المشهور بين الفقهاء وجوب ردّ التحيّة إذا كانت بصيغة “السلام عليكم”، أمّا لو كانت بصيغة أخرى مثل: صباح الخير، أو مساء الخير، أو صبّحكم الله بالخير، أو مرحبا، أو غير ذلك من مختلف اللغات، فضلاً عمّا لو كان السلام بالإشارة باليد ونحو ذلك، فإنّه لا يجب عندهم ردّ التحيّة بالعنوان الأوّلي. نعم لو لزم من عدم الردّ إهانة أو إيذاء الطرف الآخر المفروض حرمة إيذائه، فيجب الردّ لذلك وليس للعنوان الأوّلي.
وخالف في هذا الحكم صريحاً عددٌ قليل من الفقهاء، مثل العلامة الحلّي فيما نُسب إليه، واحتاط فيه وجوباً بعضٌ مثل السيّد البروجردي.
والذي توصّلتُ إليه ـ والله العالم ـ هو وجوب ردّ التحية مطلقاً، سواء كانت بصيغة “السلام عليكم” أم بغيرها من مختلف الصيغ واللغات. نعم في الصلاة اللازم هو الاقتصار في الجواب عن “السلام عليكم”؛ فإنّ ذلك أمرٌ تعبّدي، والاحتياط وجيهٌ بالردّ المتضمّن للدعاء والتحيّة معاً لو أمكن، أو بالردّ وإعادة الصلاة.
ونقطة الارتكاز في البحث هنا تكمن في أمرين:
الأوّل: في معنى التحيّة، في قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء: 86)، حيث قالوا بأنّ التحية ـ كما ذكرها أهل اللغة ـ تعني السلام، كما أنّ أكثر المفسّرين قالوا ذلك في خصوص تفسير هذه الآية.
وهذا الكلام قابل للمناقشة اللغويّة جداً، فالتحيّة أعمّ من السلام بمعناه الخاصّ، ومنطلقة من مثل قولنا: حيّاك الله، بل الجذر اللغوي للكلمة واضح في دلالته على نوع من الدعاء للطرف الآخر بالحياة والبقاء، ولهذا سمّي الملك عند العرب بالتحيّة، لما في الثناء عليه والدعاء ببقائه سالماً معافى، ونقول: التحيّات لله، بمعنى البقاء والملك له سبحانه، وليس للكلمة معنيان هما: السلام والبقاء، كما يُفهم من بعضهم، بل هي بمعنى واحد، وقد أخذ المعنى الأوّل من الثاني. والآية واضحة في التعميم بملاحظة التنكير في قوله: (بتحيّةٍ). وإطلاقُ بعض اللغويّين المعجميّين ذلك ليس إلا ـ كما هي عادتهم ـ من باب تبيين الشيء بمصاديقه الغالبة، وهم عاشوا في الفضاء الإسلامي الذي يغلب فيه تحيّة الإسلام. وكلمة التحيّة عربيّة معروفة قبل الإسلام، ولم يثبت حصول تحوّل دلالي لها في العصر النبويّ. كلّ ما حصل في العصر النبوي أنّ الإسلام اشتغل على تأسيس تحيّته والترويج لها، وتفضيلها على غيرها، وهذا واضح.
الثاني: إنّه قد قام الإجماع والسيرة القطعيّة المتصلة على عدم وجوب ردّ التحية التي تكون بغير صيغة “السلام عليكم”، ولا يُعقل ذلك مع فهم الوجوب العام من الآية، وهذا خيرُ دليلٍ على كون الآية غير شاملة لهذه التحايا ولو بالتخصيص، وإلا لزم إسقاط دلالتها على أصل وجوب الردّ، وهو مرفوض قطعاً.
وهذا الكلام قابلٌ للنقاش أيضاً؛ إذ لا دليل على سيرة عمليّة متصلة لا تردّ على غير التحيّة الإسلاميّة، بل لو كان لبان؛ لكونه موجباً لظهور التنازع بين الناس ولو في الجملة وأحياناً. والإجماع ـ لو تمّ إحرازه صغرويّاً بين المتقدّمين ـ محتمل المدركيّة ولو نتيجة فهمهم السلام الخاص من كلمة التحيّة في الآية، كما هو ظاهر الفقهاء والمفسّرين، بل لعلّهم فهموا من تأسيس الإسلام للتحية الخاصّة كونه ينسخ سائر التحايا السابقة، وهذا ما لعلّه يُفهم من بعض فقهاء أهل السنّة الذين تحفّظوا حتى على استخدام غير تحيّة الإسلام. وليس هناك دليلٌ معتبر خاصّ ـ من كتابٍ أو سنّة ـ على نفي وجوب ردّ التحيّة غير الإسلاميّة بالعنوان الأوّلي. وعدم جواب النبيّ والأئمّة على تعابير أصحابهم: “أصلحك الله” أو “جُعلت فداك” لا علاقة له ببحثنا؛ إذ لا يُحرز تلقّيهم لها بأنّها تحايا بالمعنى العرفي.
وبهذا نستنتج أنّ الآية الكريمة دالّة بوضوح على وجوب ردّ مختلف أنواع التحايا إلا ما خرج بدليل، كما أنّه لو قلنا بوجوب أو جواز ردّ التحيّة في الصلاة لزم ردّ مختلف أنواع التحايا المشروعة، وأمّا إذا قلنا بأنّ الواجب فيها هو ردّ تحيّة “السلام عليكم”، كما يظهر من مختلف النصوص الواردة في هذا المجال، فيُقتصر في هذه الحال على ردّ هذه التحيّة بالخصوص دون غيرها، لا لأجل أنّ الإمام ـ عليه السلام ـ لم يردّ على قول محمّد بن مسلم: «كيف أصبحت»؛ لأنّ هذا لم يكن منه تحية؛ إذ قالها بعد تحيّة: السلام عليكم، وبعد جواب الإمام له، بل هي سؤال عن أحواله، خلافاً لما فهمه أمثال السيّد الخوئي.. بل لأجل أنّ الصلاة أمرٌ عبادي لا يجوز فيه التكلّم بكلام الآدميّين، خرج منه تحيّة “السلام عليكم”، بوصفها القدر المتيقّن، وغيرها يحتاج لدليل؛ إذ الأصل هو البطلان، وإن كان مقتضى الاحتياط هو الردّ وإعادة الصلاة، أو جعل الردّ على شكل دعاء بحيث لا يخلّ بالصلاة ولا بصدق عنوان ردّ التحيّة المتضمّن للاحترام والإكرام.
حيدر حبّ الله
الاثنين 17 ـ 1 ـ 2022م