يذهب الكثير من فقهاء المسلمين بمذاهبهم المختلفة إلى حرمة أن يُلقي المُسْلِمُ السَّلامَ (أي الابتداء بالسلام) على غير المسلم ولو كان من أهل الذمّة، إلا لضرورة، وشاع هذا القول بين أهل السنّة أكثر منه بين الشيعة (ذهب إليه من الإماميّة أمثال الحرّ العاملي والمحقّق النراقي). بل ذهب بعض القائلين بالتحريم من فقهاء أهل السنّة إلى أنّه لو سلّم المسلمُ على غير المسلم خطأ، كان من المستحبّ أن يَطلبَ منه استرجاع السلام، تحقيقاً لنفي التوالف معه.
لكنّ فريقاً آخر ذهب للقول بالكراهة، وهو ما شاع بين فقهاء الإماميّة أكثر، وبخاصّة في العصر الحديث، وذهب إليه بعض فقهاء أهل السنّة، لا سيما بين الشافعيّة.
ويخصّص كثيرون المسألة بكلمة «السلام عليكم» لا بأيّ نمط آخر من التحيّة، فلو قال له: «صباح الخير»، مثلاً، فلا بأس. وهذا التمييز عندهم بين تحيّة الإسلام وسائر أنواع التحايا مرجعه إلى فهم التحيّة الإسلاميّة ذات خصوصيّة تتخطّى مجرّد كونها تحيّة، بل هي نوعٌ من سلام الله على المسلّم عليه، أو أنّ “السلام” فيها المرادُ به اسم لله سبحانه (الحشر: 23)، كما ورد في بعض الأخبار، ويكون بمعنى الكفيل والحفيظ، فـ “السلام عليكم” تعني: “الله حافظكم وكفيلكم” ففيه نوع من التعويذ، كما أفاد غير واحد مثل النووي في شرح مسلم. وفي بعض النصوص في المصادر السنيّة أنّ السلام فيه نوعٌ من “رحمة الله وبركاته”. وهذه الأمور يبدو أنّهم لا يقبلونها في حقّ غير المسلم.
أمّا لو سلّم غيرُ المسلم على المسلم، فقد أفتى بعضهم بوجوب الردّ، وبعضهم احتاط بذلك، واقتصروا في الردّ على مثل كلمة «وعليك»، وبعضهم ذكر كلمة «سلام» فقط من دون إضافة، فيما ذهب فريق ثالث إلى عدم وجوب الردّ على غير المسلم مطلقاً، إلى غير ذلك من التفاصيل. وحديثنا هنا في إلقاء التحيّة عليه لا في الردّ.
والذي توصّلتُ إليه ـ والله العالم ـ هو عدم ثبوت حرمة إلقاء السلام على غير المسلم بالعنوان الأوّلي، سواء في ذلك صيغة «السلام عليكم» وأمثالها، وأيّ صيغةٍ أخرى تمثل تحيّةً يتداولها العرف.
وينطلق الفقهاء في موضوع إلقاء التحيّة على غير المسلم من بعض الروايات الواردة عند السنّة والشيعة، وعمدتها عند السنّة رواية أبي هريرة في صحيح مسلم، أمّا عند الشيعة فهناك حوالي أربع أو خمس روايات.
والتعليق هنا باختصار شديد يتطلب إشارات سريعة لتوليفة من مجموعة الأمور:
أ ـ إنّ الروايات ذات الدلالة الواضحة على التحريم هنا قليلة العدد جدّاً؛ لأنّ بعض الروايات وقعت في سياق بيان مكروهات، ومن ثمّ فمن لا يقول بحجيّة خبر الواحد يصعب عليه الجزم بالتحريم هنا.
ب ـ إنّ غالب الروايات ضعيف الإسناد، فلم يصحّ سوى خبرٌ واحدٌ فقط، بل اللافت وقوع رواة وضّاعين في أكثر من رواية شيعيّة هنا. كما أنّ الرواية السنيّة الأقوى قابلة للنقاش سنداً رغم ورودها في صحيح مسلم. ولا أؤمن بقاعدة أنّ من ورد (وما ورد) في أحد الصحيحَين فقد جاوز القنطرة، كما لا أؤمن بذلك في الكتب الأربعة الإماميّة، وقد انتقد أعلامٌ كبار في الشيعة والسنّة معاً هاتين القاعدتين، وقد بحثتُ عن ذلك بالتفصيل في غير موضعٍ من كتبي، فراجع.
