يستغرب كثيرون عندما يتمّ البحث في قضايا تنتمي ـ في التصنيف الفقهي ـ إلى قسم المستحبات والمكروهات والسنن والآداب وفضائل الأعمال وما شابه ذلك.. يستغربون من النقاش في الكثير جدّاً من هذه المندوبات والمكروهات و.. الأمر الذي يثير في أذهانهم سؤالاً: هل هذه المندوبات والمكروهات هشّة في الفقه الإسلامي إلى هذا الحدّ بحيث إنّ أكثر من ثمانين بالمائة منها غير ثابت؟! هل هذا معقول؟!
ولرفع الاستغراب وممارسة فهم أفضل للتراث الفقهي، يلزمنا أن نعرف حقائق أربع:
الحقيقة الأولى: قاعدة التسامح في أدلّة السنن، والتي دفعت الكثير جدّاً من العلماء لعدم التحقّق من ثبوت هذا المستحبّ أو ذاك المكروه، فبمجرّد وجود روايةٍ فيه ولو ضعيفة جدّاً، يُعتبر ذلك ـ من وجهة نظر قاعدة التسامح أو قاعدة فضائل الأعمال ـ كافياً للإفتاء بالاستحباب أو الكراهة، وبهذا يظهر عدد هائل من المكروهات والمندوبات في كتب الفقه والآداب والأخلاق مبنيّاً على هذه القاعدة.
ومن الطبيعي في هذه الحال لو أنّ شخصاً أنكر هذه القاعدة ـ كما هي الحال مع الكثير من متأخّري المتأخّرين من الفقهاء والأصوليّين ـ ثمّ أراد إثبات هذه المستحبات أو المكروهات بعيداً عن القاعدة.. من الطبيعي أن يجد أنّ الكثير جدّاً منها ليس هناك ما يُثبته عنده. وهذا لا يعني أنّ تحوّلاً هائلاً قد حصل في دراسة هذه المستحبّات، بحيث كانت ثابتة والآن أكثر من ثمانين في المائة منها لم يعد ثابتاً، بحيث نسأل: كيف يُعقل أنّها برمّتها قد سقطت؟! إنّما التحوّل كان في شيءٍ واحد وهو قاعدة التسامح نفسها.
الحقيقة الثانية: فكرة رجاء المطلوبيّة بوصفها بديلاً ممكناً، بمعنى أنّ الكثير من الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين، لا يجدون ضرورةً ـ في كتبهم الفتوائيّة ورسائلهم العمليّة ـ لتمييز المستحبّ عن غيره مما لم يثبت استحبابه عندهم، لهذا فهم يذكرون الكثير من تلك الأعمال التي ليس من الضروري أن يكون ثابتاً عندهم استحبابها أو كراهتها، لكنّهم يكتفون في مقدّمة الرسالة العمليّة مثلاً، بالقول بأنّ الكثير من المستحبّات والمكروهات في هذه الرسالة لم يثبت لديهم، انطلاقاً من عدم اعتقادهم أساساً بقاعدة التسامح، فيطلبون من المكلّفين إذا لاحظوا مستحبّاً مذكوراً في هذه الرسالة العمليّة أن يأتي به رجاءً، أي برجاء المطلوبيّة دون نيّة الورود أو كونه ثابتَ الاستحباب، وبهذا لا يميّزون في هذه الكتب بين المستحبّ الثابت عندهم والذي ليس ثابتاً، الأمر الذي يُبقي كميّة المستحبّات والمكروهات في الذهن العام واحدة، لأنّ المكلّف العادي سوف لا يلاحظ نقصاناً في العدد، بينما لو قام فقيهٌ بالكشف عمّا ثبت استحبابه وما لم يثبت، فقسّم المستحبّات في رسالته العمليّة ـ مثلاً ـ إلى ما ثبت استحبابه وما لم يثبت، وميّز ما ثبت استحبابه عمّا لم يثبت عنده، لوجدنا أنّ ثمانين في المائة مثلاً لم يثبت عنده، بعد استبعاد قاعدة التسامح، فطريقة التدوين الفقهي الفتوائي لعبت دوراً في الإيحاء للجمهور بكمّيةٍ هائلة من المستحبّات، أو على الأقلّ لم تساهم في الكشف عن الرقم الحقيقي لما ثبت استحبابه أو كراهته، مما يوحي للمتلقّي لاحقاً أنّ نظام المستحبّات هشٌّ عندما يجري التدقيق فيه، أو أنّ الناقدين للمستحبّات والمكروهات مفرطون أو مبالغون، وفي الحقيقة الأمر ليس كذلك بالدقّة.
