المعروف المتداول في الفقه الإسلامي أنّ الأكل والشرب حال الصلاة مبطلٌ لها، واستثنوا من ذلك ما يكون من الطعام القليل بين الأسنان أو من السكّر المذاب فيها، باعتبار أنّ الأكل والشرب المبطل للصلاة يختلف عن الأكل والشرب المبطل للصيام، كما استثنوا حالة العطشان المشغول بدعاء الوتر والناوي للصيام، ويخشى أن يطلع الفجر فجأةً دون أن ينتبه وقبل أن ىشرب، فأجازوا له أن يتحرّك قليلاً بخطوة أو خطوتين أو ثلاث عن موضع الصلاة، فيأخذ الماء ويشرب، ثمّ يرجع إلى مكانه ويتمّ صلاته، ومستندهم في استثناء حالة هذا العطشان مثل رواية سعيد الأعرج.
وعلى مستوى الفقه السنّي، فإنّ المذاهب الأربعة ترى مبطليّة الأكل والشرب، بل بعضها شديد التشدّد في الأمر، حيث لا تمييز بين الطعام القليل والكثير عنده، بل وحتى بعض ما بين الأسنان، على تفصيلٍ يمكن مراجعته في المطوّلات الفقهيّة السنيّة.
لكنّ جملةً من الفقهاء ـ وبخاصّة بين المتأخّرين ـ أجروا مراجعة لهذه المسألة كلّها، ولم يوافقوا على مبطليّة الأكل والشرب بعنوانهما، بل اعتبروا أنّ المبطل هو محو صورة الصلاة، فإذا كان الأكل والشرب مسبّبين لمحو صورة الصلاة، بطلت الصلاة، لا لأجل الأكل أو الشرب، بل لمحو صورتها.
وقد استشكل في البطلان في غير صورة محو الصلاة أمثال السيّد محسن الحكيم، والسيد الخوئي، والسيد محمّد باقر الصدر في تعليقته على المنهاج دون الفتاوى الواضحة، والسيد محمد الروحاني، والسيد محمود الهاشمي، والشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، والشيخ الوحيد الخراساني، وغيرهم. وصرّح السيد السيستاني بأنّ مبطليّة الأكل والشرب في غير صورة محو الصلاة ثابتةٌ على الأحوط وجوباً. وقد صرّح السيد محمد صادق الروحاني والسيّد محمّد حسين فضل الله والشيخ محمد الصادقي الطهراني بعدم المبطليّة في غير صورة محو الصلاة أو فوات الموالاة، وهو الظاهر من السيد موسى الشبيري الزنجاني والسيد صادق الشيرازي والشيخ عبد الله جوادي الآملي أيضاً.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ أنّ الأكل والشرب في نفسهما لا يوجبان بطلان الصلاة ما لم يتحقّق مبطلٌ آخر للصلاة بهما، مثل محو صورة الصلاة أو نحو ذلك، وهكذا الحال في أن يسير الإنسان خطوةً أو خطوتين من أيّ اتجاه؛ لغرضٍ يريده، ما لم يلزم من ذلك مبطلٌ آخر، بل إنّ الروايات التي استثنت صورة العطشان في دعاء الوتر ليست تستثني حالة تعبديّة، بل إنّ نفس ما يفعله هذا العطشان هو عادةً مما لا يلزم منه فوات الموالاة ولا محو صورة الصلاة، ومن هنا لا داعي لتخصيص هذا الاستثناء ـ وفق اعتبارهم له استثناءً ـ بحالة العطش دون الجوع أو بخصوص كون المصلّي في دعاء الوتر لا غير، كما فعله بعض الفقهاء. بل لعلّ إشارة الإمام في الرواية أن لا يقطع على نفسه الدعاء ربما يراد بها الاستمرار بالدعاء حال الخَطوِ خطوةً أو خطوتين، الأمر الذي لا يحقّق أيّ مبطلٍ للصلاة عادةً.
من هنا، فإنّ الأصحّ في صياغة الرسائل العمليّة ـ عند من لا يرى مبطليّة الأكل والشرب ـ هو أن لا يذكرهما منفصلَين عن سائر المبطلات، بل يدرجهما ضمن محو الصلاة بوصفهما مثالاً، وهكذا ما قلناه سابقاً من عدم مبطليّة البكاء مطلقاً في الصلاة إذا لم يلزم منه محو صورة الصلاة، فيقلّ بذلك عدد مبطلات الصلاة تلقائيّاً ويكون التعبير الفتوائي والفهرسة الفتوائيّة أدقّ في هذه الحال.
والمستند الرئيس للفقهاء هنا في مبطليّة الأكل والشرب ليس آيةً قرآنية ولا رواية ولو حتى ضعيفة؛ إذ لا توجد نصوص هنا أصلاً لا عند الشيعة ولا عند السنّة. وإنّما عمدة استدلالهم أحد أمرين: الإجماع، والارتكاز المتشرّعي، وكلّ واحدٍ منهما ـ لو ثبت وجوده أصلاً، إذ إماميّاً يندر العثور على شيء حول هذه القضيّة قبل الطوسي، وإثباتُ سيرةٍ متشرّعيّة في عصر النصّ يبدو أمراً في غاية الصعوبة على مستوى التحقّق التاريخي ـ قابلٌ للنقاش في غير صورة محو الصلاة وأمثالها.
وأمّا أدلّة فقهاء أهل السنّة، فهي قائمة تارةً على إبطال كلّ فعل ليس من أفعال الصلاة لها، وهذا ما لم يقم عليه دليل أصلاً، وأخرى على محو صورة الصلاة وأمثال ذلك، وهذا لا يوجب مبطليّة الأكل والشرب مطلقاً وبعنوانهما كما قلنا، وثالثة بأنّه يُشعر بالإعراض عن الصلاة وينافيها، وهو غير واضح الدليل في مبطليّته بعيداً عن فكرة محو صورة الصلاة أو فوات الموالاة أو غير ذلك.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 16 ـ 3 ـ 2022م