتّباع فيقال بأنّ هذا المجتهد يتبع مذهب الإمام الشافعي، والاتّباع بهذا المعنى لا يساوق التقليد، وإنما هو اقتناع بالإجمال العام لبنية المُتَّبَع الفكريّة.
الظاهرة الثانية: الرجوع إلى شخصٍ عالم لسؤاله عن حكمٍ شرعي، فيقوم العالم بإعطاء رأيه، فيَلزمني العمل برأيه رغم أنّني لا أعرف شيئاً عن الدليل، بل رأيه هو محور الحجيّة، وهذا هو التعريف الذي عليه مدار التنازع في التقليد.
فمن يُعْتَبَر أنّه من المنكرين للتقليد ـ على الأقلّ كثيرٌ منهم ـ يعتبر أنّ علينا ترويج الطريقة الأولى، ويرى أنّه لا دليل على حجيّة فتوى الفقيه بنفسه، بينما من يرى التقليد يرى الطريقة الثانية هي الحجّة.
والفريق الذي يميل للانتصار للظاهرة الأولى يدعو ـ في الحقيقة أو يفترض به ذلك ـ لسياسة تعليميّة مختلفة جذريّاً في الأمّة عن السياسة التي يتبعها الفريق الثاني، وأعني بذلك أنّ جعل العلماء مصدراً للمعرفة ـ لا موضوعاً للحجيّة ـ يستدعي منذ أيّام الصبا تعليم الأفراد على الأدلّة ولو بشكلٍ مخفّف ونشر ثقافةٍ تعليميّة متواصلة في هذا السياق، وتغيير نمط الكتب الفتوائيّة تماماً، وكذلك الاستفتاءات، في أمرٍ شبيه بما يحصل في عمليّات التثقيف على المنابر في قضايا التاريخ والعقائد، وهو ما سيخلق سياسة تعليميّة مختلفة للغاية عمّا هو عليه الآن في الوسط الإمامي مثلاً، والذي هو أكثر الأوساط إخلاصاً لنظريّة التقليد ـ بالمعنى الأخصّ ـ في العالم الإسلامي. ومن هنا يعتقد هذا الفريق أنّ نظريّة التقليد بالمعنى الأخصّ هي التي ساهمت في فصل الناس عن الكتاب والسنّة وغيبوبتهم عنهما، واضعةً حاجزاً وهو عبارة عن الفقيه نفسه، ولهذا لو شُرح لهم الدليل اليوم صعب عليهم فهمه، بينما لو كانت السياسة التعليميّة على عكس ذلك من الأوّل لاختلف الوضع بمرور عدّة أجيال.
ثانياً: التيّار المدرسي المعارض للتقليد، المنطلقات والخلفيّات والمبرّرات
البحث في هذا الموضوع طويل جداً، لكنّني سوف أعطي لمحة مختصرة للغاية، مختاراً بعض العيّنات، وذلك على الشكل الآتي:
1 ـ موقف الظاهريّة (الداوديّة) وابن حزم الأندلسي
يضع ابن حزم (456هـ)، وهو أحد الأعلام الكبار في المذهب الظاهري، التقليدَ في قسم ما يسمّيه “الاعتقاد غير القائم على برهانٍ صحّ عند صاحبه”، وذلك لأنه يقسم الاعتقاد إلى قسمين: اعتقاد قائم على برهان صح عند صاحبه، واعتقاد قائم عند صاحبه دون برهان صحّ عنده، فيقول: «لا يخلو في اعتقاده ذلك من أحد وجهين: إمّا أن يكون اعتقده ببرهان صحّ عنده أو يكون اعتقده بغير برهان صحّ عنده.. وأمّا ما اعتقده المرء بغير برهان صحّ عنده، فإنّه لا يخلو من أحد وجهين: إمّا أن يكون اعتقده لشيء استحسنه بهواه، وفي هذا القسم يقع الرأي والاستحسان، ودعوى الإلهام، وإمّا أن يكون اعتقده لأنّ بعض من دون النبيّ‘ قال، وهذا هو التقليد، وهو مأخوذ من قلّدت فلاناً الأمر، أي جعلته كالقلادة في عنقه. وقد استحى قومٌ من أهل التقليد من فعلهم فيه، وهم يقرّون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الاسم، فقالوا: نقلّد بل نتبع. قال أبو محمد: ولم يتخلّصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم؛ لأنّ الحرم إنّما هو المعنى..».
ويقوم ابن حزم بعرض سلسلة من أدلّة القائلين بالتقليد في الوسط السنّي، ويفنّد بإسهاب ما يستشهدون به من الصدر الإسلامي الأوّل، مثل أخذ ابن مسعود بقول عمر بن الخطاب، وبتقليد عمر بن الخطاب لأبي بكر وغير ذلك، فيردّه ابن حزم مستفيضاً في البحث بأنّه غير صحيح؛ فقد اختلف ابن مسعود مع ابن الخطاب في أزيد من مائة مسألة ويذكر بعض الأمثلة. وهنا يعلّق ابن حزم قائلاً: «والعجب كلّه ممن يحتجّ بالكذب، من أنّ ابن مسعود كان يقلّد عمر، وهم لا يرون تقليد عمر ولا ابن مسعود في كلّ أقوالهما، وإنّما يقلّدون من لم يقلّده قط ابن مسعود ولا رآه، كأبي حنيفة ومالك والشافعي. وحسبك بمقدار من يحتجّ بمثل هذا في الغباوة والجهل، وقوله مخالف لما احتجّ به». وبالجملة فحتى لو قلد هؤلاء بعضهم بعضًا، لا يكون ذلك مبررًا لأن ننقل المشهد الى أشخاص لا يتسمون بصفات الصحابة وخواصهم المتميزة في الفضاء السنّي.
وتكشف لنا بعض المحاججات في تلك الفترة أنّ بعض القائلين بالتقليد كانوا يخلطون بين حجيّة النقل والخبر وكذا الشهادة، وحجيّة الفتوى، فابن حزم يقول بأنّهم استدلّوا بالأخذ بقول الجزّار في تسميته على الذبيحة وبأخذ الأعمى من غيره والراكب في السفينة من الملاحين على القبلة أو الوقت، وهو ما يعلّق عليه ابن حزم فيقول: «وهذا لا حجّة لهم فيه، لأنّه من باب قبول الخبر، لا من باب قبول الفتيا في الدين بلا دليل، ولا من باب تحريم أمر كان مباحاً، أو إيجاب فرض لم يكن واجباً أو إسقاط فرض قد وجب، وهذا الذي ذكروا ليس تقليداً، وإنما هو إخبار، والناس مجمعون على قبول خبر الواحد في أشياء كثيرة..». فهذا باب حجية الأخبار لا باب قبول الفتيا بلا دليل، ففي الفتيا ثمة أحكام شرعية وقد يحلل المفتي حرامًا وقد يحرم حلالًا، ولا يمكن قياس باب حجية الخبر التي أجمع عليه على باب التقليد. يبدو أن تلك المحاججات في تلك الفترة كانت تخلط الأدلّة، فتخلط حجيّة الشهادة وحجيّة الخبر مع حجيّة الفتوى، فحجيّة الفتوى مفهومٌ جديد مستقل عن هذه المفاهيم في وعي المسلمين وفي حياة العقلاء عن حجيّة خبر الواحد وحجيّة الشهادة.
وعندما يناقش ابن حزم دليلهم بآية ﴿واتّبع ملّة ابراهيم حنيفاً﴾، حيث فهموا أنها دالة على شرعية التقليد، يميّز بدقّة بين مسلك التقليد ومسلك الاتّباع الذي يؤمن هو به، فيقول: «إنّما التقليد الذي نخالفهم فيه أخذ قول رجل ممن دون النبيّ‘، لم يأمرنا ربنا باتّباعه، بلا دليل يصحّح قوله، لكنّ فلاناً قاله فقط، فهذا هو الذي يبطل، ولكن من لا يتقي الله عز وجل ممن قد بهره الحقّ وعجز عن نصره الباطل، وأراد استدامة سوقه، ولا يبالي إلى ما أداه ذلك، أوقع على اعتقاد الحق الذي قد ثبت برهانه اسم التقليد، فسمّى الانقياد لخبر الواحد تقليداً، وسمى الإجماع تقليداً، وسمّى اتّباع النبيّ‘ فيما أمر باتباعه من ملّة إبراهيم× تقليداً». فالاتّباع المعبّر عنه في الآية هو اتباع منشؤه الدليل والحجّة وهو نفس الأمر الإلهيّ، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يأمرنا باتباع ملة ابراهيم وهي ملّة التوحيد، وأما اتباع زيد أو عمرو من الفقهاء فهو أجنبيّ عن الآية، فكيف يمكن القياس بين مفاهيم من هذا القبيل موجودة في النص القرآني على موضوع مستحدَث.
ويواصل ابن حزم نقده لهم من خلال استدلالهم بما دلّ على لزوم الأخذ من الصحابة وسنّة الخلفاء واتّباعهم والاقتداء بهم وغير ذلك، لكنّه يرفض أن تكون كلّ هذه النصوص ذات علاقة بالتقليد؛ لأنّ كلّ هذه النصوص القرآنيّة والحديثيّة في الثناء على الصحابة مقبولةٌ بوصفها ثناءً، وأين هذا من تقليدهم؟ كما يميّز ابن حزم بين مسلكه ومسلكهم هنا بأنّه إنّما يترك تقليد الصحابة أخذاً بقول محمّد‘ المقدّم عليهم، كيف والصحابة يخطأون كما يصرّح؛ ويذكر بعض الشواهد على ذلك. ويعلّق على ما دلّ على ضرورة الأخذ بسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي بأنّهم اختلفوا اختلافاً كبيراً فيما بينهم، ولا معنى لأن يتعبّدنا الله بالشيء ونقيضه.. فابن حزم هنا يميل إلى نوع من النزعة الواقعيّة، بمعنى أنّه لا يؤمن بحجج وحجيات ظاهريّة تجرّنا للتصالح مع التناقضات الواقعيّة، فيجوز تقليد زيد ويجوز تقليد عمرو، وكلاهما مختلف عن الآخر، إذ في مثل هذا التعبّد بُعدٌ ومسافة عن الواقع، لهذا فالأخذ بسنّة الخلفاء الراشدين عنده إنّما هو فيما هو اقتداء منهم بسنّة النبيّ، لا لخصوصيّةٍ قائمة فيهم بحيث يملكون مرجعية وشرعية في عرض مرجعية النبي، فأعمل بما يقولون كما أعمل بما يقول النبيّ.
ويبدو واضحاً في ثنايا المنهج الاجتهادي عند ابن حزم أنّه يعتبر أنّ فتح باب التقليد معناه فتح باب اجتهادات المجتهدين إلى زمانه، وهو يعتبر أنّ الاجتهادات هذه فيما لا نصّ فيه بُنيت على الأقيسة والاستنتاجات والرأي مما هو مرفوض تماماً في المذهب الظاهري، فلم يبقَ إلا الفتاوى الآتية من النصوص، فلنأخذ بالنصوص إذاً، ولا نحتاج إلى الأخذ بالاجتهادات القائمة على النص، بعد وجود النصّ المباشر الدال على حكم الله الواقعيّ. هذا كلّه فضلاً عن جملة مناقشات حديثيّة وسنديّة يسجّلها ابن حزم على بعض نصوص الدعوة للاقتداء بالخلفاء أو بمن يأتي بعد محمّد مثل رواية أصحابي كالنجوم، وفي المقابل استشهد بمجموعة نصوص يندّد أو يخطئ فيها النبيُّ بعضَ اجتهادات الصحابة في عصره.
