يتحدّث الفقه الإسلامي بإسهاب عن موضوع الرضاع وتأثيراته في نشر الحرمة، ومن جملة الموضوعات المهمّة هنا تحديد المعيار في الرضاع الناشر للحرمة، وتوجد هنا ثلاثة معايير أشارت إليها النصوص الحديثيّة:
المعيار الأوّل: وهو المعيار الزماني، ويقصد به تحديد الرضاع باليوم والليلة في جملة من الروايات، أو بالسنة الكاملة، أو بالحولين الكاملين، ونحو ذلك.
المعيار الثاني: وهو المعيار العددي أو الكمّي، بتحديد الرضاع بعشرة رضعات كاملة أو بخمس عشرة رضعة كاملة.
المعيار الثالث: وهو المعيار الجسدي أو الأثري، ويقصد به أن يكون تأثير الرضاع هو إنبات اللحم واشتداد العظم، أو نموّ اللحم والدم، وما شابه ذلك.
وقد عمل الكثير من الفقهاء بهذه المعايير الثلاثة معاً، فقالوا بأنّه لو حصل الرضاع ضمن المعيار الزماني نشرَ الحرمةَ، ولو حصل ضمن المعيار العددي نشرَها كذلك، ولو حصل ضمن المعيار الأثري فكذلك، فأي ّواحد من هذه المعايير الثلاثة حصل أوّلاً كان كافياً. ولكنّ بعض الفقهاء ناقش في بعضها، ووقعت بينهم بحوث وتعليقات متبادلة.
والمنسوب للعديد من فقهاء أهل السنّة، وكذلك لابن الجنيد من الشيعة، الاكتفاء بمسمّى الرضاع ولو مرّة واحدة، بينما ذهب السيّد علي السيستاني من المعاصرين لمرجعيّة الإنبات والاشتداد، لكنّه اعتبر أنّه عند الشكّ في حصول الاشتداد والإنبات، فالمرجع هو المعيار الزماني والكمّي أو العددي، ثمّ عاد وبيّن أنّه لو حصل يقين بعدم تحقّق الاشتداد والإنبات مع تحقّق المعيار الزماني أو العددي، فإنّه لا تترك مراعاة مقتضى الاحتياط على حدّ تعبيره.
والذي توصّلتُ إليه بنظري المتواضع ـ والعلم عند الله ـ أنّ المعيارين العددي والزماني ليسا سوى طريق معبِّر أحياناً عن المعيار الرئيس، وهو نبات اللحم واشتداد العظم، فالمعيار الحقيقي هو نموّ جسد الطفل نتيجة هذه الرضعات المتتالية نموّاً حقيقيّاً بحيث يقال بأنّه كبُر ونما بذلك، وهي عمليّة تختلف في متطلّباتها بحسب جسد الطفل ولبن الأم وعمر الطفل كذلك، فلا تنتشر الحرمة بعدد الرضعات، ولا بالزمان، ما لم نصل إلى مرحلة نُحرز فيها تحقّق المعيار الحقيقي، وهو نبات اللحم واشتداد العظم. وهذا المعيار لا يُراد منه ـ كما فهمه بعض الفقهاء ـ عنصران اثنان: النبات والاشتداد، بحيث أخذوا يبحثون عن حالة تحقّق النموّ في اللحم دون الاشتداد في العظم، وهكذا. بل هو تعبير واحد كنائي عن نموّ الطفل نموّاً حقيقيّاً بفعل هذه الرضعات بحيث كبر وشبّ ونما جسده، فيظلّ الإرضاع غير موجبٍ لنشر الحرمة حتى بلوغ مرحلة إحراز النموّ نتيجته.
والمقصود من النموّ الجسدي هو المفهوم العرفي له، لا المفهوم العلمي المعتمد على الدقّة، أي أنّ العرف لو نظر لهذا الطفل قبل تولّي هذه المرأة إرضاعه، ثمّ رآه بعد ذلك، لأدرك أنّه كبر ونما وعظم حجم بدنه، أمّا التغيّرات الطفيفة غير المنظورة للعرف والتي يمكن أن يتحدّث عنها أهل الاختصاص، فلا عبرة بها هنا؛ لأنّها ليست هي المعيار.