الحقيقة الثالثة: وهي وجهة نظر بعض العلماء ـ كما يُنقل عن شخص السيد الخوئي نفسه ـ والتي ترى أنّه لا يجب على الفقيه الإفتاء بالمستحبّات والمكروهات، ولهذا نجد أنّ السيد الخوئي نفسه لا يبحث في دراساته الاستدلالية الأغلبيّة الساحقة من المستحبّات والمكروهات، إلا إذا كان مستحبٌّ ما قد وُجد قولٌ بوجوبه مثل غسل الجمعة، أو له علاقة بالمشروعيّة مثل بعض الصلوات المندوبة.
هذه العمليّة تُعتبر بمثابة أحد التبريرات للفقيه أن يضع في رسالته العملية قائمة المستحبّ والمكروه دون أن يميّز للمكلّفين ما ثبت عنده استحبابه أو كراهته وما لم يثبت، الأمر الذي يوجب تحقّق ما أشرنا إليه في الحقيقة الثانية أيضاً.
الحقيقة الرابعة: ضعف أسانيد عدد كبير من المستحبّات والمكروهات والآداب والسنن. ومن أسباب ذلك أنّ بعض كتب المستحبّات والمكروهات نفسها بُنيت على حذف الإسناد أو التساهل فيه، مثل كتاب “مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد” للشيخ الطوسي (460هـ)، وهذا الكتاب يعدّ أحد أهمّ المصادر التي دوّنت على أساسها أمّهات كتب المستحبّات والأدعيّة والآداب لاحقاً، مثل كتاب إقبال الأعمال وغيره للسيد ابن طاوس، وكتاب عدّة الداعي لابن فهد الحلّي، وكتاب المصباح للكفعمي، وكتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي وغيرها من الكتب.
وفي ظلّ ثقافة حذف الإسناد من عددٍ كبير من المستحبّات والمكروهات والآداب، من الطبيعي أن يخرج الباحث بنتيجةٍ مفادها أنّ الكثير منها ليس بثابت، وبخاصّة أنّه لم يتمّ التعرّض لها في مثل الكتب الأربعة، بل بعضها لم نعثر له على رواية أصلاً، وإنّما تمّ تلقّيه في الكتب الفقهيّة دون الحديثيّة، وأحياناً ظهر في القرون اللاحقة وتمّ تداوله نتيجة قاعدة التسامح. وأحد أسباب ذلك ربما انتقال بعض النصائح الأخلاقيّة من كتب الأخلاق للفقه بما أوحى بالاستحباب، وانتقال بعض نصوص المستحبّات من خارج السياق الحديثي الشيعي إليه، مثل ما بين السنّة والشيعة، وما بين كتب الصوفيّة وعلماء الأخلاق والشيعة وهكذا.
وبهذا نستنتج أنّ من يرى وجوب البحث في المستحبّات والمكروهات، ويرى ضرورة الإفتاء بما ثبت منها وما لم يثبت، وضرورة التمييز للمكلّفين، ولا يعتقد بقاعدة التسامح في أدلّة السنن.. من الطبيعي أن تكون نتائجه في باب المستحبّات والمكروهات موصلةً له لعدم ثبوت أكثرها، وبخاصّة لو كانت له نزعة نقديّة في علم الرجال والحديث مثل السيّد الخوئي أو غيره. والعلم عند الله.
حيدر حبّ الله
السبت 31 ـ 12 ـ 2022م