واضحٌ جداً أنّ نقد التقليد من طرف الظاهريّة هدفه إبطال سلسلة من الظواهر أو المعايير الاجتهاديّة في القرون الأولى، وعلى رأسها إبطال حجيّة قول الصحابي وسنّته، وإبطال حجيّة قول كبار فقهاء القرون الثلاثة الأولى، وكسر فكرة تقليد أئمّة المذاهب، فكأنّ ابن حزم كان يرى سلطة المذاهب في القضاء هنا وهناك، وكان يرى أن الأمور تتجه إلى حصر المذاهب بالأربعة أو أكثر في زمنه، وكان قلقاً من منح سلطة قانونيّة لغير الكتاب والسنّة تأخذ دورهما، لهذا مارس هذه الانتفاضة الكبيرة في أعماله على التقليد وسائر النظريّات التي تؤول إليه مثل حجيّة سنّة الصحابي. ولهذا نجده في أكثر من موضع يكرّر أنّ الآخرين يدّعون أنّنا لا نتّبع إلا الرسول والباقون كلّهم يخطؤون ويصيبون، لكنّهم عمليّاً لا تجدهم يقولون في أئمّتهم أيّ تخطئة! فيشنّع عليهم في هذه الازدواجيّة.
أرجو أنّ نفهم ابن حزم بوصفه ناقداً اجتماعيّاً، بل ناقدٌ لمنظومة اجتماع المعرفة من الطراز الثقيل، حتى أنّه ينتقد أولئك الذي يعرضون النص الأصلي على أقوال العلماء، فاذا استثقلوا رفضَ قول العلماء ساهموا في تنحية النصّ بطرق ملتوية وتأويلات تعسّفية من وجهة نظره، ولهذا فهو يعتبر أنّ المقلّدة لا ينتفعون في العادة بما يسمعونه من الكتاب والسنّة، بل هم يعرفون أقوال العلماء أكثر منهما، وهذا اتّباع لما لا يضرّ ولا ينفع من وجهة نظره. ولهذا فهو يسرد النصوص الذامّة للتقليد في القرآن والحديث، ويراها تنطبق على هؤلاء؛ لأنّهم نسخة أخرى معدّلة عن تقليد الآباء المذموم. مركّزاً على الأحاديث التي تفسّر عبادة أهل الكتاب للأحبار والرهبان بأنّها الاتّباع الأعمى لهم، لأن المتّبِع مسلوب القدرة على التمييز بسبب التربية والتنشئة، فيبقى على اتّباعه لهم حتى لو أحلوا حرامًا أو حرّموا حلالًا، وهذه الظاهرة التي كانت عند أهل الكتاب هي بعينها ظاهرة التقليد الموجودة عند الأمّة من وجهة نظره.
واضحٌ جدّاً أنّ ابن حزم كان يواجه ظاهرة التمذهب الفقهي التي تنامت بقوّة في الوسط السنّي وأدّت لما أطلق عليه بعضُهم لاحقاً “إغلاق باب الاجتهاد”، فنقد التقليد عنده هو ـ في جزءٍ منه ـ نقدٌ لهذا الاتجاه الذي بدأ يسيطر على الذهنيّة العامّة. حتى أنّ هناك العديد من النصوص في كتب التراث تتحدّث عن “فقدان المجتهد المطلق” ـ سواء كان مستقلاً عن المذاهب أم منتسباً لمذهب ـ بعد القرن الثالث الهجري بسبب صعوبته وتعقّده ونموّ الميل الزائد للتقليد.
بل إنّ ابن حزم يُبدي حساسيّة كبيرة في أعماله، وفي بحث التقليد أيضاً، من فكرة تقليد الأكثر؛ لأنّه لاحظ أنّ هناك من يتجه إلى نوع من منح سلطة للأكثريّة، الأمر الذي يجعل الأقليّة في سياق من الحذف والإقصاء، فرفض بوضوحٍ ذلك وميّزه تماماً عن الإجماع الذي هو حجّة، في الوسط السني، وكأنّه اعتبر أنّه توجد محاولة لمصادرة الإجماع لصالح المشهور، وهو نوع من تقليد الأكثريّة المرفوض عنده أيضاً.
وفي أكثر من موضع من أعماله يحذّر ابن حزم من الألعاب اللفظيّة التي تلبّس الأمر، وهو هنا يعيد الفكرة نفسها فيرى أنّ تسمية الإجماع تقليداً أو تسمية اتّباع النبي تقليداً وغير ذلك ممّا يوسّع مفهوم التقليد هو نوع من اللعبة اللفظيّة بخلع أسماء مرفوضة على حقائق مقبولة، لجعل غير المأنوس مأنوسًا، وهي ظاهرة يعتبرها ابن حزم منتشرة.
وممّا أسلفناه يتجلّى بوضوح أنّ ابن حزم لا يريد فقط تحييد التقليد عن حياة العوام، بل يهدف بشكل واضح لتحييده عن كونه منهجاً اجتهاديّاً أيضاً في معرفة الدين؛ لأنّه عندما يتربّع الصحابي على عرش مصادر الاجتهاد، فتؤخذ فتواه لأنها فتوى الصحابي، فهذا معناه أنّ الفقهاء لاحقاً سوف يكونون مقلِّدة، وهذه انعطافة خطيرة جداً في منهج المعرفة من مرجعيّة النصّ الأصلي (الكتاب والسنّة) إلى مرجعيّة نصوص ثانوية، ومرجعيّةُ النص بلغت عند ابن حزم حدّاً كبيراً بما يُطلِق عليه بعضهم حدّ “تصنيم النصّ“.
وينتبه ابن حزم للتفكيك بين سلطة وليّ الأمر وسلطة الفقيه، حذرًا من الاضطراب القانوني، فيرى أنّ ما يفعله الخليفة أو الحاكم بصفته وليّ الأمر مُنحت له سلطة، لكنّ هذه السلطة ليست سلطة تشريع، بل سلطة تدبير للحكم الذي تمّ تشريعه في الكتاب والسنّة من قبل كتقسيم الأموال بما يراه صلاحاً، فإذا تعدّى الحاكم سلطة التدبير إلى سلطة التشريع لم يعد له أيّ حقّ على الأمة في الطاعة، ويسقط وجوب طاعته. ونحن نعرف أنّ ابن حزم من القائلين ـ كما صرّح به في كتاب المُحلّى ـ بوجوب الخروج على الحاكم الظالم، وليس فقط بجوازه، مخالفاً مشهور أهل السنّة في ذلك.
ويُبدي ابن حزم سخريته من محاولاتٍ معدّلة لفكرة التقليد، كبعض ما طرحه الأشاعرة كما يقول، من أنّه لا نقلّد أيَّ شخص، بل خصوص الحيّ الأعلم في أهل المحلّة التي يعيش فيها المكلّف، متصوّرين أنّهم بهذه القيود يتفادون إشكالية التعبد بالتناقضات، وهو ما يراه ابن حزم حرفيّاً دعاوى لا برهان عليها.
ويتوقّف ابن حزم عند مثل سؤال أهل الذكر فلا يفهم تقليداً بل اتباعاً، أي يسألون لأخذ العلم منهم بما هم علماء رواية ومعرفة.
حلّ ابن حزم للموقف
والسؤال الأخير في هذا العرض المختصر هو: ما هو الحلّ البديل لغير المتخصّصين في الشريعة وفقاً لنظريّة ابن حزم؟ وكيف يديرون أمورهم الدينيّة؟ وهل هو أقلّ كلفة من فكرة التقليد أو لا؟
يميّز ابن حزم بين العالم وغيره، لأنّ كلامه يشمل تقليد العلماء وتقليد العوام، فالعالم وظيفته أوّلاً تتبّع أقوال العلماء والنظر في حججهم، ثم عرضها على الكتاب والسنّة، فيأخذ بما ثبت فيهما، ويترك الباقي كائناً من كان قائله.
أمّا العامي، فيقدّم لنا ابن حزم نصّاً في غاية الأهميّة حين يقول: «فإن قال قائل: فكيف يصنع العامّي إذا نزلت به النازلة؟ قال أبو محمّد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة، ولم يخصّ الله تعالى بذلك عامياً من عالم، ولا عالماً من عامي، وخطاب الله تعالى متوجّه إلى كلّ أحد، فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدرة.. والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، في كلّ ما خصّ المرء من دينه، لازم لكل من ذكرنا.. ولكن يختلفون في كيفيّة الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه، لقوله تعالى: (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها) ولقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم).. وهذا نصّ جلي على أنّه لا يلزم أحداً من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط، فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد، ومقدار طاقته منه..»، وعليه فما دل على حرمة التقليد لا فرق فيه بين الناس، فالعالم والعامي كلاهما يجب عليه الاجتهاد، ولكن يختلفان في الكيفية والكمّيّة، فالعالم باعتباره صاحب مكنة على الاجتهاد فهو مكلّف بذلك حتى استفراغ الوسع في تمام مسائل الشريعة، وأما العامي فعليه أن يجتهد بمقدار طاقته المحدودة وفي خصوص المسائل التي هي محلّ ابتلائه، وبهذا يردّ ابن حزم على القائلين بأنّنا لو كُلّفنا الاجتهاد لضاعت الأمور وصعب ذلك كثيراً([12]).
2 ـ ابن زهرة الحلبي (585هـ) والنقد الأخلاقيّ للتقليد
عندما ندرس منطلقات ابن زهرة الحلبي وما نسب الى مدرسة حلب الشيعيّة الإماميّة من رفض التقليد، نجدها مختلفة بعضَ الشيء ـ ولعلّه هو منطلق عموم الحلبيّين المنسوب إليهم منع التقليد ـ عن منطلقات ابن حزم، فابن حزم ينطلق من النصوص وحماية مرجعيّة النصّ في رفض التقليد، فيما ابن زهرة الحلبي ينطلق من ثنائيّة: الإجماع والعقل العملي والتنظير الأخلاقي، فيعتبر أنّ التقليد سلوكٌ غير أخلاقي.
إنّه يقول: «لا يجوز للمستفتي تقليدُ المفتي؛ لأنّ التقليد قبيح، ولأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلا بعلم. ليس لأحد أن يقول: قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه، يؤمنه من الإقدام على القبيح ويقتضي استناد عمله إلى العلم. لأنّا لا نسلّم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه، كيف وهو موضع الخلاف، بل إنّما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط، فأمّا ليعمل بقوله تقليداً فلا. فإن قيل: فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز العمل بقوله؟ قلنا: الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإماميّة سبيل إلى العلم بإجماعهم، فيعمل بالحكم على يقين، يبيّن صحّة ذلك أنّهم أجمعوا على أنّه لا يجوز الاستفتاء إلّا من إمامي المذهب وإنّما حظّروا استفتاء مخالفه خوفاً أن يفتيه بخلاف الحقّ، فلو كان إيجابهم للاستفتاء من الإمامي لتقليده لم يكن فرق بينه وبين مخالفه الذي لا يؤمن أن يكون فتياه بغير الحقّ لارتفاع عصمته، ولأنّ مخالفه يجوز أن يفتيه بمطابقة الحقّ موافقته، فيثبت أنّهم إنّما أمروا برجوع المستفتي إلى فقهاء الإماميّة ليحصل لهم العلم بإجماعهم على الحكم فيقطع على صحّته»([13]).
يُفهم من ابن زهرة وجود منطلقين له في تحليل الموقف:
أ ـ القاعدة الأخلاقيّة من خلال تعبيره بكلمة “القبيح” التي تعني ـ حسب الظاهر والأرجح ـ القبح العقلي على مستوى أخلاقيّات العقل العملي.
ب ـ الإجماع في الطائفة على عدم جواز العمل بغير علم. وهو إجماع تقف خلفه عند كثيرين مبررات أخلاقيّة أيضاً؛ لأنّ العمل بالظنون بوصفها مرجعيّة معرفية وسلوكيّة هو سلوك غير أخلاقي أيضاً بطبعه. وعندما نتكلّم عن الأخلاق هنا فنحن نتكلّم عما يُعرف بالتبرير (Justification) بمعنى أنه هل ثمّة ما يبرّر لي أخلاقيّاً ـ وأيضاً عقلانيّاً ـ القيام بذلك أو لا؟
إنّ النقد الأخلاقي للتقليد ليس ابتكاراً حَلَبيّاً، بل هو فكرة قديمة تحدّث عنها الكثير من العدليّة وغيرهم، ومنهم الشيخ المفيد في “تصحيح اعتقادات الإماميّة” والشيخ الطوسي في كتاب “الاقتصاد”، لكنّ الحديث عن القبح الأخلاقي للتقليد هناك كان في سياق القضايا العقائديّة، ومن ثمّ كان حديثاً في أخلاقيّات الاعتقاد بحسب تسمية ويليام كليفورد (1879م)، في حين هنا قد يقال: لا يوجد اعتقاد، بل عملٌ على طبق فتوى الفقيه، فما فعله ابن زهرة كان في الحقيقة نقلاً للمقاربة الأخلاقيّة النقديّة من الأصول إلى الفروع، على قاعدة عدم وجود فرق بينهما؟!
