تتنوّع طرائق التعامل مع النصوص الحديثيّة من حيث استنباط الأحكام الشرعيّة منها، ويمكنني أن أشير هنا إلى منهجين:
المنهج الأوّل: وأسمّيه بالمنهج التفكيكي التجزيئي، وهو يعتمد على أخذ كلّ رواية على حدة، ثمّ النظر، بعد الفراغ عن تحديد دلالتها، في نسبتها إلى كلّ رواية أخرى تتعلّق بالموضوع نفسه، فيتمّ إجراء المقارنات والمقاربات اعتماداً على مرجعيّة «وحدة الرواية»، أي أنّ وحدة الاشتغال هي كلّ رواية على حدة، ثم مقارنة كلّ رواية بكلّ رواية، حتى تظهر النتيجة، وهذا ما يبلغ ذروته مع نظريّة انقلاب النسبة في باب التعارض.
فإذا واجه الفقيه خمس روايات في موضوع معيّن، قرأ الرواية (أ)، وحدّد معطياتها، ثم قرأ الرواية (ب)، وفعل الأمر عينه وصولاً إلى الرواية الخامسة (هـ)، ثم يقوم برصد نسبة الرواية الأولى مع الثانية، وغيرها وهكذا، ليستخدم مناهج التخصيص والتقييد والحكومة وغير ذلك، فتكون الرواية (ج) مثلاً عامّة أو مطلقة أكثر من عموميّة وإطلاق غيرها، فيعتبرها الأصل، ثمّ يجري عليها التخصيصات من الروايات الأخرى لو كانت، أو يعتبر الموافق لها من الروايات الأخرى في دائرةٍ أضيق غيرَ ضارٍّ بها؛ لأنّه لا تعارض بين المثبتَين، وهكذا. وإذا كان هذا الفقيه يعمل على طريقة أمثال السيّد الخوئي، فهو يحذف الروايات ضعيفة الإسناد عادةً، ويقوم بالعمليّة نفسها مع الروايات الصحيحة فقط، فإذا كان عنده تسع روايات، وبينها اثنتان صحيحة فقط، حذف السبعة بعد تحقيق حالها، ثمّ قام بالتعامل مع الروايتين المتبقّيتين وفقاً للطريقة المتقدّمة، وهكذا.
المنهج الثاني: وأسمّيه المنهجي الانضمامي، وهو يتناسب مع مسلك الوثوق الاطمئناني في باب حجيّة الأخبار، وخلاصته ـ والكلام طويل في هذه الموضوعات ـ أن يعمد الفقيه لكلّ روايةٍ رواية، ثم يلاحظ دلالتها ومعطياتها تجزيئياً في المرحلة الأولى، لكنّه بعد أن ينتهي يأخذ مجموع الروايات الصحيحة والضعيفة معاً ملاحظاً التفاوت في قوّتها الاحتمالية الصدوريّة والدلاليّة، فالصحيحة أقوى في الاحتمال الصدوري من غيرها، وكثرة الروايات الضعاف قد تساوي قوّة رواية صحيحة احتمالاً، وهكذا. وبعد أن يجمع النصوص آخذاً بعين الاعتبار درجات قوّتها الصدوريّة والدلاليّة يلاحظ النقاط المشتركة التي دلّت عليها. ولنأخذ مثالاً افتراضيّاً، وهو القصر في السفر، فلو فرضنا أنّ بعض الروايات دلّ على المسافة، وبعضها دلّ على الزمان، فهنا لا نأخذ برواية ونقيس غيرها عليها، وإنّما نلاحظ مجموع النصوص، لنأخذ القدر المتيقّن ثبوتُ القصر فيه، وهو ـ مثلاً ـ طيّ المسافة مع طيّ المدّة الزمنيّة المقرّرة، فهذا القدر تلتقي عليه نصوصٌ موثوقة الصدور، وأمّا غيره ـ كمعيار المسافة لوحده ـ فإذا لم يبلغ في حجم تراكمه حدّ الوثوق بالصدور لا يؤخذ به، حتى لو وردت فيه رواية صحيحة، فلا قصر بالزمان دون مسافة، ولا بالمسافة دون زمان، وهكذا.. وهذا مجرّد مثال فرضي.. وبهذه الطريقة يلاحظ الفقيه ملتقيات النصوص ليرصد ما توفّره القوّة الاحتماليّة فيها، ويُسقط من حسابه ـ وفقاً لهذه النتيجة ـ النصوص المتفرّدة بشيءٍ ما دون أن تبلغ بانضمامها حدّ تحصيل الوثوق بهذا الشيء.
