المعروف الذي ربما يكون إجماعاً بين الشيعة الإماميّة ـ خلافاً لجمهور فقهاء المسلمين، ولابن الجنيد الإسكافي (ق 4هـ) من الإماميّة ـ أنّ سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل الوارد في آية الخمس يرجع لخصوص بني هاشم، ولا يشمل غيرهم، وأنّه بذلك يكون الخمس ستّة أسهم على المشهور بينهم: الثلاثة الأولى منها هي للإمام بعد النبيّ، والثلاثة الباقية هي لبني هاشم دون غيرهم. وقد صرّح السيد الخوئي بأنّ الخمس mحقّ للنبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وأقربائه، فيُشبه الملك الشخصي، حيث لا تعود فائدته لعامّة المسلمينn.
وفي العصر الحديث، وقع نقاش واسع بين الفقهاء في أنّ سهم بني هاشم هل يعني أنّهم يملكون نصف الخمس، ومن ثمّ فعلينا إيصال المال إليهم من باب إيصال المال إلى مالكه، أو أنّ أسهم الخمس كلّها هي للإمام أو نائبه، لكنّ بني هاشم يُعتبرون من المصارف الأساسيّة المحدّدة في الشرع؟ وهذا هو البحث المعروف اليوم بالتسهيم (التمليك) أو المصرفيّة. لكنّ هؤلاء جميعاً متفقون على أنّ سهم بني هاشم ثابت، وهم لا يرفضونه، غاية الأمر أنّ بعضهم يعتبر بني هاشم مصرفاً يُرجع في كيفيّة توزيعه عليهم للإمام، وإلا فالخمس يسلّم كلّه للإمام، وهو يقوم بعمليّة التوزيع على الهاشميّين وغيرهم.
الفكرة التي أودّ التركيز عليها هنا لا ترتبط بمطلق سهم بني هاشم، بل بالآتي: هل الخمس محصور بالإمام وبني هاشم كما هو الرأي السائد؟ هل الأصناف الثلاثة الأخيرة في آية الخمس (اليتامى والمساكين وابن السبيل)، يراد منهم بنو هاشم خاصّة أو مطلق اليتامى و..؟
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ هو أنّنا أمام نقطتين:
1 ـ إنّ عناوين (اليتامى والمساكين وابن السبيل) المحدّدة في مصارف الخمس أو سهامه، لا تختصّ ببني هاشم، بل هي تعمّ مطلق اليتيم والمسكين وابن السبيل، حفاظاً على دلالة الشمول في الآية القرآنيّة. وهذا يعني نفي حصر الخمس بالإمام وبني هاشم بالطريقة المتعارفة الموروثة في الفقه الإمامي، فلا نقصد أنّ بني هاشم ليس لهم من الخمس شيء، وليسوا مصرفاً له مطلقاً، بل نقصد أنّ الشريعة لم تحصر الخمس بالإمام وبني هاشم، لا تمليكاً ولا مصرفاً، بل هي من الأوّل اعتبرت أنّ الخمس لله ولرسوله ولذي القربى، ولعموم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل. وهذه النقطة هي مورد حديثي هنا.
2 ـ إنّ عنوان (ذي القربى) الوارد في الآية الكريمة:
أ ـ إنّ قلنا بأنّه خاصّ بالإمام المنصوص كما لعلّه مشهور الإماميّة.. فستكون النتيجة ـ بعد ضمّ ما تقدّم ـ هو أنّه لا يوجد في الخمس شيءٌ اسمه سهم بني هاشم أصلاً، بل هم مصداق من مصاديق بعض المصارف، من حيث هم مسلمون لا غير، وأنّ الله حلّل لهم الأخذ من الخمس بعد أن حرّم عليهم أخذ الزكاة.
ب ـ وأمّا إذا قلنا بأنّ عنوان (ذي القربى) يراد منه مطلق قرابة النبيّ (بنو هاشم، أو هم مع بني المطلب دون بني عبد شمس ولا بني نوفل، أو قريش كلّها، على خلافات بين فقهاء المسلمين في هذا الأمر)، كما ذهب إليه جماعة من فقهاء المسلمين، وبخاصّة الشافعيّة وبعض الإماميّة مثل ابن الجنيد، فستكون النتيجة أنّ بني هاشم أحد مصارف الخمس، وبهذا عوّضهم الله عن الزكاة، لكن دون أن يكون الخمس محصوراً فيهم وفي النبيّ والإمام، فبدل أن يكون نصف الخمس لبني هاشم ـ وفق التقسيم السداسي للأسهم ـ سوف يكون سدس الخمس لهم فقط، لأنّ النبيّ يأخذ سهم الله وسهمه، والإمام يأخذ سهم الله وسهم النبيّ بعد النبيّ، وبنو هاشم يأخذون سهم ذي القربى، وعامّة الناس يأخذون السهام الثلاثة المتبقّية.