وفي خطوة بالغة الأهميّة، يحاول ابن زهرة مقاومة القاعدة التي بنيت عليها شرعيّة التقليد حتى زمانه كما قلنا سابقاً، وهو الإجماع الذي ادّعاه أمثال المرتضى والطوسي وتبعهما سائر العلماء، حيث يرى ابن زهرة أنّ الطائفة من جهة مجمعة على عدم جواز العمل بغير العلم، وهو ما يوافق عليه المرتضى نفسه أيضاً، ومن جهة أخرى أن الطائفة مجمعة على وجوب الرجوع للمفتي، ولكنّ فكرة الرجوع للمفتي لا تعني فكرة التقليد، فهذا هو التمييز الذي يحفره ابن زهرة هنا؛ لأنّ الرجوع ليس حكراً على التقليد الذي هو التعبّد بقول المفتي بنحوٍ يكون قوله من الحجج الظاهريّة كخبر الواحد. فكأنّ ابن زهرة يخطّئ المرتضى والطوسي في كيفيّة فهمهم للظواهر الاجتماعيّة التي كانت موجودة بين المسلمين وداخل الشيعة في القرون الأولى، فيعتبر أنّهم تصوّروا أنّ رجوع الناس للفقهاء هو عينه فكرة التقليد المتنازع عليها، في حين أنّ الرجوع أمر متفق عليه ولكنه أعمّ، والتقليد مفهومٌ مختلف فيه ولكنّه أخصّ، حيث إنهم استنتجوا الإجماع على التقليد من مبدأ الرجوع إلى المفتي، والحال أن الرجوع إلى المفتي لا يعني التقليد بالضرورة، وبالتالي فمنشأ الخطأ بتصوّر ابن زهرة أنهم استنتجوا إجماع الشيعة على العمل بقول المفتي تعبّدًا استنتاجًا لا استنادًا إلى وثيقة تاريخيّة. وهذا ما يؤكّد لنا أنّ دعاوى الإجماع في عشرات المواضع لم تكن سوى عمليّات تحليليّة للوقائع والظواهر التاريخيّة الاجتماعيّة، وليست إخبارات مباشرة عن واقعٍ تاريخي، الأمر الذي تنبّه لبعض زواياه العديد من علماء أصول الفقه في القرنين الأخيرين، ومنهم الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ).
ولكي يفسّر ابن زهرة فلسفة الرجوع للفقيه بعد إبطال التقليد، يرى أنّ هذا الرجوع يراد به معرفة الواقع الإفتائي عند فقهاء الطائفة، فعندما أرجع للفقيه أو للفقهاء فإنّني أحصل على معرفة بما اتّفقت عليه الطائفة، وأعمل بالمجمع عليه، وليس بفتوى الفقيه، فعلاقة المكلّف هنا تكون مع الإجماع مباشرة بوصفه حجّة شرعيّة، وليس مع فتوى الفقيه بالوصف نفسه. وبهذا يمتاز ابن زهرة عن ابن حزم وجمعٍ من الإخباريّين، وذلك أنّ منعه التقليد لم يكن لأجل فتح الطريق لاتصالٍ مباشر بين المكلّف والنصّ الديني كما رأيناه مع ابن حزم، بل هو لحصول المكلّف على إجماع الفقهاء الذي هو سلطة معرفيّة قائمة بنفسها عنده، فنحن مع ابن زهرة ننتقل من مرجعيّة الفقيه إلى مرجعيّة مجموع الفقهاء، بينما عند ابن حزم والإخباريّين، نحن ننتقل من مرجعيّة الفقيه إلى مرجعيّة النصّ. فهذا فارقٌ أساس بين منع التقليد عند بعض قدماء الأصوليّين ومنعه عند الإخباري والظاهري.
يمكننا فهم هذا السياق إذا كنّا نعرف طريقة ابن زهرة في الاجتهاد وموقع الإجماع في منظومته الاجتهاديّة، فابن زهرة يكاد يكون من الذين يدّعون الإجماع على أكثر القضايا الفقهيّة، يفهم ذلك من كتابه “غنية النزوع”، من هنا فهو عندما يحيل إلى مرجعيّة العلماء للكشف عن الإجماع والتثبّت منه، فهو يدرك مسبقاً أنّ الإجماع سوف يكون حاضراً في الأغلبيّة الساحقة من الموضوعات الفقهيّة، لكنّ ابن زهرة لا يبيّن لنا موقف المكلّف حال اختلاف فقهاء الشيعة، ما الذي يجب عليه فعله؟ لا أستبعد ـ وفقاً لطريقة ابن زهرة الاجتهاديّة التي تولي الاحتياط مكانةً عالية أيضاً ـ أن يُفتي بوجوب الاحتياط على العامي بحكم العقل أو غيره أيضاً، وهذا الاحتياط لن يكون عسيراً هذه المرّة؛ لأنّ المفروض أنّ الإجماع قد غطّى أغلب القضايا.
لكن بهذه الطريقة لا يمكن أخذ الحلول التي قدّمها ابن زهرة لتطبيقها في فضاءٍ آخر، فهي ليست نافعة إلا في سياق المنظومة الفقهية الخاصّة التي يؤمن بها ابن زهرة أو ما يقترب منها، فإذا لم نكن موافقين على هذه النسبة المزعومة من حضور الإجماع في الفقه، كما هي الحال اليوم التي توجد فيها الكثير جداً من القضايا غير الإجماعيّة، فإنّ حلول ابن زهرة تبدو مثاليّة وغير موفّقة، ما لم نُقحم الشهرة، بل حتى لو أقحمناها، سيظلّ الأمر عسيراً في غير موضعٍ، ويحتاج إلى حلّ إضافي من نوع التخيير، بعكس الحلّ الذي قدّمه ابن حزم فهو قابل للتطبيق في مختلف الظروف.
3 ـ الإخباريّون ومنع التقليد
تعود فكرة منع التقليد للظهور في الوسط الإمامي بقوّة في القرن الحادي عشر الهجري، وذلك مع الشيخ محمّد أمين الاسترآبادي (1033 أو 1036هـ)، العقل المنظّر للمدرسة الإخباريّة الجديدة، فقد عقد الاسترآبادي الفصل السابع من كتابه الشهير “الفوائد المدنيّة” للبحث في هذا الموضوع، وذلك تحت عنوان “في بيان من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والإفتاء”.
وبعد سرده لعدد غير قليل من الروايات المرتبطة بموضوع الرجوع للفقهاء والرواة، يستنتج الاسترآبادي قائلاً: «الأحاديث الناطقة بأمرهم ـ عليهم السلام ـ بالرجوع في الفتوى والقضاء إلى رواة أحاديثهم وأحكامهم متواترة معنىً، وتلك الأحاديث صريحة في وجوب اتّباع الرواة فيما يروونه عنهم ـ عليهم السلام ـ من الأحكام النظريّة، وليست فيها دلالة أصلاً على جواز اتّباع ظنونهم الحاصلة من ظواهر كتاب الله أو أصل أو استصحاب أو غيرها، ولا دلالة فيها على اشتراط أن يكون الرواة المتّبعون أصحاب الملكة المعتبرة في المجتهدين. ومن المعلوم أنّ المقام مقام البيان والتفصيل، فيعلم بقرينة المقام علماً عاديّاً قطعياً بأنّ تلك الظنون وكذلك تلك الملكة غير معتبرَين عندهم ـ عليهم السلام»([14]).
يسلّط الاسترآبادي نقده بشكلٍ مباشر على هويّة المرجوع إليه في النصوص التي تطالب بالرجوع للعلماء، فيرى أنّ هذه الروايات الكثيرة المتواترة تواتراً معنويّاً يمكن اعتبارها بصدد البيان والتفصيل، ومع ذلك لا نجد فيها عيناً ولا أثراً لفكرة “ملكة الاجتهاد”، وهذا هو العنوان الذي يميّز به الأصوليّون المقلِّد عن غيره، فالملكة هو الحدّ الفاصل بين التقليد والتحرّر منه، والاسترآبادي يرى أنّنا لا نجد شيئاً من هذا القبيل في النصوص، كما لا نجد فيها أنّ المرجوع إليه يأخذ فهمه للدّين من القواعد والتأصيلات التي أتت فيما بعد، من نوع ظواهر القرآن والاستصحاب والأصول العمليّة وقوانين الملازمات العقليّة ونحو ذلك من قواعد المجتهدين، وبهذه الطريقة يسحب الاسترآبادي كلّ خصوصيّة يدّعي الأصوليّون أنّهم يملكونها بحيث يتعيّن رجوع الناس إليهم.
ومن هنا يقول الاسترآبادي في موضعٍ آخر: «كما لا اجتهاد عند الإخباريّين، لا تقليد أيضاً، فانحصر العمل في غير ضروريّات الدين في الرواية عنهم عليهم السلام»([15]).
ويُكمل الاسترآبادي قائلاً: «ومن جملة غفلات المتأخّرين من أصحابنا، كالعلاّمة الحلّي، والمحقّق الحلّي في أُصوله لا في معتبره، وكالشهيد الأوّل والثاني والفاضل الشيخ عليّ قدّس الله أرواحهم، أنّهم زعموا أنّ المراد من تلك الأحاديث المجتهدون. وإنّما قلنا: إنّه من جملة غفلاتهم، لأنّا نعلم علماً قطعيّاً عادياً أنّهم لو لم يذهلوا عمّا استفدنا من كلامهم ـ عليهم السلام ـ ومن كلام قدمائنا من أنّه لابدّ في باب القضاء والفتوى من أحد القطعين. ومن أنّه كما لا يجوز التقصير في تبليغ الأحكام لا ينبغي في الحكمة الإلهيّة أن لا يمهّد لأهل زمان الغيبة الكبرى مرجعاً يرجعون إليه في عقائدهم وأعمالهم ما سوى الأُمور الّتي هي شغل الإمام مثل إجراء الحدود، فعلم أنّ لنا كتباً ممهّدة من جهة الأئمّة عليهم السلام بأمر الملك العلاّم. ومن أنّ أسباب قطعنا بأحكامهم وأحاديثهم عليهم السلام كثيرة وافرة من جملتها: أنّهم عليهم السلام في مدّة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة أظهروا دين جدّهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم عند جمع كثير وجمّ غفير من الأفاضل الثقات المحقّقين يزيدون على خمسة آلاف رجل، وأمروهم بأن يكتبوا بين أيديهم ما يسمعونه منهم عليهم السلام لتعمل بها الشيعة ـ لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى ـ ولئلاّ تحتاج إلى سلوك ما سلكته العامّة من الاستنباطات الظنّيّة، فألّفوا بأمرهم عليهم السلام أُصولاً كثيرة كانت بخطّ تلك الأفاضل الثقات وبإملائهم عليهم السلام. ومن جملتها: تقريرهم عليهم السلام في تلك المدّة الطويلة أصحابنا على الاعتماد على تلك الأُصول في عقائدهم وأعمالهم، بل تصريحهم عليهم السلام بذلك. ومن تصريح الأئمّة الثلاثة وغيرهم ـ قدّس الله أرواحهم ـ بأنّهم أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الأُصول المجمع على صحّتها أو بأنّ كلّها صحيح، لما وقعوا في هذه الشبهات»([16]).
