ذهب مشهور فقهاء الإماميّة إلى وجوب الجهر في القراءة على الرجال في الركعتين الأوليين من صلوات الصبح والمغرب والعشاء، والإخفات كذلك في الظهرين، وفي غير الأوليين من الصلوات الرباعيّة والثلاثيّة. أمّا النساء فهنّ بالخيار في الصلوات الجهريّة بين الجهر والإخفات، وقال بعضٌ بوجوب الإخفات عليهنّ لو كان يسمعهنّ أجنبيّ. ولو أخلّ المصلّي بهذا الحكم عالماً عامداً بطلت صلاته. هذا في القراءة والتسبيحات، أمّا في سائر أذكار الصلاة كما في الركوع والسجود والتشهّد وغير ذلك فيجوز الجهر والإخفات مطلقاً. هذا، وهناك تفاصيل أخرى لا نطيل بها هنا مثل الجهر في بعض الصلوات الخاصّة وفي البسملة وغير ذلك.
وقال جمهور أهل السنّة باستحباب الجهر والإخفات في مواضعهما، وبعض الشافعية قال بالوجوب، لكنّ جمهورهم يرى ـ على ما يبدو ـ أنّه لو أخلّ ولو عمداً، لا تبطل الصلاة. وبعضهم أثبت سجدتي السهو.
وخالف مشهورَ الإماميّة جماعةٌ منهم، فقد نسب المحقّق الحلّي إلى السيّد المرتضى (436هـ)، أنّه اعتبره من السنن المؤكّدة، وناقش بعضٌ في دلالة العبارة على ذهاب المرتضى للاستحباب، لكنّ عبارة العلامة الحلّي صريحة في نسبة الاستحباب للمرتضى في كتابه المصباح. ونسب الحلّيان أيضاً إلى ابن الجنيد أنّه يرى صريحاً استحباب الجهر والإخفات. ومال المحقّق الأردبيلي (993هـ) والسيّد العاملي صاحب المدارك (1009هـ) لعدم الوجوب، وذهب لنفي الوجوب المحقّق السبزواري (1090هـ). وقال العلامة المجلسي بعد ملاحظته تعارض الروايات: «والمسألة في غاية الإشكال، ولا يترك الاحتياط فيها». ومن المعاصرين ذهب السيد السيستاني إلى الاحتياط الوجوبي دون الفتوى. أمّا الشيخ الفياض فاحتاط وجوباً في الجهر، وتحتمل عبارته كون الإخفات فتوى كما تحتمل أنّه احتياط وجوبي أيضاً، والتفصيل بين الجهر والإخفات معقول انطلاقاً من أحد أشكال الجمع بين الروايات. كما أنّ السيد محمّد الروحاني بنى الحكم في الرجل على الاحتياط الوجوبي، وظاهر عبارته أنّ الإخفات على المرأة في الصلوات الإخفاتيّة فتوى.
والذي توصّلتُ إليه ـ والله العالم ـ هو عدم وجوب الجهر ولا الإخفات، وعدم بطلان الصلاة بتركهما عن علم وعمد، ولا عن سهو أو جهل، غاية الأمر أنّ الجهر والإخفات من المستحبّات المؤكّدة جدّاً، وبخاصّة لإمام الجماعة في الجهريّة، فإنّ النصوص الحديثية العديدة عند الشيعة والسنّة معاً (بعد عدم دلالة الآية (الإسراء: 110) على دعوى المشهور هنا)، مع السيرة، مع الشهرة، تتعاضد كلّها في إثبات ثلاثة مبادئ: مبدأ وجود صلوات جهريّة وإخفاتيّة، ومبدأ كون الجهريّة والإخفاتيّة متعلّقة بالقراءة حتى لو فرضنا تعلّقها بغيرها أيضاً ولو أحياناً، ومبدأ جامع رجحان الجهر والإخفات بصرف النظر عن الوجوب أو الاستحباب بعنوانهما. إنّما الكلام في الوجوب والبطلان على تقدير المخالفة، وأدلّتُه كلّها قابلة للنقاش، بل قد نوقش أغلبها بالفعل من قبل بعض المتأخّرين فلا نطيل، والمتبقّي من الأدلّة العمدة في تقديري أمران:
أ ـ الروايات، وليس هناك إلا روايتان صحيحتان لزرارة، وهما ـ وفقاً لتحليلي ـ ليستا على الأرجح إلا رواية واحدة، تمّ نقلها بطريقتين متنوّعتين، يظهر ذلك بملاحظة المصدر والسند (حماد ـ حريز ـ زرارة)، وبملاحظة السائل والمسؤول، وبملاحظة متن الرواية، ولا أقلّ من صعوبة الوثوق بأنّهما روايتان.. إنّ صحيحة زرارة هذه تعارضها صحيحة عليّ بن جعفر المفيدة لنفي الوجوب، الأمر الذي دفع الفقهاء لاعتبار صحيح ابن جعفر محمولاً على التقيّة تبعاً للشيخ الطوسي، فيما ذهب القائلون بالاستحباب إلى أنّ الجمع بين الأمر والترخيص يفيد الاستحباب، وأنّ صحيح زرارة حتى لو صرّح بلزوم إعادة الصلاة، لكنّ هذا أمر شائع أيضاً في الروايات المفيدة لاستحباب شيء، فتكون الإعادة مستحبّة أيضاً. والصحيحتان المتعارضتان هنا فيهما اختلافات في النُّسَخ تترك تأثيرات جزئيّة لكنّها لا تهدم دلالتَيهما بنظري خلافاً لما حاوله بعضٌ. والغريب أنّ الروايتين لا تحدّدان ما هي الصلوات الجهريّة وما هي الصلوات الإخفاتيّة أصلاً. وبعض النصوص يوحي بأنّ الجهر كأنّه من شؤون إمامة الجماعة، لا مطلق المصلّي، لكنّ نصوصاً أخَر تخالفُ هذا الإيحاء.
وعليه، فصحيح زرارة مضافاً لكونه خبراً آحاديّاً ظنيّاً منفرداً في بابه، ولا نقول بحجيّة خبر الواحد الظنّي، معارضٌ بصحيح ابن جعفر. واللافت جدّاً هنا هو عدم ذكر الكليني هذه الرواية التي يظهر أنّها مأخوذة من أصل حريز المشهور في الصلاة، رغم أنّه وصله حتماً كما يظهر في عشرات المواضع من الكافي. فإمّا اختلفت نُسخ كتاب حريز، أو أنّ الكليني لم يأخذ بهذه الرواية لسببٍ ما. كما أنّ اللافت للنظر أنّ هذه المسألة تعدّ من الفوارق الأساسيّة بين الشيعة والسنّة، فكيف لم يظهر أيّ سؤال يفيد الوجوب أو البطلان على تقدير المخالفة عدا رواية واحدة أو روايتين لراوٍ واحد، خاصّة وأنّ السهو والجهل في مثل هذه المواضع كثير، فيتوقّع ظهور أسئلة، بل يتوقّع تركيز الأئمّة أكثر على هذا الموضوع لتأكيده وترسيخه؛ كونه مخالفاً لجمهور المسلمين، مع أنّنا لا نجد إلا صحيح زرارة المرويّ عن الإمام الباقر، أي عن فترة مبكّرة نسبيّاً! لا أريد بذلك دعوى كذب الرواية بل تقليل فرص تحصيل الظنّ أو الوثوق بها. والبحث فيه مجال طويل للتحليل والنقاش وفي بالي أفكار كثيرة هنا، ممّا لا يسعه هذا العرض المختصر.
ب ـ ذهاب المشهور إلى الوجوب، لكنّه لا دليل على أنّ منشأه خصوص رواية زرارة هنا، حتى نرفع بعمل المشهور قوّةَ الوثوق بالرواية، إذ لعلّهم لمّا تعارضت الروايات احتاجوا لتحصيل فراغ الذمّة حيث وقعوا في الشكّ، فأفتوا بالجهر والإخفات لذلك، لا لترجيحهم رواية زرارة بعينها. وكلامي هذا ليس افتراضيّاً، فقد استدلّوا بالفعل بضرورة تحصيل فراغ الذمّة، واعتبروه من أدلّة الوجوب هنا، فراجع كتبهم الفقهيّة. بل إنّ الغريب في المقام هو أنّ هذه المسألة يفترض أن تكون من مسائل الخلاف المذهبي، وأن يذكرها أمثال المرتضى في كتب الخلاف المذهبي، ومع ذلك لا عين ولا أثر لدرجها ضمن هذا النوع من القضايا أو هذا النوع من المصنّفات الفقهيّة خلال القرون السبعة الأولى.
حيدر حبّ الله
السبت 4 ـ 12 ـ 2021م