وعلى التقديرين أعلاه يثبت ما ندّعيه هنا، من عدم انحصار الخمس في النبيّ والإمام وبني هاشم، بل المسلمون يشاركون في أسهم الخمس مباشرةً.
وقد تقول لي: إنّ هذه النتيجة لا تغيّر شيئاً، فسهم الإمام يصرف اليوم بالفعل في مصالح المسلمين.
والجواب: إنّه بناء على النظريّة الموروثة فإنّ أصل تشريع الخمس لا علاقة له بصرف الإمام سهمه على مصالح المسلمين، وهذا أمرٌ نفعله نحن اليوم من موقعٍ ثانوي كقانون إحراز رضا الإمام وغير ذلك مما ذكره الفقهاء، مضافاً إلى أنّ النتيجة التي توصّلنا إليها إمّا تنفي وجود خصوصيّة في باب الخمس كلّه لبني هاشم، أو تثبت لهم سدس الخمس مقابل نصفه، وهذه النتيجة لا فرق فيها أيضاً بين أن نقول بأنّ سهم الإمام هو ملكٌ لشخص النبيّ والإمام أو أنّ نقول بأنّه ملك لمنصب إمامة المسلمين.
هذا، وسوف أتحدّث لاحقاً عن فكرة أنّ عنوان ذي القربى هل هو خاصّ بالإمام المنصوص أو شامل لمطلق قرابة النبيّ؟ وما المقصود بقرابة النبيّ هنا؟ لكن المجال لا يسمح لنا بتناول الموضوعين معاً الآن.
ويمكنني اختصار التعليق هنا ـ حيث الموضوع فيه الكثير من التفاصيل ـ بالقول: إنّ مستند فقهاء الإماميّة في حكمهم هنا بأنّ الأصناف الثلاثة الأخيرة في آية الخمس خاصّة ببني هاشم هو الإجماع والروايات.
والإجماع ـ لو تثبّتنا منه قبل مدرسة بغداد، أعني قبل الطوسي والمرتضى والمفيد ـ واضحُ المدركيّة، حتى لو رفعوا تسميته من رتبة الإجماع إلى رتبة التسالم، علماً أنّ ابن الجنيد مخالفٌ فيما هو المنقول عنه، فكيف يكون هناك تسالم؟! واستبعادهم ابن الجنيد من المشهد أمرٌ فرضته مدرسة بغداد لخلافاتٍ بينها وبينه، وإلا فالرجل من كبار الفقهاء، وشخصيّتُه وكُتُبه في غاية الأهميّة، باعتراف مدرسة الحلّة التي أعادت له الاعتبار بعد حوالي قرنين من نبذه، وعلى رأسها كلّ من ابن إدريس الحلّي والمحقّق الحلّي والعلامة الحلّي. وقد بحثنا عن قضيّته في بعض جوانبها في كتابنا (الاجتهاد المقاصدي والمناطي)، فراجع. ولعلّه لو قُدّر لمدرسة ابن الجنيد أن تتزعّم الحوزات العلميّة آنذاك لربما كان مشهد الفقه الإمامي اليوم مختلفاً على بعض الصعد. وليس هناك دليل يفرض أنّ قراءة مدرسة بغداد هي المعيار الوحيد لوزن الحقّ والباطل، أو لتعريف الفقه الإمامي، حتى نستبعد هذا العالم أو ذاك في منهجه الاجتهادي وفقاً لقراءة مدرسة بغداد، كيف ومدرسة الحلّة استقبلت بالترحاب أفكار ابن الجنيد التي وصلتها، رغم أنّ أغلب كتبه قد ضاعت بسبب ما يُشبه إقصاءه عن المشهد من قبل مدرسة بغداد في القرن الرابع والخامس الهجريّين، وقد رأينا بعد ذلك أنّ العديد من فتاوى ابن الجنيد وافق عليها العديد من العلماء المتأخّرين، حتى أنّ السيد علي السيستاني وغيره قالوا بأنّ ابن الجنيد لم يكن قائلاً بالقياس، كما اتهمه البغداديّون، بل كان أقربَ لمنهج مرجعيّة روح القرآن وعرض الحديث عليها.
يشار إلى أنّ ابن الجنيد يرى هنا أنّ سهم بني هاشم ثابت من خلال عنوان (ذي القربى) في الآية، بينما سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل هو ـ عنده ـ لعموم المسلمين ممّن فيهم هذه الصفات، فهو لا يُنكر سهم بني هاشم، بل يحدّده، ويُنكر إقصاء غيرهم، فانتبه.