ومن الواضح جدّاً هنا أنّه يرتّب نتيجته على قراءته للتراث الحديثي ودور الإمامة في القرون الأولى، بمعنى أنّه كلّما اعتقدنا وفهمنا أنّ التراث الحديثي قد تمّ وصوله إلينا برعاية عالية وبجهود غير عادية، أدركنا أنّنا لسنا بحاجة لتلك الطرق الاجتهاديّة الملتوية والطويلة التي أوقع المجتهدون أنفسهم فيها، وكأنّ الاسترآبادي يريد أن يقول بأنّنا ببركة هذه الجهود التي بذلت من الأئمّة وأتباعهم في القرون الأولى، ما زلنا نعيش في عصر النصّ. وفي عصر النص لا معنى لكلّ هذه المناهج الاجتهاديّة المطوّلة، بل نحن والنصوص التي يرى بعض الإخباريّين قطعيّتها الصدورية وقطعيّتها الدلالية، فنرجع للعلماء كما كانوا يرجعون لهم سابقاً، أي بوصفهم رواةً ومفسرين للنصّ في بنيته اللغويّة ونحو ذلك لا أكثر ولا أقلّ، فالفقهاء في عصر الغيبة هم كالرواة في عصر الحضور، وعلاقتنا معهم علاقتنا مع الرواة فيما يقدّمونه من خدمات في سبيل الحديث.
بهذا تتكرّس الفكرة التي أشرنا إليها سابقاً، وهو أنّ إعادة فهم دور الفقيه أو المجتهد يعيد تكوين نظريّة التقليد، وأنّه كلّما وقعنا في خطأ المحاكاة مع التجربة السنيّة التي دفعت لظهور الاجتهاد عندهم بسبب قصور النصوص ومآزقها لديهم، جرّنا ذلك لفكرة التقليد، ومن ثمّ ففكرة التقليد ليس لها داعٍ أصلاً في فضائنا المعرفي وتجربتنا الداخليّة وسياقنا التاريخي ـ الحديثي، وبهذا يكون التمايز مع التجربة السنيّة أساساً ـ كالعادة عند الإخباريّين ـ لتعديل قراءتنا للكثير من الأشياء. ونحن نعرف أنّ الأمين الاسترآبادي ومعه فريق غير قليل من الإخباريّين يرون أنّ العلوم التي شيّد الأصوليّون كينونتهم عليها مرفوضةٌ؛ لأنّها جاءت من سياق منفصل، وهو السياق السنّي، فعلم أصول الفقه وعلم الرجال وعلوم الحديث وأمثالها لا حاجة لها في سياقنا المعرفي التاريخي.
لهذا نجد الاسترآبادي في نصٍّ دالّ يقول أيضاً مكرّساً المرجعيّة الحصرية للحديث: «لا مدرك للأحكام الشرعية النظريّة ـ فرعية كانت أو أصلية ـ إلا أحاديث العترة الطاهرة عليهم السلام، وتلك الروايات الشريفة متضمّنة لقواعد قطعيّة تسدّ مسدّ الخيالات العقليّة المذكورة في الكتب الأُصوليّة والاعتبارات المذكورة في كتب فنّ دراية الحديث. والقواعد الظنّية العربية المذكورة في فنّ المعاني والبيان أو غيرهما أيضاً قليلة الجدوى عند الإخباريّين من أصحابنا؛ وذلك لأنّهم لم يعتمدوا في فتاويهم وأحكامهم إلاّ على دلالات واضحة صارت قطعيّة بمعونة القرائن الحالية أو المقاليّة، وتلك القرائن وافرة في كلام أهل البيت عليهم السلام، لا في كتاب الله ولا في كلام رسوله..»([17]).
وبهذا نستنتج أنّ تغيير المنظومة المعرفيّة عند الإخباريّة أدّى تلقائيّاً إلى نسف فكرة التقليد، والعودة للعصر الحديثي الأوّل، مضافاً لما يظهر من بعض الإخباريّين في غير موضعٍ من قلقهم من تعاظم دور المجتهدين، بحيث أصبح في عرض دور الإمام ومكانته، فيُتعامل مع الفقيه وكأنّه الإمام المعصوم، وهو ما يعتبرون أنّه اتّسع يوماً بعد يوم، إلى أن بلغ الاتساع مبلغه وصولاً إلى مثل نظريّة الولاية العامّة للفقيه، والتي ترى أنّ كلّ ما للمعصوم هو للفقيه في عصر الغيبة إلا ما خرج بدليل خاصّ.
ذلك كلّه يوضح لنا أنّ الإخباريّ لا يريد رفض الرجوع للفقهاء والعلماء، لكنّه يعتبرهم مجرّد ممرّ للكتاب والسنّة، وهنا يكمن خطأ من يتصوّر أنّ نقّاد التقليد من الإخباريّة أو الحلبيّين هدفهم تحييد الناس عن الرجوع للعلماء، فهذا غير صحيح؛ لأنّ الكلّ متفق عليه، وإنّما النزاع في هويّة الرجوع وشكله هو المهمّ بالنسبة إليهم والمختلف عليه بينهم.
ولابد أن أوضح هنا أنّ هذا الاتجاه هو نزعة في الإخباريّين، ولا يصحّ القول بأنّه قول أجمعهم، فهذا غير صحيح إطلاقاً، فهذا المحدّث البحراني (1186هـ) يعلن بوضوح القبول بفكرة ملكة الاجتهاد والتمييز بين العوام والمجتهدين وعدم إمكان الاجتهاد على العوام وضرورة رجوع العامّي للفقهاء، بل يحاول تأوّل مسلك الإخباريّين بالقول بأنّهم لم يقصدوا مرجعيّة الرواية والحديث في عصر الغيبة الكبرى مطلقاً، بل في القرون الأولى فقط وغير ذلك، فراجع([18]).
نقد مقاربات الإخباريّين من قبل الأصوليّين
لقد تمّ تسجيل الكثير من النقد الأصولي وغيره على هذه البنية الإخباريّة وأنّها تسطّح المشكلة وتبسّطها وتوحي بأنّ فهم الدين عمليّة سهلة جداً، وأنّها مثالية وعاطفّية جدّاً في مقاربتها للأمور، فتعقيدات المعرفة عبر التاريخ ليس شيئاً يمكن إنكاره، وكأنّ هؤلاء الإخباريّين يعانون من مرض “إنكار الواقع”! ولا يريدون الإقرار بأنّ الأمور معقّدة، حتى أنّ بعضهم أكّد أنّه لا حاجة لكلّ الدراسات في اللغة العربيّة وعلوم البيان والبديع وغيرها، بل الأمور أبسط، في حين أننا نجد قضايا المعرفة الدينيّة تتعقّد يومًا بعد يوم، ويجب أن نضع حلولاً تأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع القائم أو تحاول إزالته إذا أمكن، لا التنكّر له بلغةٍ أيديولوجيّة عاطفيّة، وكأنّه لا توجد أيّ مشكلة في الحديث ولا في التاريخ ولا في الدلالات ولا غير ذلك. بل إنّ اتخاذ موقف في كيفيّة التعامل مع النصّ الأصلي بين الإخباريّة والأصوليّة هو مقدّمة ضروريّة لكلّ مكلّف، فهل يقدر المكلّفون على إعطاء رأي بهذه المعركة الطاحنة شديدة التعقيد؟!
أدلّة أخرى للإخبارية غير المشهد السياقي
كان هذا هو المسار الطبيعي لغياب نظريّة التقليد وتحريمها عند بعض الإخباريّين، انطلاقاً من “حسبنا النصّ الحديثي” على وزان “حسبنا كتاب الله”، لكنّ مرجعيّات استدلاليّة مساعدة ظهرت عند بعضهم وعند بعض معارضي التقليد، وقد تعرّض لها علماء الإخباريّة، وكثير منها استعرضه أيضاً علماء الأصول على الأقلّ في بعض الحقب الزمنيّة وانتقدوه، ونشير لبعضها باختصار:
1 ـ ما قاله الأصولي من حجيّة قول المجتهد يحتاج إلى دليل يُثبته في الدين، وليس عليه دليل، فهو المطالَب بالدليل.
وقد ردّه الأصولي بإثبات الأدلّة التي استعرضنا بعضها سابقًا.
2 ـ النصوص القرآنيّة الدالّة على ذمّ تقليد الآباء، وهي متعدّدة.
وردّه الأصوليّ بأنّه مختصّ بأصول الدين دون الفروع. واستدلّ بعض المعاصرين بآية ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ (الفرقان: 73) باعتبارها شاملة لأصول الدين وفروعه جميعًا.
3 ـ التقليد مشمولٌ لعمومات النهي عن اتّباع الظنّ.
وردّه الأصولي بأنّه خرج بدليل شرعيّته عن عمومات النهي عن العمل بالظنّ.
4 ـ الاستناد لمقاربة عقلانيّة ظهرت في كلمات بعضٍ، وهو أنّ قضايا علم الكلام أشدّ تعقيداً وصعوبة من قضايا الشريعة، وإذا كان التقليد منهيّاً عنه فيها، فهو في الشريعة أوضح في النهي؛ لأنّها أسهل. وكأنّ التقليد مبرّره العجز، وهو في الأصول أوضح، فإذا لم يشرع في الأصول فالأولى أن لا يشرع في الفقه.
5 ـ النصوص الحديثية الذامّة للتقليد، وعلى سبيل المثال فقد عقد الشيخ الكليني باباً تحت عنوان “باب التقليد”، وضمّنه بعض الروايات التي تحدّث بعضها عن تقليد بعض أهل الكتاب لعلمائهم، في سياق شرح نصوص عبادتهم للأحبار والرهبان فيما حلّلوا لهم وحرّموا، حيث لا يفهم نقّاد التقليد من الإخباريّة أنّ هذه الروايات تعتبر المشكلة فقط في أنّ علماء بني إسرائيل وعوامهم كانوا فسقة، بل يعتبرون أنّ منظومة التقليد الشيعيّة الأصوليّة تجعل المكلّف متّبعاً للفقيه دون سؤال، بحيث لو حلّل له حراماً أو غيره لاتّبعه؛ لأنّه لا مجال له لغير ذلك، فالنتيجة واحدة.
واللافت أنّ النصوص التي قيل بأنّها تذمّ التقليد كان العلماء ـ مثل الشيخ المفيد في “تصحيح اعتقادات الإماميّة” ـ قد وظّفوها لنقد فكرة التقليد في العقائد، وإثبات وجوب النظر والمعرفة، ونحن نعرف أنّ هذه المسألة في علم الكلام لها تأثيرات واسعة، وربما تكون أحد الأطر الفكريّة والمنطلقات الكلاميّة التي دفعت بعضهم إلى منع التقليد حتى في الفقه لاحقاً.
ومن النصوص أيضاً الرواية القائلة: «إيّاكم والتقليد، فإنّه من قلّد في دينه هلك..» ([19])، وكذلك عن الصادق: «من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال ومن أخذ دينه من الكتاب والسنّة زالت الجبال ولم يزل» ولكنّ أغلب ـ وربما كلّ ـ هذه الروايات تمّت مناقشته إسنادياً وحتى دلاليّاً.
مقارنات ومقاربات سريعة
إذا أردت إجراء مقارنات ومقاربات سريعة هنا، نلاحظ الآتي:
1 ـ إنّ قلق التيارات الشيعيّة الناقدة للتقليد كان يتمركز أكثر ـ بعيداً عن العصر الحديث ـ حول علاقة العوام بالفقهاء، بينما الذي نلاحظه في النقد السنّي للتقليد أنّه شامل لعلاقة العوام بالفقهاء وعلاقة الفقهاء بالفقهاء السابقين المتمثلين بكبار الصحابة وكبار التابعين وأئمّة المذاهب الكبار في القرون الثلاثة الأولى، فالنقد على صلة بالخوف من هيمنة ظاهرة التقليد حتى على الحركة الفقهيّة العلميّة نفسها، شبه ما يقال من أنّه حدث أو أوشك على أن يحدث مع الشيعة الإماميّة بعد الطوسي لولا نقّاد كبار من أمثال ابن إدريس الحلّي (598هـ).