ج ـ إنّ العمومات والمطلقات شاملة للسلام على المسلِم وغيره. بل الكليّات القرآنيّة دالّة على عدم النهي عن البرّ بهم والقسط ما لم يكونوا معتدين. بل قال تعالى: (..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..) (البقرة: 83).
د ـ إنّ سياق بعض الروايات السنيّة في المقام هو سياق حرب، فقد غدا النبيُّ لمقاتلة بعض اليهود، فأعلن أن لا تسلّموا عليهم إذا لقيتموهم، وهذا من الصعب فهم التعميم منه. بل ثمّة سياق تاريخي معروف وهو استخدام بعض اليهود عبارات غير لائقة في السلام، الأمر الذي يفتح احتمال أنّ النهي النبوي (وليس نهي أهل البيت لاحقاً) جاء في سياقٍ من هذا النوع.
هـ ـ إنّ هناك أخباراً معارضة لأخبار النهي، مثل خبر أبي بصير وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، والصحيحة تدلّ صراحةً على إمكان السلام والدعاء للنصراني، رغم عدم الاضطرار لذلك حتى لو اضطرّ للذهاب للنصراني من حيث هو طبيب، فإنّ الاضطرار للذهاب إليه لا يُلازم إلقاء تحيّة الإسلام عليه. كما أنّه ورد في بعض نصوص مكاتيب النبيّ للملوك استخدام صيغة السلام المستخدَمة بعينها مع المسلمين. واللافت أنّ خبر أبي بصير هنا الوارد عن الإمام جعفر الصادق استدلّ بنفسه بسلام النبيّ على الملوك في إثبات الترخيص.
و ـ ادّعى بعضٌ إمكان الاستعانة ببعض النصوص القرآنيّة للترخيص، كقوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: 89)، وكذلك قول إبراهيم لأبيه: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 47)، بعد فصل السلام عن الاستغفار، وقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 55 ـ 56)، وقوله سبحانه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63).
ونوقش بأنّ هذا ليس تحيّةً، بل هو إعلان مسالمة ومتاركة، إلا إذا قيل بأنّ تحيّة الإسلام (أعني خصوص مقطع: السلام عليكم) لا دليل معتبراً على تضمّنها أزيد من مجرّد إبداء المسالمة ورفع حال الخصومة ونشر ثقافة السلم والتواصل. وهذا هو امتيازها عن تحايا العرب قبل الإسلام والتي كانت تركّز على طول عمر المسلَّم عليه وغير ذلك.
ز ـ قد يثار تساؤل: لو كان هذا الأمر محرّماً مع تجويز نكاح أهل الكتاب، لكان متوقّعاً أن يثير تساؤلاً: كيف يمكن لشخص أن يعيش مع زوجته النصرانيّة مثلاً ولا يسلّم عليها في حياته؟! وإن كان هذا التساؤل لا يرد على تقدير تخصيص الموقف بتحيّة الإسلام.
ح ـ إنّ تفسير السلام بمعنى خاصّ لا يمكن إجراؤه بحقّ غير المسلم قد يتحفّظ عليه، فإنّ غاية السلام الدعاء للمسلَّم عليه بالحفظ والرعاية والسلامة، وهل في الدعاء لغير المسلم ـ من غير المعتدين ـ بمثل ذلك حرمة؟! وما الفرق بين أن تدعو له بكثرة ماله وولده وبين الدعاء له بالسلامة والرعاية، بل النوع الثاني أقرب للدين؛ لأنّ السلامة والرعاية تشمل السلامة الإيمانيّة، فأيّ مانع من ذلك كلّه؟! وقد ورد في مرسل ابن أبي نجران، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ، قال: عطس رجلٌ نصراني عند أبي عبد الله، فقال له القوم: هداك الله، فقال أبو عبد الله: «[فقولوا]: يرحمك الله»، فقالوا له: إنّه نصرانيّ؟! فقال: «لا يهديه الله حتى يرحمه». بل لو تمّ ما قالوه كفى التنكير في كلمة “سلام”، بل لعلّ قائلاً يقول: إنّ السلام لا يعني أكثر من إبراز المسالمة وعدم الحرب.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 24 ـ 5 ـ 2022م