المتداول بين المتأخّرين من الفقهاء أنّه يجب على (العامي) أن يقلّد الأعلم في نفس مسألة وجوب تقليد الأعلم أو عدم وجوبه، ولا يجوز أن يقلّد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم. ولو أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم، فقد أجاز جمعٌ تقليد غير الأعلم بناء على فتوى الأعلم هذه، خلافاً لما ذهب إليه السيد كاظم اليزدي وغيره، حيث أفتوا بوجوب تقليد الأعلم حتى لو أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، ومن هؤلاء الذين أجازوا تقليد غير الأعلم لو أفتى الأعلم بذلك: السيد حسين البروجردي، والسيد الخميني، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد علي السيستاني، والشيخ فاضل اللنكراني، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد أحمد الخوانساري، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي، والسيد الگلپايگاني وغيرهم.
وخالف في أصل الموضوع بعضٌ، مثل السيّد محمّد الفيروزآبادي (1345هـ)، في تعليقته على العروة، واعتبر أنّ مسألة تقليد الأعلم ليست تقليديّةً، بل على العامي هو أن يقرّر بحكم عقله ما الذي يجب عليه فعله وما يحكم به عقله الموضوعي، ويظهر هذا ايضاً من الشيخ علي پناه الاشتهاردي في مدارك العروة، وكذلك أفتى السيد محمّد حسين فضل الله صريحاً بعدم وجوب تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم.
والذي ترجّح بنظري القاصر أنّ الفقيه القائل بوجوب تقليد الأعلم ربما من الطبيعي أن يقول بأنّ على العامي تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم والعكس هو الصحيح، إذ هذا ما رآه عقله وأوصله إليه تفكيره. لكنّ المسألة تكمن في أنّ العامي في مقامه وحالته قبل أن يشرع في التقليد، ما هو الملزم له ـ فيما بينه وبين الله ـ أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم إذا لم يقتنع بفكرة تقليد الأعلم بعقله؟! كلّ ما فعله الفقهاء هنا أنّهم وضعوا أنفسهم مكان العامي ثم فكّروا عنه وافترضوا أنّ عقله الموضوعي يوصله إلى هذا، وكأنّه إذا فعل غير ذلك فقد عاند عقله! فليس شيءٌ يلزم العامي ما لم يقتنع هو ـ قبل بدء التقليد ـ بوجوب تقليد الأعلم، ومن ثمَّ فالعلاقة بين الفقيه والعامي هنا هي علاقة إقناعيّة، وليست علاقة تقليديّة، تماماً كما هي العلاقة بين الفقيه والعامي في أصل وجوب التقليد، خاصّة وأنّ الدليل العمدة على وجوب تقليد الأعلم عندهم يرجع تارةً لحكم العقل وأخرى لبناء العقلاء. فالصحيح عدم كون مسألة وجوب تقليد الأعلم تقليديّة بهذا المعنى، فلو اشتبه فيها العامي بلا تقصير منه فهو معذور، كيف وقد قال علماء كبار بعدم وجوب تقليد الأعلم. فعلينا إذا أردنا إلزام العامي بتقليد الأعلم أن نُقنعه بذلك، وليس من أدوات الإقناع فتوى الأعلم نفسها أو فتوى المشهور، ما لم يوجب ذلك في نفس العامي الحَيرة وإجراء دوران الأمر عنده هو بين التعيين والتخيير وأمثال ذلك.
وقد سبق أن تعرّضتُ باختصار لهذا الموضوع في كتابي المتواضع (إضاءات 1: 408 ـ 409، الطبعة الأولى، 2013م).
حيدر حبّ الله
الخميس 9 ـ 12 ـ 2021م