تحدّث القرآن الكريم، وتبعته السنّة الشريفة، عن استثناءٍ في محرّمات الأطعمة، وهو الاضطرار، لكنّه قيّدَ الاضطرارَ بأن لا يكون المضطرّ باغياً ولا عادياً (البقرة: 173، والأنعام: 145، والنحل: 115). وقد وقع كلامٌ بين المفسّرين والمحدّثين والفقهاء في معنى الباغي والعادي هنا، وأبرز التفاسير المطروحة أربعة:
التفسير الأوّل: أن يُراد بالباغي الظالم؛ لأنّ البغي بمعنى الظلم، فيما يراد بالعادي من تعدّ الحدّ وتجاوزه، فيكون المقصود: إنّ من يضطرّ ولا يكون اضطراره ناشئاً عن قيامه بظلمٍ أو قيامه بتعدٍّ وتخطٍّ عما له وعن حقوقه المشروعة، فيجوز له الأكل، أمّا لو اضطرّ بسبب كونه يمارس الظلم، كما لو خرج بجيشٍ إلى مدينةٍ ليقتل أهلها ويظلمهم، فأصيب بالجفاف والجوع في الطريق، أو خرج بسبب تعدّيه على حكمٍ من أحكام الله، كمن سافر لمعصيةٍ مثل صيد اللهو ـ على قولٍ ـ فإنّ هذين لا يجوز لهما الأكل ولو مع الاضطرار، ولو أكلا فسوف يعاقَبان عند الله تعالى.
التفسير الثاني: أن يكون المراد بالباغي «الطالب»، من قولنا: بغى هذا الأمر أي أراده وطلبه، والمقصود من الطالب هنا هو طالب اللذّة، وعليه فيكون المعنى: لا يحق للمضطرّ الأكل إذا أراد اللذّة منه، بل يأكل بقدرٍ، وبقصد رفع اضطراره، لا للتلذّذ والتفكّه. أمّا العادي، فهو المتجاوز للحدّ ـ كما في التفسير الأوّل ـ لكن يراد منه من يأكل متجاوزاً حدّ الضرورة. وعليه فيكون المعنى: إنّ المضطرّ يجوز له الأكل، لكن لا يجوز له الأكل لغير رفع الضرورة، بحيث يأكل للذّةٍ أو يأكل أزيدَ من مقدار الحاجة، فإنّ الضرورات تقدّر بقدرها.
وهذا التفسير هو المنسوب إلى الحسن وقتادة ومجاهد والربيع وابن زيد، ونسبه الفخر الرازي إلى أبي حنيفة.
والفرق بين التفسير الأوّل والثاني أنّ الأوّل يجعل القيدين صورتين من صور الاضطرار، فيما الثاني يجعلهما صورتين من صور الأكل حال الاضطرار، كما أنّ نتيجة الأوّل تحريم الأكل ولو لزم منه الموت والضرر، بعكس الثاني فهو يجيز الأكل في مطلق حالات الاضطرار، غايته بقيودٍ في كيفيّة الأكل نفسه لا غير.
التفسير الثالث: ما تفيده بعض الروايات، وهو أنّ الباغي هو الباغي على الإمام، والعادي هو قاطع الطريق، لكنّ الروايات تحدّثت أيضاً عن معانٍ أخَر تلتقي بوجهٍ مع التفسير الأوّل، ولعلّ هذه المعاني كلّها تطبيقات لا تفاسير، فلا يكون التفسير الثالث سوى بيان لمصاديق التفسير الأوّل.
التفسير الرابع: أن يقال بأنّ «غير باغ ولا عاد» كالبدل من قوله (اضطرّ) وفي مقام شرح هذه الكلمة، فهو يريد أن يشرح من هو المضطرّ فيقول بأنّ المضطرّ هو الذي يأكل غير مريدٍ للأكل ولا متجاوزٍ لشيء، وإنّما هو ذاك الشخص الذي يُقهر ويُلجأ إلى ارتكاب هذا الفعل، أمّا من يرتكب هذا الفعل لأنّه يريد ذلك أو يرتكبه لأنه متعدٍّ على الحدود الشرعيّة مرتكب للمحرّم.. فهذا لم يُقهر بل هو أراد ذلك، فيكون المعنى: أما الذي يضطرّ ـ وهو الذي تفرض الضرورة عليه الأكل وهو لم يقصده ولم يطلبه ليتعدّى بذلك حدود الله تعالى؛ إذ المفروض أنّ المأكولَ محرّمٌ كالميتة ـ فهذا يجوز له الأكل.
وبهذا تكون الجملة الحالية من الحال المؤكِّدة، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (البقرة: 60)، فإنّ الإفساد هو معنى «لا تعثوا» على ما قيل.
والذي توصّلتُ إليه هو ضعف الشواهد على التفاسير المختلفة، وترجيح التفسير الرابع هنا، وقد طرحتُه وانتصرتُ له ثم عدتُ ووجدت أنّ الشيخ محمّد حسن النجفي (1266هـ) قد أثاره ومال إليه. فالصحيح في دلالة هذه القيود ـ والله العالم ـ هو تحقيق معنى الاضطرار وتبيينه لا إضافة قيد جديد يضيّق من دائرة الترخيص حال الاضطرار، وإن كان التفسير الثاني قد يكون مقبولاً جزئيّاً في نفسه بصرف النظر عن دلالة الآيات عليه ـ إذ هو على مستوى دلالتها عليه من أضعف التفاسير ـ لأنّه تقتضيه “قاعدة الضرورات تقدّر بقدرها“. أمّا الروايات فكلّها بعد التحقيق ضعيفة الإسناد مختلفة الدلالات، بل ثمّة احتمال تحدّثتُ عنه في محلّه في عود مجموع النصوص إلى ثلاثة فقط لا غير.
وقد بحثتُ هذا الموضوع بالتفصيل قرآنياً وحديثيّاً وفقهيّاً في كتابي (فقه الأطعمة والأشربة 1: 252 ـ 270، الطبعة الأولى، 2020م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الأحد 26 ـ 6 ـ 2022م