المتداول بين جملة من الفقهاء ـ من ضمن ما يعتبر من آداب التجارة ومكروهاتها ـ أنّه يكره مبايعة ذوي العاهات والنقص في أبدانهم، مثل العمى والجذام والعرج والشلل وغير ذلك. وقد ورد هذا الحكم في الكثير من الكتب الفقهيّة والرسائل العمليّة.
وممّن أفتى من المتأخّرين والمعاصرين بالكراهة هنا أو ذكره في رسالته العمليّة: الشيخُ مرتضى الأنصاري، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيّد محسن الحكيم، والسيد الخوئي، والسيد محمد رضا الگلپایگاني، والسيد محمد الروحاني، والشيخ محمد أمين زين الدين، والشيخ محمد تقي بهجت، والسيد محمد صادق الروحاني، والشيخ محمد إسحاق الفيّاض، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيّد محمود الهاشمي، والشيخ لطف الله الصافي، وغيرهم.
ويجب أن أنبّه هنا إلى أنّ الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين، عندما يذكرون في الرسائل العمليّة، شيئاً مستحبّاً أو مكروهاً، فهم في العادة إذا لا يؤمنون بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، يضعون تبييناً في بدايات الرسائل العمليّة، يشيرون فيه إلى أنّ بعض المكروهات والمستحبّات الواردة في رسالتهم العمليّة لم يثبت عندهم (ولا يقومون عادةً بفرز ما ثبت عندهم عن غيره داخل متن الرسالة العملية إلا قليلاً). ولمّا كانوا لا يقولون بقاعدة التسامح لهذا فهم يطلبون مسبقاً من المكلّف أن يأتي بهذه المستحبّات أو يترك هذه المكروهات الواردة في الرسالة العمليّة برجاء المطلوبيّة.
هذا التوضيح مهمّ للغاية؛ لأنّ الفقيه كأنّه لا يريد أن يبيّن ما ثبت استحبابه أو كراهته عنده، فيذكر ما ثبت وما لم يثبت، وربما ما لم يبحث فيه هو أصلاً؛ ولعلّه عملاً بالمبدأ الذي يؤمن به بعض الفقهاء من عدم وجوب الاجتهاد أو الإفتاء في الأحكام غير الإلزاميّة، لهذا ليس كلّ ما جاء من مستحبّات ومكروهات في الرسالة العمليّة فهو ثابت الكراهة أو الاستحباب بالضرورة عند الفقيه، لكنّهم مع ذلك يذكرونه، وعلى المكلّف، فيما لم يحرِز ما هو ثابت الكراهة أو الاستحباب عند مرجعه، أن يأتي به أو يتركه برجاء المطلوبيّة.
وشخصيّاً، أعارض بشدّة هذه الطريقة، وأعتقد عميقاً بأنّ الفقيه مسؤول عن أن يولي الأحكام غير الإلزاميّة أهميّة قبل أن يذكرها في فتاويه، فإنّ لها تأثيرات مختلفة نظريّاً وعمليّاً، كما في هذه المسألة التي نحن فيها، فإنّها تعتبر ـ كما سنرى ـ أنّ ذوي العاهات، الذين بدأ المجتمع يطلق عليهم اليوم، احتراماً لهم، عنوان: ذوي الاحتياجات الخاصّة أو ذوي الطاقات الخاصّة.. تعتبرهم طبقة دنيا وأنّهم من أسوأ الناس. وهذا موقف ليس بسيطاً من شريحة كبيرة في المجتمع، ولها خصوصيّتها العالية، لهذا فالأمر يتطلّب تحديد موقف من مكروهات من هذا النوع قبل ذكرها في الكتب الفتوائيّة؛ إذ يختفي خلفها موقف من شريحة غير عادية.
وعلى أيّة حال، فالذي توصّلتُ إليه هنا هو عدم ثبوت كراهة التعامل ـ بمختلف أشكاله ـ مع ذوي الاحتياجات الخاصّة (ذوي الإعاقة أو العاهات ومن لديه نقصٌ في بدنه)، بل لعلّ مقتضى القواعد العامّة والمعايير الأخلاقيّة الكليّة هو اتّباع سلوك أفضل معهم وتخصيصهم بالاهتمام، لا الدعوة لنوع من النبذ الاجتماعي لهم ولو بغير نحو الإلزام.
وليس في مستند هذه الفتوى بالكراهة عندهم ـ على ما يبدو ـ سوى خبرٌ واحدٌ ضعيف السند من أكثر من جهة، وهو خبر مُيَسِّر بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو عبد الله×: «لا تعامل ذا عاهة؛ فإنّهم أظلم شيء». وهو حديث رواه الصدوق والكليني والطوسي، بما ينتهي لسندٍ واحد ضعيف بالإرسال وبجهالة الحسين بن خارجة الوارد فيه، فما تصوّره بعضٌ أنّه يوجد أكثر من حديث هنا غيرُ دقيق.
وقد حاول بعضهم تأويل الحديث بأنّ المراد به هم أصحاب العاهات التي توجب السراية والعدوى، وهم لا يحتاطون، فيكون ظلمهم من هذه الناحية، وقد استبعد هذا المعنى ـ مُحقّاً ـ المحدّثُ البحراني، واعتبرَه غير مقنع، وقال بأنّ الرواية ظاهرها أنّ الظلم في هؤلاء الناس ذاتيٌّ، أو بحسب تعبير السيد الشيرازي: غالبيّ. وحاول الشيخ باقر الإيرواني في بحوثه تقديم تفسير قال بأنّه ينسجم أكثر مع قيم الإسلام دون التفاسير السابقة، وهو أنّ معنى «أظلم شيء» هو أنّهم سيكونون أكثر الناس مظلوميّةً؛ لأنّ الناس سوف تستغلّهم؛ لضعفهم، فهم أظلم شيء، أي أكثر الناس مظلوميّةً. وهو تفسيرٌ جميل، غير أنّه ـ في تقديري ـ بعيد عن ظواهر الدلالة والتركيب العرفي، على أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يأمر الإمام الصادق× بالعدل معهم، لا أن ينهى عن التعامل معهم.
ومما تقدّم يتبيّن بعضُ ما سبق أن ذكرناه من ضرورة الحذر في إطلاقيّة الحديث عن رجاء المطلوبيّة فيما لم يثبت استحبابه أو كراهته، فتأمّل جيّداً.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 5 ـ 1 ـ 2022م