تشتمل موسوعة (كتاب من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق (381هـ)، على عددٍ كبير من الأخبار المرسلة، قيل: إنّها تبلغ الثلث، ومشكلة الكثير من هذه المرسلات بل أغلبيّتها، أنّ الصدوق يكاد لا يذكر السند فيها أساساً، بل يصدرها تارةً بجملة: قال النبي أو قال الإمام الفلاني، وأخرى بجملة: روي عن النبي أو روي عن الإمام الفلاني. وقد ذكر الشيخ البهائي أنّه أحصى هذه المراسيل في هذا الكتاب فبلغت ألفين وخمسين حديثاً، وأمّا مسانيده فثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة عشر حديثاً، فجميع الأحاديث المودعة فيه خمسة آلاف وتسعمائة وثلاثة وستّون حديثاً، وفقاً لإحصاء البهائي.
ومحلّ البحث هي مراسيل الصدوق في خصوص هذا الكتاب لا في كلّ كتبه، وإلا فمراسيله في الكتب الأخرى يكاد يتفق العلماء على أنّ الأصل فيها هو عدم حجيّتها.
وقد سبّب وجود هذه الأخبار جدلاً بين علماء الإماميّة في إمكانيّة الاعتماد عليها رغم إرسالها أو عدم ذلك، وظهرت في هذا المجال عدّة أقوال:
القول الأوّل: نفي الحجيّة مطلقاً ما لم تقم قرينة خاصّة مورديّة، وهذا يعني أنّ هذه الروايات كلّها يمكن أن نعتبرها مجرّد مؤيّد عاضد، لكن لا يُبنى عليها موقف، بل تعتبر ضعيفة الإسناد فاقدة للاعتبار النهائي.
وقد اختار هذا القول جمعٌ من العلماء، من أمثال السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والعلامة المامقاني، والسيد محمّد باقر الصدر، والشيخ جواد التبريزي، وغيرهم. بل قال أحدُ الرافضين لهذه المراسيل، وهو السيد مصطفى الخميني، ما نصّه: «إنّ مرسلات الصدوق عندي غير نقيّة مطلقاً؛ لأنّه كان صافي الضمير سريع الوثوق».
القول الثاني: حجيّة تمام مراسيل الصدوق، وهو ما ذهب إليه عددٌ من العلماء، منهم الشيخ البهائي.
القول الثالث: التفصيل بين ما صدّره الصدوق أو قامت القرينة من كلامه على أنّه يقدّمه بنحو البتّ والجزم، مثل : قال النبي أو قال الصادق أو نحو ذلك، وما لم يصدّره بهذه الطريقة بما لا يفهم منه أنّه جازم بصدوره، مثل: روي عن الصادق، أو وفي الرواية عن الصادق، أو غير ذلك، ففي الحالة الأولى نلتزم بأنّ المرسَل حجّة دون الحالة الثانية.
ومن أوائل من ذهب إلى هذا القول الميرداماد، ثم تبعه على ذلك جماعة من المتأخّرين، منهم الميرزا النائيني، والسيد روح الله الخميني، وغيرهما. وكان السيد الخوئي يبني على هذا التفصيل في فترة سابقة من حياته.
الجدير بالذكر أنّ فكرة التمييز في الاعتبار بين الجزم وغيره في عبارات العالم المحدّث موجودة عند أهل السنّة، حيث فصّل بعضهم في الأحاديث المعلّقة في الصحيحين بين ما كان تعليقه بصيغة الجزم وغيره، على ما نقله النووي في شرح مسلم وغيره.
وقد كان بعض العلماء أجرى مقارنة بين مراسيل الصدوق وسائر الكتب الحديثية، واكتشف أنّ أغلب مراسيله قد أخذها من كتاب الكافي للكليني دون أن يسمّيه، غاية الأمر أنّ نقله للرواية مختلف اختلافاً جزئيّاً أو غير مختلف أحياناً عن نقل الكافي، وهذه الحقيقة ربما يمكن تصنيفها على أنّها من مكتشفات المجلسيّ الأوّل (1070هـ)، الذي قال ما نصّه: «الذي ظهر لنا من التتبّع أنّ مرسلات الصدوق أكثرها من الكافي».
والذي توصّلتُ إليه هو عدم وجود أيّ دليل على تصحيح مراسيل الصدوق، بالمفهوم الحديثي للتصحيح، لا في كتاب «الفقيه» ولا في غيره، بل تجري عليها أحكام الحديث المرسل، فإن تمّ العثور على الرواية بعينها في كتابٍ آخر ككافي الكليني، وكانت هناك مسندةً، تمّ النظر في السند هناك، فإن كان صحيحاً ارتفعت إشكاليّة الإرسال بعد العثور على سند صحيح للرواية، وإلا فتكون فاقدة للحجيّة والصحّة السنديّة.
وقد بحثتُ هذا الموضوع وأدلّته ومناقشاته، في كتابي (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 381 ـ 396، الطبعة الأولى، 2017م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الأحد 12 ـ 6 ـ 2022م