يتعرّض الفقهاء المسلمون في كتاب الحدود والتعزيرات لسلسلة من الجنايات التي ثبتت لها في الشرع عقوبة خاصّة، مثل الزنا والسرقة والقذف وغير ذلك، وهي تصل لست عشرة جناية، وقد تزيد أو تنقص تبعاً لمباني الفقهاء وآرائهم وطريقة تبويبهم، وقد سبق أن تعرّضنا لإحداها، وهو ادّعاء النبوّة، وقلنا بأنّه لم يثبت وجود حدّ شرعي لادّعاء النبوّة، فيُرجع فيه لنظر القاضي تبعاً لملابسات القضيّة.
ومن جملة ما يكون فيه الحدّ هو “القيادة”. والمراد بها ـ كما هو المتداول ـ الجمع بين رجلٍ وامرأة أو صبيّة على الزنا، أو بين رجل ورجل (أو صبي) على اللواط، أو بين امرأة وامرأة على المساحقة. وفسَّرَ الموقفَ غيرُ واحدٍ بأنّها ما تحوّل إلى مهنة، فلا تشمل من جمع بين اثنين على حرام لمرّة واحدة اتفقت.
والمتداول في الفقه الإمامي أنّ القوّاد إذا كان رجلاً يُضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني، وهي خمسة وسبعون جلدة، وقال بعضهم بأنّه ينفى أيضاً من مصرٍ إلى مصر آخر، وقال آخرون بأنّه يحلق شعر رأسه أيضاً ويشهّر به بين الناس. أمّا إذا كان القوّاد امرأة فلا نفي ولا حلق ولا تشهير في حقّها، غير أنّه يثبت فيها حدّ الجلد المشار إليه آنفاً.
غير أنّ بعض الفقهاء المتأخّرين أعاد النظر في هذه العقوبة، ونفى وجود حدّ شرعي، ومن ثمّ يثبت في المورد التعزيرُ الذي يُرجع فيه لنظر القاضي الشرعي، ومن هؤلاء الفقهاء: الشيخ محمّد إسحاق الفياض. ولعلّ تعابير السيد موسى الشبيري الزنجاني توحي بعدم قبوله بوجود حدّ هنا. واحتاط السيد محمد محمد صادق الصدر باحتساب الخمس وسبعين جلدة على أنّها تعزير، فلا يُضرب القوّاد أقلّ من ذلك تعزيراً. وبعض الفقهاء يُفهم منهم التشكيك في ثبوت هذا الحدّ على المرأة دون الرجل، ومنهم السيد أبو القاسم الخوئي وغيره.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم ثبوت حدّ في الشريعة الإسلاميّة للقيادة مطلقاً، جلداً أو نفياً أو تشهيراً أو حلقاً، بلا فرق في ذلك كلّه بين القوّاد الرجل والمرأة، بل يرجع فيه لنظر القضاء الذي عليه تحديد الموقف تبعاً للملابسات.
والمستند الوحيد هنا ليس سوى الإجماع والشهرة من جهة، ورواية واحدة آحاديّة ضعيفة السند من جهة ثانية، وهي خبر محمد بن سليمان عن عبد الله بن سنان، وابن سليمان مضعّف وعلى الأقلّ مجهول. بل لو صحّت فالرواية آحاديّة. واللافت أنّ هذه الرواية ليس فيها أيّ حديث عن التشهير والحلق. وأمّا ما ورد في الفقه الرضوي فلا يحرز كونه رواية أصلاً، ولو سلّم فهي مرسلة. من هنا أقرّ غير واحد ـ كالسيّد الخوئي ـ أنّ العمدة هنا ليس إلا الإجماع. وقد ذكر السيد المرتضى في “الانتصار” أنّ هذا الحكم بالحدّ هنا مما تفرّدت به الإماميّة ولم يقل به أحدٌ غيرهم من المسلمين، وكلامه في محلّه، فحدّ القيادة غير معروف في فقه الجمهور. وحيث إنّنا لا نرى حجيّة الإجماعات، فلا مستند في المقام لمثل هذا الحدّ. بل اللافت أنّ المرتضى الذي ادّعى الإجماع على الحدّ المؤلّف من الجلد والإشهار والحلق، تعرّض إجماعُه لانتكاسة من قبل فقهاء مدرسة الحلّة في القرن السابع الهجري، حيث نسب أمثال المحقّق الحلّي في “الشرائع” القول بالتشهير والحلق للقيل، وبهذا تضيّقت دائرة الإجماع بعد المحقّق الحلّي من العناصر العقابيّة الثلاثة التي إشار إليها المرتضى (الجلد والتشهير والحلق) إلى عنصر الجلد والنفي خاصّة، وهو الذي دلّت عليه الرواية، فكأنّ اللاحقين لم يبالوا بالإجماع في غير ما دلّت عليه الرواية. بل لقد علّق الشيخ جواد التبريزي على الإجماع هنا بالقول: «لكن من المحتمل أن يكون استنادهم إلى الرواية يعني العمل بها مقتضى الاحتياط، حيث لا ينبغي التأمّل في تعلّق التعزير بالقوّاد، والوارد في الرواية أقلّ من حدّ الزنا، فالتزموا بما في الرواية لانطباق عنوان التعزير عليه وشرطه موجود وهو كونه أقلّ من الحدّ، فإجراء الوارد فيها على القوّاد جائز حدّاً أو تعزيراً» (أسس الحدود والتعزيرات: 222)، في محاولة منه لتفادي قاعدة الجبر السندي.
والمجال لا يسع للتفصيل، فنكتفي بهذا القدر.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 5 ـ 10 ـ 2022م