أمّا الروايات، فاللافت أنّها برمّتها ضعيفة الإسناد، وقد أقرّ بذلك غيرُ واحد، وهي حوالي ثمانية أحاديث، وعلى أبعد تقدير عشرة، أغلبها مراسيل، بينها حوالي ثلاث روايات فقط موجودة في الكتب الأربعة، وكلّها ضعيفة السند، بل تكاد تكون كلّها مرسلة. كما أنّ بعض الروايات إنّما جاء في مصادر من الدرجة الثالثة مثل تفسير العياشي الذي اشتمل على روايتين مرسلتين من هذه العشرة، بل لا سند لهما، ومثل رسالة المحكم والمتشابه التي لا يُعلم كونها رواية أصلاً، حيث يوجد نقاش طويل ومعروف بين العلماء في تاريخها ومصدرها. ولهذا كلّه اعتمد غيرُ واحد من العلماء هنا على قاعدة الجبر السندي والشهرة المنقولة والإجماع المنقول والتسالم وأمثال ذلك. نعم العديد من العلماء صحّحوا ـ وفقاً لآرائهم ونظريّاتهم في علم الرجال ـ أسانيد روايتين أو ثلاث هنا، رغم الإرسال، لكنّ التحقيق هو ضعفها جميعاً. وظاهر عبارات غير واحدٍ، مثل الشيخ باقر الإيرواني، هو الإقرار بضعف سندها كلّها، وأنّ العمدة هي الضرورة والتسالم.
أمّا دعوى أستاذنا السيد محمود الهاشمي إمكانيّة الاعتماد على خبر سليم بن قيس هنا، فقابلة للنقاش؛ فإنّه لو غضضنا الطرف عن سنده، غير أنّه فاقد الدلالة على الموضوع، فتأمّل فيه. كما أنّ ما يلوح منه رحمه الله من أنّه لو بنينا على فرض رجوع الخمس كلّه لمنصب الإمامة، فتختصّ الأصناف الثلاثة بالهاشمي، هو أيضاً قابل للنقاش؛ فإنّ هذه الدعوى (الخمس كلّه لمنصب الإمامة) منسجمة مع كلّ من فرضيّة التعميم في الأصناف الثلاثة الأخيرة وفرضيّة التخصيص، فأيّ موجب لجعلها مرجّحاً لفرضيّة التخصيص؟! فإنّ مرجعيّة منصب الإمامة لا توجب سلب بني هاشم حقّهم هنا مطلقاً، لاحتمال انطلاقها من ثبوت ما للرسول للإمام، لا من عنوان ذي القربى في الآية، فانتبه. وهذا تماماً كدعوى تعويض الله الهاشميّين بالخمس، فهي لا تنفي ثبوت الخمس لغير الهاشميّين، بل تُثبت للهاشميين نصيباً فيه لا أكثر.
والذي قد يقوّي ما ذهبنا إليه ليس فقط ضعف أسانيد هذه الأخبار التي تحصر الأصناف الثلاثة الأخيرة بالهاشميّين، بل وجود أخبار معارضة لها، توحي بأنّ الأصناف الثلاثة الأخيرة في آية الخمس عامّة لكلّ المسلمين، وغير خاصّة بالهاشميّين، واللافت أنّ بعض هذه الأخبار المعارِضة صحيح السند عند المشهور كخبر محمد بن مسلم وخبر ربعي، بل لعلّ بعض ما يوحي بكون ذي القربى يراد منهم الذريّة مطلقاً يُضعِف من احتمال إرادة الذريّة من العناوين الثلاثة الأخيرة. وربما يرى شخص أنّ هذه الأخبار ـ لو استقرّت المعارضة ـ أوفق بدلالات الكتاب الكريم.
ولمزيد توضيح ورفع اللّبس، فإنّ تعبير mالخمس لناn في العديد من الروايات ينبغي إخراجه عن دائرة الاستدلال هنا ما لم تقم قرينة إضافيّة، وكثيرٌ من العلماء أخرجوه بالفعل، فإنّه مردّد بين كون المقصود منه الإمام ـ خاصّة على مسلك أنّ الخمس كلّه يُسلَّم له، وهو يصرفه في مصارفه ـ أو مطلق قرابة النبيّ.
بل لعلّ الذي يقوّي أكثر ما ذهبنا إليه في تفسير الفئات الثلاث الأخيرة في الآية، هو أنّه على مسلك مشهور الإماميّة يلزم تخصيص الأكثر المستهجَن عرفاً، فآية الخمس هي تماماً كآية الفيء، تحمل دلالة عموم وشمول واضحة في العناوين الثلاثة الأخيرة، فأن تعمد الروايات إلى تضييق هذا العموم ـ ولو بلسان الحكومة بالاصطلاح الأصولي ـ هو أمرٌ غير عرفي؛ لأنّه تضييقٌ مستهجَن من حيث أيلولته إلى تخصيص الأكثر عرفاً؛ لأنّ نسبة عنوان مساكين بني هاشم لعنوان مطلق المساكين هي نسبة الواحد إلى الألف مثلاً، وهذا أيضاً في تقديري يضعّف من قوّة الروايات الواردة في المقام. واحتماليّة النسخ في غاية البعد، بل لا تدّعيها الروايات نفسها.
والمقام فيه كلام كثير نتركه لمجال البحث المطوّل.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 26 ـ 4 ـ 2022م