2 ـ إنّ هذه الاتجاهات السنيّة والشيعيّة كانت في العادة تجد نفسها أمام خيارين: خيار التقليد بالنسبة لكلّ من هو غير فقيه، وخيار الاجتهاد والنظر بالنسبة لمن له أهليّة الفقاهة، فلم يكن فيما يبدو هناك تفكير بتنوّع في الجماعات بين الأقليّة المجتهدة والأكثرية العاميّة، بينما في العصر الحديث ظهرت قراءات من نوع مختلف، تكشف عن طبقة ثالثة (المثقف الديني ـ فضلاء الحوزة) أو ربما طبقات، فتميّز ما هو من العوام وتجعله على فئات، وبعضها تضع له حلولاً غير التقليد، وبعضها تبقيه على حلّ التقليد، أو غير ذلك من التقسيمات والحالات التي أخذنا نجدها بين المتأخّرين.
3 ـ إنّ هناك قاسماً مشتركاً بين الظاهريّة والإخباريّة هنا، وهو أنّ همّهما معاً النصّ وسلطته، مقابل موقفهم من أنواع الاجتهاد مثل القياس والرأي والاستحسان وغيرها مما رفضه ابن حزم، ومثل علم أصول الفقه ومرجعيّة العقل في مستقلاته وملازماته وعلم الحديث والرجال وغير ذلك في المشهد الإخباري الرافض للتقليد. وهذه المواقف والفهوم لقضيّة الاجتهاد وآليّاته وعلومه لعبت دوراً في موقفهم من التقليد، والأمر معهما معاً أدّى لعودتهم للتفكير في طريقة تعامل الأجيال الإسلاميّة الأولى مع قضيّة رجوع الجاهل إلى العالم، فأمثولتهم كانت عبارة عن إعادة استنساخ وتمثّل هذا النمط المعرفي ـ الاجتماعي الذي كان سائداً والنقمة على المراكمات العبثيّة التي تمّت إضافتها عبر التاريخ وعقّدت عمليّة الاجتهاد.
بينما الذي نلاحظه أكثر عند الحلبيّين ـ وعلى رأسهم ابن زهرة ـ أنّ منطلقهم كان أخلاقيّاً تمّ استقاؤه من طروحات المتكلّمين في قضايا وجوب النظر والمعرفة، إضافة لهدمهم مرجعيّة الظنّ مطلقاً، والتقليدُ ضربٌ من العمل بالظنّ، وموقفهم من الظنّ هو قاسمٌ مشترك مع الإخباريّين أيضاً من جهة أخرى.
__
ثالثاً: التقليد وطروحاتٌ حديثة
ما إن انتهى العصر الإخباري شيعيّا أو تراجع، حتى أخذ الأصوليّون يتوسّعون في دراسة موضوع الاجتهاد والتقليد، وكان أوّل ظهور له هو عند التيار الانسدادي الذي يمكن أن تفتح طروحاته على الكثير من القضايا في موضوع التقليد لسنا نملك المجال الكافي لقراءتها هنا.
ولكنّ القرن العشرين وصولاً إلى يومنا هذا، شهد بعض التفكير في قضيّة التقليد، وبعض هذه الأفكار لها جذور قديمة في التراث، لكن تمّت بلورتها والإضافة عليها بشكل لافت، لتكوين تصوّر مختلف عن السائد بين جمهور فقهاء الإماميّة.
إنّ هناك أفكاراً كثيرة جزئيّة هنا وهناك ومواقف، فمثلاً السيد محمّد جواد الموسوي الغروي الإصفهاني (2005م) يرى الرجوع للفقيه لتحصيل العلم والمعرفة من قوله فقط لا غير، كما توجد مسألة مهمّة تمّ تداولها وهو أنّ التقليد خيار أو هو “حال ضرورة“، فهل أنا مخيّر بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط نظير الكفّارة التخييريّة؟ أو أنّ التقليد إنّما يكون حال عجزي عن الاجتهاد والاحتياط نظير الكفارة المرتّبة، فالأصل هو الاجتهاد وإلا فالاحتياط وإلا فالتقليد وبالتالي فالتقليد بديل ضرورة؟ وعلى سبيل المثال يرى الشيخ محمّد الصادقي الطهراني (2011م) حرمة التقليد إلا للعاجز عن الاجتهاد. إنّ غير واحدٍ من هؤلاء يرون أنّه لا يلزم من القبول بالتخصّص القبول بمطلق التقليد.
إلى جانب هذه الآراء هنا وهناك، وليست قليلة، طرحت تساؤلات في ثنايا كلمات بعض المشتغلين بالفقه والباحثين في غير دائرة الفقه الرسميّ عن الضمانات في موضوع التقليد في الدين، ففي تقليد الآخرين يوجد ضمان أنّه لو أخلّ أو أفسد ـ كما في البنّاء أو عامل الحسابات ـ فيمكن كشف خطئه، وإجراء محاسبات، أمّا في الشريعة، فليس هناك ضمان لو أخطأ الفقيه، إلا أن يأتي يوم القيامة فنعرف الحقّ من الباطل.. تساؤلات كثيرة عصفت بالأذهان وزادت من حدّتها صراعاتُ التيارات العلمانية والدينيّة وغيرها.
لن نخوض في هذه المساحة الواسعة، ولكنّني سوف أرصد عيّنات ممّا أعتبره دراسات جادّة أكثر، بعيداً عن لغة التهريج والتشويش، وخطابات الصحافة الصفراء، ومنشورات استجلاب (اللايكات) على وسائل التواصل الاجتماعي ونحو ذلك.
ولكي نعطي نماذج لبعض الطروحات الحديثة، سوف أقدّم ثلاث عيّنات:
1 ـ مدرسة الوثوق في حجيّة قول أهل الخُبرة.
2 ـ نظريّة التوسّط بين الاجتهاد والتقليد بملاحظة المقدّمات والعدد المعرفيّة (الشيخ صادق لاريجاني أنموذجاً).
3 ـ نظريّة التوسّط بين الاجتهاد والتقليد بملاحظة طريقة النظر ومنهج الترجيح (الأستاذ يحيى محمّد أنموذجاً).
1 ـ مدرسة الوثوق في حجيّة قول أهل الخبرة (المنتظري أنموذجًا)
ثمّة نقاش دار بين علماء أصول الفقه الإسلامي وغيرهم وهو نقاش قديم ـ جديد يتعلّق بمعايير وضوابط الرجوع لأهل الخبرة فيما لهم خبرة فيه بشكل مطلق بصرف النظر عن الفقه والفقاهة وموضوع التقليد. وقد تمّ التعرّض لهذا الموضوع في مواضع متعدّدة وفي أكثر من علم، منها بحث حجيّة قول اللغوي، وحجيّة قول الرجالي، وحجيّة فتوى الفقيه وغير ذلك.
وقد انقسمت المواقف في الضابط لرجوع الناس إلى أهل الخبرة إلى فريقين أساسيّين:
الفريق الأوّل: وهو الذي اعتقد بأنّ الرجوع إلى أهل الخبرة لا حاجة فيه إلى حصول الوثوق والاطمئنان في نفس المكلّف بما يقوله الخبير؛ لأنّ السيرة العقلائيّة يرجع الناس وفقها إلى الطبيب ـ مثلاً ـ بلا حاجة لحصول الاطمئنان لهم من قوله، وعليه فحجيّة قول أهل الخبرة ـ والفقيه المرجع هنا واحد من أهل الخبرة في الشريعة ـ لا علاقة لها بحالة المكلّف الذهنيّة والنفسيّة، فمهما كانت مشاعره وأفكاره من اطمئنان أو ظنّ أو شكّ أو تشوّش يلزمه التعبّد والأخذ بفتوى الفقيه.
الفريق الثاني: وهم جماعة من العلماء قالوا بأنّ حجيّة قول أهل الخبرة منشؤها سيرة العقلاء وبناءاتهم؛ فعندما نحلل طبيعة العقلاء ومنهجهم في التعامل مع أهل الخبرة في مختلف الاختصاصات نجد أن المؤكّد أنهم يأخذون بقول الخبير فيما إذا حصل لهم الوثوق والاطمئنان بقوله، والسيرة دليلٌ لبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن. والقدر المتيقّن هنا هو حصول الوثوق والاطمئنان من قول الخبير لا مطلقاً، ومعه فتكون الحجيّة لهذا الاطمئنان.
ينتصر هذا الفريق لفكرته بطرح السؤال الآتي: هل العقلاء يذهبون إلى أهل الخبرة على أساس أنّ قولهم يحصّل اطمئنان النفس وسكونها أو على أساس انسداد باب العلم، فيلجؤون ـ حيث لا يمكنهم تحصيل الاجتهاد والخبروية ـ إلى من حصّل الاجتهاد والخبرويّة؟
هذا السؤال يحمل مضموناً تحليليّاً مهمّاً، فإننا نريد أن نعرف أنّهم عندما يرجعون إلى أهل الخبرة، هل يعتمدون على قوله؛ لأنّه يعطيهم اطمئناناً، أو لأنّه يفيد الظنّ الذي لا يوجد بديلٌ عنه، بعد فرض عدم إمكان تخصّص كلّ إنسان بجميع الاختصاصات التي قد يبتلي بها في حياته؟ فالعبرة هنا.
هنا يرى هذا الفريق أنّ القدر المتيقّن من عمل العقلاء في الرجوع إلى أهل الخبرة هو الرجوع إليهم لا لتحصيل العلم الذي عندهم وصيرورتنا مثلهم من أهل الخبرة، بل للاطمئنان لهم والسكون إلى ما يقولون، بحيث تهدأ النفس؛ لأنّ العقلاء لا تقوم تصرّفاتهم على التعبّد؛ بل لنكتة عقلائيّة وهي هنا حصول الوثوق على حدّ تعبير الميرزا النائيني، فعندما يرجع الوالدان الحائران إلى الطبيب لمداواة ولدهما ويعطيهما وصفةً طبية من عدّة أدوية، فإنّ قلقهما على ولدهما يزول، ويشرعان بإعطاء ولدهما الأدوية عن حالةٍ من الطمأنينة بشفائه انطلاقاً من ثقتهم بالطبيب وخبرته.
ولهذا إذا اختلف طبيبان في العلاج، فإنّهما يحتاطان إذا أمكن الاحتياط ـ كما يذكر السيّد الخوئي نفسه ـ أو يرجعان إلى أيّ صيغة أخرى تورثهم الاطمئنان وتبعدهم عن مورد الارتياب، كالرجوع أحياناً إلى الأعلم؛ فإنّه يورث الطمأنينة، أو الرجوع أحياناً أخرى إلى مجموعة خبراء والعمل بقول أكثرهم؛ لكونه مورثاً للاطمئنان أو نحو ذلك؛ فهما يريان كلام الأعلم أو الأغلب موجباً للمزيد من تحصيل الاطمئنان، أو يريان كلام غيره غير بالغٍ حدّ الاطمئنان مع مخالفة الأعلم أو الأغلب له، فالذهاب إلى الطبيب الأقلّ علماً أو عدداً لا يفيدهما السكينة مع علمهما بالاختلاف في التشخيص الطبّي للطبيبين.
إذا حلّلنا طريقة العقلاء، فهم لا يشترطون تحصيل العلم بصحّة ما يقوله الخبير على حدّ تحصيل الخبير نفسه لهذا العلم، لكنّهم يرون كلامه موجباً للوثوق والاطمئنان مع احتماله الخطأ من حيث المبدأ، دون أن يكلّفوا أنفسهم سؤال أكثر من خبير، أو ينقدح كثيراً في ذهنهم احتمال مخالفة غيره له، أو خطئه، ومع هذا كلّه فما يدفعهم غالباً للطبيب هو عدم قدرتهم على تشخيص الأمر، فالاطمئنان الذي يمنحهم إيّاه الطبيب هو اطمئنانٌ ناتج عن سدّ باب تشخيص الأمر أمامهم، وانحصار طريق الوثوق بالرجوع للخبير، وعلى هذا تقوم حياة العقلاء في باب الإخبارات أيضاً كما شرحناه مفصّلاً في أبحاثنا في حجية السنّة وأخبار الآحاد في علم الأصول؛ حيث قلنا هناك بأنّ العقلاء لا يعتنون بما سمّيناه بالشكوك الافتراضية النابعة من فرض احتمال العكس فرضاً إمكانياً منطقيّاً، وإنّما الشك عندهم هو حالة التردّد كتلك الناتجة عن معطيات تفيد حصول الشك.
