المشهور بين فقهاء الإماميّة ـ بل ادُّعي عليه الإجماع ـ أنّه يجب وضع الميّت في قبره بحيث يكون مضطجعاً على يمينه موجّهاً وجهُه إلى القبلة. وقد خالف في هذه المسألة ابن حمزة الطوسي (ق 6هـ)، حيث قال باستحبابهما معاً (إضجاع الميت على يمينه وتوجيهه إلى القبلة)، وذهب ابن سعيد الحلّي (690هـ) إلى القول بوجوب توجيه الميّت نحو القبلة، لكنّ إضجاعه على يمينه مستحبّ عنده.
أمّا الفقه السنّي فلم يوجب مشهوره إضجاع الميت على يمينه، لكن ذهب الكثير منهم ـ غير جمهور من المالكية وجماعة من الأحناف وغيرهم ـ إلى وجوب توجيهه نحو القبلة، فيما اعتبرت المالكية ذلك مندوباً.
والذي توصّلتُ إليه أنّه لا يجب وضع الميّت في القبر على يمينه ولا توجيهه للقبلة، وإنّما التوجيه للقبلة مقتضى الاحتياط الاستحبابي، ولو دفن الميّت دون توجيهه للقبلة ـ عمداً أو سهواً أو جهلاً ـ لم يجب النبش، بل يحرم إذا لزم منه الهتك والإهانة.
وعمدة أدلّتهم هنا ـ مضافاً إلى الإجماع المعلوم المدركيّة ـ:
أ ـ السيرةُ المستمرّة بين المسلمين عبر العصور. لكنّها تنسجم مع الاستحباب المؤكّد، ويؤيّد ذلك أنّ الشعوب المسلمة التي تتبع مذاهب فقهيّة لا ترى وجوب التوجيه نحو القبلة ما زالت تمارس إلى اليوم ـ كغيرها ـ هذه العادة وتلتزم بها، وهذا شاهد على أنّ المستحبّ المؤكّد في مثل هذه القضايا يمكن أن يصبح طريقة قائمة متعارفة لا يحيد الناس عنها.
ب ـ بعض الروايات. وهي بين ضعيف إسناداً (وهذا هو غالبها؛ إذ الضعيف سنداً هنا حوالي تسع روايات)، وضعيف دلالةً (وفي تقديري لا يدلّ على الوجوب هنا عدا رواية أو روايتين ضعيفتان إسناداً)، فمعتبرة معاوية بن عمّار لا تفيد الوجوب؛ إذ أقصاها صيرورة هذا الأمر مسنوناً يعمل به المسلمون، وهذا قد يكون بنحو الاستحباب المؤكّد جدّاً، إذ الاستحباب المؤكّد مع الجري العملي بين المسلمين عليه يحقّق مفهوم “الطريقة” أو “الطريقة الثابتة”. وهذا بنفسه يكفي لفهم الروايات الدالّة على وجود طريقة مقرّرة في وضع الميّت في القبر دون أن توضح هذه الطريقة، مثل رواية يعقوب بن يقطين. ويضاف إلى ذلك أنّ رواية معاوية بن عمّار ـ بنقل المحمّدين الثلاثة جميعاً ـ دلّت على إيصاء البَرَاء بن مَعْرُور الأنصاري بثلث ماله، ومن المحتمل عود تعبير “جريان السنّة” إلى موضوع الوصيّة بالثلث؛ إذ هو الأقرب، لا إليه وإلى ما قبله من كيفيّة الدفن، وإن كان في بعض الروايات التاريخيّة أنّ النبي ردّ وصيته بثلث ماله. والرواية بعينها وإن وردت بصيغة: «.. فأوصى البراء إذا دفن أن يجعل وجهه إلى رسول الله‘ إلى القبلة، فجرت به السنّة، وأنّه أوصى بثلث ماله فنزل به الكتاب وجرت به السنّة».. غير أنّ تردّدها بين الصيغتين والنقلَين ـ لو سلّمنا أن تعبير “جرت به السنّة” دالٌّ على الوجوب ـ يكفي للشكّ في عود هذا التعبير إلى كيفيّة الدفن، علماً أنّ هذا التعبير الثاني لم ينقله سوى الكليني في موضعٍ آخر من “الكافي”. وبعض الروايات ذكرت هذا الحكم الى جانب مجموعة من المستحبّات، بل وأحياناً بصيغة الفعل لا الأمر كما في وقائع دفن النبيّ.. فلا ينعقد ظهور في الوجوب، على ما هو التحقيق أصوليّاً في مثل هذه الحال، ما لم تقم قرينة إضافيّة. بل لعلّ جريان السنّة على ذلك نتيجة ما قام به البراء بن معرور، يُشعِر وكأنّ القضية ليست تشريعاً دينيّاً، وإنّما هو أمرٌ تمّ استحسانه من قبل المسلمين، فجروا عليه، فتأمّل.
وأحتمل ـ والعلم عند الله ـ أنّ البراء بن معرور، وهو أنصاري مدني، خطر في باله موضوع توجيهه إلى جهة النبيّ (حيث كان النبيّ ما يزال في مكّة، إذ المعروف أنّه وصل إلى المدينة بُعيد وفاة البراء بن معرور)، ربما مما يعرفه عن اليهود في المدينة، حيث يرون توجيه الميّت في القبر إلى ناحية القبلة (بيت المقدس) بوضعه على ظهره وجعل باطن قدميه إلى ناحية بيت المقدس، حتى إذا بُعث من قبره وقف ومشى فوراً نحو القبلة. ويعرف عن البراء بن معرور أنّه كان ـ قبل الجميع ـ من المتحمّسين لجعل الكعبة قبلةً، فراجع.
ج ـ هذا، واستدلّ أهل السنّة بأدلّة هنا يرجع غالبها لوجوهٍ اعتباريّة أو لأقيسة لا تبدو مقنعة إطلاقاً، من نوع استحباب التوجّه للقبلة للنائم، فيُقاس الميّت عليه؛ إذ هو نائم، وغير ذلك. وأمّا حديث تعداد الكبائر والذي ورد فيه: «..وإلحادٌ بالبيت الحرام، قبلتكم أحياءً وأمواتاً»، والذي رواه أبو داود في سننه، فهو لا يفيد الوجوب هنا، بل يكفي الاستحباب المؤكّد لتبرير هذا التوصيف النبوي، وبخاصّة أنّ النبيّ هنا ليس في مقام بيان أحكام الدفن.
حيدر حبّ الله
الاثنين 31 ـ 1 ـ 2022م