وهذه النتيجة التي توصّلنا إليها تُلغي موضوع الحديث عن الكثير من التفاصيل التي خاض فيها الفقهاء في قضيّة الرضعات وعددها، وحكم ما لو قاء الطفل بعض الرضعات، وهل يجب أن تكون الرضعة كاملة أو لا؟ وماذا لو تناول شيئاً بسيطاً مع الرضعات بما في ذلك بعض السوائل التي فيها أعشاب بهدف مواجهة النفخ أو غيره؟ وغير ذلك من التفاصيل الكثيرة التي خاضوا فيها اعتماداً على كون هذه الأرقام قد أخذت بطريقة جدّيّة معياريّة في النصوص، لا طريقاً لمعياريّة انتساب الإنبات والنموّ للرضاع حتى لو كان غيره معه بنحو يكون ملحقاً، بما يصحّح نسبة النموّ للرضاع نفسه بطريقة عرفيّة.
وبعيداً عن الإجماعات والشهرات في هذا الموضوع بعد وضوح مدركيّتها، فإنّ الروايات هنا كثيرة ومضطربة اضطراباً عجيباً للوهلة الأولى، ومتعارضة من جهات عدّة، وبخاصّة روايات التقدير الزماني والعددي فيما بينها وداخلها، لكنّ الأقوى من مجموع الروايات ـ سنداً ودلالةً ـ هو نصوص المعيار الأثري (إنبات اللحم واشتداد العظم)، حتى أنّ بعض روايات التقدير الزماني يتحقّق في مورده عنصر النموّ في العادة، مثل روايات السنة والسنتين، رغم ضعفها السندي، بل بعض نصوص المعيارين الآخرين علّلت الأخذ بهما أو بأحدهما بأنّه يحقّق نبات اللحم واشتداد العظم، فالعدد والزمان كانا مجرّد طريق وثوقي متوفّر لديهم للمعيار الحقيقيّ، حيث لا يُعرف الموقف، وربما يكون المنظور فيه الأيّام الأولى لولادة الطفل، لا في مثل ما لو كان عمره سنة أو أكثر، وهو ـ لو ثبت ـ ضربٌ من تشخيص الموضوع تشخيصاً غالبيّاً بحسب المتوفّر لهم في ذلك الزمان لا أكثر ، وهو ما أطلقنا عليه في مباحث أصول الفقه عنوان «الشخصيّة الموضوعيّة للنبيّ والإمام»، وفرقٌ بين تدخّل الإمام في تشخيص الموضوع أو تعيين طريق خارجي للتحقّق من الموضوع وبين بيانه المعيار الذي عليه مدار الحكم وفيه مناطه. والموضوع فيه تفصيل، ونكتفي بهذا القدر.
أمّا دلالة النصّ القرآني، وزعم أنّ مطلق الرضاع محقّق لمفاد دلالة الكتاب الكريم، معزَّزاً ذلك ببعض الروايات التي دلّت على أنّ الرضاع كثيره وقليله، بل ولو رضعة واحدة، موجبٌ لنشر الحرمة.. فهو غير واضح؛ لأنّ كلمة الرضاع في الثقافة العربيّة آنذاك ـ لا في المعجم اللغوي ـ لا يُعلم أنّ المراد منها في هذه السياقات مطلق إرضاع المرأة للولد، بل لعلّ الأقرب وفق المعطيات التاريخيّة لعصر نزول القرآن ـ ويكفي الاحتمال المعتدّ به ـ هو ما كان متداولاً بين العرب من تعهّد امرأةٍ بإرضاع الولد مدّة من الزمان، فمعنى «الأمّهات اللاتي أرضعن» ليس بمعنى مطلق الرضاعة ولو مرّة، بل هي تماماً كقولنا: «وأمّهاتكم اللاتي ربّينكم» حيث لا يصدق العنوان على مجرّد أن يكون في بيتها ليومين أو ثلاثة، خاصّة مع تعبير القرآن عنهنّ بـ «الأمّهات»، لا فقط بالمرضعات، فتأمّل جيّداً. أمّا الروايات المشار إليها، فهي مضافاً لمعارضتها لعددٍ كبير من النصوص هنا، تعاني من مشاكل سنديّة وقلّةٍ عدديّة.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 3 ـ 5 ـ 2022م