لكن ماذا لو حصلت حالةٌ وصل فيها العاقل لعدم تحصيل الوثوق من أيّ خبير، إمّا لكثرة التعارضات أو لفقدان الثقة العامّة نتيجة أسباب نفسيّة ـ اجتماعيّة موضوعيّة، هنا يتوقّع من أنصار هذا الفريق أن يذهبوا للترجيحات إذا لم يمكن الاحتياط، فمن كان قوله أكثر قوّة في الظنّ أخذوا به، لكنّ هذه الحال هي حال انسداد سبل السكينة.
هذا البحث الذي تمّ تداوله في مواضع متعدّدة، قام بعض الفقهاء في العصر الحديث باستحضاره بشكلٍ مباشر في مسألة التقليد، واعتبر أنّ تقليد العامي لزيدٍ الفقيه لا معنى له إذا لم تكن فتوى زيد في الموضوع الفلاني موجبةً لتحصيل حالة الوثوق لديه، فلو أفتى زيد بأنّ الخمس مالٌ شخصي للنبيّ وأهل بيته، ولا علاقة له في بنيته الأساسيّة بالمسلمين فضلاً عن فكرة الدولة كما يقول الخوئي، فيما يرى الخميني عكس ذلك، ويفهمه في سياق سياسي اجتماعي حكومي، بينما يرى ثالث وهو محمد جواد مغنية أنّ القضيّة لا هذا ولا ذاك، إنّما هو نمطٌ من التكافل الاجتماعي العام، لا هو شخصيّ للنبي وأهل بيته ولا هو ضريبة مرتبطة بفكرة الدولة، فهنا قد يحصل للمكلّف ـ نتيجة خلفيّاته المعرفيّة المحدودة ـ ثقة بما قاله الخوئي أو الخميني أو مغنية، ويستبعد فكرة غيره، ففتوى من استقرب فكرته هي الحجّة وغيره ليست بحجّة هنا.
وبهذا يتنقّل الموضوع بين الفتاوى فيلزم تقليد زيد في مسألة وتقليد عمرو في أخرى، تبعاً للوثوق النفسي الذي يحصل للمكلّف من هذه الفتوى أو تلك، ولو لم يحصل له فعليه البحث عن خواصّ ترجيحيّة ترفع معدّل الوثوق، مثل أعلميّة أحدهم أو كون الفتوى موافقة للمشهور أو غير ذلك، أو يعتمد الترجيح الوثوقي، فنحن هنا نربط حجيّة الفتوى بقناعة الفرد المكلّف بمديات احتماليّة أقربيّتها للواقع، لا بذاتها وكينونتها.
أحد أبرز الفقهاء الذين اختاروا هذه النظريّة في التقليد، ولو لم يتوسّع بها، كان الشيخ حسين علي المنتظري (2009م) وتبعه على ذلك جماعة من تلامذته مثل الشيخ الدكتور محسن كديور، حيث رأى منتظري أنّ حجية الرجوع للفقيه غير تعبديّة، بل عقلائيّة، والعقلاء يرجعون مع تحصيل الوثوق والاطمئنان لا مطلقاً. فاتّباع الفقهاء عنده هو اتباع فيه نوع وعي وتحقيق، وليس اتباعا تعبّديّاً محضاً كما هو الرأي السائد وفقاً لتوصيفهم له.
يقول المنتظري في نصٍّ مهمّ: «وأمّا ما قد يُرى من بعض العوام من التعبّد المحض بفتوى المجتهد مطلقاً من دون التفات إِلى أنّه يطابق الواقع أم لا، بل وإِن التفتوا إِلى ذلك وشكّوا في مطابقته له، فلعلّه من جهة ما لُقّنوا كثيراً بأنّ تكليف العامي ليس إِلاّ العمل بفتوى المجتهد، وأنّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّه مطلقاً. والظاهر أنّ هذه الجملة تكون من بقايا إِلقاءات المصوّبة، وإن تردّدت على ألسنتنا أيضاً»([20]).
إنّ الجملة الأخيرة منه توحي بأنّ فكرة غياب الواقع التشريعي لصالح الارتباط بالفتوى منقطعة الصلة عن الواقع التشريعي كيفما كانت حالة المكلّف هي فكرة من بقايا تفكير المصوّبة الذين قطعوا الصلة مع الواقع التشريعي الواحد وأعادوا تشكيل واقعٍ جديد هو الفتاوى نفسها بحيث صارت لها كينونة واقعيّة مستقلّة.
الغريب أنّ منتظري لم يدرج هذا القيد في رسالته العمليّة، فلم نجده حين شرح التقليد وبيّن قضايا الاجتهاد والتقليد، بل سار على طرائق سائر الفقهاء، مع أنّ رأيه هذا أدرجه في فترة مبكّرة أي في كتاب دراسات في ولاية الفقيه، الذي صدر في ثمانينيّات القرن العشرين!
ولكن ثمّة سؤال يطرح هنا على هذه النظريّة وهو: إنّ عناصر تكوّن الوثوق عند الفرد/المكلّف تختلف اختلافاً كبيراً، وبوضعكم وثوق الفرد معياراً وليس اطّلاعه على الأدلّة أو مراجعتها بالضرورة، عكس بعض النظريّات الآتية أو السابقة، يجعل معرفته أحياناً معرفة غير عقلانيّة وغير أخلاقيّة، فقد يثق بالحكم الشرعي حصرًا نتيجة ثقته الشخصيّة بالفقيه ومجموع منظومته وأفكاره، وليس دائماً نتيجة ثقته بطبيعة الموضوع ومنطلقاته، فهل هذا النوع من المعرفة الوثوقية عقلانيٌّ وأخلاقيّ؟!
ثمّة بحث في الدراسات الأخلاقيّة وفلسفتَي المعرفة والأخلاق المعاصرة حول موضوع التقليد بمعنى الرجوع في المعرفة إلى متخصّص أو شاهد، وهناك من يرى أنّ المعرفة العقلانيّة التي تتجنّب المغالطات هي المعرفة الاستدلاليّة فقط، فالمعرفة الناتجة عن الدليل هي التي تحظى بالعقلانيّة فيما المعرفة التي تنجم عن غير ذلك بما في ذلك الثقة بالعالم والمتخصّص هي معرفة غير عقلانيّة وتندرج في المغالطات. في حين يرى آخرون أنّ المعرفة تغدو عقلانيّة وأخلاقيّة ليس فقط عندما تكون استدلاليّةً كما يركّز المعتزلة كثيراً، بل أيضاً عندما تكون مبنيّةً على مبدأ الشهادة، وهو ما يسمّى: Knowledge by evidenc Knowledge by testimony . وتوجد بحوث مفصّلة في هذا الموضوع تنتصر لكلّ فريق من الفريقين بما لا يسع المجال لدراسته هنا، لكنّني أقترح أن تُدرس في الحوزات والجامعات نظريّة التقليد من زاوية البحث الفلسفي المعرفي والأخلاقي فيما كتب حوله حتى الآن وإجراء مقارنات مع الفكر الأصولي والفقهي الإسلامي بمدارسه، فلا يتصوّرنّ أحد أنّ التقليد فكرة منبوذة تجاوزها الزمن، وإنما هي فكرة حيّة ما زالت موضوعًا للدراسة والبحث في فلسفة المعرفة وفلسفة الأخلاق في الفكر الفلسفي العالمي من زاوية أخلاقيتها وعقلانيّتها.
2 ـ نظريّة التوسّط بين الاجتهاد والتقليد بملاحظة المقدّمات والعدد المعرفيّة (لاريجاني أنموذجاً)
يسهب الفقيه البارز الشيخ صادق لاريجاني (المولود عام 1961م)، في طرح فكرته وفقاً لمقاربات أصوليّة وفقهيّة تخصصيّة بما لا يسمح لنا المجال بطرحها هنا، لكنّه يتوصّل من خلال تحليله الفقهي والأصولي إلى ما يعبّر عنه بنظريّة التوسّط التي طرحها للعلن في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين.
وقد أثارت هذه النظريّة بعض ردود الأفعال وتخوّف منها فريقٌ على أساس أنّها تفتح الطريق للمثقّفين للتحرّر من مرجعيّة الفقهاء والانفراد باستنتاجات فقهيّة رغم كونهم غير متخصّصين، فيما أصرّ لاريجاني على أنّه لا يستهدف بهذه الفكرة الجامعيّين والمثقّفين، بل فريق داخل الحوزات العلميّة لا هو بالمجتهد الخالص ولا هو بالمقلّد المبتدئ، ويمكن لهذا الفريق الذي يمثل طبقةً وسطى في المجتمع أن يمارس التوسّط بين الاجتهاد والتقليد ويصل لاستنتاجات يعمل بها ولو خالفت رأي مرجعه الذي يقلّده. لكنّنا عندما نقرأ النظريّة بتمعّن ـ بل ندقّق في عباراته نفسها ـ نكتشف أنّها لا تختصّ بالحوزويّين وإن كانوا من أبرز مصاديقها، بل تشمل بعض الجامعيّين أيضاً حسب طبيعة الاختصاصات.
يعتبر لاريجاني أنّ فكرته هنا لها وجود في التراث الأصولي والفقهي سابقاً غير أنّها مهجورة، على أنّ في بعض كلماته اضطراباً هنا بين وجودها وعدم وجودها، فمرّة يوحي أنّها موجودة ومرّة يعطي إيحاء مختلفاً، ولكن عندما نتأمّل في كلامه نكتشف أيضاً أنّه يقصد ـ على الأرجح ـ أنّ مكوّنات هذه النظريّة وعناصرها الاستدلاليّة لها وجود فيما مضى، كما في مثل البحث في موضوع الاجتهاد في المبادئ البعيدة أو في موضوع الاجتهاد المتجزئ أو في موضوع التخيير الأصولي وغير ذلك، غير أنّه قام بتركيبها واستخراج نتائج منها صانعاً أطروحة متميّزة. وسنتعرّض لروح نظريّته بأسلوب مبسّط في البيان بعيداً عن الأخذ والردّ في المناقشات والتعليق على كلام الأعلام.
تتكوّن النواة الصلبة في نظريّة التوسّط هذه من فكرة الجمع بين التقليد والاجتهاد، فكثير من الناس لا يمكنهم تحقيق هذا الجمع، لهذا فإذا لم يجتهدوا أو يحتاطوا فلا سبيل أمامهم إلا محض التقليد، لكن هناك فئة من الناس يمكنها ممارسة جمع ما، بحيث لا يكون هؤلاء مجتهدين بالمعنى الكامل للكلمة، ولا مقلّدين كذلك. والعنصر الجوهري الذي يفتح على هذا التركيب بين الاجتهاد والتقليد هو طبيعة العمليّة الاجتهاديّة نفسها، فهذه العمليّة ليس ذات عناصر محدودة تنتمي لمجال معرفي واحد، بل تتركّب من سلسلة طويلة ومعقّدة من المكوّنات المعرفيّة، وعندما نحللها نجد أنها تنتمي في الكثير من عناصرها لعلوم مختلفة، كما تحتوي على مهارات متعدّدة. فنحن أمام علوم من نوع: العلوم اللغوية والأدبيّة على تنوّعاتها، وعلم التاريخ، وعلم السيرة، وعلم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم الرجال، وعلم الحديث، وعلوم القرآن، وعلم التفسير، وعلم تاريخ الفقه وسائر العلوم الشرعيّة، وعلم الفقه نفسه وغير ذلك، لهذا يعتبر الاجتهاد الشرعي ملتقى سلسلة من العلوم والموضوعات والمهارات التي باتت اليوم منفتحة على بعض العلوم الإنسانيّة أيضاً، ولهذا حار بعض العلماء في تعريف موضوع علم الفقه لتنوّع شبكته موضوعاته. فالفقيه قد تجده في مورد باحثاً لغويّاً، وفي مورد أخر عالماً أصوليّاً، وفي مورد ثالث مفسّراً، وفي مورد رابع مشتغلاً على معطيات تاريخيّة، وفي مورد خامس عالم حديث ورجال، وهكذا، الأمر الذي يعني ـ نظريّاً حتى الآن ـ أنّ عالم التفسير هو عالمٌ متخصّص بجزء من المعرفة التي تساهم في تكوين الاجتهاد وإنتاج الفتوى، وكذلك عالم الرجال والحديث متخصّص بجزء من المعرفة التي تكوّن منظومة الاجتهاد وهكذا..
