تعتبر قاعدة التسامح في أدلّة السنن أو فضائل الأعمال من أكبر القواعد الأصوليّة الحاكمة في مجال الأحكام الشرعيّة غير الإلزاميّة (المستحبات والمكروهات)، وهي تعني أنّنا لسنا بحاجة لكي نفتي باستحباب شيء أو كراهته إلى وروده في دليل معتبر أو رواية صحيحة أو نحو ذلك، بل يكفي وروده في رواية ضعيفة السند، بل ما هو أضعف من ذلك، منسوباً للنبيّ وأهل بيته الكرام. ولعلّني لا أبالغ إذا قلت بأنّ عدد المستحبات والمكروهات التي ستثبت عبر هذه القاعدة يفوق بكثير ما هو مذكور في الرسائل العمليّة من مستحبّات ومكروهات، كما هو واضح لمن تتبّع الكتب الروائيّة وقارنها بالكتب الفتوائيّة الحالية. وقد جرت عادة جملة من الفقهاء وما تزال على عدم الاهتمام بالاجتهاد والنظر في الأمور المستحبّة والمكروهة، بل يرى بعضهم عدم وجوب الاجتهاد فيها على الفقيه ولا الإفتاء، ولهذا فهو عندما يصل إلى بحث المستحبات يترك الاستدلال فيه ويعبُرُه دون أيّ تعليق، إلا إذا كانت من نوع المستحبّ الذي قيل بوجوبه من قبل بعض العلماء، مثل غسل الجمعة، والصلاة على محمّد وآله عند ذكر اسمه..
وقد خضعت هذه القاعدة لدراسات عدّة في أصول الفقه، وظهر تيار متأخّر يرفضها، وكثير من الفقهاء الحاليين لا يؤمنون بها. وقد جرت سيرة العلماء الرافضين للقاعدة أنّهم إذا وجّه إليهم سؤال عن مستحبّ أو مكروه، فإنّهم إمّا لا يذكرون رأيهم في نفي استحبابه، أو إذا ذكروا يُردفون ذلك بالقول بأنّه يمكن الإتيان به أو تركه من باب رجاء المطلوبيّة، ويعتبرون ذلك ضرباً من العمل الحسن ولو عقلاً على أقلّ تقدير. وبهذا تنتشر الكثير من العادات والأعراف والمفاهيم والأعمال التي منشؤها إمّا قاعدة التسامح أو ـ عملاً ـ قاعدة رجاء المطلوبيّة. ومهما مارس الفقهُ نقدَه الاجتهادي على إثبات مستحبٍّ هنا أو مكروهٍ هناك، فإنّ فكرة رجاء المطلوبيّة المتداولة في الأدبيّات الإفتائيّة تجعل النقدَ الفقهي حبيسَ الكتب والمحافل العلميّة، دون أن يُجري أيّ تغيير ميداني في حياة الإنسان المسلم، تماماً كفكرة الاحتياط الوجوبي في عالم الإفتاء والاستفتاء؛ إذ هي فكرة حجبت بعض التحوّلات التجديديّة في الفتاوى عند المتأخّرين عن أن تُحدث تحوّلاً في حياة الفرد المسلم على أرض الواقع، فرأينا الفقه يتحوّل بدرجةٍ ما في المحافل العلميّة لكنّه يظلّ هو نفسه تقريباً بالنسبة للفرد المسلم.
والذي توصّلتُ إليه بنظري القاصر هو بطلان قاعدة التسامح في أدلّة السنن، ووجوب الاجتهاد والإفتاء كفائيّاً في المستحبّات والمكروهات، بوصفها جزءاً من الدين وبرنامج الشريعة، بل لقد أبديتُ في بحوثي الأصوليّة بعض التحفّظات والمناقشات على كليّة إجراء مفهوم رجاء المطلوبيّة في مجمل الأمور التي لم يثبت استحبابها ولا كراهتها، واعتبرت أنّ التحسين العقلي الذين انطلق منه العلماء لتبرير فكرة رجاء المطلوبية يواجه مشاكل في تعميمه وليس في ذاته. لهذا كانت قناعتي وترجيحي هو أنّ كلّ ما ثبت استحبابه أو كراهته فالمطلوب إعلام الناس به والدعوة له وترويجه، وليس براجحٍ ـ لا عقلاً ولا شرعاً ـ تشجيع الناس على كلّ ما احتمل استحبابه أو كراهته ولو عبر فكرة رجاء المطلوبيّة، فما ثبت أنّه من الدين أخذنا به وما لم يثبت فلا داعي لترويجه أو لتسهيل حضوره في حياتنا، إلى أن يثبت بدليل معتبر.
من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد في مجال المستحبّات والمكروهات، هو عدم اعتقادي بقاعدة التسامح من جهة، مع تحفّظي على تعميم ثقافة رجاء المطلوبيّة من جهة ثانية.
لمزيد توسّع، انظر بحث قاعدة التسامح في كتابي المتواضع (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 2: 355 ـ 498، الطبعة الأولى، 2017م).
حيدر حبّ الله
الخميس 4 ـ 11 ـ 2021م