المعروف بين الفقهاء وجوب كون القراءة صحيحة في الصلاة، بمعنى أن تكون على وفق قواعد اللغة العربيّة وأساليب أهلها، لهذا فهم يحاولون دراسة الصحّة وكيفيّة القراءة وخصوصيّاتها من خلال الرجوع للسان العربي، وهو ما أدّى بهم إلى ذكر سلسلة من المسائل الفقهيّة في مباحث القراة في الصلاة، ووقعت بينهم خلافات في ذلك في العديد من التفاصيل بين الإلزام والاحتياط الوجوبي والاحتياط الاستحبابي والإفتاء بالعدم، وهكذا.
وعلى سبيل المثال، مسألة الإدغام بغنّة أو بلا غنّة، مع مجيء أحد حروف “يرملون”، فقد ذهب جمع إلى وجوب الادغام بغنّة ومن دون غنّة أو احتاطوا وجوباً فيه، ومن هؤلاء: السيد محسن الحكيم، والشيخ المنتظري، والشيخ بهجت، والسيد محمد الروحاني، والسيد محمد سعيد الحكيم وغيرهم. لكن في المقابل لعلّ أغلب الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين لا يوجبون ذلك، وبعضهم يراه بنحو الاحتياط الاستحبابي، ومن هؤلاء: الشيخ فاضل اللنكراني، والسيد اليزدي، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد محمد باقر الصدر، والسيّد الخميني، والسيد الخوئي، والسيد الگلپايگاني، والشيخ التبريزي، والسيد محمد صادق الروحاني، والسيد السيستاني، والسيد فضل الله، والشيخ الصانعي، والشيخ الفياض، والشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ لطف الله الصافي، والسيد محمود الهاشمي، وغيرهم.
وعموماً هناك ما يشبه التيّارين هنا: تيّار متشدّد، وكثيراً ما يعتمد على قاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ومن رجالاته ولو على مستوى الاحتياط: السيد محسن الحكيم؛ وتيّار غير متشدّد، ويعتمد كثيراً على صحّة المقروء لا خصوصيّات القراءة، ويأخذ بقاعدة البراءة، ومن رجالات هذا التيّار: السيّد محمّد باقر الصدر، والسيد السيستاني، والسيد فضل الله، على تفاوتٍ بين الشخصيّات في درجة التشدّد وعدمه.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّه مع القول بوجوب العربيّة في قراءة الصلاة وغيرها، فإنّه يكفي فيها أن يكون المقروء قد صدر صحيحاً، وأمّا التقيّد بكيفيّات القراءة فغير لازم، وإن كان هو مقتضى الاحتياط الاستحبابي، وعليه:
أ ـ جواز الوقوف على الحركة والوصول بالسكون، فتقول: «إنّ اللهْ يدافع عن الذين آمنوا»، مع وصل الكلمات ببعضها، وفي الوقت عينه تسكين الهاء من «الله»، وكذا يجوز أن تظهر الفتحة على كلمة المستقيم ولو عند الوقف في قوله: «اهدنا الصراط المستقيمَ». ومثل هذا سائر قواعد الوقف.
ب ـ عدم وجوب المدّ في الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها والألف المفتوح ما قبلها مع سكون ما بعدها، مثل الضالّين، وكذا عدم الوجوب في مثل: جاء وجيء وسوء وغير ذلك. ويستثنى من ذلك ما لو كان الكلام على تقدير عدم المدّ موجباً لصدق صدور كلمة أخرى خاطئة، فيجب بما يقتضي رفع هذا الخطأ فقط.
ج ـ عدم وجوب مختلف أشكال الإدغام بغنّة أو بغير غنّة. وكذلك عدم وجوب الإدغام في مثلين وقعا في كلمتين، مثل: «اذهب بكتابي»، و «يدرككم الموت».
د ـ عدم وجوب التقيّد بالتفاصيل والمحسّنات التي يذكرها علماء التجويد من نوع مخارج وصفات الحروف الدقيقة والتفخيم والترقيق والسكت والإشباع والإمالة والقلقلة ودرجات المدّ المختلفة وأنواعه وأمثال ذلك، ما دام المقروء صحيحاً.
وهذا لا يُنقص من علم التجويد شيئاً، بل تظلّ عمدة موضوعاته مهمّة ومنشودة؛ للبلوغ بالنطق والكيفيّة أعلى الدرجات بلا غرقٍ في الكلمات والأصوات بما يحجب عن التأمّل والسفر في معاني القرآن الكريم، غير أنّها ليست لازمة شرعاً في إسقاط المأمور به بنحو اللزوم أو الندب، وبخاصّة في الصلاة. والمعروف تاريخيّاً وجود تمايز في الرأي بين القرّاء وأهل التجويد وبين الفقهاء، فالفريق الأوّل ذهب بعضهم إلى القول بالوجوب الكفائي ـ بل فرض العين ـ في تجويد القرآن وتعلّمه، فيما نظر الفقهاء لقراءة القرآن بالمنظار العربي، لا بالمنظار المتوارث بين القراء وأهل العناية بالقراءة القرآنيّة، والتفصيل في محلّه.
هذا وكلّ ما قلناه على قراءة الصلاة، يجري في سائر الأذكار مما يجب فيه العربيّة الصحيحة.
والفكرة المركزيّة هنا أنّه لا توجد آية أو رواية تقول بأنّه يجب القراءة الصحيحة في الصلاة حتى نرجع إليها ونأخذ بإطلاقها مثلاً، بل العمدة هو صدق قراءة هذه الآية أو تلك عرفاً عند أهل العربيّة، فليس المطلوب صحّة القراءة، بل المطلوب ـ أوّلاً وبالذات ـ هو تحقيق المقروء الذي هو المطلوب، فيلزم صدق قراءة الفاتحة عند أهل اللغة، فلو قالوا: قرأ الفاتحة، صحّ ولو لم يقرأها على طريقتهم المثلى، وعليه فالبحث في المتطلّبات التي يفرضها أهل اللسان العربي لتصحيح ما تمّت قراءته، بمعنى الاعتراف بصدق أنّه قرأ هذه السورة أو هذه الآية، فما تقتضيه الأدلّة أو تنصرف إليه هو المعيار. ولكي أشبّه الموقف يمكنني ذكر شخص يتعلّم للتوّ اللغة العربيّة، فإنّه قد لا ينطق بالكلمات صحيحةً أحياناً، لكنّه في أحيان كثيرة ينطق بالجملة والكلمات صحيحةً غير أنّها لا تطابق تماماً ما يتلفّظ به أهل اللغة أنفسهم، فانتبه.
حيدر حبّ الله
الاثنين 14 ـ 2 ـ 2022م