وهنا يظهر لاريجاني جوهر فكرته وهو أنّه مع توسّع العلوم هذه يمكننا العثور على شخصٍ متخصّص في علم الرجال ولكنّه غير متخصّص في الاستنباط الفقهي، والعكس صحيح، وهذا ما يعني أنّه من الممكن أن نجد “نصف مجتهد” أو “ربع مجتهدٍ” ـ إذا صحّ التعبير ـ وفقاً لهذا الحساب، وهو ما يسمّيه هو بالمجتهد المتوسّط.
ينتج عن هذه الحقيقة الواقعيّة المعقّدة جملة أمور أو فقل تتجلّى هذه الحقيقة عبر سلسلة نتائج:
1 ـ النتيجة السلبيّة، ومن أمثلتها أنّ مثل هذا الشخص المتخصّص في ضلع من أضلاع المعرفة الاجتهاديّة الشرعيّة، عندما يرى خطأ المرجع الذي يقلّده في مسألة رجاليّة، ويدرك أنّ هذه الفتوى أو تلك بُنيت على هذا الموقف الرجالي، والمفروض أنّه هو متخصّص في علم الرجال وله رأي، ففي هذه الحال له التحرّر من فتواه إلى الفتوى البديلة حتى لو قلنا بنظريّة تقليد الأعلم. وهكذا لو كان لدينا عالم لغة وخبير لغوي متخصّص في اللغة، واطّلع على فتوى مرجعه وأدرك أنّها مبنيّة مثلاً على كون الجملة الإسميّة لا تدلّ على الزمان، وهو يرى بطلان هذا الرأي اللغوي برؤية تخصّصية، فهنا يمكنه ترك تقليد مرجعه، في هذه المسألة، بل يجب ذلك حتى لو قلنا بلزوم تقليد الأعلم.
2 ـ النتيجة الإيجابيّة، وهي تقع على المقلب الآخر، بمعنى أنّه يمكن للمقلّد الذي لا خبرة اجتهاديّة له بأصول الفقه أن يقلّد مرجعه في علم أصول الفقه، ثمّ يذهب فيمارس هو الاستنباط في هذه المسألة أو تلك مبنيّاً استنباطه على قواعد أصول الفقه عند مرجعه. وهنا هو يملك خبرة الممارسة الفقهيّة لكنّه لا يملك خبرة الممارسة الأصوليّة كبعض فضلاء الحوزة، فيقلّد في الأصول، ويمكنه أن يجتهد على أساس هذا التقليد في الفقه ولو في بعض المسائل، وهذا الأمر يفتح الطريق على الكثير من فضلاء الحوزات العلميّة لممارسة نوع من الدمج والتركيب بين التقليد والاجتهاد، ولا يضطرّ الإنسان ـ كي يعتمد على اجتهاده ـ أن يكون مجتهداً مطلقاً في جميع القضايا المتصلة بمبادئ اجتهاده ومختلف عناصر العمليّة الاجتهاديّة.
وهكذا يمكنني تقليد السيد موسى الزنجاني مثلاً في علم الرجال، والاجتهاد مبنيّاً على تقليده، أو تقليد الشيخ جعفر السبحاني في علم الكلام ـ بناء على جواز التقليد في علم العقائد ـ والذهاب نحو الاجتهاد مبنيّاً على نتائجه، أو تقليد الشيخ عبد الهادي الفضلي في علم اللغة والانطلاق من نتائجه، وهكذا، بل هذه العمليّة يمكن تطبيقها داخل الفقه نفسه؛ لأنّ بعض المسائل الفقهيّة لها صلة بإنتاج بعضٍ آخر ولا نريد تعقيد الفكرة والإطالة. وهذا يعني عند لاريجاني أنّ التقليد بطبعه غير منحصر بالمسائل الفقهيّة، بل هو منفتح على التقليد في المبادئ الاجتهاديّة، فهو هنا في الوقت الذي يفتح الطريق للتحرّر الجزئي من التقليد الخالص، يعتقد مسبقاً بأنّ التقليد مفهومٌ وسيع يمتدّ بطبعه لمختلف أجزاء وعناصر العمليّة الاجتهاديّة.
واضحٌ جداً أنّ نقّاد لاريجاني قلقون من الاسم الذي يمكن أن نطلقه هنا على الإنسان المتوسّط هذا، فهل هو مجتهد أم لا؟ لهذا يبادر لاريجاني سريعاً للقول بأنّ تسميته لا تعنيني، ولست مصرّاً على تسميته بالمجتهد. وكأنّي به يريد تهدئة نقّاده في هذا الموضوع؛ لأنّه يفتح الطريق على نسبة صفة المجتهد لكثيرين خارج السياق المتعارف عليه!
ووفقاً لهذه النظريّة، يقترح لاريجاني أن تتضمّن الرسائل العمليّة بيان المبادئ التي بُنيت عليها الفتاوى وليس الاستدلالات، بأن يُذكر مثلاً أنّ الفتوى (أ) بنيت على خمسة مبادئ في العملية الاجتهادية : 1 ـ شمول العصمة لفعل المستحبّات وترك المكروهات كما كان يبني عليه السيد الخوئي. 2 ـ نظريّة انقلاب النسبة في باب التعارض. 3 ـ ظهور كلمة الصعيد في اللغة العربيّة بمعنى مطلق وجه الأرض. 4 ـ وثاقة محمّد بن سنان. 5 ـ قيام البناء العقلائي على أصالة الحسّ في الإخبارات.
المكلّف هنا إذا كان متخصّصاً بعلم الرجال ولا يرى وثاقة ابن سنان يمكنه التخلّي عن هذه الفتوى، والعالم اللغوي الذي لا يرى أنّ كلمة الصعيد تطلق على مطلق وجه الأرض يمكنه التخلّي عن هذه الفتوى أو يجب عليه، وعالم الاجتماع والانثروبولوجيا إذا لم يوافق على دعوى البناء العقلائي المزعومة يمكنه التحرّر من الفتوى، والأصولي الذي لا يرى نظرية انقلاب النسبة فلا معنى للتقليد له في هذه المسألة، والمتكلّم الذي لا يؤمن بامتداد نظريّة العصمة للمستحبّات والمكروهات لا يرجع للفقيه في هذه المسألة الفقهيّة هنا، وهكذا. وبهذا يولد “المجتهد المتوسّط”.
هكذا حاول لاريجاني صياغة نظريّة متطوّرة نسبيّاً في التنظير لفكرة التقليد، ومن ثمّ لفكرة طبيعة العلاقة بين التخصّصات وطبيعة العلاقة بين المرجع والمقلّدين.
3 ـ نظريّة التوسّط بملاحظة طريقة النظر ومنهج الترجيح(يحيى محمّد أنموذجاً)
تلتقي هذه النظريّة مع التي سبقتها في نوع من التوسّط بين الاجتهاد بتمام عناصره والتقليد الخالص، كما تلتقي في نظرتها التنويعيّة لأفراد المجتمع إلى فئات تتفاوت فيما بينها في المعرفة والاطّلاع، وأنّه من الخطأ النظر لكلّ من هو غير مجتهد خالص على أنّه مقلّد خالص له لون واحد، أو وضعهم جميعاً في سلّة واحدة.
طرح هذه النظريّة في العقد الأخير من القرن العشرين (بالتحديد عام 1996م)، الباحثُ العراقي المرموق الأستاذ يحيى محمّد (المولود عام 1959م) في كتابه (الاجتهاد والتقليد والاتّباع والنظر)، وقد حظيت أُطروحته باهتمام العديد من المثقّفين والباحثين في الأوساط العربيّة الحوزويّة والجامعيّة، لكن في تقديري لم تلقَ ما تستحقّ من الاهتمام والنظر.
ورغم أنّ هذه النظريّة مثلها مثل النظريّتين السابقتين، لها جميعاً جذور في الطروحات التراثيّة، بما لا يسمح المجال بعرضه هنا، غير أنّ هذا لا يلغي من أهميّتها جميعاً، ومن الإضافات النوعيّة المهمّة التي قدّمها أصحابها فيها على مستوى تنزيلها في مجال المرجعيّة والتقليد.
عُصارة هذه الأطروحة أنّنا ـ وبخاصّة في العصر الحديث ـ بتنا نشهد ظهور طبقة المثقّف الديني، والتي ينتشر أفرادُها على امتداد الحوزات والجامعات والقرّاء المتابعين المهتمّين بالشأن الديني. وتزداد هذه الطبقة اتساعاً بسبب تراجع الأميّة وانفجار المعلوماتيّة وسهولة وصول الكثير من الناس للكثير من المعلومات بما فيها تلك المتصلة بالاجتهادات والأدلّة الشرعيّة، فلم يعد المشهد الاجتماعي كما كان في سابق عهده. وهذه الطبقة المثقّفة دينيّاً ـ بعيداً عن النقاش في تعريف المثقّف والثقافة ـ باتت تملك إمكانات لا يملكها جمهور العامّة من الناس، فصحيح أنّ هذه الطبقة لا تحظى بمستوى الاجتهاد الخالص، لكنّ بإمكانها ممارسة نوع من النظر في أدلّة الفقهاء المختلفين في الفتوى هنا وهناك، وبهذا يظهر عندنا مفهومان مختلفان يجب التمييز بينهما:
1 ـ مفهوم الاجتهاد، حيث العلاقة مع النص الأصليّ، وهو يعتمد على النظر المباشر في الأدلّة الشرعيّة التي هي الكتاب والسنّة وأمثالها؛ لاستخراج الحكم الشرعي من الدليل نفسه، وفقاً لعدد معرفيّة وأدوات خاصّة. وهذا هو ما يقوم به الفقهاء والمجتهدون.
2 ـ مفهوم الترجيح، وهو ما يمارسه المثقّف الديني أي من له نوع أنس وخبرة بالموضوعات الدينيّة، فهو لا ينظر في الكتاب والسنّة ليستخرج منهما الحكم، بل ينظر في مقاربات الفقهاء للموضوع، فالفقيه (أ) يرى اشتراط إجراء عقد النكاح باللغة العربيّة الصحيحة، فيما الفقيه (ب) يرى صحّة إجرائه بغير العربيّة أيضاً، ويقدّم كلٌّ من (أ ـ ب) أدلّته على الموضوع، وهنا يركّز المرجِّح ـ ممارسُ عمليّة الترجيح ـ نظره على أدلّة الطرفين، فهو لا يملك الخبرة الكافية للوصول إلى حكم شرعي لأنّه ليس مجتهداً، بيد أنّه يمكنه هنا أن يرجّح بين الرأي الأوّل والثاني اعتماداً على الخبرة التي يملكها في مجال القضايا الدينيّة، ولهذا هو هنا غير مخوّل أن يستنبط حكماً ثالثاً مثلاً، لكنّه مخوّل في ترجيح أحد الرأيين والعمل به.
من هنا تختلف طريقة الترجيح ـ عند يحيى محمّد ـ عن طريقة التقليد؛ لأنّ المقلّد يأخذ بفتوى الفقيه في ذاتها دون معرفة بالدليل، فيما المرجّح يأخذ بالفتوى اعتماداً على ترجيحه أدلّتها على أدلّة الفتوى الأخرى.
ومن الواضح أنّ يحيى محمّد لا يريد هنا مجرّد التخيير بين الفتاوى، الأمر الذي يمكن لنظريّة جواز تقليد غير الأعلم مع جواز تقليد الميّت توفيره بلا حاجة لتكبّد عناء الترجيح من جهة، بل ولا حاجة لكون المختار مثقّفاً دينيّاً؛ لأنّه يمكن حتّى للمقلّد المحض أن يفعل ذلك، وفقاً لهاتين النظريّتين مجتمعتين. فالذي يريده يحيى محمّد هو ـ في تحليلي ـ إعطاء قيمة للنظر الترجيحي بوصفه معياراً لاختيار الفتوى دون محض التخيير بين الفتاوى.