ويترك المنهج الثاني تأثيراً على تقليل حضور التخصيصات والتقييدات المنفصلة؛ لأنّ الأحكام فيه تولد مضيّقة في العادة نتيجة فكرة القدر المتيقّن، كما يترك تأثيراً أيضاً على أبواب التعارض واختلاف الأخبار بما لا يسمح لي المجال بتفصيله هنا، فلو تعارضت الروايات ضعف الوثوق بكلّ طائفة على حدة، وصار يلزم الأخذ بالقاسم المشترك بين المجموعات المتعارضة لو كان، وترك ما به الاختلاف. وهكذا ينمو في رحاب هذا المنهج مفهوم القدر المتيقّن صدوريّاً ودلاليّاً، وتترك عناصر كثيرة تأثيرها هنا في استنطاق القدر المتيقّن، إذ يختلف الموقف تبعاً لتحريم شيء أو ترخيصه أو الإلزام بفعله، ويختلف أيضاً تبعاً للأصل الأوّلي العدمي أو العملي أو اللفظي.
ويَعتبرُ المنهجُ الثاني أنّ المنهج الأوّل يعاني من قدر من الحرفيّة والجمود، ويتأثر بطريقة التعامل الفلسفيّة مع الأشياء، بينما المنهج الثاني أقرب للمناهج العقلائيّة العرفيّة العامّة في مقاربة الوثائق التاريخيّة وتفهّم وقائعيّات نقل الحديث الشريف من حيث النقل بالمعنى، وسقوط بعض التعابير أو القرائن، وعدم توفّر النص الحرفي للأسئلة، وطبيعة الأسئلة ذات اللغة الجزئيّة عادةً، ونوعيّة بعض الرواة من حيث عدم قدرتهم على التبيين العربي الفصيح بما يوجب عجمةً أو ارتباكاً، كما فيما قيل في عمار الساباطي، وتفاوت الرواة في قدرة الاستيعاب بحيث يؤثر ذلك على نوعيّة تبيينهم لما فهموه، وأزمة اختلاف نسخ الكتب القديمة، وغير ذلك كثير.
وإنّني أؤمن جدّاً بالمنهج الثاني بوصفه قاعدة فاعلة غالبة. وأقول: القاعدة الغالبة؛ لأنّ الفقه موضوعاته وحالاته متنوّعة جداً في سياق العملية الاستنباطيّة، فقد تتطلّب حالةٌ معيّنة منهجاً تأباه حالةٌ أخرى؛ إذ المادّة تؤثر في نوعيّة المنهج في العلوم، فقد تأتي رواية منفردة، فيها خصائص تعطيها لوحدها الاطمئنان بالصدور، فلا أدّعي أنّ هذا المنهج يطبَّق دوماً في كلّ الموضوعات ومع جميع الروايات. وكلامُنا في الاجتهاد في النصوص الحديثيّة، لا في النصوص القرآنيّة، فليُنتبه لذلك جيداً، ما لم تكن الدلالة القرآنيّة متنوّعة بين دلالاتٍ ظنيّة، بحيث نستخرج منها قدراً متيقناً دلاليّاً يمثل دلالية وثوقيّة اطمئنانيّة، بالمعنى العقلائي للكلمة لا بالمعنى الفلسفي والمنطقي الدقيق.
من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد، هو عدم اعتقادي بشرعيّة هيمنة المنهج التفكيكي التجزيئي بوصفه القاعدة الغالبة، وميلي للمنهج الانضمامي، انطلاقاً من مرجعيّة الوثوق الاطمئناني في حجيّة الصدور والدلالة.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 21 ـ 12 ـ 2021م