ذهب الكثير من فقهاء الإماميّة ـ بل لعلّه المشهور ـ إلى أنّ هناك فرقاً في سنّ اليأس بين المرأة القرشيّة وغيرها (ونقل المفيد تمييزاً مشابهاً بين النبطيّة والقرشيّة وغيرهما)، ففي القرشيّة سنّ اليأس هو بلوغ ستين سنة قمريّة، وفي غير القرشيّة هو بلوغ المرأة لخمسين سنة.
والمراد عندهم بالمرأة القرشيّة ـ على ما هو المتداول ـ تلك التي ينتهي نسبها إلى النضر بن كنانة، والذي هو الجدّ الأعلى للقبائل العربيّة التي عاشت في مكّة، وإليه يرجع بنو هاشم وبنو أميّة وبنو عدي وبنو تميم وغيرهم. وقال بعضٌ بأنّ قريشاً تنتسب قبائلُها لفهر بن مالك بن نضر، فأولاد أخي فهر لا ينتسبون إلى قريش، وإن كانوا من أولاد مالك بن نضر.
ويظهر هذا الفرق في العرف الاجتماعي اليوم بشكل أكبر بين المرأة الهاشميّة أو العلويّة أو الفاطميّة وبين عموم النساء غير القرشيّات.
لكنّ العديد من الفقهاء، لم يوافقوا على هذا التمييز بين القرشيّة وغيرها في سنّ اليأس، مثل الشيخ الطوسي والعلامة الحلّي والمحقّق الحلّي وابن إدريس الحلّي في بعض كتبهم على الأقلّ، أمّا في العصر الحديث فبدأ القول بعدم التمييز يظهر أكثر فأكثر على مستوى البحوث العلميّة، أمّا على مستوى الفتاوى والرسائل العمليّة:
أ ـ فبعضهم ذهب إلى الاحتياط الوجوبي بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة في المرأة القرشيّة وغيرها بين سنّ الخمسين والستّين، فتجب عليهما الصلاة والصيام وغيرهما في الوقت الذي يحرم عليهما دخول المساجد والارتباط الجنسي وغير ذلك. وممّن احتاط وجوباً هنا السيّد الخوئي، والسيّد محمود الهاشمي، والشيخ الوحيد الخراساني، وغيرهم.
ب ـ وبعضٌ آخر من الفقهاء رفض ـ على مستوى الإفتاء ـ التمييزَ المذكور، بل ولم يقل بالاحتياط الوجوبي، معتبراً أنّ سنّ اليأس واحدٌ بين جميع النساء، سواء اعتبرناه الخمسين أم الستين أم غير ذلك. ومن هؤلاء: السيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد محمد جواد الغروي الإصفهاني، والسيد علي السيستاني، والشيخ محمّد الصادقي الطهراني، والشيخ محمّد إسحاق الفياض، والسيّد محمّد حسين فضل الله (احتاط استحباباً بالجمع)، والسيّد كمال الحيدري، والسيّد كاظم الحائري، وغيرهم.
ورغم اتساع جمهور القول بعدم التفصيل بين القرشيّة وغيرها مؤخّراً، غير أنّ القائلين بهذا التفصيل ما زالوا يشكّلون نسبة كبيرة بين الفقهاء.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم الفرق في سنّ اليأس بين القرشيّة والنبطيّة وغيرهما، فإذا قلنا بأنّ سنّ اليأس هو الخمسين فهو سنٌّ لتمام أنواع النساء، وكذا لو قلنا بأنّه الستين، بل وكذا لو قلنا بأنّه أمرٌ تكويني ليس له تحديدٌ شرعي تعبّدي، فلا فرق بين القرشيّة وغيرها في هذه الأمور.
والمستند العمدة لديهم هنا هو رواياتٌ قليلة جداً، لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وكلّها مراسيل، وبعضُهم اعتمدها:
إمّا لكون المرسِل هو الشيخ الصدوق مع القول بحجيّة مراسيل الصدوق. وهو مبنى لم نوافق عليه، على ما حقّقناه في محلّه وأشرنا له سابقاً.
أو لتصحيح مراسيل ابن أبي عمير، وهو أيضاً مبنى ناقشناه في محلّه بالتفصيل، فراجع.
أو على أنّ الحكم بالتمييز بين القرشيّة وغيرها مشهورٌ قديماً وحديثاً؛ فإمّا تكفي الشهرة في نفسها بناء على حجيّة الشهرة الفتوائيّة، أو تكون جابرةً لضعف أسانيد الأخبار القليلة الضعيفة هنا. وكلاهما ـ أعني حجيّة الشهرة الفتوائيّة في نفسها وقاعدة الجبر السندي ـ لم تثبتا على ما بحثناه في محلّه، فراجع.
بل الأمر عندي في القضيّة مرتبطٌ أيضاً بأصل مسلك حجيّة خبر الواحد الظنّي، فضلاً عن بعض الملاحظات المتنيّة. وسوف نتعرّض لاحقاً ـ إن شاء الله تعالى ـ لأصل فكرة سنّ اليأس الموجودة في الروايات، بما سيزيد من ضعف القول بالتمييز بين القرشيّة وغيرها، فانتظر.
حيدر حبّ الله
الخميس 7 ـ 7 ـ 2022م