والسؤال الافتراضي الذي يطرح نفسه هنا هو أنّ يحيى محمّد اعتبر عمليّة الترجيح ليست اجتهاداً بالمعنى الكامل للكلمة، ومنقطعة الصلة بالنصّ، في حين أنّه لا يمكنك الترجيح دون تقويم الأدلّة والتي هي عبارة عن النصوص وأمثالها، فكيف يمكنني فصل الترجيح عن النصّ؟! وكيف يمكنني التمييز بين المجتهد والمرجّح؟ وبخاصّة أنّ الفقه السنّي ـ المعاصر على الأقلّ ـ يرى الاجتهاد على قسمين: اجتهاد إبداعي واجتهاد ترجيحي. قد تبدو مصطلحات يحيى محمّد للوهلة الأولى ملتبسة ومتداخلة المفاهيم.
ربما لذلك خاض يحيى محمّد في تحليل عمليّة الترجيح، إذ عندما ندخل أكثر معه في مفهوم الترجيح بالدقّة وميكانيزم هذه العمليّة، نجد أنّ هذا الترجيح عنده:
أ ـ قد يكون ترجيحاً بالحدّ الأعلى، وهو ما يسمّيه بالمرتبة التفصيلية للترجيح، وهو الترجيح القائم على النظر التفصيلي في الأدلّة عند الفقيهَين، الأمر الذي يمكن عادةً لفضلاء الحوزات العلميّة وكثير من طلبة البحث الخارج أن يقوموا به في العديد من المواضع على الأقلّ. وينتبه يحيى محمّد هنا لتداخل هذه المرتبة مع نوعٍ أو ضربٍ من الاجتهاد.
ب ـ قد يكون ترجيحًا بالحدّ الأدنى، وهو ما يسمّيه بالمرتبة الاجمالية في الترجيح، وهو أن يعتمد المثقّف الديني على تراكم خبراته وفهومه للدين، لكي يرى أنّ هذه الفتوى أقرب للصواب من تلك كما في مثال الخمس الذي طرحناه سابقاً، وهنا نحن نبتعد عن مفهوم الاجتهاد وما يحيط به تماماً.
وبهذا لسنا مضطرّين لحصر عمليّة الترجيح بخصوص فئة النخبة من المثقف الديني، بل يمكننا بسطها لتستوعب فئةً أوسع من ذلك، فهذا الحكم مخالف عندي للفطرة، أو للعقل، أو للعدالة، أو لروح الإسلام، أو للإنسانيّة، أو غير ذلك مما أعتقده أساساً في الإسلام، لهذا أتركه نحو الفتوى الأخرى دون أن أمارس اجتهاداً إبداعيّاً، بل أنا ما زلت هنا أرجّح بين الفتاوى.
وتتعدّد منطلقات يحيى محمّد هنا -لأنّ المفروض أنّه يواجه سؤال: ما هي حجيّة ترجيحات المثقف الديني إذا لم يكن هناك وثوق أو اطمئنان عنده بالنتيجة؟- فعلى سبيل المثال يرى أنّ عمليّة الترجيح تجعل المثقف الديني الحوزوي والجامعي وأمثالهما يرى أنّ هذه الفتوى أقرب للواقع، أو احتماليّة قربها للواقع أكبر، والعقل يحكم بتقديم ما يظهر لك أنّه أقرب للواقع، ويلزمك بتقديم الراجح على المرجوح، وهذه الأقربيّة موضوعيّةٌ وليست مزاجيّةً؛ لأنّ المفروض أنّ خبرة المثقّف الديني تسمح له ـ موضوعيّاً ـ بافتراض قوّة احتمال الأقربيّة، فهو ليس مدّعياً جزافاً، ومن ثمّ فادّعاؤه عقلانيٌّ من جهة وأخلاقيٌّ من جهة أخرى.
كما يستند يحيى محمّد للبناءات العقلائيّة، فإنّ الشخص الذي يملك بعض الخبرة في مجال العلوم الطبّية يمكنه ترجيح قول طبيبٍ على قول آخر، ولو كان قائل القول الأوّل هو الأعلم، وعلى هذا جرى عرف العقلاء.
هذا، ويمكننا هنا اعتبار العديد من المفكّرين المعاصرين ـ ممّن يقعون خارج سياق البحث الفقهي ـ قريبين من هذه الأُطروحة، مثل الدكتور عبد الكريم سروش الذي يميّز بين الاتّباع التعبّدي، والاتّباع التعقّلي التحقيقي، أو ما يسمّيه آخرون بالتقليد العلمي العقلائي والتقليد الجاهل الأعمى وفق تعبيراتهم.
مقارنات ومقاربات سريعة بين النظريّات الثلاث
كانت هذه بعض العيّنات من الطروحات التي ظهرت خلال القرن الأخير في الوسط الإمامي حول قضيّة التقليد، والتي في تقديري حاولت إخراجه من الصورة البشعة له من وجهة نظرهم، نحو مرحلة ناضجة أو ما يمكن أن نسمّيه «تنضيح ظاهرة التقليد» لتتصالح أكثر مع العصر.
ولكي أُجري مقارنات سريعة ـ وفقاً لتحليلي الشخصي ـ يمكنني القول:
1 ـ إنّ النظريّة الأولى (النظريّة الوثوقيّة) لا تحصر نفسها بالأدلّة، بل يمكنها أن تكتفي بحصول الوثوق للمكلّف بصحّة الفتوى انطلاقاً من الوثوق بشخصيّة المفتي وعلمه، بينما في النظريّة الثانية والثالثة نحن نجد حضور الأدلّة والمبادئ أكبر وذا دور مفصلي.
2 ـ إنّ النظريّة الأولى لا تميّز بين مكلّف وآخر من حيث الخبرة المعرفيّة أو العدّة المعرفيّة، فمن حصل له الوثوق بالفتوى ـ كائناً من كان ـ رجع إليها وإلا رجع لغيرها، بينما على النظريّة الثانية والثالثة يتمّ التمييز بين فئتين من غير المجتهدين: فئة ذات خبرات وأخرى لا تملك خبرات البتّة، ويتمّ التمييز بينهما في الموقف، فمن ليس له خبرة إطلاقاً فالتقليد الخالص هو وظيفته، ويظهر منهم أنّها وظيفته مطلقاً حصل له الوثوق أو لا.
3 ـ الفرق بين النظريّة الثانية والثالثة مهمّ، وهو أنّ النظرية الثانية (نظرية لاريجاني) لا تقبل بالتحرّر من التقليد الخالص إلا لمن هو صاحب تخصّص في مجاله، فيتحرّر تبعاً لتخصّصه، فالحركة داخل ـ نخبويّة، أو داخل ـ تخصّصية، بينما في النظريّة الثالثة (نظرية يحيى محمّد) لا يُشترط أن يكون المثقّف الديني متخصّصاً في أيّ علمٍ من العلوم بحيث يكون مجتهداً في ذلك العلم، بل يكفيه أن يكون ذا خبرةٍ ما تخوّله ممارسة الترجيح التفصيلي أو الإجمالي.
4 ـ تلتقي النظريّتان: الأولى والثالثة، على عدم الموافقة على تشكيل طبقة منتِجة للمعرفة الدينيّة في عرض طبقة الفقهاء وخارج سياق إنتاجها، فليس المقصود أنّ المكلّف في النظريّة الأولى له حقّ إنتاج رأي فقهي خارج سياق الفتاوى القائمة، وكذلك المثقف الديني ليس له الحقّ في إنتاج شيء من ذلك؛ لأنّ الترجيح يضعك ضمن خيارات محدودة قائمة مسبقاً، بينما على النظريّة الثانية يمكن أن يُجمع الفقهاء كلّهم على فتوى واحدة لا ثاني لها، وتكون لها مبادئ قامت عليها عند جميعهم، ويكون صاحب الاختصاص غير موافق على مبدأ من هذه المبادئ ينتمي إلى حقل اختصاصه، فيسقط الحكم في حقّه نحو بديله التلقائي، فلو كان الحكم المجمع عليه هو الحرمة، فيسقط حكم الحرمة لا إلى فتوى أخرى؛ لعدم وجودها، بل إلى الحلية تلقائيّاً. وهذا فارق كبير في تقديري بين النظريّة الثانية وأخواتها.
إلى غير ذلك من نقاط الاشتراك والافتراق.
كلمة أخيرة
وأختم هذا العرض الموجزة بجملةٍ تُنقل عن الفيلسوف الألماني فيورباخ (1872م) في قوله: كفرُ عصرٍ دينُ عصرٍ آخر. إنّ علينا عدم الاستعجال في التعاطي مع هذه الأطروحات لا بالقبول الحماسي ولا بالرفض القلق الخائف، فلعلّ بعض النظريّات المهجورة في زمان تصبح يوماً نظريّةً فقهيّة سائدة، كما حصل في غير موقع، والمطلوب أن نعمل وفق ما نقتنع به حسب الإمكانات التي توفّرت لنا في زماننا، والله يعذرنا ويغفر لنا إن شاء الله. ولا تعني إمكانيّة خطأ التصوّرات القائمة أنّها لم يعد لها معنى، بل ـ وأستعير استعارةً فقط تعبير كارل بوبر ـ نتعامل معها بإيجابيّة طالما لم يتمّ إبطالها ودحضها نهائيّاً. وليحاول كلّ واحد منّا امتلاك جرأة تكوين فكرة، وليكن كلّ واحدٍ منّا ماركس في تلك القصّة المتداولة التي تقول بأنّ كارل ماركس كان يُلقي محاضرة، فانتقده أحد الحضّار بأنّ هذا يخالف مسلّمات الماركسيّة، فأجابه ماركس: هذه مشكلتك؛ لأنّك أنت ماركسي، أمّا أنا فلست ماركسيّاً. أنا ماركس نفسه.
إنّ علينا إدراك صعوبة المرحلة الحالية والتفكير الجادّ؛ لأنّنا في تفكيرنا بقضايا التقليد ونحوها نشتغل على ملفّات حسّاسة، واليوم بدأنا في مجتمعاتنا نشهد ظاهرة «فصل الإيمان عن الشريعة» وظهور جيل متديّن غير أنّه لم يعد يهتمّ لقضايا الشريعة التفصيليّة، وهو ما يعتبره بعض الباحثين الاجتماعيّين المعاصرين بأنّه مرحلة متقدّمة لفكرة «فصل الدين عن السياسة» فضلاً عن «فصل الدين عن الدولة».
إنّ المشكلة الأساس في قضيّة التقليد تظهر في عصور فقدان الثقة ودخولنا مرحلة انسداد، وعلينا أن نفكّر بجدّية في حلّ أزماتنا الكبرى، بدل أسلوب النعامة ووضع الرأس في الرمال. ومشكلة بعض إخواننا أنّهم لم يدركوا أنّنا ندخل في مراحل جديدة من التحوّلات المجتمعيّة الكبرى لا تشبه ما سبق، ويصرّون على أنّ شيئاً لم يحدث!
أكتفي بهذا القدر من العرض والتحليل، راجياً أن يكون قد أضاء على مشهدٍ متنوّع في أصل قضيّة التقليد في الفكر الإسلامي.
([1]) هذا تقرير لثلاث محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ (3 ـ 10 ـ 17) ـ 1 ـ 2023م، وقد قام بكتابتها وتحريرها فضيلة الشيخ علي حمام.
([2]) تفسير الإمام العسكري: 300.
([8]) الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 796 ـ 797.
([9]) العدّة في أصول الفقه 2: 730.
([10]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: ذكرى الشيعة 1: 41 ـ 42.
([11]) رسائل الشهيد الثاني 1: 55.
([12]) مجمل ما نقلناه عن ابن حزم، أخذناه من كتابه: الإحكام في أصول الأحكام 6: 233 ـ 333.
([16]) المصدر نفسه: 305 ـ 308.
([18]) انظر: الدرر النجفيّة من الملتقطات اليوسفيّة 3: 293 ـ 294.